• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : مقالات عامة ومتنوعة .
                    • الموضوع : 60. هل يصيرُ المؤمن من (أَخْسَرِ الْخَاسِرِينَ)؟ .

60. هل يصيرُ المؤمن من (أَخْسَرِ الْخَاسِرِينَ)؟

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى في سورة البقرة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‏ ما في‏ قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (204)

فمَن هم هؤلاء؟ هل هم المنافقون في أيام النبي (ص) حصراً؟ أم هم المنافقون في أيامنا أيضاً؟
هل يمكن أن يكون (المؤمن بالأئمة الاثني عشر) من هؤلاء؟ فيكون المؤمن خصيماً للمؤمنين؟ أم تختصُّ برموز الضلال؟

ورد عن الإمام عليه السلام في تفسيرها:
يَا مُحَمَّدُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بِإِظْهَارِهِ لَكَ الدِّينَ وَالْإِسْلَامَ، وَتَزَيُّنِهِ بِحَضْرَتِكَ بِالْوَرَعِ وَالْإِحْسَانِ، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‏ ما فِي قَلْبِهِ بِأَنْ يَحْلِفَ لَكَ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُخْلِصٌ مُصَدِّقٌ لِقَوْلِهِ بِعَمَلِهِ، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ، شَدِيدُ الْعَدَاوَةِ وَالْجِدَالِ لِلْمُسْلِمِينَ (تفسير العسكري ص617).

يتميَّزُ هؤلاء بقدرةٍ فائقةٍ على التلبيس، وقَدرٍ عالٍ من النفاق، بحيث يحلف أحدهم بالله كاذباً، ويتزيّن بالورع والإحسان، بل يكون فعلُه على نحوٍ قد يعجِبُ ظاهرُهُ رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنّه (ص) يعامل الناس على ظواهر أفعالهم وإن كان عالماً بحقائقهم..
فكيف سنتمكن نحن من تمييز باطن مَن كان يَظهرُ من أفعاله ما قد يعجبُ رسول الله (ص)؟!

هل من إشاراتٍ وعلاماتٍ تُرشدُ إلى هؤلاء؟! أو تحذِّرُ منهم وتبيِّنُ أوصافهم؟
ذلك أن فِعلَهم في غاية الخطورة، حيث يقول تعالى عن أحدهم: (وَإِذا تَوَلَّى سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ)

لقد ذُكر لهذه ثلاثةٌ من أجلى المصاديق وأوضحها: 

1و2: المصداق الأوّل والثاني: هما (الأوّل والثاني)، كما روي عن أبي الحسن عليه السلام عندما سئل عن الآية فقال: فلان وفلان‏ (تفسير العياشي ج1 ص100).
فإنّ كلَّ مصيبةٍ وقعت على الحرث والنسل من بلائهما، وهذا أوضح من أن يحتاج لبيان.

3. المصداق الثالث معاوية، وقد بَلَغَ به الفساد في الأرض أن: بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أنّ هذه الآية نفسها قد نزلت في علي بن أبي طالب!! .. فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروى ذلك (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج‏4 ص73).

لقد وقع هؤلاء في معصيتين جعلتهما من أسوأ خلق الله، فعن الإمام عليه السلام في وصف مصداق الآية:
سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها:
1. يَعْصِي بِالْكُفْرِ الْمُخَالِفِ لِمَا أَظْهَرَ لَكَ.
2. وَالظُّلْمِ الْمُبَايِنِ لِمَا وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ بِحَضْرَتِكَ (تفسير العسكري ص617).

هذا إذاً يتلاعب بدين الله، ويظلم عباد الله.
ولمّا ثبت أن ليس بين الله وبين أحدٍ قرابة، كان كلُّ من اشترك مع هؤلاء في هاتين المعصيتين شريكاً لهم في كونه ألدّ الخصام للمؤمنين (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ).

وكما كان هؤلاء ممن انتحل الإسلام اسماً حتى أعجب المسلمين قولُه، كذلك منهم من ينتحل مودة آل محمدٍ حتى يعجب فعله الموالين لهم عليهم السلام، لكنّه من المفسدين في الأرض، (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

كيف ذلك؟

1. المعصية الأولى: التلاعب بالدين

أو الكفر، فقد قيل أن المراد بالحرث هو الدين: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ: .. الحرث في هذا الموضع الدين (تفسير القمي ج‏1 ص71)

وإنّ ممن يطلب الرئاسة مَن يجعل الدين وسيلةً لذلك، وينضوي تحت هذا العنوان مَن طلب الرئاسة سواء كان ذلك بين المؤمنين أو خارج دائرتهم، فإنّ المعيار هو التلاعب بالدين، كما عن الإمام زين العابدين عليه السلام:

فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، يَتْرُكُ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، وَيَرَى أَنَّ لَذَّةَ الرِّئَاسَةِ الْبَاطِلَةِ أَفْضَلُ مِنْ لَذَّةِ الْأَمْوَالِ وَالنِّعَمِ الْمُبَاحَةِ الْمُحَلَّلَةِ، فَيَتْرُكُ ذَلِكَ أَجْمَعَ طَلَباً لِلرِّئَاسَةِ، حَتَّى إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ.. فَهُوَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، لَا يُبَالِي مَا فَاتَ مِنْ دِينِهِ إِذَا سَلِمَتْ لَهُ الرِّئَاسَةُ الَّتِي قَدْ شَقِيَ مِنْ أَجْلِهَا (الإحتجاج ج‏2 ص321)

فمن أحلّ ما حرّم الله تعالى، طلباً للرئاسة، ولم يبالِ بدينه، صار شريكاً لفلان وفلان ومعاوية، ومصداقاً للآية الشريفة (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) وإن أعجَبَنَا قوله، وتظاهر بأنه لآل محمدٍ من الموالين.

2. المعصية الثانية: ظلم المؤمنين

فعن الإمام زين العابدين عليه السلام
اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُنْتَحِلِينَ لِمَحَبَّتِنَا، وَإِيَّاكُمْ وَالذُّنُوبَ الَّتِي قَلَّ مَا أَصَرَّ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا إِلَّا أَدَّاهُ إِلَى الْخِذْلَانِ، الْمُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ وَلَايَةِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَالطَّيِّبِينَ مِنْ آلِهِمَا، وَالدُّخُولِ فِي مُوَالاةِ أَعْدَائِهِمَا، فَإِنَّ مَنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَأَدَّى خِذْلَانُهُ إِلَى الشَّقَاءِ الْأَشْقَى مِنْ مُفَارَقَةِ وَلَايَةِ سَيِّدِ أُولِي النُّهَى، فَهُوَ مِنْ أَخْسَرِ الْخَاسِرِينَ.

ولما سئل عن هذه الذنوب قال:
ظُلْمُكُمْ لِإِخْوَانِكُمُ الَّذِينَ هُمْ لَكُمْ فِي تَفْضِيلِ عَلِيٍّ ع، وَالْقَوْلِ بِإِمَامَتِهِ.. وَمُعَاوَنَتُكُمُ النَّاصِبِينَ عَلَيْهِمْ (تفسير العسكري ص617).

فظُلمُ الأخوان المؤمنين الموالين، ومعاونة الناصبين عليهم سببٌ للخذلان، وللشقاء الأشقى..
إنّ الشقاء على مراتب.. ومن يفعل ذلك يبلغ أعلى مراتبه وهو (الشَّقَاءِ الْأَشْقَى)، وذلك حين يفارق ولاية آل محمد، بعد أن كان قد عرفها، فحاله ليس أهون من بعض مَن لم يعرف الولاية، إذ من لم يعرفها يوماً قد يكون معذوراً إن كان قاصراً، أما مَن كان على الولاية ثم فارقها بسوء اختياره كان (مِنْ أَخْسَرِ الْخَاسِرِينَ)، فالخسران على مراتب، وهذا من أخسر الخاسرين!!

فكم هو عظيمٌ حالُ من يتلبس بلباس الدين، لطلب الدنيا أو الرئاسة، ثم يحلّ ما حرّم الله، ويظلم إخوانه المؤمنين، وإن أشد أنواع الظلم هي ظلمهم في تشويش الحق عليهم، ومزجه بالباطل، وبثّ الشبهات فيهم، ونقلهم من الهداية إلى الضلال.

أيُّ عذاب سيعذِّبُه الله لمن ظلم المؤمنين أشدّ أنواع الظلم؟
إن الظلم لكلّ أحدٍ قبيحٌ، لكنه على المؤمن أقبح.
والظلم في كلّ شيء قبيحٌ، لكنّه في أمور الدين أقبح.

فكيف لو اجتمعا، فما حال من يظلم المؤمن في أمور الدين؟ ويكون سبباً لإضلاله؟

أما قرأ هؤلاء قول الله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً)

اللهم إنا نبرأ إليك من هؤلاء، ونسألك أن تعصمنا وإخواننا المؤمنين من الخذلان بحق محمد وآله.

والحمد لله رب العالمين

الثلاثاء 4 رجب 1442 هـ
16 - 2 - 2021 م


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=119
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5