بسم الله الرحمن الرحيم
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ الله يُحِبُّ المُحْسِنينَ﴾ (1).
في الآية المباركة خطابٌ إلهيٌّ من الله تعالى، يأمر فيه نبيَّه بالعفو والصَّفح، فهو مِن خَيرِ خِصال المحسنين، وقد أشرَكَ تعالى المؤمنين في أمثاله فقال: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ (2)، وقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾(3).
تُثيرُ هذه الآيات سؤالاً في أيام الزهراء (عليه السلام):
لِمَ لَم تعفُ الزهراء وتصفَح وتُسامح ظالميها؟! أليست أقرب الناس لأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! هل مَن يعلم تعاليمه كما تعلم؟! ويلتزم بها كما تلتزم؟! فلماذا لم تسامح من ظَلَمَها أبداً حتى شهادتها؟! وهي التي روى البخاري أنّها: غضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت(4).
وروى الحاكم وغيره بسندٍ صحيح قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها: إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك(5).
فلماذا غضبت عنهما وفي غضبها غضب الجبار؟ ولماذا ظلّت تدعو عليهما حتى ماتت وقد قالت لهما: ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه..
وقالت للأول منهما: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها(6).
فهل أن الأمر بالصفح والعفو لم يكن عاماً؟ أو أن القوم ما كانوا مستحقين لذلك؟ وإذا كانت (عليها السلام) لا تفعل إلا ما هو راجحٌ، فكيف صار العفو عنهم مرجوحاً؟
نعود إلى كتاب الله تعالى، فنرى أنّها ما حادَت عنه يوماً وهي المعصومة المطهّرة، ويتضح من كتاب الله والسنة أمورٌ منها:
فإنَّ من الناس من يستحق العفو ومنهم من لا يستحقه، وقد قال تعالى: ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمينَ﴾(7)، وقد روينا عن الباقر (عليه السلام) قوله: نزلت في التيميّ والعدويّ والعشرة معهما(8).
فنزلت الآية المباركة في الأوّل والثاني، فما استحقّا عفوَ الزهراء (عليها السلام)، وما كان العفو راجحاً.
واللهُ تعالى ما عفى عنهم، فعُلِمَ بذلك عدم استحقاقهم للعفو، لأنّهم المصداق الأبرز لقوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَريقاً﴾(9).
وقد روينا عن الصادق (عليه السلام) أنّها نزلت في الذين: ظَلَمُوا آلَ مُحَمَّدٍ حَقَّهُم(10).
وهؤلاء أئمة الظالمين لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وما عفى النبيُّ ولا الإمام عنهم، ففي الحديث عن الباقر (عليه السلام):
فَوَ الله مَا مَاتَ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إِلَّا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا، وَمَا مِنَّا اليَوْمَ إِلَّا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا، يُوصِي بِذَلِكَ الكَبِيرُ مِنَّا الصَّغِيرَ، إِنَّهُمَا ظَلَمَانَا حَقَّنَا وَمَنَعَانَا فَيْئَنَا وَكَانَا أَوَّلَ مَنْ رَكِبَ أَعْنَاقَنَا، وَبَثَقَا عَلَيْنَا بَثْقاً فِي الإِسْلَامِ لَا يُسْكَرُ أَبَداً حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا..
وَالله مَا أُسِّسَتْ مِنْ بَلِيَّةٍ وَلَا قَضِيَّةٍ تَجْرِي عَلَيْنَا أَهْلَ البَيْتِ إِلَّا هُمَا أَسَّسَا أَوَّلَهَا، فَعَلَيْهِمَا لَعْنَةُ الله وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين(11).
وقوله (عليه السلام) (مَا مَاتَ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إِلَّا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا) يشمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، أفهل تُخَالِفُ الزهراءُ ربَّها وأباها رسول الله وبعلَها وأبناءها المعصومين (عليهم السلام)؟!
لقد استحقّا السخط من الله ورسوله والأئمة والمؤمنين بما أسّسا لكلِّ بلاء وقع على آل محمد (عليهم السلام).
فهما لذلك لا يستحقان العفو، فقد: أَسْلَمَا طَمَعاً(12)، وصرّح الثاني منهما بأنه غير مؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين حَدَّثَ عن هجومه على دارها (عليها السلام) فقال:
فَسَمِعْتُ لَهَا زَفِيراً وَبُكَاءً، فَكِدْتُ أَنْ أَلِينَ وَأَنْقَلِبَ عَنِ البَابِ، فَذَكَرْتُ أَحْقَاد عَلِيٍّ، وَوُلُوعَهُ فِي دِمَاءِ صَنَادِيدِ العَرَبِ، وَكَيْدَ مُحَمَّدٍ وَسِحْرَهُ، فَرَكَلْتُ البَاب(13).
وعن الباقر (عليه السلام): وَإِنَّ الشَّيْخَيْنِ فَارَقَا الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُوبَا، وَلَمْ يَتَذَكَّرَا مَا صَنَعَا بِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)(14).
ومَن كان كذلك لزمت البراءة منه، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ﴾(15).
وقد اجتمعت فيهم صفاتُ إمام الجور، فعن الباقر (عليه السلام) أنّهم:
1. يُقَدِّمُونَ أَمْرَهُمْ قَبْلَ أَمْرِ الله.
2. وَحُكْمَهُمْ قَبْلَ حُكْمِ الله.
3. وَيَأْخُذُونَ بِأَهْوَائِهِمْ خِلَافاً لِمَا فِي كِتَابِ الله(16).
وهم بغاةُ حكم الجاهلية، الذين قالت لهم (عليها السلام):
وَأَنْتُمُ الآنَ تَزْعُمُونَ أَنْ لَا إِرْثَ لَنَا، ﴿أَ فَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(17).
فإذا كان الله تعالى لم يعفُ عنهم، أفهل يكونوا محلّ عفو النبيّ والزهراء والأئمة المعصومين؟! وإذا كانت المصيبة التي أوقعوها على الزهراء (عليها السلام) قد أورثت علياً (عليه السلام) كمَداً وهمّاً، حتى قال (عليه السلام): فَمَا أَقْبَحَ الخَضْرَاءَ وَالغَبْرَاءَ(18).
فهل للشيعي أن يُسامح في ذكرى الزهراء؟! وأن يعفو عمّن استحق غضب الله تعالى؟!
لهذا وغيره ما سامحت الزهراء.. وما سامح الشيعة يوماً.. وسيأتي أمرُ الله تعالى.. فإنا منتظرون.. والحمد لله رب العالمين(19).
(6) الامامة والسياسة ج1 ص31.
(8) تفسير العياشي ج2 ص95.
(10) تفسير القمي ج1 ص159.
(13) بحار الأنوار ج30 ص294.
(16) تفسير القمي ج2 ص171.
(19) السبت 25 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 9 - 1 - 2021 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|