بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المُتَّقينَ﴾(1).
في آية المائدة هذه دلالةٌ جَليَّةٌ على أنَّ الله تعالى لا يتقبَّل كلَّ عَمَلٍ من أعمال عباده! فلا ينبغي أن يغترَّ المؤمنُ بعمله أو بعملِ أحدٍ من المسلمين ما لم يطمئن إلى قبول الله تعالى له.
ألم يُقَدِّم قابيلُ قرباناً كهابيل؟ فلماذا تقبَّلَ الله تعالى أحدهما دون الآخر؟ وما السرُّ في ذلك؟
ليس هناك بُخلٌ في ساحة الله تعالى، فالله تعالى جوادٌ كريمٌ، ابتدأ الناس بالإحسان ابتداءً، ولا يُعقَل أن لا يقبل عملاً عبثاً.
إنَّ مِنَ النّاس مَن يأتي بعَظيم الأعمال لغير وجه الله تعالى، فلا يتقي الله تعالى ولا يخشاه ولا يخافه، أو يمتثل لأمر الله فيما يناسب رأيه كإبليس اللعين، حين عبَدَ الله تعالى ثمَّ أعرَضَ لما أُمِرَ بالسجود لآدم، فما كان مصيره إلا إلى النار.
وقد تكرَّرَ الأمرُ مع الأوائل من المسلمين، حيث روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا الأنصار حينما حضرته الوفاة، ونعى إليهم نفسه، وأثنى على مجاورتهم له ونُصرَتهم إياه، ومواساتهم له في الأموال، وبَذلهم مُهَجَ النفوس في سبيل الله، وهي أمورٌ يستحقون عليها عظيم الثواب عند الله تعالى، كما كان إبليسُ مستحقاً للثواب على عبادة الله قبل رفضه السجود لآدم.
ولكن.. لم يكتمل امتحان هؤلاء بنصرة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهم:
وَقَدْ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ تَمَامُ الأَمْرِ، وَخَاتِمَةُ العَمَلِ!
كلُّ ما فعله هؤلاء في سبيل الله تعالى موقوفٌ على خِتام أفعالهم، فَكَم من ساعٍ للخير خَتَمَ سعيَهُ بالانحراف عن أمر السماء، وكَم من عاملٍ أتلفَ في آخر أيامه ثمار عمله للدنيا والآخرة.
كلُّ أعمال العباد موقوفةٌ على آخر مُفرَدةٍ، تلك التي أُكمِلَ بها الدين، قال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ أَتَى بِوَاحِدَةٍ وَتَرَكَ الأُخْرَى كَانَ جَاحِداً لِلْأُولَى، وَلَا يَقْبَلُ الله مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلًا!
فَهِمَ هؤلاء أنَّ تركَ هذه المسألة فيه رِدَّةٌ عن الإسلام، وهلاكٌ في الآخرة، فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبيّن لهم ذلك، فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لَهُمْ: كِتَابُ الله، وَأَهْلُ بَيْتِي!
إنَّ جحودَ آل محمدٍ جحودٌ للقرآن، ويلزم منه بطلان كلِّ الأعمال، لأنها لم تقترن بشرط القبول، وإنما يتقبل الله من المتقين!
ثمَّ قال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم): احْفَظُونِي مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ فِي أَهْلِ بَيْتِي!
حِفظُ آل محمدٍ هو حفظُ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمَن أساء إليهم كأنه أساء إليه، ومَن حَفِظَهم فقد حفِظَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
ليس لهذا صلةٌ بالقرابة فحسب، بل لأنَّهم أبواب الله تعالى، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
الله الله فِي أَهْلِ بَيْتِي، مَصَابِيحِ الظُّلَمِ، وَمَعَادِنِ العِلْمِ، وَيَنَابِيعِ الحِكَمِ، وَمُسْتَقَرِّ المَلَائِكَةِ، مِنْهُمْ وَصِيِّي وَأَمِينِي وَوَارِثِي، وَهُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!
هُمُ المِصباحُ لكلِّ ظُلمَةٍ، فلو أظلمت الدُّنيا بالفِتَنِ كان آل محمد مصابيحها، ولو اشتبهت الأمور على الأمم رفَعَ آلُ محمدٍ ظَلامَها بأنوار علومهم، فحقَّ أن يوصي بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنهم طريقُ الله جلَّ جلاله.
ولكن.. لماذا توصي بهم يا رسول الله؟
وهل تحتاجُ أمَّتُكَ إلى وصيةٍ لكي تحبَّهم وتحفَظَكَ بهم؟!
ألا يعرفُ الأنصار الذين بذلوا مُهَجَهُم دونك أن المرء يُحفظ في ولده؟!
ألم يسمعوا منك أعظم الأحاديث في مدحهم والثناء عليهم؟!
ألم يبايعوا وصيَّك في غديرٍ خُمٍّ عن قريب؟!
فما الذي يجري يا رسول الله؟!
يكمل (صلى الله عليه وآله وسلم) خطابه ليُشيرَ إلى بلاءٍ أعلَمَهُ الله بأنَّهُ نازلٌ على عترته الطاهرة، ورَمزُ هذا البلاء: بابُ ابنته فاطمة! الباب الذي طالما وقَفَ عليه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مستئذناً!
يقول لهم: مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ أَلَا فَاسْمَعُوا وَمَنْ حَضَرَ: أَلَا إِنَّ فَاطِمَةَ:
1. بَابُهَا بَابِي
2. وَبَيْتُهَا بَيْتِي
فَمَنْ هَتَكَهُ فَقَدْ هَتَكَ حِجَابَ الله!
اللهُ أكبرُ أيُّ كلمةٍ هي هذه؟! أيُعقَلُ أن يُهتكَ بابُ فاطمة وبيتُها؟!
ثُمَّ ماذا يعني هَتكُ حجاب الله؟! وما هو حِجاب الله؟!
كان هذا الكلام عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، لكنَّه لما وصل (عليه السلام) إلى هنا بكى طويلاً! وقطع بقيَّة كلامه!
آهٍ لقلبك الفجيع يا سيِّدي، كيف لا تبكي لأمِّك الزَّهراء؟!
بكى طويلاً ثم قال (عليه السلام):
هُتِكَ وَالله حِجَابُ الله! هُتِكَ وَالله حِجَابُ الله! هُتِكَ وَالله حِجَابُ الله!
يَا أُمَّهْ، صَلَوَاتُ الله عَلَيْهَا!(2).
يمتلئ المؤمن بالغُصَص لهَولِ الفاجعة، وتنهمرُ دموعه على ما جرى في الدّار، ولمّا يهدأ الأنين، وتنقطع الدُّموع التي مِن حقِّها أن لا تكفَّ يوماً، يعودُ المؤمن للسؤال: كيف صارَ هَتكُ بابِ فاطمة وبيتها هَتكاً لحجاب الله؟!
يتأمَّلُ المؤمن في زيارتها (عليها السلام)، فيجد فيها: وَسَلَلْتَ مِنْهَا أَنْوَارَ الأَئِمَّةِ، وَأَرْخَيْتَ دُونَهَا حِجَابَ النُّبُوَّة!(3).
اللهُ تعالى هو الذي أخرجَ منها أنوار الأئمة، فالفِعلُ فِعلُه، وهو الذي أرخى دونها حجاب النبوة، أي أنَّ النبوّة صارت للزهراء حِجاباً مُرسَلاً!
تُرخي المرأة دونَها حِجاباً فتَعظُم عند ربِّها، لكنَّ الزَّهراء فاقت ذلك، فالذي أرخى دونَها حِجاباً هو الله تعالى! وكان ذلك الحِجابُ حجابَ النبوّة! وحجاب النبوّة هو حجاب الله تعالى!
فقد ورد عن الباقر (عليه السلام):
بِنَا عُبِدَ الله، وَبِنَا عُرِفَ الله، وَبِنَا وَعَدَ الله، وَمُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله وسلم) حِجَابُ الله!(4).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): الإِمَامُ.. نُورُ الله، وَحِجَابُ الله!(5).
وسواء أريد بالحجاب:
الواسطة في الخَلق: لأنَّ الله خلق الخلق من أنوارهم.
أو في المعرفة: لأنَّ الله تعالى يُعرَف بهم.
أو في العطاء والرحمة: لأن الله تعالى ينزل النِّعَم والعطايا والرحمة بهم.
أو أنَّ حُرمَتَهُم مِن حرمة الله، والتجاوُزُ عليها تجاوزٌ على حقِّ الله.
أو أنَّهم أبوابُ الله تعالى، والأدلاء عليه، أو غير ذلك من المعاني.
فإنَّ في هتكِ (حجاب الله) بهتك (بابها وبيتِها) معنىً لا يكادُ يُدرَك غَورُه!
فليس المُراد قطعاً من كون بابها باب النبيِّ هو ملكيَّة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للباب! بَل إنَّ التَجاوُزَ على بابِها، وهَتكَ حُرمَتِهِ، هُوَ تجاوُزٌ لحقِّ الإله العظيم الخالق المعبود، في أعظَم المخلوقات وأحبِّها إليه، محمدٍ وآله عليهم السلام.
لقد صار هؤلاء حجابَ الله وبابَه وطريقَه حين فُضِّلوا على كلِّ الخلائق، وعَظُمَ أمرُهُم حتى صار عَصيّاً على الإدراك!
لقد اجتَمَعَت على الزَّهراء ألوانُ البلاء، وقد سألتها أمُّ سلمة عن حالها فقالت: أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وَكَرْبٍ: فُقِدَ النَّبِيُّ، وَظُلِمَ الوَصِيُّ، هُتِكَ وَالله حِجَابُهُ!(6).
كان الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يحيطها برعايته، وصارَت مُحاطةً بالكَمَد والكَرب!
الكَمَد هو (هَمٌّ وحُزنٌ لا يُستَطَاعُ إمضاؤه)، أو (الحزن المكتوم).
والكَرب هو (الغَمُّ الشَّديد)، أو (الغَمُّ الذي يأخذ بالنفس).
فما حالُ هذا القَلبِ الطاهر الوَجيع، يتألَّمُ تارةً على فَقدِ أعزّ الخلق وأحبِّهم، وأخرى على ظُلمِ الوَصي، بما يأخذُ بالأنفُس أو الأنفاس، ولا يُستطاعُ إمضاؤه وتجاوُزُه!
لقد ذَكَرَت الزَّهراء هنا ظلمَ الوصي ولم تذكر ما جرى عليها، قالت: (هُتِكَ وَالله حِجَابُهُ)، وكلُّ واحدٍ منهم حِجاب الله، فمُحمدٌ حجابُه، وعليٌّ حجابُه، وهَتكُ حجابِها هَتكٌ لحجابهم.
وحين كان الإمامُ الكاظم (عليه السلام) يبكي لِهَتك حجاب الله بالاعتداء على بيت فاطمة وبابها، كانت فاطمةُ تبكي لِهَتك حجاب الله بالاعتداء على عليٍّ ومكانته!
فإنَّها مَن يعرِف حقَّ عليٍّ ويتألَّمُ عليه حقّاً!
وهو مَن يعرِف قدرَها حتى يقول (هَذِهِ وَالله مُصِيبَةٌ لَا عَزَاءَ لَهَا)!
ما أعظَمَكم يا آل بيت الرَّسول، وما أشدَّ عذاب ظالميكم، لقد ورد في الحديث: وَمَنْ هَتَكَ سِتْرَ مُؤْمِنٍ هَتَكَ الله سِتْرَهُ يَوْمَ القِيَامَة(7).
فكيف بمَن هتك حجاب النبوة! بل حجاب الله تعالى!
إنَّ ما فَعَلَهُ القومُ هو أشنَعُ فِعلٍ يتصوَّرُهُ عاقلٌ، فليس فيه تكذيبٌ للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، بل فيه انتهاكٌ لحرمته، وهو أشدُّ ما يبغضه الله تعالى على الإطلاق، فعن إمامنا الحسن (عليه السلام) أنَّ أبغض الأشياء إليه تعالى: الشِّرْك بِكَ، وَالتَّكْذِيب بِرَسُولِك!
آهٍ يا رسول الله، كذَّبوا أمرَك، وهتكوا بابَك وباب ابنتك، وقد أوصيتهم بحفظها مراراً!
ماذا جرى عليها يا رسول الله حتى هَمَلَت عيناك عليها قبل شهادتك؟!
مَن كان مُحتَضِراً يبكي عليه أحباؤه، لكنّك كنتَ تبكي عليها (مِثْلَ المَطَرِ)!
آهٍ لهول المصيبة، ذاك حيثُ هُتِكَ حِجابُ الله. فإنّا لله وإنا إليه راجعون(8).
(1) المائدة27.
(2) طرف من الأنباء و المناقب ص146، وعنه بحار الأنوار ج22 ص477، والنص منه.
(3) إقبال الأعمال ج2 ص625.
(4) بصائر الدرجات ج1 ص64.
(5) المشارق ص177.
(6) بحار الأنوار ج43 ص156.
(7) المؤمن ص69.
(8) الخميس 2 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 6 - 1 - 2022 م.