بسم الله الرحمن الرحيم
في عالمنا اليوم.. صار السِّترُ للمرأة مقروناً بالإسلام، حتى كاد يُتصوَّر أن الحجاب من شرائع الإسلام حصراً.
ولمّا قُرِنَ الإسلام في بعض المجتمعات بالتخلُّف والرجعية، صار السترُ والحجاب عندهم علامة ضعفٍ وتخلُّف.
لقد تناست المدنيّة الحديثة أنّ السِّترَ حاجةٌ إنسانية فطرية، حثّت عليها شرائع السماء أجمع، والتزمت بها الخلائق أجيالاً فأجيال.
فقد حذّر التوراة من عاقبة التفلُّت الأخلاقي، وكان مما قال في (الإصحاح الخامس من سِفر الأمثال):
3 لأَنَّ شَفَتَيِ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ تَقْطُرَانِ عَسَلاً، وَحَنَكُهَا أَنْعَمُ مِنَ الزَّيْتِ،
4 لكِنَّ عَاقِبَتَهَا مُرَّةٌ كَالأَفْسَنْتِينِ، حَادَّةٌ كَسَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ.
5 قَدَمَاهَا تَنْحَدِرَانِ إِلَى الْمَوْتِ. خَطَوَاتُهَا تَتَمَسَّكُ بِالْهَاوِيَةِ.
تشابيهُ معبِّرة، فما ظاهِرهُ الحلاوة والطراوة كالعسل، عاقبتُه مرّة تودي إلى الموت والهلاك والسقوط في الهاوية، هكذا يقول التوراة..
أما الإنجيل، فقد حذّر من النظر بشهوةٍ للمرأة، حين نقل متّى في إنجيله عن عيسى عليه السلام قوله:
إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ (متى5: 28).
وحثّ على غطاء الرأس خصوصاً حال الصلاة فقال:
أَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغُطَّى، فَتَشِينُ رَأْسَهَا (كورنثوس الأولى11: 5).
وقال:
لِهذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى رَأْسِهَا، مِنْ أَجْلِ الْمَلاَئِكَةِ (كورنثوس الأولى11: 10)
صار كشف الرأس عند الصلاة شيناً للمرأة في الإنجيل، وصار النظر بشهوةٍ لامرأة أجنبيّة خطيئةً فاحشةً للقلب والجوارح.
فزينة المرأة بحسب الإنجيل هي من نوعٍ خاصٍّ، يُستهزأ به اليوم، وتُسمّى (الحشمة)!
ففيه:
وَكَذلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل (تيموثاوس الأولى2: 9).
لِمَا تقدّم، ولأنّ (العقل والدين والحياء) قد اقترنوا منذ أيام آدم، لمّا اختار العقل فتبعه الحياء والدين، فحيث وجَدتَ العقلَ وَجدتَ قريناه، كان السِّترُ والحشمةُ والحياء علامةً فارقة عند العقلاء المؤمنين..
حتى انبرت جماعةٌ للتجارة بالمرأة باسم الإنسانية، فصارت المرأة سلعةً رخيصةً بيد هؤلاء..
وكان لهم في ذلك سُبُلٌ شيطانية.. حيث قيل للمرأة بأن شُكر المُنعم واجب، وقد أنعم الله عليك بالجمال والمفاتن، وشُكره يكون بإبرازها وإظهارها.. كما تقول القاعدة الشريفة: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْه..
فافتتنت المرأة بحُسنها، وهتكت سترها، وذهب حياؤها، وانتفى وَرَعها، حتى ارتكبت أشنع القبائح باسم الإنسانية والحريّة والنِّعم الإلهية..
هكذا بدأت الأمور في مجتمعاتٍ قائمة على المدنيّة الحديثة، ثم انتقلت بحُكم العولمة وآثارها إلى بيئةٍ متديّنة نامت وَرِعةً ممسكة بحبل الحياء واستيقظت وقد انسلّت منه في ليلٍ داج..
وأوجد هؤلاء الرجال للنساء المبرِّر.. حجّتك تامّةٌ، فإن حُسنك سبب فتنتك.. وأنت معذورة..
هذه بعض الأساليب الشيطانية في خداع البشر..
ههنا يحدّثنا صادق آل محمد عليه السلام، وخبرُ أمثاله خبرُ السماء.. فيقول عليه السلام:
تُؤْتَى بِالْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّتِي قَدِ افْتُتِنَتْ فِي حُسْنِهَا، فَتَقُولُ:
يَا رَبِّ حَسَّنْتَ خَلْقِي حَتَّى لَقِيتُ مَا لَقِيتُ!
تُريد هذه المرأة الحسناء التي افتُتنت بحسنها أن تحتجّ على رب العباد، وتلقي مسؤولية أفعالها الشائنة عن ظهرها، وتُحمِّل وزرها لربِّها!
وكأنّ الخالق المُنعم المعطي المتفضّل عليها بجمالها قد أجبرها على إبراز مفاتنها! وعلى السقوط في مهاوي الرذيلة! لأنّه أنعم عليها بحُسن المنظر.
ههنا تظهر حجّة الله البالغة، بعملٍ يعقبه قول، فعن الصادق عليه السلام:
فَيُجَاءُ بِمَرْيَمَ (ع)، فَيُقَالُ: أَنْتِ أَحْسَنُ أَوْ هَذِهِ؟
قَدْ حَسَّنَّاهَا فَلَمْ تُفْتَتَنْ (الكافي ج8 ص229).
هي حجّة بالغةٌ تراها المرأة بالوجدان.. فتقف الحسناء أمام مريم عليها السلام.. وما أدراك ما مريم..
ينقطع لسان هذه المرأة لِما ترى من حُسن سيدة نساء قومها.. ذلك الحُسنُ الذي لم يكن فتنةً لها أبداً..
حُسنُ مريم كاملُ الأبعاد والأوصاف.. فهي كاملةٌ كذلك في خُلُقها وطهارتها وعفّتها وحشمتها.. كما في إيمانها ويقينها..
وهذه الصفات هي معيارُ الثواب في يوم الجزاء..
فمَن أبرزت مفاتنها في هذه الدنيا احتجّ الله تعالى عليها بمريم عليها السلام، ثم جازاها بما تستحق..
أما من امتلثت أمره تعالى، وكانت مؤمنة عفيفة مستورةً كافأها ربُّها وجازاها بما لا مزيد عليه.
لقد أقرّت المؤمنةُ بأن الدنيا سجن لها، فحَبَسَت نفسها عن ما حرّم الله عليها وأخفت مفاتنها، فعوّضها الله تعالى أضعاف ذلك في يوم الجزاء.. حتى جعلها أجمل من الحور العين!
فقد ورد عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (الْخَيْرَاتُ الْحِسَانُ) مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَهُنَّ أَجْمَلُ مِنَ الْحُورِ الْعِين (من لا يحضره الفقيه ج3 ص469).
وهل رأينا الحور العين حتى نعرف مقدار ذلك؟
يبين الإمام عليه السلام شيئاً من ذلك في حديثٍ آخر:
لَوْ أَنَّ حُوراً مِنْ حُورِ الْجَنَّةِ أَشْرَفَتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَأَبْدَتْ ذُؤَابَةً مِنْ ذَوَائِبِهَا لَأَفْتَنَ لَأَمَتْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا أَوْ لَأَمَاتَتْ أَهْلَ الدُّنْيَا (الزهد ص 102)
نساءُ أهل الدنيا العفيفات المحصنات المؤمنات يصِرنَ أجمل من هذه الحور!
هذا هو كَرَمُ الله تعالى وحسن جزائه لعباده على طاعتهم في هذه الدنيا وصبرهم عمّا حرّم عليهم.
هي منظومةٌ متكاملةٌ من التشريعات السماوية، أراد منها الخالق الحكيم، العليم بما خلق، أن يحفظ عباده في الدنيا.. وأعدَّ لهم عظيم الجزاء في الآخرة..
فصِرتَ ترى المرأة المؤمنة لا تجتذبها البهارجُ، لا تَفتِنُ ولا تُفتَتَن، تقصر نفسها على ما أحلّ الله لها، فتستقيم سليقتها، وتطهر نفسها، فيحشرها الله تعالى مع مريم عليها السلام، ومَن كانت خيراً من مريم: الزهراء البتول، الطاهرة المطهرة عليها السلام.. وتلك غاية أمانيها.
والحمد لله رب العالمين
الإثنين 21 ربيع الثاني 1442 هـ
7 - 12 - 2020 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|