بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
قال الله تعالى مخاطباً نبيَّهُ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).
وقال عزّ وجلّ عن كتابه الكريم: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(2).
فكان في ما أنزل الله سبحانه وتعالى مِن ذِكرٍ، وابتَعَثَ من رُسُلٍ، وضَرَبَ من أمثالٍ للتفكُّر، تِبياناً وبياناً لما يحتاجه الخلق، على أن يُعمِلوا الحجة الباطنة بتَفَكُّرهم، لتتكامل مع حججه الظاهرة وبراهينه النيِّرة في هداية الإنسان، فيتحقق الغرض من خلقته ببلوغه أعلى مراتب المعرفة، فالعبادة والطاعة والقرب من ساحته تعالى.
لهذا ولغيره، جرت سيرة العلماء، تبعاً لأنبياء الله وأوصيائهم، على تِبيان الحقائق وعَرضِها بأوضَحِ لسانٍ وأشفى بيان، مُستَمِدِّين بُرهانَهُم من كتاب الله وسنة نبيّه وأوليائه (عليهم السلام)، لتتمَّ الحجة في كل زمانٍ على كلِّ عَقلٍ بشريٍّ ومخلوقٍ إنسانيٍّ أودع الله فيه فطرته التي فطر الناس عليها.
وكان ممّن وفقه الله لذلك، عَلَمٌ من أعلامِ مَذهَب الحق، أستاذنا سماحة المرجع الديني الكبير الشيخ حسين الوحيد الخراساني حفظه الله، في مراحل مختلفة وسُبُلٍ عدّة، كان منها أن خَصَّصَّ في بُرهَةٍ من الزمن أبحاثاً عقائدية حول (الإمامة)، ألقاها كسائر بحوثه في المسجد الأعظم في قم المقدسة، وكان مِحوَرُها أدلة الإمامة (القرآنية والروائية)، مع مناقشة أصحاب المذاهب الأخرى في مزاعمهم، وبيان الحق في هذه العقيدة الجليلة.
ولمّا كان موضوعُ الإمامةِ على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية، بحيث يتوقف عليه تحقيقُ الغرض الإلهيّ من بعثة الأنبياء والرُّسُل كما تعتقد الإماميّة أعزّها الله، فهي أُسُّ الإسلام النامي، وفرعه السامي، آثرنا نشر جملةٍ مما كنا قد سطرناه أثناء حضورنا عند سماحة الشيخ الأستاذ في محضر بحثه سنة 1434 للهجرة (2013 للميلاد) وما بعدها، لتتمّ الحجة، عَلَّ الله يهدي به لدينه مَن يشاء من خلقه.
وكنا قد نشرنا جملةً من هذه الأبحاث عبر شبكة الانترنت في (منتديات يا حسين)، ونُشِرَت بعد ذلك في بعض المواقع والقنوات، فلاقَت استجابَةً جَيِّدة، وكان لها ثمرةٌ طيّبة، فعَمَدنا إلى جمعها في كتابٍ لتعمَّ الفائدة ويزيد النفع، وكان هذا الكتاب: (أنوارُ الإمامة).
ولأنّ العالِمَ مثلُ النخلة، كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إِنَّمَا مَثَلُ العَالِمِ مَثَلُ النَّخْلَةِ، تَنْتَظِرُهَا حَتَّى يَسْقُطَ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَالعَالِمُ أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الصَّائِمِ القَائِمِ الغَازِي فِي سَبِيلِ الله(3)، فقد ألحقنا بالكتاب بعضَ ثمار سماحة الشيخ حفظه الله، وهي ما كان يلقيه على تلامذته من علومٍ ومعارف اعتقادية يبثُّها كالثمار، في مناسبات متنوّعة، جُلُّها في ذكرى المعصومين (عليهم السلام).
ولمّا كان سماحة الشيخ المرجع على قَدرٍ عالٍ من رِعاية الدِّقة في أبحاثه وكتاباته، وكان قد ألقى هذه الأبحاث باللغة الفارسية، وكنتُ أقوم بكتابة مَتنِها عَرَبيّاً مباشرةً أثناء إلقائها، دون أن أعود لأطابقها مع ما ذَكَرَهُ كلمةً فكلمة، لَزمَ لَفتُ النظر إلى أنّها ليست (تقريراتٍ) لأبحاثه حفظه الله، فتلك تحتاج إلى مزيدِ تدقيقٍ ومراجعةٍ لما قاله، وإلى أن تُعرَضَ على سماحته وهو ما لا يُساعد عليه الظّرف، وإنما هي فَوائدُ مِن مجلس بحثه، وثِمَارٌ تساقطت علينا منه حفظه الله.
وقد يلاحِظ القارئ الكريم عند مطالعة الكتاب أنّه مزيجٌ من أسلوب الكتابة وأسلوب المحاضرة، ولكلٍّ منهما خصوصيته، فدَمَجنَا بين الأمرين لنحافظ على جمالية وإبداع ما ألقاه سماحة الشيخ المرجع، ولم نلتزم بحرفيّة كلامه حفظه الله، فتَصَرَّفنا فيه بشكلٍ جُزئيٍّ، وإن لم نَخرُج عن روحه وجوهره، لننقل الفكرة ناصِعةً غير مشوّهة.
على أنّ العبارة إن تُرجِمَت حرفيّاً فقد تفقد شيئاً من عُمقِها ورَونَقِها، وإن وَقَعَ التصرُّفُ فيها فقد تفقد شيئاً من دقّتها.
فما كان في هذا الكتاب من صوابٍ وفائدةٍ، فمما أفاضه الله على سماحة الشيخ الجليل من بركات وعلوم آل محمد (عليهم السلام).
وإن كان فيه من عَثرَةٍ أو ثغرةٍ، فمن راقم السطور، وقاهُ الله وأهلَه وأحبتَه وسائرَ المؤمنين عثرات الموت وشِدّة يوم القيامة.
وقد سعينا إلى توضيح العبارة قَدر الإمكان، لكن إن وَجَدَ بعضُ القرّاء صعوبةً في بعضها، فعُذرُنا هو ما أشار إليه سماحة الشيخ الوحيد حفظه الله في بعض الأبحاث: (أنّ البحث وِفق أدقّ موازين العلم، التي لا يعرِفُها إلا مَن وَصَلَ إلى مراتب التحقيق والتعمُّق العالية)، ولَم نَعمد إلى التفصيل والإستطراد في مواطن إشارات وتنبيهات سماحة الشيخ، لأنَّ العالِمَ يتنبه للإشارة، وسِواهُ يكتفي بالعبارة.
وغالِبُ الظنِّ أن ما طَرَحَهُ سماحة الشيخ الوحيد في مقامِ إلقاء الحجَّةِ على علماء الأزهر والسعودية وسائر علماء العامة حول الإمامة سيبقى بلا جواب، وقد قال حفظه الله في طيَّات بعض الأبحاث: (لو اجتمع كل علماء الأزهر، واتّفق كل علماء السعودية، هل عندهم قدرةُ الإجابة على هذا المطلب؟ هذا الكلام ينتشر إلى الدنيا، ولا يبقى محصوراً بين هذه الجدران الأربعة).
تغمَّدَ الله موتانا وموتى سماحة الشيخ وموتى المؤمنين بواسع رحمته، وأرسَلَ إليهم ثوابَ هذا العمل اليسير أجراً عظيماً مقبولاً مُبارَكاً بحق أهل الفضل محمدٍ وآل محمد (عليهم السلام).
في ذكرى شهادة الصديقة الكبرى عليها السلام
ليلة الإثنين 4 جمادى الثاني 1442 هـ الموافق 17-1-2021 م
جنوب لبنان، بلدة أنصار
محمد مصطفى مصري العاملي