الفصل الأول: الإمامة والقرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم(1)
البحثُ في حُكمِ القرآن، وكلام الله تعالى في مسألة الإمامة، قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(2).
هذه الآية فَصلُ الخطاب في هذا البحث المهم، وهي تشتمل على جهات:
الجهة الأولى: أن الإمامة منوطةٌ بشخصيّةٍ خاصّة، فما هي الخصوصيات التي ينبغي أن تجتمع في الإنسان ليكون لائقاً بهذا المقام؟
الجهة الثانية: أن هذه الإمامة إمامة الناس، فينبغي أن يتّضح طَرَفا الإضافة، حيث أحدهما الإمام، والآخر عُموم من يُطلَقُ عليه كلمة (الناس).
الجهة الثالثة: أنّ هذه الامامة باختيار الذات القدّوس تعالى حصراً، وليس لأحدٍ من البشر حقُّ إبداء الرأي فيها، ولا يَتَسَنَّمها أحدٌ إلا بتنصيبٍ من الله تعالى، بحيث ينصبُ فيها تعالى مقامَ إمامة الناس.
ينبغي النظر في موضوع كلام الله تعالى بالنسبة لهذا المقام، فما هي هذه الشخصية؟ وما المزايا التي حازها إبراهيم (عليه السلام) فكانت سبباً لاختياره؟
بعد ذلك ينبغي فهم تلك الكلمات ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾: وبِفَهمِ ذلك البلاء والابتلاء يصل الإنسان إلى حدٍّ لائقٍ لإدراك حقيقة الإمامة.. المسألة عميقةٌ إلى هذا الحدّ.
أمّا معرفة إبراهيم (عليه السلام)، فإنّ المرجع فيها هو نفس القرآن الكريم حصراً، فينبغي استنباط الخصوصيات من القرآن الكريم، وأما خصوصيّات اختيار التعابير في القرآن الكريم، فَحَلُّ لُغزِهَا مُتاحٌ للحكماء أصحاب المقامات والفقهاء، ومِفتاح حلِّها عندهم هو الكتاب والسنة.
لقد استُعمِلَت كلمة (أحسن) في القرآن الكريم، وكانت موردَ عِنايةٍ إلى حَدِّ أنَّهُ تعالى استخدمها مراتٍ عديدة أحدها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾(3).
ومنها: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾(4).
وفي كلِّ جملةٍ خَزنَةٌ يعرفها أهلها، لكن للأسف وقتنا ليس كافياً.
وينبغي أولاً معرفةُ الدّين، ثم فَهمُ رأي القرآن الكريم بالدِّين: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ﴾ وفي مقام العنديَّة (عند الله).
وفي قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً﴾ في الآية المباركة ثلاث مطالب أُنيطَ قبول الدين بها:
- ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾: أي أنَّهُ سَلِمَ مِن كلّ الأخطاء الفكريّة والزلّات الأخلاقية والسيِّئات العمليّة، فعند سلامة العقل والقلب والجسم، وبعد التَنَزُّه والتَقَدّس يصبح مصداقاً لهذه الجملة ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾، ثُمَّ إنّ السلامة من كلّ الجهات لا تكفي، بل يجب أن يكون ذلك لله تعالى، وهنا يُفهَمُ معنى: العُلَمَاءُ كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلَّا العَامِلُونَ، وَالعَامِلُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلَّا المُخْلِصُونَ، وَالمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَر(5)، فآخر ما يخرج من قلوب الصديقين حبُّ الجاه!
إنّ فَهمَ القرآن ليس سهلاً، ويتَّضِحُ معنى ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ ببركة الاستمداد من الروايات، وهذه هي الكلمة الأولى.
- ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾: يَصل فيه إلى مقامٍ لا يصدر منه سوى الحسن والإحسان.
- الثالثة التي تُحَيِّر العقول: ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ فبعد أن ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ وبعد الوصول لمقام الإحسان المطلق ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ يذكر الشرط الثالث: اتّباع ملة إبراهيم!
هذا ما ينبغي على الفخر الرازي أن يفهمه أولاً، وهو موضوع الإمامة، فلو فَهِمَ العامّة هذه الآية هل كانوا سيلعبون بمنصب الإمامة؟ وهل كانت ستظهر سقيفة بني ساعدة؟
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ إبراهيمُ الذي كان اتِّباعُ ملَّتِه الشرط الأخير للدّين، لم يكن قد أصبح لائقاً لمقام الامام حتى تحقيق تلك الكلمات، فصار مناسباً لهذا المنصب!!
قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لله حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(6).
هذا كلام الله تعالى، وفَهمُ القرآن ليس سهلاً وإن كانت قراءته سهلة، ودَركُ عُمقِهِ يُحيِّرُ رجال العلم والحكمة والفقاهة.
لم يكن إبراهيم فرداً، لم يكن شخصاً، كان أُمَّةً، ولكن أيُّ أمَّة؟
﴿أُمَّةً قَانِتاً لله﴾: هذه هي الآية الثانية بالنسبة لشخصيّة الرجل الذي اختاره الله لمنصب الإمامة فكان:
- ﴿أُمَّةً﴾.
- ﴿قَانِتاً لله﴾.
- ﴿حَنِيفاً﴾.
- ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾: بالشرك الجليِّ والخفيّ.
- ﴿شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ﴾: بشهادة الله تعالى.
- ﴿اجْتَبَاهُ﴾: فقد اجتباه ربُّ الأرباب لنفسه، ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
- ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾: فَهمُ هذه الحسنة بنفسه له شأنٌ، فكلُّ مَن أراد أن يوجِّهَ قلبَه وبدنه إلى الله تعالى عليه أن يُقبِل على ما بناه إبراهيم (عليه السلام) إلى يوم القيامة، وإلا فإنّ صلاته باطلة، والصلاة ركن الدين، هذا قوله تعالى ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾، فينبغي النظر في الحَسَنة التي أعطاه الله إياها، هذه واحدةٌ، والباقي له وقته.
- ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
فَهَل فَهِمَ مفسروا العامّة هذه الآية بهذه الخصوصيات؟
بقيت أمور ينبغي التعرض لها(7)، ومنها:
أنَّه لا مقام أرفع وأعلى من مقام الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) عقلاً ونقلاً، وهو غير ممكن التحقُّق لأنه خُلفُ الخاتمية، فكلُّ الأنبياء والمرسلين آدم فمن دونه تحت لوائه (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى إبراهيم (عليه السلام).
والمخاطَب في الآيات هو الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والخطاب: ﴿اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾(8)، فمَن كان مَتبوعاً من كلّ الخلق والمُلك والملكوت أُمِرَ باتِّبَاع ملّة إبراهيم بنصّ القرآن، وفي ذيل الآية بيانُ الإمام أن الملّة التي أُمِرَ النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) باتّباعها هي الشريعة الحنيفية التي لا تُنسَخ إلى يوم القيامة.
لو فُهِمَت هذه المطالب لم يكن ليجتمع من اجتمعوا، واختاروا من يعترف بنفسه أنّه صار حاكماً وإماماً وهو ليس أفضل من المأموم!
وما كانوا لَعِبُوا بالإمامة! فهناك فرقٌ بين الإمام والمأموم مفهوماً ومصداقاً.
لَستُ بِخَيرِكُم: هذه الكلمة برهانُ بطلان خلافة أبي بكر، ولكن للأسف لم تقع هذه المسائل مورد تأملِّ نُخبة أمّة الإسلام، فمِن جهةٍ تُثبِتُ الآية الإمامة لابراهيم (عليه السلام)، ويُثبتونها في المقابل لمن يقرّ بنفسه بعدم صلاحيته لها!
قال تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾(9).
الأمر غير العهد، ودِقَّةُ الآيات في هذه الكلمات، فإنَّ متعلق العهد في الآية هو طهارة بيت الله لأربع فرق: الطائفين والعاكفين والراكعين والساجدين.
والطواف يجب أن يكون حول البيت الذي بناه إبراهيم (عليه السلام)، والاعتكاف يكون بعد تطهيره، والركوع والسجود من كل العالمين يجب أن يكون متوجهاً نحو البيت الذي بناه إبراهيم (عليه السلام).
فأيُّ مقامٍ هذا؟ هذا كله وقد بقي منصب الامامة!!
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾(10).
للقرآن أهلُهُ الذين يطالعونه، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس﴾ فإنّ أفضل أمّةٍ وُجِدَت على الكرة الأرضية كانت نتيجة دعاء إبراهيم (عليه السلام)!
هذا ما يحير العقل ويعجزه!
﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(11).
ذلك الوجود لأفضل الكائنات وأشرف المخلوقات وإمام جميع الأنبياء والمرسلين كان بدعاء إبراهيم، ونتيجة دعائه (عليه السلام)! فأيُّ مكانةٍ لإبراهيم عند الله تعالى!
هذه الآية في السورة الثانية من سور القرآن (البقرة)، وجواب الدعاء في السورة 63 من القرآن: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(12).
الدعاء في سورة البقرة، والإجابة في سورة الجمعة، ومورد الدعاء وجودُ وبَعثة نقطة دائرة الخلق، خلاصة الآدميّة، وعُصارَةُ النبوّة والرسالة، كلُّه ببركة دعاء إبراهيم.
ههنا ينبغي على علماء الإسلام التأمل ورؤية القرآن، ثم بعد ذلك يقرؤون هذه الآية: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(13).
فقد اختير أوَّلاً لمقام الخلّة فصار خليلاً، ولم يكن قد تحقَّقَ منصبُ الإمامة بعد، وتَقَدُّمُ الخِلّة يكشف ما هي الإمامة، لكن من هو الذي يفهم ذلك؟!
كان عند إبراهيم مضافةٌ، وكان يغلق الباب عند خروجه ويفتحه بنفسه عند دخوله، وقد عاد يوماً فوجد باب المضافة مفتوحاً، دخل فرأى شخصاً جالساً، قال: بإذن من وضعت قَدَمَك في هذا البيت المغلق؟ أجابه: بإذن مالك البيت ومالك صاحبه! أنت نفسك مملوكٌ، وأنا جئت بإذن المالك المطلق.
أدرك حينها أنه جبرائيل الأمين، فسأله: لم جئت؟
كان جواب جبرائيل عجيباً، قال: جئت للأرض في مهمة، جئت لأعطي البشارة لعبدٍ من عبيد الله اتَّخَذَهُ الله خليلاً!
هل فَهِمَ الفخر الرازي والبيضاوي وأمثالهم مقدّمات الإمامة هذه؟
عندما سمع الكلمة قال: عرِّفه لي كي أخدمه في حياتي، فإبراهيم يعرف ماذا يعني خليل الله!
لم يقل في البداية أنت الخليل، ومَن يفهم سير الأحداث يُدرك قيمة ذلك، قال: عبدٌ اتَّخَذَهُ الله خليلاً.
إبراهيم الذي كان صِدِّيقاً ونبيّاً ورسولاً وبانياً للبيت الحرام يريد أن يكون خادماً عمره للخليل.
حينها قال له جبرائيل: هذا الشخص هو أنت!
قال: لِمَ اتخذني ربي الحكيم على الاطلاق خليلاً؟
أجابه جبرائيل: لأمرين، فكِّروُا وانظروا من الذي وصل إليها.
سأل: ما هما؟
أجابه: في كل عمرك لم تطلب شيئاً من أحدٍ غير الله، فماذا يعني هذا؟ دون فهم هذه الكلمات خرط القتاد!
يعني الإنقطاع المطلق عن كلِّ ما سوى الله ومَن سوى الله، مِثلُ هذا يمكنه أن يقول ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً﴾(14).
الثانية: لم يسألك أحدٌ في كل زمانك وسمع منك كلمة لا، فلم تسأل أحداً، ولم تُجِب أحداً إلا بنعم، هذا منشأ الخلة.
بعد أن صار خليلاً: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾، ويأتي الكلام في الجعل والمجعول.
كان البحث(15) في هذه الآية ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.
قلنا أنّه ينبغي النظر في موضوع الآية، وما الذي يتعلق بذلك الموضوع، وبعد هذين الأمرين ما هي نتيجة الموضوع والمحمول.
يُستفادُ من القرآن الكريم أنّ خلق الموت والحياة كان للابتلاء: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾(16)، وهذه سُنَّةُ الله تعالى بالنسبة للبشر: ﴿أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾، فإنّ عموم مَن يندرج تحت عنوان (الناس) العام قد خُلِقَ للفتنة والابتلاء، ليُعلَمَ من يخرج منه غانماً.
ولهذا المطلب حكمةٌ بنظر العقل والنقل، فينبغي أن يذهب الإنسان للاستخلاص شاء أم أبى، حتى تذهب الكدورات ويبقى الجوهر الخالص: النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّة(17)، وجوهر الحكمة في الكتاب والسنة، ففي كلِّ كلمةٍ عبارةٌ وإشارة.
النَّاسُ مَعَادِنُ: فينبغي أن تُبتلى تلك الجواهر لتخلُص وتطهر.
وهذه كلمة سيِّدِ العلم والعرفان (عليه السلام)، في سَفَرِه لعاشوراء: إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى السِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون(18).
هذا أساس الحكمة عقلاً وكتاباً وسنة، وذلك الابتلاء وتلك الفتنة ليسا على السواء بالنسبة للجميع: يَا كُمَيْلُ إِنَّ هَذِهِ القُلُوبَ أَوْعِيَة: فالظرفيَّةُ مختلفةٌ، وكلُّ ظرفٍ يرى الإبتلاء بمقدار ظرفيّته، لذا فإنّ المهم فَهمُ هذه الآية، وقد كتب العامة كل هذه التفاسير، لكن إلى أين وصلوا من سِرّ هذه الآية؟
لقد اتّضح موضوع الآية إلى حدٍّ ما، وصار معلوماً مَن هو إبراهيم، وهذه مقدَّمة بحث الإمامة في القرآن: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ فمن هو المبتلي؟ والمُبتَلى؟ وما البلاء؟
ذاك الذي يَختَبِر هو (رَبُّهُ)، فما النكتة التي ينبغي فهمها هنا؟ حيث أنّه تعالى في الواقع رَبُّ الجميع، رَبُّ الجمادات والنباتات والحيوانات، ورَبُّ الإنسان بمراتب الإنسانية، لذا فإنّ ربوبيّة الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) تختلف عن ربوبيته تعالى بالنسبة لداوود.
فالمختبِرُ هو ربُّه، وتلك الربوبية تقتضي هذا الابتلاء.
أما المُبتَلى فهو مثل هذا العبد: إبراهيمُ بانِي بيت الله، مَن كان مقامه مُصَلَّى أهل المعراج إلى الله، المبتلى مِثلُ هذا.
فينبغي أن يُفهم عندما يكون هذا هو المبتلي، وذاك المبتلَى، على أيِّ حَدٍّ من العظمة سيكون الابتلاء؟ وما مورد الابتلاء؟
﴿بِكَلِمَاتٍ﴾: عندما تكون الجملةُ في كلام الله نكرةً تكشف عن عظمةٍ لا تُدرَك ولا توصف، فهي فوق معرفتنا نحن.
ما هي تلك الكلمات؟ للمفسرين أقوالٌ في ذلك، لكن ليس عند أحدهم دليل، لقد أخذوا عن ابن عباس والجبائي وآخرين، ولكن ما ادُّعِيَ كان دون دليل.
يجب أن يستند المطلب إلى القرآن الكريم وبيان أهل البيت: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(19)، فيجب النظر في ما قاله أولئك المطهَّرون عن الخطأ، والمفسِّرون لكلام الله.
إنّ أدنى المراتب هي الوهم، وإذا خرج الإنسان منه يصل إلى الشك، وهو تساوي الطرفين المحتملين، ثمَّ تصل النوبة للظنّ وهو النقطة المقابلة للوهم، وهو الرجحان، فالمرجوحُ وهمٌ والراجح ظَنٌّ، ومتساوي الطرفين شكٌّ.
فيُبتَلَى الفكرُ أولاً بالوهم، ثم يترقّى فيصل للشك، ثم يترقّى فيصل للظّن، وبعد وصوله للظنّ: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً﴾.
وبعد أن يتجاوز الوهم والشك والظنّ، يصل الى مقام اليقين، وهي مرتبة الكمال عقلاً، واليقين أقلُّ ما قسم بين الناس: ﴿وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون﴾.
فأوّلُ كلمةٍ من بلاء إبراهيم كانت مع اليقين!
للأسف فان الفخر الرازي والعامة لم يَشُمُّوا رائحة هذه الحقائق!
لقد فسَّروا الآيات لكنهم لم يفهموا الكلمات، لا بتمامها، ولا بنتيجتها وهي جَعل الإمامة.
وبالعودة للقرآن الكريم، فإنّ ذلك اليقين لم يكن لَعباً، فمن أين جاء؟
يجب قراءة متن الآيات المباركة لأن للترتيب خصوصيّاته، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(20)، فما هو الملكوت؟
اقرؤوا سورة يس، حيث كان التسبيح في البداية: ﴿سُبْحانَ﴾، وفي كلِّ مكانٍ يشرع فيه بالتسبيح يكون المطلب مهماً جداً، ونموذجه هذا ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًاً﴾، فبدأ بالتسبيح.
﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، وتُبَيِّنُ سورة يس عظمة هذا الملكوت: ﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وإنّ لكلِّ شيء ملكوتاً، فما هو ملكوت السماوات؟ ملكوت كل الكواكب والمجرات؟ ملكوت كلِّ ذلك قد أري لإبراهيم، فقد وصل بَصَرُ وبصيرةُ إبراهيم من الأرض للعرش، أراه الله هذا الملكوت ثم وصل إلى: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾.
كان البحث(21) في ابتلاء خليل الله، ومورد الابتلاء الذي هو مقدَّمةٌ لمقام الإمامة عشر كلمات: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾، وليس عندنا فرصةٌ للتعرض لكلّ هذه الكلمات، فهذا البحث بَحرٌ لا يُدرَكُ قعره، ولكنّا نكتفي بقدر الميسور، على أن يكون المرجع هو نفس القرآن الكريم، والسنة المعتبرة.
الكلمة الأولى كانت اختباراً إلى أن وصل إلى مقام اليقين: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾، وقد تمّ بحث هذه الكلمة مختصراً.
والآن يجب أن يُختَبَر هذا اليقين، فقد قال هذا القول المحيّر للعقول:﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾(22).
وتوجيه الوجه له تعالى ينبغي أن يُختَبَر ويُمتَحن، وقد ذُكِرَ قسمٌ من الإمتحان الأول في سورة إبراهيم، وقسمٌ آخر في سورة الصافات.
أما في سورة إبراهيم، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾(23).
أين الشام وأين مكة؟ لقد أُمِرَ أن يُحضِرَ أعزَّ جوهرٍ إلى مثل هذه الأرض التي ليس فيها ماءٌ ولا عمران، ولا يضع إنسانٌ قدَمَهُ في تلك المنطقة، هذا أوّل الإمتحان في الكلمة الأولى، والباقي يتضح من نفس الآية: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾(24)، ولتكرار لفظ (رَّبَّنَا) إشاراتٌ.
لماذا أحضرتهم؟ مثل هذا الولد الذي دعوتُ الله ليعطيني إياه وضعتُه هنا ولا تزال ولادته حديثة: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾، فقط لكي يذكروك ويصلوا لك.
قال تعالى للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ..﴾ (25)، هذا أثر ذاك العمل، أنْ أصبَحَت تلك الأرض قِبلةَ العالم ومطافَ كل الأنبياء: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾.
وما يُحرِقُ القلب كثيرٌ، فعندما قال هذا الكلام كان مأموراً أن يضع المرأة والطفل بين الصفا والمروة ويذهب مباشرة، فماذا فعل؟
هذا ما ينبغي أن يفهمه البشر فيعترفوا بالقصور والتقصير، ويعرفوا كيف كان هؤلاء وماذا فعلوا حيث يعجَزُ العقل عن إدراك كنه وجودهم: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * الحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء﴾(26).
وخَتم الكلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي﴾ كلُّه فناءٌ في الله، لا يرى نفسه ولا ابنه ولا طفله العزيز، كم مرةً ذُكِرَت الصلاة من الأول للآخر؟ ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾(27).
هذا القرآن، أما السنة، فالرواية من جهة السند صحيحةٌ أعلائية، في الكافي ج4 ص202: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) لمّا خَلَّفَ إِسْمَاعِيلَ بِمَكَّةَ عَطِشَ الصَّبِيُّ: تَرَكَ الطفل وذهب فعطش، وهذا الحديث وبهذا السند له مضمونٌ عجيب.
فَكَانَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ شَجَرٌ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ حَتَّى قَامَتْ عَلَى الصَّفَا: كان الولد قرب البيت، وذهبت أمُّه إلى الصفا، ونادت هناك.. ما من أنيسٍ! تصوُّرُ ذلك يُعجز الإنسان، مثل هذه المرأة لوحدها في الصحراء مع مثل ذلك الطفل.
فَقَالَتْ: هَلْ بِالبَوَادِي مِنْ أَنِيسٍ؟ فَلَمْ تُجِبْهَا أَحَدٌ، فَمَضَتْ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى المَرْوَةِ، فَقَالَتْ: هَلْ بِالبَوَادِي مِنْ أَنِيسٍ؟ فَلَمْ تُجَبْ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الصَّفَا، وَقَالَتْ ذَلِكَ حَتَّى صَنَعَتْ ذَلِكَ سَبْعاً، فَأَجْرَى الله ذَلِكَ سُنَّةً.
بعد المرّة السابعة رأت أحداً، مَن هو؟ إنه أمين وحي الله جبرائيل.
وَأَتَاهَا جَبْرَئِيلُ فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ: يجب الدقة في متن كلام الإمام (عليه السلام)، فقد قالت: أنا أم ولد إبراهيم.
قَالَ لَهَا: إِلَى مَنْ تَرَكَكُمْ؟
فَقَالَتْ: أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، لَقَدْ قُلْتُ لَهُ حَيْثُ أَرَادَ الذَّهَابَ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَرَكْتَنَا؟ فَقَالَ: إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ.
فَقَالَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام): لَقَدْ وَكَلَكُمْ إِلَى كَافٍ.
قَالَ: وَكَانَ النَّاسُ يَجْتَنِبُونَ المَمَرَّ إِلَى مَكَّةَ لِمَكَانِ المَاءِ، فَفَحَصَ الصَّبِيُّ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ زَمْزَمُ: المهم هنا، لقد ترك امرأةً في تلك الصحراء، فذهبت بين الصفا والمروة، فجعلها الله تعالى سنةً يبطل حجّ كلّ الأنبياء والأوصياء ما لم يسعوا سبع مراتٍ بين الصفا والمروى تبعاً لما عملته: ﴿فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.
وكما صار الطواف ركناً، صار السعي بين الصفا والمروة كذلك، كما سعت امرأةٌ مسكينة، حتى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذه هي المعاملة مع الله عز وجل.
أما ذلك الولد، فما مستقبله؟ صار في المستقبل نبيّاً، ذلك الولد الذي خرج ماءُ زمزم بضربة قدميه وصل إلى ثمرةٍ تتمتها في سورة الصافات: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(28).
دقِّقُوا جيداً، هنا طَلَبَ ذلك الولد من الله تعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فكان تعبير الله تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ﴾، وإذا بَشَّرَ ذاتُ الله تعالى فما الخبر؟ وما هو مورد البشارة؟ ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ أنا عاجزٌ عن درك المطلب، فماذا كان هذا الولد حتى يقول تعالى ﴿بَشَّرْنَاهُ﴾.
نَفسُ وجود هذا الولد بشارةٌ من الله، وذاته تعالى عرّفه بهذا الاسم وهذه الصفة ﴿غُلَامٍ حَلِيمٍ﴾.
ولما كبر الولد، وهو الذي عندما نظر اليه إبراهيم فرح به: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾: المطلبُ عظيمٌ جداً، شابٌّ وَصَلَ الآن إلى ثمرته، يقول له والده مثل هذا القول، وهو الذي رؤياه وحيٌ، قال له ﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، أجاب بلا تأمل، قال إبراهيم: انظر، وأعطاه مهلةً ليتأمّل ويفكر، فأجابه بأنّ الأمر لا يحتاج إلى تفكير: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ هذه الكلمة مهمةٌ بقدر أنّ الإمام الثامن (عليه السلام) في رواية العيون والأمالي يقول: قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، وَ لَمْ يَقُلْ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا رَأَيْت(29): فما كان أمرَ الله افعله بلا تأمُّلٍ أو سؤال! هذا بشرٌ ونحن بشر؟!
يجب قراءة القرآن وفهمه، نحن لَم نصل لشيءٍ وقد مرّ العمر، فكيف كانوا وماذا فعلوا؟ وكيف نحن؟ وماذا نفعل؟!
انظروا الى الفَهم: ﴿ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي﴾ هنا ينبغي أن ينتحر القلم ﴿إِن شَاء الله مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ ستراني من الصابرين، لكن أيضاً بإرادة الله ومشيئته: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَن يَشَاءَ الله﴾.
﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾: أسلما كلاهما لأمر الله، وتَلَّهُ للجبين فأنامه على التراب، ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ ناداه الله تعالى، ليس جبرائيل ولا ميكائيل، ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاء المُبِينُ﴾.
كل هذه المقدمات لأجل هذه الجملة، هكذا افهموا القرآن، هناك قال: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾، وهنا قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاء المُبِينُ﴾ ذاك البلاء الذي قلنا أن إبراهيم يجب أن يُبتلى به ليصلح للإمامة هو هذا البلاء.
لو كان الفخر الرازي يفهم القرآن لعرف أن الإمامة منصبٌ لمثل هؤلاء، ولما قال بأنّ مثل أبي بكر وعمر من أهلها!!
أين الفهم والعلم؟! لا خبر عن ذلك.
﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ﴾ إنّ للتأكيد، واللام للتأكيد مجدداً: ﴿البَلَاء المُبِينُ﴾.
﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾: عندما حرك السكّينة بكامل قدرته نزل جبرائيل وأحضر ذبحاً عظيماً.
كان البحث(30) في الكلمات التي ابتُلي بها إبراهيم وصار مستحقاً لجعل الإمامة، وكانت الكلمة الأولى الابتلاء بذبح إسماعيل، والتي قال فيها القرآن: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاء المُبِينُ﴾.
الكلمة الثانية هي الابتلاء بالنفس، وفي هذه الكلمة أيضاً ينبغي أن يُفهم الكتاب والسنة لتتضح عظمة هذا الابتلاء، وقد ذُكِرَ الأمر مفصَّلاً في موردين في القرآن الكريم، أحدهما في سورة الأنبياء وفيها ابتداءُ أمر الابتلاء وانتهاؤه، فينبغي فهم البداية من كلامه تعالى كما النهاية، وما بينهما.
قال تعالى: ﴿ولقد﴾ بدأ بلام التأكيد وقد التحقيق: ﴿آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ﴾(31).
أيُّ قوَّةٍ هذه عند هذا الشخص وأيُّ شجاعةٍ ليقابل بها كلّ الناس حيثُ لم يكن هناك مُوَحِّدٌ غيره على الأرض؟!
طريق الاحتجاج هذه توضح ما هو ذلك الرشد الذي أعطاه الله إياه: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾، ففي هذه الجملة بيّن بطلان كلّ تلك العقائد، استخدم كلمة (ما) المستعملة لغير ذوي العقول، فنفى العقل والفهم والإدراك عن آلهتهم، ثم بيّن بعد ذلك ماهيتها وحقيقتها بهذه الكلمة ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ﴾، هكذا كان منطقه.
أما منطقهم: ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾، فكان البرهان الذي استندوا إليه هو التقليد والتبعيّة العمياء.
﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾: هذا برهانه، ربُّكُم ربُّ السماوات والأرض، وفي هذه الجملة تَمَسَّكَ بأقوى برهانٍ في معرفة الله، وهو برهان النَّظم، النِّظَام ووحدة النَّظم، فالآفاقُ والأنفُسُ تحت تصرُّفِ واحدٍ فقط ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ﴾.
ولمّا رأى أنّ البرهان لم يؤثّر قال قولته، وأيُّ قدرةٍ هذه التي عنده؟ وعلى ماذا يستند ليتكلم بهذه الطريقة: ﴿وَتَالله لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾.
تَالله: هنا بحثٌ مفصَّلٌ، وللأسف أن لا فرصة له، بُحورٌ من الحكمة، لم يقل: (والله) بل قال (تالله)، وفي تبديل الواو بالتاء بحارٌ من العلم والحكمة، ثم مع لام التأكيد ونون التوكيد وذلك القَسَم الخاص، وصل الدور للعمل بعد القول: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ لتتم الحجة.
﴿قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ يُفهَمُ من هذه الجملة أنّه كان في عنفوان شبابه.
﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾: المُدَّعِي هم تمام الناس، والمُدَّعَى عليه فتىً، والمحكمة محكمةُ نمرود.
﴿قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ نفس هذا العمل برهانٌ آخر، فرمى التهمة عليه وقال: اسألوهم، احتجّ بهذه الطريقة فأفهمهم أن الموجود الذي ليس عنده قدرة النطق، ولا يتمكن من الدفاع عن نفسه وعن أصنامه الصغار، كيف يمكن أن يكون معبوداً وأن تعتقدوا بأنه المؤثر في الوجود؟!
﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ﴾: أسقط في يدهم هنا، فَكَّرُوا فوجدوا أنّ كلامه غير قابل للجواب المنطقي.
﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ﴾: فلما وجدوا أن ليس عندهم قدرة على المبارزة العلمية مع هذا الفتى لجؤوا إلى كلام الزور.
﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾: وهنا البلاء الذي يحيّر العقول، الذي يفهمه الأنبياء وليس نحن: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ﴾، لا تقتلوه، أحرقوه، لأنهم لم يجدوا أسوأ من الاحراق: ﴿وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ فصمّموا على الإحراق.
أيُّ غوغاءٍ هذه.. أمَّةٌ عابدةٌ للأصنام، مع نمرودٍ حاكمٍ للعالم، وكما كان سليمان مُسَلَّطاً على كل الأقاليم، كان نمرود مقابلاً له.
فأرسل النمرود الجميع لجمع الحطب حتى الرجل العجوز، وجمعوا حطباً لفرسخين، مثل هذه الواقعة التي لم يُرَ مثلها في العالم، ثم أشعلوا هذه النار التي لا نظير لها، تحيَّروا في كيفيّة وضع إبراهيم فيها، هنا ظهر الشيطان فصنع المنجنيق، ولم يكن بغير المنجنيق سبيل، هذا في سورة إبراهيم.
أما في سورة الصافات: ﴿قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ وهذا قسمٌ آخر من الاحتجاج يختلف عن ذاك، فهل يعقل أن يكون ما صنعتم صانعاً لكم؟ لقد خلقكم الله أنتم ومصنوعاتكم، مَن الذي صنع مواد هذه الأصنام؟ مَن عنده القدرة على إيجاد ذرّةٍ واحدة؟ الذي خلقكم وما تعملون هو الذي عنده قدرةٌ لا تتناهى.
﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَالقُوهُ فِي الجَحِيمِ﴾: وذلك البنيان هو المنجنيق، وهنا إشارة إلى ذلك العمل الذي رسمه لهم إبليس في الموردين، وأكّدَ تعالى على جملة: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ﴾.
وفي سورة الأنبياء: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾.
وفي سورة التوبة: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العُلْيَا﴾(32).
والآن يجبُ النَّظَر(33) إلى أين وصلت الأمور، بحيث نأخذ ما حصل من حديثٍ صحيحٍ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن جبرائيل (عليه السلام)، الذي كان شاهداً على القضية من أوَّلِها إلى آخرها، حيث كان فيها وذَكَرَها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن نذكر مقدَّمة لنصل إلى ذي المقدمة.
أما المقدمة: فإنَّ اللائق للإمامة هو الذي يكون محلَّ رحمة ورأفة الله تعالى للخلق، لأنّ أحد الأسماء الإلهيّة التي ذُكِرَت في البسملة بعد (الله) اسمُ الذات الحاوي لجميع صفات الجمال والجلال والكمال ﴿الرَّحْمنِ الرَّحيم﴾: إِنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِم(34).
فينبغي أن تظهر تلك الرحمة التي وسعت كلَّ شيءٍ في إمام الأمة، لذا تشير هذه الرواية إلى رحمة إبراهيم لخلق الله تعالى، وكيف كانت بالنسبة لنفسه، وكلٌّ منهما في روايةٍ صحيحة، الأولى في كمال الدين ص140:
حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: وكلاهما من أركان الفقه والحديث، فالصدوق ينقل عن أبيه ابن بابويه، وعن شيخ المشايخ ابن الوليد، وهذان ينقلان أيضاً عن آخرين من أركان الفقه والحديث.
قَالا حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الله وَعَبْدُ الله بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ جَمِيعاً، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى: وهو من وجوه الطائفة وأعيان المذهب.
عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ: وهو أعلى من التوثيق والتوصيف.
عَنْ مَالِكِ بْنِ عَطِيَّةَ: وهو أيضاً موثَّقٌ بتوثيق مِثل النجاشي.
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ: وهو من حواريي الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، ومثل هذا السند في الأحاديث في نهاية الندرة.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ يَسِيرُ فِي البِلَادِ لِيَعْتَبِرَ، فَمَرَّ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ يُصَلِّي قَدْ قَطَعَ إِلَى السَّمَاءِ صَوْتَهُ، وَلِبَاسُهُ شَعرٌ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام)، فَعَجِبَ مِنْهُ، وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَرَّكَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي حَاجَةً، فَخَفِّفْ.
قَالَ: فَخَفَّفَ الرَّجُلُ وَجَلَسَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام): لِمَنْ تُصَلِّي؟
فَقَالَ: لِإِلَهِ إِبْرَاهِيمَ.
فَقَالَ: وَمَنْ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ؟
قَالَ: الَّذِي خَلَقَكَ وَخَلَقَنِي..
ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ لِإِبْرَاهِيمَ: لَكَ حَاجَةٌ؟
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: نَعَمْ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ لَهُ: تَدْعُو الله وَأُؤَمِّنُ أَنَا عَلَى دُعَائِكَ، أَوْ أَدْعُو أَنَا وَتُؤَمِّنُ أَنْتَ عَلَى دُعَائِي.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَفِيمَ نَدْعُو الله؟
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: لِلْمُذْنِبِينَ المُؤْمِنِينَ.
قَالَ الرَّجُلُ: لَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَلِمَ؟
فَقَالَ: لِأَنِّي دَعَوْتُ الله مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ بِدَعْوَةٍ لَمْ أَرَ إِجَابَتَهَا إِلَى السَّاعَةِ، وَأَنَا أَسْتَحْيِي مِنَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَدْعُوَهُ بِدَعْوَةٍ حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَجَابَنِي.
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَفِيمَا دَعَوْتَهُ؟
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: .. فَدَعَوْتُ الله عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ وَسَألتُهُ أَنْ يُرِيَنِي خَلِيلَهُ.
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام): فَأَنَا إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ الغُلَامُ ابْنِي.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ عِنْدَ ذَلِكَ: الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ الَّذِي أَجَابَ دَعْوَتِي.
قَالَ: ثُمَّ قَبَّلَ الرَّجُلُ صَفْحَتَيْ وَجْهِ إِبْرَاهِيمَ وَعَانَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: الآنَ فَنَعَمْ، وَادْعُ حَتَّى أُؤَمِّنَ عَلَى دُعَائِكَ.
فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ المُذْنِبِينَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ بِالمَغْفِرَةِ وَالرِّضَا عَنْهُمْ، قَالَ: وَأَمَّنَ الرَّجُلُ عَلَى دُعَائِهِ..
ما هو هذا الدعاء الذي دعا به إبراهيم (عليه السلام)؟ هنا يتّضح كيف ينبغي أن يكون الشخص اللائق لمنصب الإمامة بالنسبة لمساكين العالم، وهو مَظهَرُ رحمة الله، حيث دعا لهم بالمغفرة أولاً، ورضا الله ثانياً، ودَعوَتُهُ هذه للعاصين من أهل الإيمان.
وفي آخر الحديث يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): فَدَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ بَالِغَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ المُذْنِبِينَ مِنْ شِيعَتِنَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
وهنا ينبغي فهم الحديث ومعرفة إبراهيم ومن هو اللائق للإمامة، هذا هو إبراهيم وهذا دعاؤه للمذنبين المؤمنين، هذا مَظهَرُ رحمة الله تعالى.
أما رحمته لنفسه، فالمرجع فيها أيضاً النصُّ المعتبر، ورجال الحديث من الأعاظم وأعيان الثقات:
عَنِ ابْنِ بَابَوَيْهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الله، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) قَالَ: لمَّا أَخَذَ نُمْرُودُ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) لِيُلْقِيَهُ فِي النَّارِ قُلْتُ: يَا رَبِّ، عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ لَيْسَ فِي أَرْضِكَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرُهُ، قَالَ الله تَعَالَى: هُوَ عَبْدِي آخُذُهُ إِذَا شِئْتُ.
وَلمّا ألقِيَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام): والمتحدث هنا هو جبرائيل وهو يخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فِي النَّارِ: ماذا كانت النار؟ في سورة الصافات: ﴿فَالقُوهُ فِي الجَحِيمِ﴾ كانت جحيماً وليست ناراً، فلم يبق أحدٌ من نمرود إلى العجزة إلا جَمَعَ حطباً لإحراقه تقرُّباً إلى آلهتهم، ووضعوه على المنجنيق.
تَلَقَّاهُ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فِي الهَوَاءِ وَهُوَ يَهْوِي إِلَى النَّارِ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَ لَكَ حَاجَةٌ؟
فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا: هنا يجب التفكر، ذلك المستغرِقُ في محبّة الخلق هناك، غافلٌ عن نفسه هنا، فانٍ في الله، منقَطِعٌ عن خلق الله.
أين الفخر الرازي ليفهم من هو اللائق للإمامة؟ هذا هو بِنَصّ القرآن؟ أم أبو بكر الذي قضى عمراً في عبادة الأصنام؟ أم عُمَر الذي عبد الأصنام وشرب الخمر؟ هذا أم ذاك؟
وفي روايةٍ أخرى عن الصدوق أيضاً في الأمالي وعيون أخبار الرضا (عليه السلام):
فَأَهْبَطَ الله عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهَا خَاتَماً فِيهِ سِتَّةُ أَحْرُفٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَى الله، أَسْنَدْتُ ظَهْرِي إِلَى الله، حَسْبِيَ الله(35).
وفي ترتيب الأحرف ما فيه من المعرفة، وقد خُتِمَت كلُّ الأحرف باسم الله بترتيبٍ خاص، فما معنى ذلك؟
من قال (لَا إِلَهَ إِلَّا الله) لا يمكن إلا أن ينتهي إلى (حَسْبِيَ الله).
عند ذلك: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾، ثلاثةُ أيامٍ لم تؤثر فيه أيُّ حرارة، صارت جهنمُّ جنةً على إبراهيم، صارت برداً وسلاماً.
هاتان كلمتان من عشرة: الامتحانُ في نفسه، والامتحانُ في زوجته وأبنائه، وبقيت ثمانية كلمات، وبعد ان امتُحِنَ بالعشرة ونجح فيها، قال الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾، هذه هي الإمامة.
ينبغي ليُفهَمَ كلُّ بابٍ(36) أن يفهم فيه مطلبان للوصول إلى كنهه، وكان الكلام في الإمامة وحكم القرآن فيها، وهذه الآية هي حجةٌ إلهيةٌ بالغةٌ في هذه المسألة التي تُعَدّ من أهمّ المسائل والمباحث، لأنّ كمال الدين مرتبطٌ بها.
وهذان الأمران:
- إدراك العمل.
- إدراك العامل.
فإذا عُرِفا تحصل النتيجة.
أمّا العمل فكان: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾، هذا نوع العمل الذي نجح فيه إبراهيم.
أما العامل، فالحكم فيه أيضاً من القرآن والسنة، وينبغي النظر فيما قاله تعالى في شأن هذا العامل وشخصيّته، وينبغي الدقة في كلمات الآية كلمةً كلمة، مع الاستمداد من كلمات أهل بيت الوحي (عليهم السلام).
أما كلامه تعالى عن العامل فهو: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لله حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(37).
﴿إنَّ﴾: يشرع في حرف التقرير والتأكيد والتثبيت، وهو الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ههنا يقف العقل عاجزاً، فمن كان إبراهيم؟ لم يكن شخصاً، بل كان أمّةً، ماذا يعني هذا؟ كيف يكون شخصٌ واحدٌ عشرة أشخاص؟ أو مئة شخص؟ كيف يكون أمَّةً؟
مقدار ما يُستفادُ من الكتاب والسنّة أن ذلك الشخص قام بدور أمّة.
إنّ قيمة الأمّة بعملها، فيصبح الشخص أمَّةً حينما يقوم بما يُنتظر أن تقوم به أمَّةٌ، فيوصِلُ ما عنده من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعلية، فقد هدم الأصنام وحده بلا شريك، وكان الوحيد في العالم القائل: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾.
هذه جهةٌ، والجهة الأخرى أنّ إنسانيّة الإنسان ليست بهذا الجسم، فمواد هذا الجسم موجودةٌ في التراب أيضاً، بل حتى في أبدان الحيوانات، إنّ إنسانية الإنسان تتم بالمعرفة والكمال العقليّ والعِلميّ والعَمَليّ.
هذا الشخص كان في السّنة الخامسة عشر، في مثل هذا السنّ وفي تلك البُرهة من عمره جُمِعَت في وجوده جميع دلائل العلم والإيمان، فوصل إلى مكانٍ أُرِيَت له ملكوت السماوات والأرض، وصل إلى مكانٍ رأى طبقات السماء، وتجاوزت رؤية بصره وبصيرته السماوات والأرض، ليصل إلى اللوح والقلم، ويتجاوزه إلى الكرسيّ ثم إلى العرش، هذا كله في تلك الفترة من عمره!! فشاهَدَ صروحَ العلم وملكوت الوجود: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
﴿ قَانِتاً لله﴾ أيُّ قنوت هذا؟
﴿حَنِيفاً﴾ لكلِّ وصفٍ من هذه الأوصاف شرحٌ مفصّل ولكن ليس لدينا وقتٌ لذلك.
﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ فتجاوَزَ الشِّرك الجليَّ والخفيّ.
﴿شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ﴾: ما هي الأنعم؟ ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ فتجاوَزَ شُكرُهُ كلَّ شُكرٍ، هذا ما يحيّر العقول.
بعد ذلك ﴿اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: فصار مجتبى الله، أي مَن يختاره الله ويجتبيه ويقبَلُه.
﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾: بعد أن طوى كل تلك المقامات ووصل إلى مرتبة الإجتباء أعطاه الله حسنةً، ولهذه النكرة معنىً عظيم، لماذا نكرة؟ لأنها غير قابلة للتعريف!
ومن نماذج هذه الحسنة، أنّ الصلاة معراجُ كلّ مؤمن، وبالصلاة يبلغ العبد الدرجة القصوى، والصلاة هي عمود دين الله، وهذا محلُّها مع أنبياء الله في القرآن، فمن عيسى (عليه السلام) إلى موسى (عليه السلام) إلى إبراهيم (عليه السلام) ﴿رَبَّنا لِيُقيمُوا الصَّلاة﴾ وأما عيسى ﴿وَأَوْصاني بِالصَّلاة﴾ ولمّا تصل للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾(38).
ذلك المقام المحمود الذي وُعِدَ به أحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يصل إليه صاحبه ما لم يُصَلِّ لبيتٍ بناه إبراهيم (عليه السلام)، هذه: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾، فهل تكون قابلة للتعريف؟
وعظمة حجِّ بيت الله مما لا يقبل الإدراك: ﴿وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، وقد جاء أحدُهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: فاتني الحج هذا العام فماذا أفعل لأعوّض ذلك، فأشار لأبي قبيس وقال: لَوْ أَنَّ أَبَا قُبَيْسٍ لَكَ زِنَتَهُ ذَهَبَةٌ حَمْرَاءُ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ الله مَا بَلَغْتَ مَا بَلَغَ الحَاج(39).
من أين يبدأ حج البيت وأين ينتهي؟ هناك تُعرَفُ الآية: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾، فشروعه من الوقت الذي يقول فيه : لبّيك اللّهمّ لبيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك لبّيك.
ما هي (لبّيك) هذه؟ كلُّهُ جواب كلمةٍ: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ﴾، فالشروع في العمل يبدأ من جواب دعوة إبراهيم (عليه السلام).
وختام هذا العمل ما هو؟ واقعاً إنّ فهم القرآن معجِزٌ ومُحَيِّر، ختمه هناك، بعد أن قَطَعَ كل ذلك: ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، فينبغي الصلاة خلف مقامه (عليه السلام)، من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى إمام الزمان (عليه السلام) قطب دائرة الإمكان، ينبغي عليهم جميعاً أن يتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
الأول جواب دعوته، والآخر العروج إلى الله، وهذا نموذجٌ للحسنة.
كان البحث(40) في شخصيَّة مَن جعله الله تعالى إماماً للناس، ومِن دقائق البحث أنّه كما كان في العمل عَشرُ مطالب، ففي العامل في هذه الآية عَشرُ مطالب أيضاً، إنّ في القرآن حقائق ولطائف وإشارات، وكلٌّ منها لطبقةٍ خاصة.
كانت الكلمات التي ابتُلي بها إبراهيم عشرَ كلماتٍ بحسب النص، وقد عرضنا لكلمتين منها فقط.
أما بالنسبة للعامل نفسه ففي هذه الآية من سورة النحل عشر مطالب، ويجب النظر في بدايتها أولاً بماذا كانت، وبماذا كان خَتم الكلام.
أمّا البداية: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾وهذا بنفسه له بحثٌ مفصل، والثاني ﴿قَانِتاً لله﴾، والثالث ﴿حَنِيفاً﴾، وأصلُ الحنيفية التي يُنسَبُ إليها ههنا، والرابع ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ بإطلاق الشرك الجليّ والخفيّ، والخامس ﴿شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ﴾، فوصل إلى مقام الشكر ﴿وَقَليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُور﴾، والسادس ﴿اجْتَبَاهُ﴾، والسابع ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، وكان ذلك الصراط في حَدِّ الاستقامة المطلقة، وله أيضاً بحثٌ مفصل، والثامن: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾، نموذجها الكعبة، ونموذجها الآخر كون الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) من صلبه، والتاسع ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وإذا لم نَكُن في حَدِّ فهم المقام الدنيوي لإبراهيم (عليه السلام)، فكيف بمقامه الأخروي؟
أما العاشر، وهذا ختام المطلب، وهذه الجملة محيِّرةٌ، فإنّ من كان خلاصة العالم، وخلاصة آدم، هو الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والخلقة والبَعثة مقدَّمة له (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو المتبوع من تمام عالم الوجود، ذلك الإنسان الكامل، الذي كان متبوعاً من جميع الأنبياء والمرسلين، وكان إمام الأنبياء والأوصياء، قال له تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾(41).
يجب أن تتَّبع أنت أيضاً ملّة إبراهيم (عليه السلام)، تلك الملّة هي ما لم يُنسخ ولا يُنسَخُ أبداً، ينبغي على النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى كلّ الأمّة أن تكون على ملّة إبراهيم الخليل (عليه السلام).
لو فَهِمَ علماء العامة القرآن لما صارت مسألة الامامة مورداً للتلاعب كما صارت.
مِثلُ هذا الشخص وهذه الشخصية هو الذي يستحق مرتبة: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾، فأيُّ مراتب قد قطعها حتى أصبح لائقاً للإمامة؟
تأمّلوا بفهمٍ دقيقٍ فيما ورد في الكافي (كتاب الحجة) عن أبي جعفر (عليه السلام): إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ نَبِيّاً: فما هي العبودية؟ المادّة في العَبد والعابد العبادة، لكن مع التدقيق فإنّ العَبد غير العابد، وقد ذَكَرَ الراغب في المفردات في تفسير العبادات أنّها غاية التذلل، فلِمَن تكون غاية التذلل؟ تكون لمن له غاية الإفضال، فالعبودية غاية التذلل لمن له غاية الإفضال، وهذه المرتبة الأولى ولها شرحٌ في وقتٍ آخر، ولو أردنا أن نُبَيِّنَ كل مسألة من فقه الحديث مع مناسبتها لبيان الإمام فلا يكفينا الوقت.
لو أراد أيُّ أحدٍ أن يفسِّر العبودية فليرجع للقرآن الكريم، ولِرُكن الدين وهي الصلاة، ففي القرآن كانت العبودية في أوّل الإسراء والمعراج: ﴿سُبْحانَ الَّذي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى﴾، وفي آخره أيضاً: ﴿فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى﴾، وعندما نُصَلِّي الصلاة أيضاً نقول في التشهد بعد الشهادة بوحدانية الذات القدوس: وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسوله.
هذه هي العبودية: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ نَبِيّاً، وَإِنَّ الله اتَّخَذَهُ نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ رَسُولًا، وَإِنَّ الله اتَّخَذَهُ رَسُولًا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلِيلًا: فاتّخاذه رسولاً كان قبل اتخاذه خليلاً، وينبغي التأمُّلُ في أنّ كلّ هذه المقامات من الأمور المشكِّكَة، فللعبوديّة مراتب، وكذا النبوّة والرسالة، وبعد طَيّ المرتبة ما دون الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفوق تمام الأنبياء (عليهم السلام) في النبوة والرسالة اتخذه الله خليلاً، فكان مقام خلَّته بعد كل هذا.
وختم الكلام ههنا، في نفس الرواية المرويّة عن خامس الأئمة في أصول الكافي: وَإِنَّ الله اتَّخَذَهُ خَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ إِمَاماً: فكان منصب خلَّةِ الله قبل منصب الإمامة، هذه هي الإمامة في القرآن، ونصُّ كلام الله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾.
فهل تُناسب هذه الإمامة ابن أبي قحافة وعُمَرَ بن الخطاب؟
أيكون اللباس الذي ألبسه الله لإبراهيم بعد كلِّ تلك الكلمات والمقامات لائقاً بمثل هؤلاء؟
يقولون عنه من جهةٍ أنَّه إمامٌ، ومن جهةٍ أخرى يقولون أنّه قال بنفسه: أقيلوني فلست لائقاً بهذا المقام!! حينما أعلَنَ قائلاً: لست بخيركم!
ينبغي سؤال الفخر الرازي: من هو الأعلى مرتبة؟ إبراهيم (عليه السلام) أم سعد بن أبي وقاص؟ إبراهيم (عليه السلام) أرفع أم الأفراد النكرة في المدينة؟
الذي يعترف بأنّه ليس أفضل من أدناهم هل يكون لائقاً لمقام إبراهيم؟
هذا يعني أنّ التَعَلُّم يختلف عن العلم والفهم ونيل الحقائق، فالعلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء.
فلماذا لم تصل أنظار أولئك المفسرين والكُتَّاب إلى أن تفهم أنّ الإمامة محتاجةٌ إلى جعلٍ من الله تعالى؟ وأنّ شخص الإمام ينبغي أن يكون قد تجاوز مثل هذه الاختبارات، ووصل الى مثل هذه المناصب ليصل الى مقام الإمامة.
هل هذا تعصُّبٌ أم هذا تمسُّكٌ بنص القرآن؟ هل ذاك عِلمٌ أم تهكُّم؟
هذا منطق الشيعة، وهكذا يَثبُت بطلان العامة، وأحقيّة الخاصة، بالنصِّ الصريح من الكتاب والسنة القطعية، لكنّ هذا موقوفٌ على الإحاطة العلمية والتتبع والتحقيق، والآية المتقدمة وحدها كافيةٌ لإثبات ذلك.
وصل البحث(42) إلى هذه الجملة ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(43).
في هذه الآية برهانان على عصمة الإمام المطلقة، وقد مرّ أولهما بشكلٍ مفصل، وأما الثاني فهو أنه لا يليق بعهد الله أحدٌ ممّن تَلَبَّسَ بالظلم، مطلق التلبس بالظلم يسُدُّ طريق الإمامة، ونَفيُ مطلق التلبُّس يثبت العصمة، لأن الأفراد ينقسمون بالنسبة للظلم إلى أقسام:
الأول: قسمٌ منهم ظالمٌ طيلة عمره.
الثاني: كان عادلاً في بداية أمره ثم انقلب إلى الظلم.
وفي هذين الفرعين الظالمُ ظالمٌ بالفعل، فلا يمكن أن يطلب مِثلُ إبراهيم الإمامة لظالمٍ بالفعل، هذا محالٌ.
وأدنى مراتب الظلم تنفي عن الظالم صلاحية الإمامة، لذا فإنّ مورد سؤال إبراهيم بعد قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ لا يشمل من تَلَبَّسَ بالظلم من القسمين، لأنّ إطلاق ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ يشملهما معاً، فمَن تلوَّثَ بالظلم ولو على نحو الموجبة الجزئية لا ينال هذا المقام، فينحصر مقام الإمام بمن لم يصدر منه أي ُّظلمٍ قولاً ولا عملاً.
لذا فإنَّ البرهان الثاني هو سيفٌ قاطع يقطع ظهر علماء المذاهب الأربعة.
ولأنّ المسألة مهمة جداً، وفيها مذهبان: الخاصة والعامة، نُبَيِّنُها على مبنى الطرفين لكي يتأمل العلماء المتبحِّرون من المذاهب الأربعة في هذه الكلمات المباركة، ويسيروا وفق فطرة الإنسانيّة، ويعملوا بكلام الله تعالى، دون تعصُّبٍ ولا تهكُّم.
ينبغي أولاً النظر في حدود (الظُّلم) في القرآن الكريم نفسه، ما مبدأه ومنتهاه ووسطه؟ وينبغي على رجال العلم والدِّقة التأمل في كلّ هذه الآيات، ونذكر شيئاً بمقدار ما يسمح به الوقت: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ﴾(44).
التعبير مُحَيِّرٌ هنا، لم ترد مثل هذه الجملة وبهذه الشدّة في سائر آيات القرآن الكريم، إلهُ الكون يحمد نفسه لهذا العمل، قَطعُ دابر القوم، هذا حدُّ الظلم في كلام الله تعالى، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾(45)، وقد وصلت شِدَّة الأمر إلى حَدِّ أنّه صُدِّرَ بسين (سوف)، وذلك في اليوم الذي ورد فيه ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى﴾، فإنّهم ينقلبون إلى منقلبٍ لا يمكن بيانه بعد تنكيره.
ومَن نُنَاقشهم في هذا البحث أمثال الفخر الرازي والتفتازاني والعضدي وأضراب هؤلاء.
ونحن نذكر أولاً هذه الآيات، ثم مذهب العامة حتى يتضح الحق والباطل، قال تعالى: ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(46)، فهل يمكن للضالّ أن يكون هادياً؟ هل يُعقَل ذلك؟
وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَالله لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(47)، فالله لا يهدي قوماً تلبسوا بالظلم أبداً، وينبغي رعاية مطلبين من الناحية الفنية هما: أنّ هناك آيةً تنفي الهداية بالمطابقة، وتثبت الضلال بالدلالة الإلتزامية، وأنّ هناك آيةً أخرى ينقلب المطلب فيها، وهذا هو القرآن الحكيم، فتثبت الآية الثانية الضلال بالدلالة المطابقية، وتنفي الهداية بالدلالة الإلتزامية، فلماذا هذه الدقة في كلام الله تعالى؟ قال تعالى: ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ في ضَلالٍ مُبينٍ﴾ ﴿والله لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمين﴾.
ولا شك أنّ مفهوم الإمامة يقتضي مَعيّة المأموم للإمام، يا من تكتبون التفاسير، هل فهمتم أنّ تَبَعيَّة المأموم للإمام مُقَوِّمٌ لمفهموم الإمامة ومقوِّمٌ لمصداقها؟ هذا بالبرهان العقليّ، أما نصُّ القرآن الكريم: ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظَّالِمينَ﴾، فهل هذه الآية صريحةٌ في نفي المعيّة أم لا؟
وقال تعالى: ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(48).
ونهاية الأمر: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾(49)، فهل يمكن أن يكون الملعونُ إمام الأمة؟ هذا نَصُّ القرآن.
أمّا عقيدة كلّ أئمة المذاهب الأربعة فهذه هي: قال الباقلاني في التمهيد: قال الجمهورُ من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بهذه الأمور: بفسقه وظلمه: هذه هي إمامة أئمة العامة!
بغصب الأموال: فإذا غَصَبَ كلّ الأموال أيضاً لا ينخلع عن الإمامة، فهل هذا الدين؟ هذا المذهب؟ هذا الإسلام؟ هذا القرآن؟
وضَربِ الأبشار وتناول النفوس المحرّمة: فإذا قتل أشخاصاً دون ذنب، من النفوس التي حرّم الله قتلها يبقى إماماً! هذا إمامُ كلِّ سنّة العالم! هذا المذهب المخالف لنا، وإذا غلب الجهلُ وذهب العلم تكون هذه هي النتيجة.
وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود: فإذا ضيّع الحقوق والحدود الإلهيّة أيضاً لا ينخلع!! فماذا تكون النتيجة؟ أنَّ لإمام العامة الحقّ في أن يُذهِبَ الدين والأمة!
هذه حجةٌ على علماء المذاهب الأربعة.. فهل عندهم جواب؟ وهذا متن كلام الباقلاني في التمهيد ص478.
أما التفتازاني في شرح المقاصد ج2 ص272 فيقول:
إذا مات الإمام وتصدى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعةٍ واستخلاف، وقَهَرَ الناس بشوكةٍ انعقدت له الخلافة!!
والخاتمة عنده: وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر!
هذا مذهبكم؟ أيها الفخر الرازي: هل عندك عقلٌ أم لا؟ عقيدتكم كلُّكم أنّه لو تسلط أحدٌ بالقوة يصبح إماماً ولو كان فاسقاً وجاهلاً!
ما هي الإمامة؟ هل ينبغي اتباع من يصبح إماماً أم لا؟
إذا لم يكن اتباعه لازماً فليست هناك إمامة، هذا جمعٌ بين النقيضين: إمامٌ ولا يُتَّبَع! متبوعٌ ولا يَتَّبِع! هل تفهم أيها التفتازاني ما تقول؟! وهذا إمام العلم والأدب والكلام والحديث!
هذا نص القرآن: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، فهل يصلح لإمامة الأمة من لا يكون خبره معتبراً بنصِّ القرآن؟! هل تفهم ما تقول؟
يقول تعالى في الجاهل الذي يصبح إماماً: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالبَابِ﴾.
هذا القرآن الكريم، وهذه الإمامة التي يعتقد بها العامة، فمن هم الأشخاص الذين أحضروهم واعتبروهم خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون خجل وحياء؟! لسنا أهل فُحشٍ وتَعَصُّبٍ، بل أهلُ العقلِ والمنطقِ والقرآن.
هذه الإمامة عند علماء المذاهب الأربعة، أما الإمامة عندنا: فالإمام معصومٌ من الخطأ والمعصية، فهل نَصُّ القرآن معنا أم معكم؟ إذا كان معكم فنحن نُحني رؤوسنا، وإذا كان معنا، فهذا برهانه وهذا كتاب الله.
لقد نصبتم شخصاً أتى إلى باب بيتٍ ينصّ الله تعالى في كتابه على تطهير أهله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾، والجميع يعتقد أنّ فاطمة كانت ممن نزلت فيهم هذه الآية، وكلُّكُم اتفقتم أيضاً أن عائشة وحفصة وأم سلمة خارجات عنها، وأنّه ليس لهنّ هذا المقام.
أما فاطمة الزهراء (عليها السلام)، التي شهد الله لها بالطهارة من الرجز، وبالطهارة المطلقة والعصمة التامة، فقد أحضرتم وجعلتم خليفةً من جاء إلى باب بيتها ليقول: اخرج يا علي وإلا أحرقنا الدار بمن فيها!
كلُّكم أيضاً كتبتم: قالوا في الدار فاطمة. ماذا يعني ذلك؟ فاطمة..
يعني من كانت أذيتها أذية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنصّ القرآن وصحيح البخاري، فقد اتّفق الكتاب والسنة على ذلك، ونتيجة تلك الأذية (لعنة الله).
وكُلُّكُم كَتَبتُم أيضاً بعد أن قالوا له (في الدار فاطمة) أنّه قال: (وإن): أي ولو كانت فاطمة سأحرقها أيضاً!! هذه الإمامة، وهذا إمام العامة!
قال تعالى(50): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(51).
عَطَفَ في الآية ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ على ﴿الرَّسُولَ﴾، ومع أنّ العطف في قوة التكرار لكنّه اكتفى ب ﴿أَطِيعُواْ﴾ واحدة ولم يكررها، ليُبَيِّن أن إطاعتهم وإطاعة الرسول من سِنخٍ واحد، وحقيقةٍ واحدة، فكما أنّ إطاعة الرسول غير مقيّدة بقيدٍ ولا شرطٍ في الوجوب، ولا حدٍّ في الواجب، فكذلك إطاعة أولي الأمر.
ومثل هذا الوجوب لا يكون إلا مع عِصمة أولي الأمر، لأن إطاعة كلِّ أحدٍ مقيَّدةٌ لا محالة بعدم مخالفة أمره لأمر الله تعالى، وإلا لزم الأمر بعصيان الإله، ولمّا كان أمر المعصوم ـ بمقتضى عصمته ـ غير مخالفٍ لأمر الله تعالى، كان وجوب إطاعته غير مقيدٍ بقيد.
ثم مع الاعتراف بأنَّ الإمامة عند الجميع خلافةٌ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تطبيق الدين وحفظ كيان الأمة، وأنَّ الإمام واجب الطاعة على جميع الأمة، ومع ملاحظة قوله تعالى: ﴿إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان﴾، وقوله: ﴿يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر﴾، يتّضح أن الإمام يجب أن يكون معصوماً، وإلا لزم من الأمر بطاعته المطلقة الأمر بالظلم والمنكر، والنهي عن العدل والمعروف، سبحانه وتعالى .
ومن جهةٍ أخرى، إذا لم يكن الإمام معصوماً فقد يخالف أمرُه أمرَ الله ورسوله، وفي هذه الحالة يكون الأمر بإطاعة الله ورسوله والأمر بإطاعة وليّ الأمر، بمقتضى إطلاق الأمر والمأمور به فيهما، أمراً بالضدين، وهو محالٌ، فوليّ الأمر على الإطلاق عقلاً ونقلاً لا يكون إلا المعصوم على الإطلاق.
والنتيجة: أن أمر الله سبحانه بإطاعة ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ بلا قيدٍ ولا شرط، دليلٌ على عدم مخالفة أمرهم لأمر الله ورسوله، وهذا دليلٌ على عصمتهم، وتعيينُ المعصوم لا يُمكِنُ إلا من قبل العالم بالسرّ والخفيات.
قال الفخر الرازي(52):
وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه : ..
الثاني: أنّه تعالى أمَرَ بطاعة أولي الأمر، وأولو الأمر جمعٌ، وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمامٌ واحد، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر(53).
فنسأل الفخر الرازي: هل تعتبرون الخلفاء من أولي الأمر أم لا؟
كلُّ العامة ومنهم الفخر الرازي قائلون بوجوب طاعة الخلفاء الراشدين لأنهم أولوا الأمر، وهذه العقيدةُ خلاف الظاهر (من الآية بحسب إشكاله)، لأنّ أولي الأمر جمعٌ، والخلفاء وإن كانوا جمعاً، لكنَّ تعدُّد الخليفة في عصرٍ واحدٍ باطلٌ بإجماع العامة.
فما أجبتم به أجبنا به على إشكالكم، وهذا النقضُ غير قابل للجواب، إلا أن تقولوا أنّ أحداً من الخلفاء ليس من أولياء الأمر، وهذا خلاف مذهبكم. هذا النقض.
وأما الحلّ: فبِأنَّ ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ جمعٌ، والآية تُثبِتُ تَعَدُّدَ أولي الأمر، لكن أين يوجد في الآية أنّه يجب أن يكون أولوا الامر جميعاً في زَمَنٍ واحد؟
ما في الآية هو طاعة أولي الأمر وهُم جمعٌ، ولا إشكال في هذا المقدار، لكنّ الإشكال هو أنه لا يجب اجتماعهم في زمانٍ واحد، لا في القرآن ولا في السنة، إذ لم يتعرّض القرآن ولا السنة لإثبات ذلك، فاعتقاد الخاصة بتعدُّد أولي الأمر موافقٌ لنفس القرآن، وما قاله الفخر خارجٌ عن مدلول القرآن.
ثم نُشكِلُ إشكالاً آخر على الفخر الرازي: هل أنّ طاعة الرسول ووليّ الأمر واجبةٌ في كلّ زمانٍ أم في زمانٍ واحد؟ والجواب: في كلّ زمانٍ بالضرورة.
والرسولُ واحدٌ بمقتضى النصّ القطعيّ من الكتاب والسنة، أما وليّ الأمر فإنّه لازمٌ في كل زمانٍ بلا إشكال، ولا يمكن أن يبقى وليٌّ واحدٌ دائماً، وفي المقابل أثبت القرآن الولاة دائماً، فمقتضى القرآن تعدُّد الأولياء في كلِّ زمن، وهذا عين مذهب الشيعة. فتمَّ الرد على إشكاله الثاني نقضاً وحلاً.
الاشكال الثالث للفخر الرازي، قال:
﴿فان تنازعتم في شيء فرُدّوه إلى الله والرسول﴾، ولو كان المراد بأولي الأمر الامام المعصوم لوَجَبَ أن يقال: فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الامام، فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه(54).
هذا الإشكال أيضاً مردودٌ نقضاً وحلاً.
أما النقض: فهل في مذهبك أيها الفخر أن الخلفاء الراشدين من أولي الأمر؟
مذهبك باطلٌ بقولك أنت! لأنّك قلت أنّه يجب ذِكرُ الردِّ إلى أولي الأمر أيضاً، وليس الردُّ إلى الخليفة مذكوراً في الآية، فمذهبك باطلٌ بالضرورة وبكلامك أنت، ويُثبِتُ أن الخليفة ليس ولياً للأمر.
ثانياً: ينبغي على من يُشكِل أن يكون محيطاً، وإشكالك أنّه: لماذا لم يُذكَر الرَّدُ إلى أولي الأمر في الآية؟ واقتصر على الرد الى الله والرسول، والجواب على عدم الذِّكر أنه في الآية 83 في نفس السورة (النساء) ذُكِرَ الرَّدُّ إلى أولي الأمر توأماً مع الردّ إلى الرسول: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
هذا نَصُّ القرآن، وينبغي أن تفهَمَ هذا المقدار: أنّ جميع المقاصد الإلهية مذكورةٌ في القرآن، ولكن ليس في آيةٍ واحدة، فَضَمُّ هذه الآية لتلك الآية يُثبِتُ أنّ أولي الأمر عِدلُ الرسول، هذا الجواب الثاني.
فكلُّ إشكالاته على المذهب قد أجبنا عليها نقضاً وحلاً، وسيأتي الكلام في الإشكالات على بقية كلامه.
قال مفكّر العامة الفخر الرازي:
المسألة الثالثة : اعلم أن قوله: ﴿وأولي الأمر منكم﴾ يدلُّ عندنا على أنّ إجماع الأمّة حجة، والدليل على ذلك أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهيٌّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وانه محالٌ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوماً، ثم نقول: ذلك المعصوم إمّا مجموع الأمة أو بعض الأمة، لا جائز أن يكون بعض الأمة؛ لأنا بيّنا أنّ الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً، وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروطٌ بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنّا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بَعضاً من أبعاض الأمة، ولا طائفة من طوائفهم. ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله ﴿وأولي الأمر﴾ أهل الحلّ والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة(55).
فادّعى الفخر الرازي أن مدلول الآية عصمةُ إجماع الأمة.
ويَرِدُ على كلامه:
الإشكال الأول: أنَّ صَدرَ كلامه مناقِضٌ لذيله، حيث قال في صدر الكلام أنّ المستفاد من الآية إجماع أولي الأمر، وفي ذيله قال أنّ المراد أهل الحلّ والعقد، فهل أهلُ الحلّ والعقد تمام الأمة أم بعضها؟
هذا معنى ﴿وَيُضِلُّ الله الظَّالِمين﴾، فيبطلُ نفسَه بنفسه.
في الصدر يقول أنّه ليس المقصود بعض الأمة لأنه لا يمكن أن نعرفهم، فيجب أن يكون المقصود كل الأمة، وفي الذيل يقول أنّ المقصود بعض الأمة وهم أهل الحلِّ والعقد!!
الاشكال الثاني(56): اختار الرازي أنَّ إجماع الأمة هو الرأي العام المجموعي، أي أنه عبارةٌ عن إجماع كل الأمة.
والإشكال غير القابل للدفع هو أنه ليس للكلِّ وجودٌ إلا بوجود أجزائه، فليس للأمة وجودٌ خارجي، وما في الخارج هم أفراد الأمة، ولا يخلو الأمر من حالتين: إما أن ينتهي هؤلاء الأفراد إلى المعصوم، أي أن يكون بين هؤلاء شخصٌ معصومٌ، أو لا، ولا واسطة بين النفي والإثبات.
فإذا كان في الأمة شخصٌ معصومٌ، يكون ضَمُّ البقيّة للمعصوم كضَمّ الحجر إلى جنب الإنسان، ولا يكون الاعتبار والعصمة للإجماع، فما بالعَرَض ينتهي إلى ما بالذات، ويكون رأيُ المعصوم هو الحجّة والباقي ساقطٌ، هذا الشق الأول.
الشق الثاني: أن لا يكون هناك أيُّ شخصٍ معصوم، وحينها تكون عصمةُ كلّ الأمة محالة، لأن كلَّ الأمة ليس لها وجودٌ في الخارج إلا بوجود أفرادها، وكلُّ فردٍ بنفسه ليس معصوماً، فيستحيل أن يكون إجماع الأمة معصوماً بالبرهان العقلي.
الشق الثالث ليتم البرهان: وهو أن يكون كلُّ أفراد الأمة معصومين، وهذا خلافُ ضرورة العقل والوجدان والاجماع، فيثبت بالبرهان البطلانُ القطعيُّ لدعوى الفخر في دلالة الآية على عصمة إجماع الأمة.
الإشكال الثالث: أنّ هذا القول مخالفٌ لنفس إجماع الأمة.
بيانه: قال الفخر:
فان قيل: المفسرون ذكروا في ﴿أولي الأمر﴾ وجوهاً أخرى سوى ما ذكرت:
أحدها: أنّ المراد من أولي الأمر الخلفاء الراشدون.
والثاني: المراد أمراء السرايا..
وثالثها: المراد العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم..
ورابعها: نُقِلَ عن الروافض أن المراد به الأئمة المعصومون.
ولمّا كانت أقوال الأمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه، وكان القول الذي نصرتموه خارجاً عنها كان ذلك بإجماع الأمة باطلاً(57).
نقول للفخر: ما ذكرتَه من أهل الحلِّ والعقد خارجٌ عن الأقوال الأربعة، فيكون مخالفاً لإجماع الأمة.
وإذا كانت مجموعةٌ من الأمة قائلةً بإمامة الأئمة المعصومين، فلماذا قلت عنهم الروافض؟
وإذا كانوا روافض فلماذا عدَدتهم من الأمة؟
هذا أعلَمُ علماء العامة لا يعرف كيف يتكلم! فمن جهةٍ يقول أنّهم روافض، ومن جهةٍ أخرى يقول أنّهم من الأمة!
خارجون وداخلون! جَمعٌ بين الضدين!
الإشكال الرابع: أنَّ الأقوال الأربعة التي عددتَها أقوالَ الأمة مخالفةٌ للقرآن، باستثناء القول الأخير الذي نسبتَه للرافضة، وقولُهم فقط هو الموافق للقرآن، فبأيّ دليلٍ جعلتَهم روافض؟
أنت بنفسك قلت أنَّ مدلول الآية أنّه ينبغي أن يكون أولوا الأمر معصومين، لأنّهم لو لم يكونوا معصومين لجاز عليهم الخطأ، وإذا جاز عليهم فإنه يعني أمراً بالخطأ، وهو مخالفٌ لأمر الله بالضرورة، فصَدرُ الآية يأمر بطاعة الله، وذيلُها يأمر بما هو خطأ، وهذا تناقض.
أما القول الأول أنّ المعصوم هم الخلفاء الراشدون، فأيُّ خليفةٍ معصومٌ؟ الخليفة الأول؟ فإنّه ليس معصوماً باتفاق تمام العامة! وأخطاؤه أيام خلافته مذكورة في صحاح العامة.
أم الخليفة الثاني؟ وهو بإجماع جميع الأمة وكلِّ العامة ليس معصوماً كالأول، وهو القائل بنفسه: إن أحسنتُ فأعينوني، وإن زِغت فقوِّموني!
أم الخليفة الثالث؟ وعِصمته مخالفةٌ للإجماع، وأخطاؤه في الصحاح والسنن ما شاء الله.
فيبقى الخليفة الرابع، وهو باعتقادكم غير معصومٍ عند ثلاث طوائف، ومعصومٌ عند طائفة.
فهناك ثلاثة أقوالٍ مخالفةٌ لنَصِّ القرآن، وقولٌ واحدٌ موافقٌ لنَصِّ القرآن، وهو القول بإمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام).
الإشكال الخامس: قال الفخر:
والجواب: أنّه لا نزاع أنّ جماعةً من الصحابة والتابعين حملوا قوله: ﴿وأولي الأمر منكم﴾ على العلماء، فإذا قلنا: المراد منه جميع العلماء من أهل العقد والحلّ لم يكن هذا قولاً خارجاً عن أقوال الأمة، بل كان هذا اختياراً لأحد أقوالهم(58).
وقد اختار أنّ أولي الأمر هم أهل الحلّ والعقد، وهذا قولٌ من أقوال الأمة، وليس مورداً لإجماعها، وقد اعترف أن المعصوم هو إجماع الأمة، وأما غير المعصوم فلا اعتبار له.
وبعبارة أخرى: هل أن اختيارك العلماء من أهل الحل والعقد مورد إجماع الأمة أم لا؟ بنص كلامك أيها الفخر، فان اختيار أهل الحلّ والعقد هو قول بعض علماء الأمة لا كلها، فقولك يبطل مختارك.
الإشكال السادس: هل أن علماء الأمة (وهم أهل الحلّ والعقد) معصومون عن الخطأ أم لا؟
يجمع الكلُّ على عدم عصمتهم من حيث كونهم علماء، فيكون الخطأ جائزاً عليهم، ويكون في طاعتهم تناقضاً مع طاعة الله عز وجل، ويكون هذا باطلاً باعترافك.
الاشكال السابع(59): قال الفخر في ص 144 من الجزء العاشر:
المسألة الثالثة: اعلم أن قوله: ﴿وأولي الأمر منكم﴾ يدلّ عندنا على أن إجماع الأمة حجة.
وقال في ص150:
الفرع الأول: مذهبنا أن الاجماع لا ينعقد إلا بقول العلماء الذين يمكنهم استنباط أحكام الله من نصوص الكتاب والسنة، وهؤلاء هم المسمّون بأهل الحلّ والعقد في كتب أصول الفقه، نقول : الآية دالة عليه لأنه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر، والذين لهم الأمر والنهي في الشرع ليس إلا هذا الصنف من العلماء، لأن المتكلم الذي لا معرفة له بكيفية استنباط الأحكام من النصوص لا اعتبار بأمره ونهيه، وكذلك المفسر والمحدث الذي لا قدرة له على استنباط الأحكام من القرآن والحديث، فدلَّ على ما ذكرناه، فلما دلت الآية على أن اجماع أولي الأمر حجة علمنا دلالة الآية على أن ينعقد الاجماع بمجرد قول هذه الطائفة من العلماء. وأما دلالة الآية على أن العاميّ غير داخل فيه فظاهر؛ لأنه من الظاهر أنهم ليسوا من أولي الأمر.
وهنا نسأل الفخر:
أولاً: هل عامة الناس هم من الأمة أم خارجون عنها؟ النتيجة عنده أن جميع العوام خارجون، فهل أمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تشمل عامة الناس أم لا؟
لا يُعقل لأدنى من له اطلاع على العِلم أن يُخرِجَ السواد الأعظم من المسلمين من أمّة الاسلام.
ثانياً: هل جميع المتكلّمين والمفسرين والمحدِّثين من أصحاب السنن والمسانيد (عدا الفقهاء) من عُلماء العامة من أمّة الاسلام؟
لا شك أنّ أهل الحديث والمفسرين وأرباب كتب التفاسير ممن ليسوا من الفقهاء هم من أمّة الاسلام بحكم الكتاب والسنة ومقتضى الاجماع.
وقد أخرج الفخر أربع طبقاتٍ من الأمة، وحَصَرَ الأمّة بمقتضى هذا الفرع بطبقةٍ خاصة وهم المستنبطون للأحكام الشرعية.
قال هناك أن مدلول الآية إجماع الأمة، وهنا أخرج هذه الأصناف الأربعة وحصرها بالمستنبطين، فقُدرَتُهُ العلمية ضعيفةٌ إلى حدّ مخالفته للقرآن الكريم خلال صفحات: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس﴾، فكلُّ الناس في جهةٍ وأمّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جهة.
هذه حدود إدراك إمام الكلّ! تناقضٌ بَيِّن!
الإشكال الثامن: دَقِّقُوا جيداً، فالمطلب يُبَيِّنُ قدر المذهب ويبطل مذاهب أهل العامة، افهموها أنتم وفَهِّمُوها، قال في الصفحة 231 من الجزء التاسع:
المسألة الأولى: كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة، واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارةٌ عمن سوى الوالدين والولد، وهذا هو المختار والقول الصحيح، وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان يقول: الكلالة من سوى الولد.
أجمعت العامة بمن فيهم الفخر الرازي أن القدر المتيقن من أولي الأمر هما أبا بكر وعمر، وأنهما مقدَّمان على جميع مَن عداهما، واعترف الفخر أنّ لهذين الإثنين رأيان مختلفان في آيةٍ من آيات القرآن، فيقول أبو بكرٍ أنّ الكلالة من الورثة غير الوالد والولد، في حين يقول عمر أن الكلالة محصورة ٌبغير الولد.
وكم الفارق بينهما في مسائل الإرث؟
ثم إن الفخر الرازي يعترف ويُكمل كلامه عن عُمَر فيقول:
وروي أنه لما طُعِنَ قال: كنت أرى أن الكلالة مَن لا ولد له، وأنا أستحي أن أخالف أبا بكر، الكلالة من عدا الوالد والولد.
فإنه لم يكن يصرِّح بحقيقة ما يراه، فهل هذا منافق أم لا؟
هذا كَذِبٌ في حكم الله ونصّ القرآن باعتراف الفخر الرازي، وهو على مسند خلافة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومنشأ الكذب والنفاق عنده: أنني خالفت حكم الله وكان عذري: وأنا أستحي أن أخالف أبا بكر!! هذا ليس كلام الكليني والطوسي والمجلسي!
أفتيتُ كل هذه المدة خلافَ رأيي واعتقادي لأني كنت أخجل من مخالفة أبي بكر!! أيها الفخر الرازي هل عندك جواب؟
هل يتمكن كل علماء الحجاز وسائر الأمصار من الإجابة على ذلك؟
خليفةُ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستحي من أبي بكر ولكنه لا يستحي مِن إلَهِ أبي بكر!
لا يخالف أبا بكر حياءً منه، ولكنه يخالفُ الله ورسولَه دون حياءٍ من الله أو رسولِه! هل يمكن أن يعترف عاقلٌ بهذا ثم يقول بأن عُمَر فاروق الأمة وأنّه الخليفة الثاني للنبي الخاتم؟ هذا مذهب أهل السنة، ومذهب أعلم علمائهم.
وفي آخر عمره يقول: ليتني سألت النبي عن معنى الكلالة! وهذا حديثٌ صحيحٌ بالاتفاق.
ويكمل الفخر:
وكان يقول: ثلاثةٌ، لأن يكون بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، والربا.
ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن عنده شكاً في خلافته وفي خلافة أبي بكر! ثمّ رجّح قول عبد الرحمن في استخلاف عثمان مع قوله: ليتني سألت النبي لمن كان حق الخلافة؟ فهل لمثل هذا صلاحية الخلافة؟ وهل يكون ولياً للأمر وطاعته واجبة على الأمة؟
الإشكال الأخير على الفخر: قلتَ من جهةٍ أن الآية تأمر بطاعة من لا خطأ في قولهم وفعلهم، ومن جهةٍ أخرى تعترف بخطئ عمر، وتعتقد أنّ عُمَر من مصاديق أولي الأمر في الآية المباركة: ﴿أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾، فأيُّ أهليّة لمثلك؟ وهل لك أن تتعرَّضَ لعقيدة الخاصة في أولي الأمر؟
هذه قمّة انعدام الخجل والحياء.. ومنتهى الجهل! هذا حال أعلم العلماء عندهم! فما حال سائر علماء الحجاز وأزهر مصر أَمامَهُ؟!
هذه عظمة هذا المذهب (الشيعي)، وتظهر عظمة عقيدة الخاصة بالتأمل في معنى الآية المباركة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾، وقد استندنا في كل ما قلنا على الدليل والبرهان، وليس في كلامنا جسارةٌ على أحدٍ أو مقام، فكلُّه من اعترافات الفخر نفسه واعترافات عُمَر بن الخطاب.
تتميماً للكلام(60) حول الكلالة مما تعرَّضنا له في البحث السابق، ننقل كلام الفخر الرازي بعد ذكره لهذه الآية: ﴿قُلِ الله يُفْتيكُمْ فِي الكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَك﴾(61)، قال:
واحتجّ عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة مَن لا ولد له فقط، قال: لأن المذكور ههنا في تفسير الكلالة: هو أنه ليس له ولد(62).
وبحسب نقل الفخر فقد استدل عمر بالآية على ما ذهب إليه من أن الكلالة لمن لا ولد له، مقابل القول الأول وهو الذي يقول بأنها لمن لا والد له ولا ولد، ثم يجيب الفخر على استدلال عمر فيقول:
إلا أنّا نقول: هذه الآية تدلّ على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، وذلك لأنّ الله تعالى حكم بتوريث الأخوة والأخوات حال كون الميت كلالة، ولا شكّ أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فوجب أن لا يكون الميت كلالةً حال وجود الأبوين.
فهذا نص كلام الفخر، وهو يدلُّ على أنّه ليس لِعُمَر مقدارٌ من الفهم ليفهم آية من القرآن!
لذا فسر الآية مع عدم التنبُّه لهذه الجهة، واختار أنّ الكلالة مَن لا ولد له فقط، مع أن الآية دالة بهذا الدليل المتقَن على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد.
ونتيجة كلام الفخر:
أولاً: أن عُمَر قد بلغ حداً من الجهل خطّأه فيه الفخر الرازي! فكان جاهلاً إلى هذا الحدّ بحسب إمام المذاهب! بحيث لم يفهم أمراً واضِحاً لا شك فيه!
وأنت أيها الفخر، الذي ترد على عُمَر في هذا المطلب، كيف تعتقد أن عُمَر خليفة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ كيف تجمع بين هذين الأمرين؟
إذا كان هذا حال الفخر الرازي فهل يبقى مجالٌ لأن يناقشنا رجالُ الدين في السعودية أو مصر؟! هكذا تصبح حجة الله تامة على تمام العامة.
هذا ليس من أصول الكافي ولا كتاب المجلسي، هذا اعترافُ الفخر الرازي نفسه أنّ لأبي بكرٍ وعُمَر استنباطان مختلفان من آيةٍ واحدة!
وهنا السؤال: هل الكلالة قول أبي بكر أم قول عُمَر أم قولهما؟
إذا كانت قولهما فهو اجتماع الضدين والنقيضين، فهي إذاً إما قولُ عُمَر أو قول أبي بكر، وعلى أيِّ تقديرٍ أخطَأَ أحَدُ هذين الشخصين.
وإذا ما ثبت خطأهم بالبرهان القطعيّ وباعترافك أنت أيها الفخر، وبما أنّه ينبغي أن يكون أولوا الأمر في الآية معصومين عن الخطأ، فثبت بالضرورة وبحسب اعتقادك أنّ قول أبي بكر مقدَّمٌ، فإن قول عمر خطأٌ وباطلٌ ومخالفٌ لنصّ القرآن.
وفي المقابل اعترفتَ أن ّوليّ الأمر إن لم يكن معصوماً عن الخطأ يلزم أن يأمر الله بالضدين، فنتيجة برهانك أنت أنّه ليس لعُمَر حقُّ ولاية الأمر، فيكون ساقطاً عن الخلافة بإقرارك، هذه عصارة البحث.
وتكون النتيجة بحسب اعترافات الفخر الرازي أن خلافة عُمَر بن الخطاب بلا حقٍّ، وينبغي على كافة علماء المذاهب الاربعة أن يعترفوا بذلك، هذه نتيجة البحث، والقول الفصل.
وينبغي على الجميع أن يعرفوا أحقية هذا المذهب (الشيعي) ويعرفوا قدر هذه النعمة، ولا ينبغي الإنحناء أمام جماعةٍ من الجهلة الذين يعتقدون بخلافة الأول والثاني، بل ينبغي إثبات صحّة المذهب بالدليل العلميّ والبرهان والمنطق مع الإلتزام بكامل الأدب.
قال الفخر في ذيل الآية ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾(63) أن أقلّ مدة الحمل ستة أشهر:
المسألة الثانية: دلت الآية على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنّه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، قال: ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين﴾ (البقرة 233) فإذا أسقطت الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من الثلاثين، بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر..
واعلم أن العقل والتجربة يدلان أيضاً على أن الأمر كذلك، قال أصحاب التجارب(64)..
ونقل كلامهم بمن فيهم ابن سينا وأرسطو وسائر الحكماء، وخلاصته أن العقل والتجربة أيضاً يُثبِتَان أنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر.
والنتيجة أن من لا يفهم هذا لا عقل له ولا تجربة! أليس كذلك؟ هذه كبرى، فمن الذي لم يفهم ذلك؟ بنص الفخر وفي نفس الصفحة، هو عُمَر بن الخطاب، قال:
روي عن عُمَر أنّ امرأة رُفِعَت إليه، وكانت قد ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال عليّ: لا رجم عليها، وذكر الطريق الذي ذكرناه، وعن عثمان أنه هَمَّ بذلك، فقرأ ابن عباس عليه ذلك(65).
لماذا أمر برجمها؟ لأنه لم يُدرِك ما يدلّ عليه العقل ولا التجربة ولا القرآن.
هذه حجة الله، وهل فوق هذه الحجة حجة؟
هذا ما نقله الفخر الرازي، أما الباقي فقد نقله جميع أئمة الحديث عندهم، فبعد أن تركها نادى أمام جميع الأصحاب: لولا عليٌّ لهلك عمر!
فبأيِّ منطقٍ يصبح هذا الجاهلُ إماماً؟ ويصبح ذلك العالِمُ مأموماً؟!
هذا البحث حجةٌ لله على جميع علماء العامة، فليتفكروا ويروا هل أنّ هذه المطالب حقٌ أم لا؟
إذا كانت حقاً، فإنّ أكثرَهم تعصباً وهو الفخر الرازي ينقل هذا الكلام بنفسه! وأقول أنه كذلك (أكثرهم تعصباً) لأنه هو نفسه الذي يستدلّ على أن الدعاء في كل صلاة: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ هو طريق أبي بكر!!
ونصّ القرآن يقول: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالبَابِ﴾ ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾(66).
فمن كان الهادي إلى الحق؟ باعتراف الفخر والجميع هو علي بن أبي طالب.
من هو الذي لا يهدي إلا أن يُهدى؟ عُمَر بن الخطاب.
هذا نصُّ القرآن، والقرآن هو الحَكَم على صحّة خلافة عليٍّ (عليه السلام) وبطلان خلافة عُمَر.