• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
              • القسم الفرعي : الثالوث صليب العقل .
                    • الموضوع : مقدّمة: العقلُ والدّين .

مقدّمة: العقلُ والدّين

مقدّمة: العقلُ والدّين

شَعْبٌ لاَ يَعْقِلُ يُصْرَعُ(1): فَقَرَةٌ ذهبيّةٌ من سِفرِ هوشَع، أحد أنبياء العهد القديم من الكتاب المقدّس، تُرشِدُ إلى أهميَة التَعَقُّل في مسيرةِ الشُّعوب، فدونَهُ يُصرَعُ الناس، وبالتَّعَقُّل يتسامى العبدُ ويرتقي في مدارج الكمال، كما ينقل النبيّ أشعياء عن الله تعالى، وهو نبيٌّ آخر من أنبياء العهد القديم: هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا(2).

لا يُخَالِفُهم في ذلك نبيُّ الله سليمان (عليه السلام)، بحسب العهد القديم أيضاً، حيث اشترط دخول الحكمة في القلب لكي يصير العقلُ حافظاً للعبد، فقال: إِذَا دَخَلَتِ الحِكْمَةُ قَلْبَكَ، وَلَذَّتِ المَعْرِفَةُ لِنَفْسِكَ، فَالعَقْلُ يَحْفَظُكَ، وَالفَهْمُ يَنْصُرُكَ(3).

العقلُ مُجَدَّداً هو الحافظ إذاً حيث: فِي شَفَتَيِ العَاقِلِ تُوجَدُ حِكْمَةٌ، وَالعَصَا لِظَهْرِ النَّاقِصِ الفَهْمِ(4).

لكن يا تُرى: من هو الناقِصُ الفَهمِ الذي يستحقُّ العصا؟

هل العقلُ هو رفيقُ دَربِ الإنسان في أمور دُنياه دون دينه؟

هل نستفيدُ من عقولنا في تدبير حياتنا الدنيا، ويَرتاحُ العقل جانباً عندما نخوضُ في أمور الدّين؟

هل وَهَبَنا اللهُ العقلَ لنستفيد منه في العاجلة دون الآجلة؟ أم كان الثناءُ على العقل ومَدحُهُ شاملاً لأعمال الدّارَين؟

إذا ما اشتبه الأمر على من يعتقد بالكتاب المقدَّس فلم يُدرِك حدود ذلك، ويَمَّم وجهَهُ شَطرَ العهد القديم، وجد فيه ما يُرشِدُ إلى أنّ القلوب إن حادت عن التعقُّل يوماً خرجت عن دين الله تعالى وآمنت بآلهةٍ أخرى، فها هو ينفي الفهم والمعرفة والإبصار والتَعَقُّلَ عمّن يصنع لنفسه صنماً ويجعله إلهاً يصلي له، فيقول: وَبَقِيَّتُهُ قَدْ صَنَعَهَا إِلهًا، صَنَمًا لِنَفْسِهِ! يَخُرُّ لَهُ وَيَسْجُدُ، وَيُصَلِّي إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «نَجِّنِي لأَنَّكَ أَنْتَ إِلهِي». لاَ يَعْرِفُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ لأَنَّهُ قَدْ طُمِسَتْ عُيُونُهُمْ عَنِ الإِبْصَارِ، وَقُلُوبُهُمْ عَنِ التَّعَقُّلِ(5).

فكما نبّه العهد القديم على أهميّة العقل مراراً في أمور الدنيا حيث جعل العقلاء رؤساء: هَاتُوا مِنْ أَسْبَاطِكُمْ رِجَالاً حُكَمَاءَ وَعُقَلاَءَ وَمَعْرُوفِينَ، فَأَجْعَلُهُمْ رُؤُوسَكُمْ(6)، وأمر الملوك بالتعقُّل: فَالآنَ يَا أَيُّهَا المُلُوكُ تَعَقَّلُوا(7)، ومَدَحَ الحكمة والفهم: الحِكْمَةُ هِيَ الرَّأْسُ. فَاقْتَنِ الحِكْمَةَ، وَبِكُلِّ مُقْتَنَاكَ اقْتَنِ الفَهْمَ(8).

كذلك عدَّ الحماقة خطيّة: فِكْرُ الحَمَاقَةِ خَطِيَّةٌ(9)، والخلاصُ من الخطيّة ونيلُ الآخرة إنّما يكون بالتَعَقُّل والفِطنة، فأرشد إلى أن العاقل هو الذي يفطن ويتأمل آخرته، فيسلك سبيل النجاة دون سواه: «إِنَّهُمْ أُمَّةٌ عَدِيمَةُ الرَّأْيِ وَلاَ بَصِيرَةَ فِيهِمْ. لَوْ عَقَلُوا لَفَطِنُوا بِهذِهِ وَتَأَمَّلُوا آخِرَتَهُمْ(10).

لم يخالف الإنجيلُ التوراةَ في ذلك، فحثَّ على كمال الذِّهن، حيث قال: أَيُّهَا الإِخْوَةُ، لاَ تَكُونُوا أَوْلاَدًا فِي أَذْهَانِكُمْ، بَلْ كُونُوا أَوْلاَدًا فِي الشَّرِّ، وَأَمَّا فِي الأَذْهَانِ فَكُونُوا كَامِلِينَ(11).

لا تكونوا أولاداً في أذهانكم: الخطابُ للكبار وليس للأطفال، فهل يمكن أن يكون الكبيرُ ولداً في ذهنه؟

بالطبع، لأنّ العقلَ يُمكن أن يُخدَع، ويمكن أن يُعَطَّل، فلو عُطِّلَ أو خُدِعِ صار مُماثِلاً لعقل الطفل غير المُدرِك، فيصير الكبيرُ صغيراً في ذهنه وفكره وإدراكه، مَلوماً على أفعاله، وقد نبّه الإنجيلُ أتباعَه من كثرة المخادعين، فهؤلاء ليسوا قِلَّةً بل كُثُرٌ إلى درجةٍ دعت الإنجيل إلى التحذير منهم: فَإِنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرُونَ مُتَمَرِّدِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالبَاطِلِ، وَيَخْدَعُونَ العُقُولَ(12).

إذاً ما السبيل إلى النجاة من هؤلاء؟

ليس هناك من سبيلٍ سوى التعقُّل بعيداً عن الاحتيال والخداع والغشّ، يقول بطرس: اشْتَهُوا اللَّبَنَ العَقْلِيَّ العَدِيمَ الغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ(13).

اللبن العقليّ: تشبيهٌ جميلٌ بَديعٌ يشير إلى لزوم مصاحبة العقل في كلّ مرحلة من مراحل النموّ النفسيّ والروحيّ والفكريّ التي لا تنقطع، شرط أن يكون هذا اللبن العقلي عديم الغشّ كلَبَن الأمّ، غير متأثِّرٍ بأفكارٍ مُسبَقةٍ مُنحَرِفَةٍ عن جادّة الصراط المستقيم.

إذاً، العقلُ هو رفيق درب الإنسان في رحلته نحو الله سبحانه وتعالى، لأنّه بالعقل عرف ربّه، وعرف أن هذا الربّ كاملُ الصفات، غير متَّصفٍ بشيء من النقائص.

أمّا القرآن الكريم، فقد ذكر العقل ما يقرب من خمسين مرّة، فعدّ الذين لا يعقلون شرّ من يَدُبُّ على الأرض من خلق الله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ الله الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾(14).

وذَمَّ اتّباعَ الآباء لو كانوا لا يعقلون فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا الفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾(15).

اتّباعُ الآباء هنا كان مقابلاً لاتِّباع ما أنزل الله تعالى، فلو ذهب الآباء إلى عقيدةٍ باطلةٍ مخالفةٍ للعقل كانوا مصداقاً للآية الشريفة، ولا ينبغي أن يكون اتّباعهم مُقَدّماً على رسالة السماء مع عدم تعقُّل هؤلاء الآباء، وإلا صار مُتَّبِعُهم مصدقاً لقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾(16).

اتّفقت الكُتُبُ الثلاثةُ إذاً على أهميّة العقل والتعقُّل، وعدم مفارقة أحكامه، وإلا وقع الإنسان في مهاوي الضلال والجهالة، وصار لِجَهَنَّمَ حطباً.

مُدرَكاتُ العقل وأحكامُه التي حثّت هذه الكتبُ على اتّباعها هي المسائل القطعية بلا شك، لأنّ عليها المعوّل في أمور الاعتقاد ومصائر العباد، فمُدرَكاتُ العقل الظنيّة في أمّهات المسائل الاعتقادية وفي أهم قرارات العباد في حياتهم غير ذي قيمة، وقد قال القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا(17).

ما تقدّم هو أداةٌ قويةٌ تُرشِدُ لها الكتب الثلاثة، فيحثُّ كلُّ واحدٍ منها أتبَاعَهُ على التمَسُّك بهذه القاعدة المتينة حفظاً للنفس من الهلاك، وصوناً للإنسان من الانحراف.

وعليه فلا بدّ أن يكون العقلُ رفيقَنا.. حينما نغوص في بحث الثالوث، وموقف العقل منه.

فهل يُرشِدُ العقلُ إلى الثالوث؟!

وإن لم يُرشد:

هل يقبلُ العقلُ الثالوث؟!

وإن لم يقبل:

هل لنا أن نعتقد به؟! أم نَصيرُ ممن لا يعقِل فيُصرع؟!

هذا ما نحاول البحث عنه في هذا الكتاب، مُتَجَنِّبِين ما حذّر منه الكتاب المقدّس بقوله: اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ العَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ المَسِيحِ(18).

مُستَعِينين بالله الواحد الأحد، ربّ اليهود والنصارى والمسلمين.

والحمد لله رب العالمين

محمد مصطفى مصري العاملي

23-3-2020 م / نهاية شهر رجب 1441 للهجرة

 


(1) هوشع 4: 14.

(2) أشعياء 52: 13.

(3) الأمثال 2: 10-11.

(4) الأمثال 10: 13.

(5) أشعياء 44: 17-18.

(6) التثنية 1: 13.

(7) المزامير 2: 10.

(8) الأمثال 4: 7.

(9) الأمثال 24: 9.

(10) التثنية 32: 28-29.

(11) كورنثوس الأولى 14: 20.

(12) تيطس 1: 10.

(13) بطرس الأولى 2: 2.

(14) الأنفال22.

(15) البقرة 170.

(16) الملك10.

(17) يونس 36.

(18) كولوسي2: 8.


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=67
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5