• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
              • القسم الفرعي : الثالوث صليب العقل .
                    • الموضوع : فصل1: التوحيد وصفات الله .

فصل1: التوحيد وصفات الله

فصل1: التوحيد وصفات الله

دلَّ العقلُ على وحدانيّة الله تعالى، وعلى اتّصافه بصفات الكمال، وتنزُّهه عن صفات البشر.

1. التوحيد

وأرشدت الكتب السماوية الثلاثةُ(1) العقلَ إلى وحدانيّة الله تعالى إن خَفِيَت عليه وانطَمَسَت معالمُهَا، لتُعيدَه إلى حظيرة المعرفة التوحيديّة المبنيّة على التَطَابُق بين الوحي والعقل. وقد التزم النصارى بعقيدة التوحيد، وكلماتهم في ذلك كثيرةٌ، منها ما ورد في في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الذي أمر بنشره البابا يوحنا بولس الثاني بحكم سلطته الرسولية، ففيه: الإيمان المسيحي يعترفُ أنه لا يوجد إلا إله واحد، واحدٌ بطبيعته، وجوهره، وإنيّته(2).

والتوحيدُ بحقيقته ينافي التَعَدُّد، فإذا ثبتَ التوحيدُ بطل كلُّ تعدُّدٍ في الله تعالى، وبما أنّ الوحدة المُطلقة تُنافي التعدّد مطلقاً، فلا بدّ من ردّ كل ما يخالفها وعدم الإقرار بأي نوع من أنواع التعددية.

ولازمُ القولِ بالتوحيد عند اليهود والنصارى والمسلمين هو اتفاق كلمتهم، لو لم يختَلِفُوا بعد ذلك في تفسيره، ويذهب النصارى إلى وحدانية الجوهر.

2. امتناع إدراك كنهه

دلّ العقلُ على امتناع احاطة المحدود بغير المحدود، ولمّا كان الله تعالى غير محدودٍ بحسب عقيدة النصارى(3)، فقد وافَقونا على القول بامتناع إدراك كنه الله تعالى والإحاطة بذاته المقدّسة. ومن كلماتهم في ذلك سوى ما يأتي في مطاوي الكتاب في سائر الفصول:

الإحاطة بالله مستحيلة

يقول القدّيس توما الأكويني: ان الاحاطة بالله مستحيلةٌ على كل عقلٍ مخلوق، وإدراكه بالعقل على أيّ وجهٍ كان سعادةٌ عظيمة.. ليس في قوة عقلٍ مخلوقٍ أن يبلُغَ في إدراك الذات الإلهية تلك الحال الكاملة التي بها تقبل الإدراك في حدّ نفسها(4).

ويقول القدّيس يوحنا الدمشقي: من ثمّ أُجِيبَ على السؤال: ما هو الله؟ باستحالة الكلام عن جوهره. وهذا المنطق أقرب إلينا جداً من تَخَيُّل جميع الصفات، ذلك لأن الله ليس واحداً من الكائنات، لا لأنه ليس كائناً، بل لأنه فوق جميع الكائنات، وهو فوق الوجود نفسه.. في التكلم عن الله، الإقرارُ بعدم المعرفة هو الأفضل.. لقد اتّضح اتضاحاً وافياً أن الله موجودٌ وأن جوهره لا يُدرك(5).

لن يتوصل أحدٌ الى اكتشافه

يقول القديس غريغوريوس النزينزي: الله في طبيعته وفي جوهره لم يتوصّل أحدٌ قطّ ولن يتوصلَ أحدٌ إلى اكتشافه.. فإن كان أحدٌ قد عرف الله أو عُدّ عارفاً لله فليست معرفته سوى أنه تعرّض للنور أكثر من غيره(6).

ويقول عوض سمعان: أما كُنهُ ماهيّة الله، فلا قدرة لنا على فحصه أو إدراك شيء عنه، بل ولا يصح لنا أن نتطاول لفحصه أو إدراكه.. فقدرتنا محدودةٌ والله مُنَزَّهٌ عن الحدود، وأنّى للمحدود أن يدرك كلّ شيء عن المنزّه عن الحدود؟!(7).

معرفة جوهر الله قمة الخَبَل

يقول القديس يوحنا ذهبيّ الفم: لا يمكن البشرُ إدراكَ الله.. الإكبابُ على معرفة الله في جوهره هو قمّة الخَبَل.. أليس هذا إذن قمّة العَتَه أن يدّعي أُناسٌ أقلُّ نعمةً من هذا النبيّ سبرَ جوهرِ الله ذاته؟.. إن الحكمة ممتنعةُ الإدراك على النبي، أفيكون الجوهرُ لدينا قابلاً للإدراك؟ أليس ثمّة خبلٍ جَليٍّ وواضح؟ إن عظمته لا حدّ لها، وأنت تدّعي الإحاطة بجوهره؟(8).

ويقول في محلٍّ آخر: لقد برهنتُ حديثاً أن إدراك جوهر الله يقع خارج متناول حكمة البشر والملائكة ورؤساء الملائكة، وفي كلمة واحدة كل الخليقة(9).

كل ما نتصوره عن الله فليس الإله

يقول القس إيدن ويلسون توزر: عندما نحاول أن نتخيّل شبه الله فيجب علينا أن نستعمل ما ليس هو الإله كوسيلة تستخدمها عقولنا، ولذلك فكل ما نتصوّره عن الله، فليس الإله مثله، لأن الصورة التي تخيَّلناها قد تكوَّنت مما خلقه الله، وما خلقه الله ليس هو الله(10).

العقل فشل في معرفته

يقول توماس ف. تورانس: لنعترف بصمتنا أن الكلمات لا تستطيع أن تصفه، وليعترف العقل أنّه فشل في محاولته لإدراك الله، وفشل في سعيه لتعريف الله(11).

يقول القس الدكتور لبيب ميخائيل: العقلُ الإنسانيّ يعجز تماماً عن فهم واحتواء ذات الله.. لم يستطع الإنسان أن يصل بقدراته العقلية إلى معرفة حقيقة الذات الإلهية.. وكيف يمكن للمحدود أن يحتوي غير المحدود؟(12).

هو فَشَلٌ في المعرفة المطلقة لا في مُطلَقِ المعرفة، فَشَلٌ في معرفة الإحاطة، لا في معرفة وجوده واتّصافه بصفات الكمال.

3. نفيُ التركيب

ذهب النصارى أيضاً إلى نفي تركيب الله تعالى، ومن كلماتهم في ذلك:

الله بسيط لا تركيب فيه

يتحدث القدّيس يوحنا ذهبيّ الفم عن بولس لمّا قال: (إننا نعلم علماً ناقصاً)، فيشرح عبارته قائلاً: وقوله (ناقصاً) لا يعني أنه يعلم قسماً من الجوهر الإلهيّ، ويجهل الآخر (لأن الله بسيط)، ولكن لأنه يجهل من هو الله في جوهره، رغم أنه عارف بوجوده(13).

ويقول: فالله في الواقع بسيطٌ لا تركيب فيه ولا صورة له(14).

الله بسيط غير مركب

يقول القدّيس يوحنا الدمشقي: إن الإله بسيطٌ ولا تركيب فيه(15).

ويقول القدّيس كيرلس الاسكندري: الله بسيطٌ في طبيعته وغير مُركّب(16).

ويقول القديس توما الأكويني عن الله تعالى: انه ليس مركباً بحالٍ، بل بسيطاً من كل وجه.. لأن كل مركّب متأخرٌ عن أجزائه ومتوقف عليها(17).

ويقول: ليس يمكن أن يكون الله داخلاً بنحو من الأنحاء في تركيب شيءٍ.. يستحيل أن يكون الله جزءَ مركّبٍ(18).

ويقول: ليس يمكن أن يكون الله متغيّراً بوجه من الوجوه.. كلُّ متحرّك يعتبر فيه نوع من التركيب.. الله ليس مُرَكّباً بنوعٍ من الأنواع، بل هو بسيطٌ من كل وجه، فإذاً واضحٌ أن الله ليس يمكن أن يتحرّك(19).

ويقول عالم اللاهوت الهولندي د. هيرمان بافينك: والله كائن بسيط أي غير مركّب، خالص تماماً من أيّ تمازجٍ بين روحٍ ومادة، وفكر ومدى، وكيان وصفات، وعقل وإرادة(20).

ويقول القس إيدن ويلسون توزر: ونظرية الوحدة الإلهية لا تعني فقط أنه يوجد إله واحد بل تعني أيضا أن الله بسيط، غير معقد، متّفق مع ذاته(21).

يقول الدكتور القس عماد شحادة: لا يمكن للكائن الضروري أن يكون مركّباً، أو مكوّناً من أجزاء أو عناصر(22).

ويقول: الوحدانية وعدم التّركيب: جوهر الله واحدٌ، غير مركّب من أجزاء، لأن المركب متحيّز بحيّز، ومن الممكن أن يُدرَك أو يُرى، إذ إنه محدود الأجزاء مُركّبٌ منها(23).

ويقول عوض سمعان: يتبين لنا أن المسيحية نادت منذ نشأتها بوحدانية الله وعدم وجود تركيب فيه(24).

فإن قيل: مع تصريحات علماء النصارى بعدم التركيب في الله تعالى، كيف يُنسَبُ لهم القول بالتركيب في كلمات أئمتكم؟

كما في حديث الإمام الرضا (عليه السلام) مع أبي قُرّة المحدّث: قَالَ أَبُو قُرَّةَ: وَإِنَّا روينَا أَنَّ الكُتُبَ كُلَّهَا تَجِي‏ءُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالنَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، صُفُوفٌ قِيَامٌ لِرَبِّ العَالَمِينَ، يَنْظُرُونَ حَتَّى تَرْجِعَ فِيهِ لِأَنَّهَا مِنْهُ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِلَيْهِ تَصِيرُ.

قَالَ أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام): فَهَكَذَا قَالَتِ النَّصَارَى فِي المَسِيحِ إِنَّهُ رُوحُهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَيَرْجِعُ فِيهِ.. تَعَالَى رَبُّنَا أَنْ يَكُونَ مُتَجَزِّياً أَوْ مُخْتَلِفاً وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ وَيَأْتَلِفُ المُتَجَزِّي، لِأَنَّ كُلَّ مُتَجَزٍّ مُتَوَهَّمٌ، وَالكَثْرَةُ وَالقِلَّةُ مَخْلُوقَةٌ دَالَّةٌ عَلَى خَالِقٍ خَلَقَهَا(25).

قلنا: إن النصارى وإن لم يصرّحوا بالتركيب بل صرحوا بخلافه، إلا أن هذا الكلام من باب الإلزام بلوازم عقيدتهم إمعاناً في الحُجّة، إذ لا يمكنُ الجمعُ بين التوحيد حقيقةَ والتثليث إلا بالقول بالتركيب والأجزاء، لأنّ القول بالتعدُّد مخالفٌ للتوحيد، والقول بالتوحيد والتثليث معاً على نحو الحقيقة فيه جمعٌ بين النقيضين.

ولما كان النقيضان لا يجتمعان، لَزِمَ من التثليث القول بالتركيب والأجزاء، فكان احتجاجاً عليهم بما يلزم من كلامهم، من ثَمَّ أنكروا هذا اللازم فنفوا التركيب في الله تعالى، والتزموا بالتعدُّد في الأقانيم أو الاشخاص حقيقةً وهو منافٍ للتوحيد، وجمعوا بين النقيضين لمّا زعموا عدم منافاته مع التوحيد، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.

4. نفي المحدوديّة والمكان

ذهب النصارى أيضاً إلى أن الله تعالى غير محدود، فاتّفقنا وإياهم على ذلك، ومن كلماتهم في نفي المحدودية عن الله تعالى:

الإله لا يُحدّ

يقول القدّيس يوحنا الدمشقي: الإله إذاً لا يُحدّ ولا يُدرك، والشيء الوحيد الذي نُدركه عنه أنه لا يُحد ولا يُدرك. وكل ما نقوله في الله للتوضيح يدل على على طبيعته، بل على ما هو حول طبيعته(26).

لا تحدّه حدود

يقول عالم اللاهوت الهولندي د. هيرمان بافينك: كيف يمكن للإنسان أن يعرف الله الذي لا تحدُّه حدودٌ ولا يُدركه أحد، لأننا لا نستطيع أن نقيسه بحدود الزمن أو الأبد(27).

ويقول القس الدكتور لبيب ميخائيل: لأن الله تعالت قدرته لا يخضع للكمّ والكيف.. فهو غير المحدود، الذي لا يمكن أن يحتويه عقلً الإنسان المحدود(28).

سرمديٌّ دائمٌ غير محدود

يقول القس جون. ر. ستوت: الله أياً كان ومهما كان كائنٌ سرمديٌّ دائمٌ وغير محدود، بينما نحن البشر كائنات فانيةٌ محدودة... إنّه فوق إدراكنا.. وعقولنا.. أقل من أن ترقى إلى فكر الله السرمدي(29).

كليّ الوجود

يقول جون كلايد تارنر: إن الله كُلِّيُّ الوجود.. هناك عباراتٌ في الكتاب المقدس ظهرت وكأنما هي تحصر وجود الله في مكانٍ معين.. (في السماوات).. إن هذه العبارات يجب أن ننظر إليها كتعابير رمزية تماماً كتلك التي تتكلم عن ذراعيه أو يديه. لا يمكننا أن نحصر الله بمكان أو في مكان(30).

كيف يحضر الله في الأماكن؟

يتّفق المسلمون والنصارى على أن الله تعالى في كلّ مكان، لكن لا يقصدون من ذلك وجود ذات الله تعالى في كلّ مكان لأن وجوده في المكان المُحَدّد تَحديدٌ له، وهو مُنَزّهٌ عن ذلك، وإلى هذا المعنى أشار الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما سُئِل: أَيْنَ الله يَا مُحَمَّدُ؟

قَالَ: هُوَ فِي كُلِّ مَكَانِ مَوْجُودٌ بِآيَاتِهِ(31).

فالله في كلّ مكانٍ بآياته لا بذاته(32)، وبإحاطته وإشرافه وقدرته، لذا فسّر الإمام الصادق (عليه السلام) قوله تعالى: وهُوَ ﴿بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ﴾: بِالْإِشْرَافِ والْإِحَاطَةِ والْقُدْرَةِ.

﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ ولا فِي الْأَرْضِ ولا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ ولا أَكْبَرُ﴾ بِالْإِحَاطَةِ والْعِلْمِ لَا بِالذَّاتِ، لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ مَحْدُودَةٌ تَحْوِيهَا حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ فَإِذَا كَانَ بِالذَّاتِ لَزِمَهَا الحوَايَةُ (33).

وأصرح من ذلك قول إمامنا الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وهُوَ الله فِي السَّماواتِ وفِي الْأَرْض‏﴾‏.

قَالَ: كَذَلِكَ هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

قُلْتُ: بِذَاتِهِ؟

قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ الْأَمَاكِنَ أَقْدَارٌ، فَإِذَا قُلْتَ فِي مَكَانٍ بِذَاتِهِ لَزِمَكَ أَنْ تَقُولَ فِي أَقْدَارٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، ولَكِنْ هُوَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، مُحِيطٌ بِمَا خَلَقَ عِلْماً وقُدْرَةً وإِحَاطَةً وسُلْطَاناً ومُلْكاً، ولَيْسَ عِلْمُهُ بِمَا فِي الْأَرْضِ بِأَقَلَّ مِمَّا فِي السَّمَاءِ، لَا يَبْعُدُ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ والْأَشْيَاءُ لَهُ سَوَاءٌ عِلْماً وقُدْرَةً وسُلْطَاناً ومُلْكاً وإِحَاطَةً (34).

وذهب إلى هذا المعنى أو ما يقرب منه علماء النصارى أيضاً، ومن كلماتهم في ذلك:

يقول القديس توما الأكويني: ان الله فوق كل شيء بسموّ طبعه، وهو مع ذلك موجودٌ في جميع الأشياء من حيث هو علّة وجود جميع الأشياء(35).

ويقول: انه موجودٌ في كل شيء على أنّه مؤتيه الوجود والقوة والفعل(36).

ويقول: انما يملأ جميع الأمكنة بإفاضته الوجود على جميع المتمكنات المالئة لجميع الأمكنة(37).

ويقول القدّيس يوحنا الدمشقي: ليس الله في مكان.. مكان الله يفوق الطبيعة.. الله إذاً -الذي هو لا ماديّ وغير محدود- هو أيضاً ليس في مكان، بل هو مكانٌ لذاته، وهو يملأ الكل وهو فوق الكل وهو نافذٌ في الكل. ويُقال بأنّه تعالى في مكان، ويقال مكان الله حيث يكون فعلُه فيه واضحاً.. إذاً إن ما يدعى مكان الله هو ذاك الذي له نصيبٌ أوفَرُ في فعله تعالى ونعمته، لذلك (فالسماء عرٌش له) لأن فيها الملائكة يتمِّمُون مشيئته.. ويُقال للكنيسة أيضاً مكان الله، لأنها مُخَصّصة لتمجيده(38).

يقول الراهب القمص فليمون الأنبا بيشوى عن الله تعالى أنّه: موجود في كلّ مكان. حاضرٌ في كلّ مكانٍ دون أن يحصرَه أو يحُدَّهُ أو يحويه مكانٌ، هو كائن في الكلّ وخارجٌ عن الكلّ ويشمل الكلّ.. موجودٌ في كلّ مكان في وقت واحد من غير أن يحصره مكان أو يحده زمان. إنه الكامل والكامل وحده(39).

ويقول القس إيدن ويلسون توزر: ومع ذلك فما أكثر ما يبتعد عنا. فهو حاضرٌ في كل مكانٍ بينما هو لا يحدّه مكان، إذ كلمة "المكان" تتعلّق بالمادة والمسافة، والله مستقلٌّ عن هاتين، فهو لا يخضع لزمانٍ أو حركةٍ فهو قائمٌ بذاته بالكلية(40).

ويقول: تعني العبارة "كليّ الوجود" إن الله حاضرٌ في كلّ مكان، هنا وبالقرب من كل واحد(41).

ويزيدها كلها وضوحاً عالم اللاهوت الهولندي د. هيرمان بافينك عندما يؤكد أن معنى حضوره في المكان هو تطويقه للمكان (بقوته القادرة) حيث يصف الله تعالى بأنّه: أزليٌّ أبديٌّ لا يحدُّه زمن.. ثم إنّه كلي الحضور، كونه غير محدود بأي مكان، لكنه مع ذلك يطوّق كلّ نقطةٍ من المكان بقوّته القادرة على كلّ شيء والدائمة الحضور(42).

5. نفي الجهل

يعتقد النصارى بعلم الله تعالى بكلّ شيء، ومن كلماتهم في إثبات المعرفة ونفي الجهل:

كليّ المعرفة

يقول جون كلايد تارنر في وصف الله أنه: كلِّيُّ المعرفة. إن الله إلهٌ كُلّيُّ المعرفة، وهو يعلم كل شيء، يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، وهو يعلم بكل شيء(43).

6. التنزيه عن صفات البشر

اتّفقت كلمة المسلمين والنصارى على تنزيه الله تعالى عن صفات البشر، لأن اتّصافه بصفات البشر يعني محدوديّته كالبشر، ولذا فإن كلّ نصٍّ توراتيّ أو إنجيليّ أو قرآنيٍّ يشير إلى تجسيم الله أو اتصافه بصفات البشر حَمَلَهُ المسيحيون والمسلمون على خلاف الظاهر، وقد صرّح بهذا جمعٌ من علماء النصارى، ومن كلماتهم في ذلك:

ليس جسماً وهو لا يرى

يقول القدّيس غريغوريوس النزينزي: ليس الله في نظرنا جسماً، ولم يقم نبيٌّ ويَقُل بذلك أو يوافق على ذلك، وليست هذه العقيدة من حظيرتنا(44).

ويقول القديس توما الأكويني: ان الله ليس بجسم(45).

ويقول: يستحيل رؤية الله بحاسة البصر أو غيرها من المشاعر أو بقوّةٍ جارحةٍ حسّيّة اية كانت(46).

ان الله منزّه عن صفات البشر

يقول الراهب القمص فليمون الأنبا بيشوى: نُسِبَ إلى الله أشياء وسمّي بأسماء، سواءٌ في الكتب المقدّسة أو على فم الآباء والأنبياء، نُسِبَت له أشياء كثيرة مما يُدركها عقل البشر، بل تعبيرات بشرية مثل:

عيني الله.. أذني الله.. ذراع الله.. يمين الله.. فم الله.. قلب الله.. قدمي الله.. جلوس الله.. ومثل هذه التعابير البشرية التي هي بعيدة كل البعد عن جوهر الله لأنّ الله ليس بجسد فيوصف.. وليس له أعضاء بشرية.. لا يُجَزَّأ ولا يُقَسَّم ولا يُحَدُّ شيء منه، فلا يُحَدُّ بصرُه في عينين، ولا يُحَدُّ سَمَعُهُ في أذنين(47).

نفي قياس الله بالبشر

يقول القديس أثناسيوس الرسولي: ان هؤلاء الناس الأغبياء يقيسون مولود الآب بمقاييسهم البشرية الذاتية. وان اناساً يفكرون بمثل هذه الطريقة أنه لا يمكن أن يكون هناك ابن لله، فان هذا أمر يستحق العطف والرثاء! ولكن يلزم أن نستمر في سؤالهم وفضح أفكارهم! (48).

وكلماتُ هذا القدّيس عجيبةٌ، فَمَن قاس الله على نفسه هو الذي قال أنّ لله ولداً، ولكن بما أنّه لا بد من تنزيه الله زعم أن هذا المولودَ أزَليٌّ كالله تعالى!

والحال أنه ينبغي تنزيهه تعالى عن أي مشابهة بخلقة بما فيها الولادة والأبوّة والبنوّة.

7. نصوصٌ جامعة للصفات المتقدمة

في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الذي أمر بنشره البابا يوحنا بولس الثاني بحكم سلطته الرسولية:

نحن نؤمن إيماناً ثابتاً، ونُثبت ببساطةٍ أنّه يوجد إلهٌ واحدٌ حقيقيّ، غير محدودٍ وغير متغيّر، وغير مُدرَك، كليُّ القدرة، وفوق كل تعبير، آبٌ وابنٌ وروحٌ قدس: ثلاثة أقانيم، ولكن إنّيّة واحدة، وجوهرٌ واحدٌ أو طبيعةٌ كليّة البساطة(49).

ونحن نأخذ الإقرار بما دون الثالوث، لنكمل المحاكمة بناء عليه.

ويقول القديس يوحنا الدمشقي: أننا نعرف ونقرّ أن الله لا بدء له ولا نهاية، أبديٌّ وأزليٌّ، غيرُ مخلوق، لا يتحوّل ولا يتغيّر، بسيطٌ وغير مركب، لا جسم له، لا يُرى ولا يُلمس ولا يُحد، ولا يقع تحت الحواس، لايستوعبه العقل، لا يُحصَر، لا يُدرَك، صالحٌ وعادلٌ ومُبدِعُ الخلائق بأسرها. قديرٌ وقابضُ الكلّ(50).

ويقول: إذاً نؤمن بإله واحد، بُدءٍ لا بَدءً له، غير مخلوقٍ ولا مولود، لا يزول ولا يموت، أبديٌّ، لا يُحصَر ولا يُحدّ ولا يُحاط به، ولا تُحصَر قوّته، بسيطٌ وغير مركّب، لا جسم له، لا يسيل ولا ينفعل ولا يتحوّل ولا يتغيّر، لا يُرى.. صانع كل المخلوقات ما يُرى وما لا يُرى.. لا يحيط به شيء وهو يحيط بكلّ شيء.. وهو عالمٌ بكلّ الأشياء قبل كيانها(51).

8. ثمرة هذا الفصل

من ثمار هذا الفصل:

الثمرة الأولى: أنّ كلّ ما ينافي توحيد الله تعالى فهو مردود، أما معاني التوحيد فتأتي في الفصول القادمة.

الثمرة الثانية: أنّ إدراك كنه الله تعالى ممتنعٌ بالاتفاق، لذا لا يَصُحُّ انتقاصُ بعض النصارى من عقيدة المسلمين القائلين بعدم الإحاطة بالله تعالى، لموافقة النصارى لهم في ذلك.

الثمرة الثالثة: أنّ كلّ ما أدى الى القول بتركيب الله تعالى، أو محدوديته في مكانٍ أو زمانٍ، أو نسبة الجهل له، أو اتّصافه بصفات البشر، فهو مردود ٌمرفوضٌ لمنافاته التوحيد.

 


(1) التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، وقد تعرّضنا للنصوص الدالة على ذلك من هذه الكتب الثلاثة في كتابنا (الثالوث والكتب السماوية).

(2) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص56 فقرة200.

(3) كما سيأتي في الباب الرابع من هذا الفصل، وقد بحثنا الأمر بشكل مفصل في كتابنا (عرفان آل محمد ^) فليراجع.

(4) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص135.

(5) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص60-61.

(6) الخطب اللاهوتية ص58.

(7) الله في المسيحية  ص99.

(8) في أن الله لا يمكن ادراكه ص60-61.

(9) مساوٍ للآب في الجوهر ص14.

(10) معرفة القدوس ص8.

(11) الإيمان بالثالوث ص117.

(12) كتاب: لا إله إلا الله ص3-4.

(13) في أن الله لا يمكن ادراكه ص63.

(14) في أن الله لا يمكن ادراكه ص125.

(15) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص74.

(16) الكنوز في الثالوث القدوس والمساوي ص72.

(17) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص47.

(18) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص49.

(19) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص95.

(20) بين العقل والإيمان ج2 ص21.

(21) معرفة القدوس ص15.

(22) الآب والإبن والروح القدس ص17.

(23) الآب والإبن والروح القدس ص24.

(24) الله في المسيحية ص41.

(25) الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي) ج‏2 ص406.

(26) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص60.

(27) بين العقل والإيمان ج1 ص22.

(28) كتاب: لا إله إلا الله ص2.

(29) المسيحية الأصلية ص9.

(30) هذه عقائدنا ص26.

(31) التوحيد للصدوق ص311.

(32) وقد تعرّضنا لذلك في كتاب: عرفان آل محمد فصل6 ص68 فليُراجع.

(33) الكافي ج‏1 ص127.

(34) التوحيد ص133.

(35) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص86.

(36) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص87.

(37) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص88.

(38) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص78.

(39) سر التثليث والتوحيد من هو الله ج3 ص18

(40) معرفة القدوس ص25.

(41) معرفة القدوس ص64.

(42) بين العقل والإيمان ج2 ص21.

(43) هذه عقائدنا ص27.

(44) الخطب اللاهوتية ص48.

(45) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص36.

(46) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص127.

(47) سر التثليث والتوحيد من هو الله ج3 ص10-11.

(48) الشهادة لألوهية المسيح ص35.

(49) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص56 فقرة202.

(50) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص56.

(51) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص65.


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=66
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5