فصل3: الثالوث: وحدة الجوهر وتعَدّدُ الأقانيم
خلاصة القول في الثالوث هي أن الله واحدٌ في الجوهر، مُتَعَدِّدٌ في الأقانيم.
فالجوهر واحدٌ، لكن الأقانيم ثلاثة، وكل واحد من الثلاثة يتّصف بصفات الله تعالى.
وقبل الدخول في البحث لا بد من معرفة الفرق بين الجوهر والأقنوم عند النصارى، ولبيان ذلك ننقل كلمات الراهب باسيليوس المقاري حيث يقول:
الفرق بين (الجوهر والأقنوم) يمكن فهمه بوضوح أكثر إذا تأملنا حالة الإنسان البشري.. ففي الإنسان يوجد (الجوهر البشري) الواحد والمشترك ويسمى أيضاً (الطبيعة البشرية) الواحدة المشتركة من جميع البشر، وفي الوقت نفسه يوجد (أشخاص) متعدّدون لهم نفس الجوهر البشري أو الطبيعة البشرية. كلنا فينا نفس الجوهر والطبيعة البشرية الواحدة المشتركة. أما تجسيد وتحقيق هذه الطبيعة وهذا الجوهر فهو الأشخاص البشريون.. فالجوهر لا ينفصل أو يوجد بمعزل عن الشخص (أو الأقنوم) الذي يعطي للجوهر تحقيقه وقيامه، فالأشخاص يُجَسِّدون ويُظهرون ويعلنون الجوهر والطبيعة، والجوهر يوجد في الأشخاص، والأشخاص يحققون ويظهرون الجوهر(1).
إذاً الأقانيم الثلاثة هم كالأشخاص بالنسبة للطبيعة البشرية، فأحمد وأسعد وأمجد أشخاصٌ ثلاثة يشتركون في الطبيعة البشرية والجوهر البشري، كذلك الآب والابن والروح القدس يشتركون في الطبيعة الإلهية.
وبالفهم البدوي يرى القارئ أن النصارى يعتقدون بآلهةٍ ثلاثةٍ صفاتُهم موحّدة، كأفراد البشر المتعّددين والمتّصفين بجوهر البشرية معاً، لكن هل هذا ما يقوله النصارى؟ أن الآلهة ثلاثة؟
ينكر النصارى ذلك، ويقولون: مع قولنا بأن الإله واحدٌ وأن الأقانيم هم الأشخاص الذين يُظهِرون الجوهر إلا أنهم ليسوا آلهة ثلاثة! فنكمل البحث معهم، ونعرض نماذج لكلمات العديد من علمائهم في اقتصار الوحدة على الجوهر.
يقول الاب صفرونيوس: أما وحدة جوهر الثالوث فهي وحدةٌ بسيطة نقيّة بلا تركيب، وهي ليست مجموعة طبائع(2).
فمعنى التوحيد عندهم يعني:
- أن الجوهر الإلهي واحدٌ لا متعدّد مع تعدّد الأقانيم.
- أن الجوهر بسيطٌ وليس مركباً من مجموعة طبائع.
وعليه فإن وحدة الجوهر وبساطته لا تنافي التعدد في الأقانيم أي الأشخاص، وهو ما يعني تعدد الآلهة وإن نفوه، وهذا تعارُضٌ بيّنٌ بالنظرة الأوليّة.
يقول الاب صفرونيوس: حياة الله هي حياةٌ واحدةٌ لا تنقسم، والثالوثُ هو الذي يعلن لنا هذه الحياة. وجوهر الله هو جوهرٌ واحدٌ لا ينقسم، والجوهر الواحد هو عقيدتنا الخاصة بالتوحيد، توحيدٌ عّلمنا إياه الرب يسوع المسيح والرسل القديسين والآباء(3).
الله تعالى إذاً لا ينقسم من حيث الجوهر، أي أنّ جوهر الله تعالى لا ينقسم ولا يتعدّد، لكن الأقانيم الثلاثة عندما تتمايز ويكون الآب غير الابن وغير الروح القدس فإنّ هذا يعني حصول الانقسام بينها فعلاً، فيصبح الإله الواحد متعدداً! ولا يقولون بالتعدد! أو يصبح الإله الواحد مركباً! ولا يقولون بالتركيب! وهذا تعارُُضٌ بيِّنٌ مجدّداً!
يقول القمص سرجيوس: ان المسيحيين يعتقدون بأن ذات الله واحدة لا تعدُّد فيها ولا كثرة. وان ذاته الالهيّة قائمة بثلاثة أقانيم وهي كلمة الله وروحه، او الاب والابن والروح القدس.. وهذا التعدد لا يقدح في الوحدة الحقيقية(4).
هو لا يقدح بالوحدة عندهم لأنّ الوحدة وحدة الجوهر فقط، فهم قائلون بالتعدُّد فعلاً وإن أُلبِسَ غطاء الوحدة للقول بوحدة الجوهر، كوحدة الطبيعة الإنسانية مع تعدُّد أفرادها بتعدّد البشر.
يقول الاب صفرونيوس: توحيدُ جوهر الله هو توحيد الإنجيل، وهو التوحيد الذي يعلِنُ وحدانية الله كمثالٍ للشركة والمحبة، ليس لأن الله يجمع في جوهره ثلاثة آلهة – كما يظن عديمي الفهم – بل لأن الله في ثالوث، والثالوث هو التوحيد الصحيح، لأنّه توحيد المحبة، أي التوحيد الذي يعلن محبًة كاملًة في الجوهر الإلهي نفسه، حيث المُحِبُّ والمحبوبُ والمحَبَّةُ ليست صفات مثل القدرة والرحمة، بل أقانيم تشترك في حياةٍ واحدةٍ، ولها كيانٌ واحد، جوهرٌ واحد، طبيعةٌ واحدة، رئاسةٌ واحدة للآب والابن والروح القدس.. لذلك يأخذ الابن بنوّته من الآب، ويأخذ الروح القدس انبثاقه من الآب، ولا يأخذ الآب أبوّته من الابن، ولكن بدون الابن هو ليس آباً، بل هو الآب بالابن ليس عن احتياجٍ بل عن فيض الصلاح الواحد للثالوث. وعندما نقول إن الآب لا يأخذ، بل يعطي، فإننا هنا نتكلم عن الكيان الإلهي، ولكن من حيث المحبّة هو يأخذ ويقبل محبة الابن ومحبة الروح القدس، محبّةٌ واحدةٌ لا تنقسم(5).
إذا كان الجوهرُ واحداً، والأقانيم أي الأشخاص ثلاثة، والله ثالوثٌ، فمن ينسب لهم القول بالآلهة الثلاثة لا يكون عديم الفهم كما يقول الاب صفرونيوس، إنما يكون مفسِّراً لكلماتهم، أو يكون قد ألزمهم بلوازم كلامهم، ولكنهم لا يلتزمون بها! وهو التناقض مجدداً، فإنّ معنى القول بتعدد الأقانيم هو تعدُّدُ الأشخاص الذين يتّصفون بصفات الإله، أو بجوهر الله، فيصير الآلهة ثلاثة، ولا يقولون بالآلهة الثلاثة! فرجع ذلك للتناقض مجدداً.
ومن كلماتهم في وحدة الجوهر: الكنيسة تستعمل اللفظة (جوهر).. للدلالة على الكائن الإلهي في وحدته(6).
ويقول القديس أثناسيوس الرسولي حول الإيمان الصحيح: ابنٌ حقيقي حسب الطبيعة للآب ومن نفس جوهره. وهو الحكمةُ وحيدُ الجنس، وهو الكلمة الحقيقي الوحيد لله، وهو ليس مخلوقاً ولا مصنوعاً، ولكنه مولودٌ حقيقيٌّ من ذات جوهر الآب، ولهذا فهو الهُ حقٍّ اذ أنّه واحدٌ في الجوهر مع الآب الحقيقي(7).
ويقول: ان الابن لم يصر من العدم، ولا يحسب في عداد المخلوقات إطلاقاً، بل هو صورة الآب وهو الكلمة، ولم يكن قط غير موجود، بل موجود على الدوام(8).
مع القول بوحدة الجوهر، وتعدُّد الأقانيم، أي الأشخاص، سيكون الآلهة ثلاثة، لكن النصارى يقولون: لا نقول بآلهةٍ ثلاثة! فوقعوا في التناقض الصريح.
ومن كلماتهم في تثليث الأقانيم:
يقول الاب صفرونيوس: القدوس ليس واحداً حسب الأقانيم، بل ثلاثةٌ كلٌّ منهم هو آخر بالنسبة لنا، وكلٌّ منهم هو واحدٌ بالنسبة إلى الطبيعة. لأن البشر كلّ واحد منهم هو آخر بالنسبة إلى الباقين، وكل واحدٍ هو واحدٌ بالنسبة إلى الطبيعة الإنسانية، هكذا تعمل المحبة، فالآخر هو آخر وهو واحد في نفس الوقت، هو آخر متمايز، والتمايز هو أساس الاتحاد، وهو واحدٌ لأن الوحدة هي الطبيعة(9).
ويقول في محل آخر: لأن الآب والروح يشتركان مع الإبن المتجسّد في كل شيء يقوله ويعمله دون أن يتجسّد الآب أو الروح القدس، بل تجسّد الإبن وحده، وقد أكد لنا هذا تمايُزَ الثالوث. فالآب أرسل الإبن، والإبنُ تجسّد من الروح القدس الذي كوّن جسده في أحشاء البتول.. وهكذا تحققنا من أن الله واحدٌ في ثالوث(10).
تشير هذه النصوص أن الوحدة في الألوهية والتوحيد عندهم هي وحدة الطبيعة لا وحدة الأقانيم أو الاشخاص (مع تحفظ بعضهم على كلمة الشخص واستخدام بعضهم لها)، فهي تثبت أن هناك إلهاً له طبيعةٌ واحدة، أي أن طبيعة الإله هي طبيعةٌ واحدةٌ، ولكنّ أفراده أو أقانيمه متعددة.. وهذا ما يلزم منه تعدُّد الآلهة، بل يعني بنفسه تعدُّد الآلهة، وإن لم يقولوا به بل نفوه صراحة.
بعبارة ثانية: أحمدُ إنسانٌ، وحَسَنُ إنسانٌ، وحسينُ إنسانٌ، لكلِّ واحدٍ منهم طبيعة بشريّة، وهذه الطبيعة البشرية واحدةٌ في الثلاثة، فلا يقال أن لديهم ثلاث طبائع مختلفة، بل هي طبيعةٌ واحدةٌ لها ثلاثة مصاديق هم: أحمد وحسن وحسين.
بخلاف ما لو ضممنا سمكةً وطيراً للإنسان، فتصبح الطبائعُ ثلاثة، طبيعة الإنسان وطبيعة الطير وطبيعة السمكة، فهذه ثلاث طبائع مختلفة وثلاث أفراد مختلفين.
ههنا يقول أن الطبيعة الإلهية واحدة لا تعدُّد فيها، فليس هناك آلهة متعددة الطبائع، والإله واحدٌ من حيث انتمائه إلى الطبيعة الإلهيّة الواحدة لا من حيث أفراده.
أما من حيث أفراده أو أشخاصه أو أقانيمه فهم ثلاثة، رغم ذلك هو إله واحد! فهو التناقض مجدداً!
يقول الاب صفرونيوس:
كلمة أقنوم.. تعني:
أولاً: ما هو كائنٌ، وله وجودٌ حقيقي.
ثانياً: كما تعني، الكائن الذي نُدرك وجودَه وحياته من خلال علاقته بغيره الذي يشاركه ذات الطبيعة.
فعلى سبيل المثال: بطرس ويوحنا ويعقوب وبولس أربعة أشخاص.. كل منهم له أقنوم خاصٌّ به، هو الكيان أو الشخص الذي يحمل الإسم الخاص به، ولكن بطرس ويوحنا ويعقوب وبولس يشتركون معاً في طبيعة واحدة، هي الطبيعة الإنسانية، أي الانتماء إلى الجنس البشري الذي له طبيعة واحدة هي الطبيعة الإنسانية.. نقول إن بطرس هو أقنومٌ متمايزٌ عن يوحنا بما له من صفات إنسانيّة خاصة.. ولكن رغم تمايزهما إلا أن كليهما إنسان.
وعلى نفس القياس -مع الفارق- نقول إن الإبن هو أقنومٌ إلهيٌّ يتمايز بصفةٍ واحدةٍ هي البنوّة، وإنّه إلهٌ، لأنّه مثل الآب في كل شيء، وله كلُّ صفات الآب، وأعلن لنا ألوهيّته كإبن، لكي ندرك من بنوّته أنه متمايزٌ عن الآب، وكذلك الروح القدس.. والآب له صفة الأبوّة، فهو أقنوم الأبوّة في جوهر اللاهوت، وهو الذي به يقوم الجوهر الإلهي كمصدر(11).
ويقول أيضاً: جوهر الثالوث هو أقنوم الآب الذي منه يولد الإبن أزلياً، ومنه ينبثق الروح القدس، ويصبح للإبن كل صفات وقدرات الآب ما عدا الأبوّة، وللروح كل صفات وقدرات الآب ما عدا الأبوّة، وهكذا يصبح للآب كل صفات وقدرات الإبن ما عدا البنوة، وكل صفات وقدرات الروح ما عدا الانبثاق(12).
ههنا صار جوهر الثالوث هو أقنومُ الآب، وإذا كان جوهر الآب هو جوهر الابن، ولكن الآب قد وَلَدَ الإبن، فلا بدّ أن يكون الابنُ مُحتاجاً للآب، تماما كما لو قلنا بأن جوهر الإنسان مشتركٌ بين الوالد وولده، لكنّ الوالد يكون سبباً في إيجاد الولد، ولولاه لم يكن ليوجد، فهو محتاجٌ في أصل وجوده إليه ولو على نحو السببيّة الظاهرية، فكيف يكون الابن إلهاً كاملاً كالآب؟
وما ذكره الاب صفرونيوس من وحدة الطبيعة الإنسانيّة التي يشترك بها أفراد الأسرة، خالفه فيه تماماً القسّ منسَّى يوحنا حين قال أنّ أفراد العائلة يتمتعون بثلاث طبائع! فأين هي الطبيعة الإنسانية المشتركة إذاً؟
يقول القسّ منسَّى يوحنا: غير أنَّ الفرق عظيم بين الأشخاص المخلوقين والأشخاص غير المخلوقين؛ فالأشخاص المخلوقين ترى لكُلٍّ منهم طبيعةً مُختصَّةً به، وبها ينفرد عن غيره تمام الانفراد. ففي العائلة مثلاً الأب والأم والولد ثلاثة أشخاص لكُلّ منهم طبيعة بشرية يُدعى معها إنساناً ويمتاز بها عن غيره، وهم ثلاثة أشخاص بثلاث طبائع. وإنَّما في الله ثلاثة أقانيم أو أشخاص؛ أبٌ وابنٌ وروحٌ قُدُس. وليس لهم، يا للعجب، إلا طبيعة واحدة، فإنَّهم ثلاثة أشخاص في طبيعة واحدة. فيا له من سِرٍّ عميق، والأغرب من ذلك أنَّه مع كونهم ثلاثتهم ذوي طبيعة واحدة، ترى كُلًّا منهم مُنفرداً عن الآخر كاملاً بذاته يتكلم باسمه، فيقول الآب: «أنا خلقت العالم» ويقول الابن: «أنا فديت العالم» ويقول الرُّوح القُدُس: «أنا قدَّست العالم»(13).
فهو يقول أنّ أفراد العائلة الثلاثة لهم ثلاث طبائع مختلفة وليست طبيعة بشرية واحدة! أي أن الطبيعة البشرية تختلف من فرد لفرد، بينما لا تختلف الطبيعة الإلهية بين الآب والابن والروح القدس، وهذا سرٌّ عميقٌ عنده ويستدعي العجب لديه!
وما يستحق العجب فعلاً هو الخبط في كلمات الآباء والقساوسة في فهم حقيقة الطبيعة الواحدة في الإنسان، فضلاً عن فهمها في الله تعالى.
إذا كان الثلاثة من جوهرٍ واحد، فهل هناك تمايُزٌ بينهم؟ وهل هناك تقدُّمٌ لأحدهم على الآخر؟
يجيب كوستي بندلي فيقول: فالواحد ليس قبل الثاني في الزمن، ولكن إذا صح التعبير، يمكننا أن نقول أن الآب هو قبل الإبن ليس بالزمان ولكن بالنُّطق، أي بالتسلسل، بتسلسلٍ غير زمني.. لكن نعود فنقول أنّه مذ كان الآب في الأزل كان ابنُه معه وكان روحُه معه. فإذاً ليس بينهم انفصال ولا فجوة ولا بُعدٌ، ولكن في نفس الوقت الواحد ليس الآخر. الآب ليس الابن، الابن ليس الروح القدس، الروح القدُس ليس الآب.
هناك تمايُزٌ.. بينهم، تمايُزٌ بلا أفضليّة.. يعني.. أن الواحد غير الثاني.. الآبُ لا يمكن أن يكون الابن، ولا الابنُ الروحَ القدس، ولا الروحُ القدس الآبَ، العلاقة بينهم علاقة الصدور. الإبن صدر عن الآب والروح القدس صدر عن الآب، الإبن بالولادة والروح بالإنبثاق، وما يجمعهم هو الجوهر الواحد. أي أن كل ما بينهم مشتركٌ ما عدا صفاتٍ تخص الأقنومية.. الملوكية واحدة أو الربوبية واحدة.. والخالقية واحدة أي أن الثلاثة اشتركوا في خلق العالم، كل هذه العبارات تأتي تحت كلمة الربوبية. الربوبية، الأزلية، الأبدية(14).
هو إذاً تقدّمٌ رُتبيٌّ بين الثلاثة، فلم تكن هناك مرحلة وُجِدَ فيها الآب بدون الابن والروح القدس، وهم ثلاثةٌ حقيقةً! لأنّ الآب ليس الابن ولا الروح القدس، ورغم كون العلاقة بينهم هي الصدور والانبثاق، بحيث صدر الابنُ عن الآب، إلا أنه لا أفضلية!
كيف يكون ذلك؟ كيف يكون أحدهم صادراً من الآخر ثم لا يكون هناك أفضلية؟! هذا سرٌّ عميق!
ثم كيف يشترك الثلاثة في خلق العالم، ثم يكون الخالق واحداً؟ وكيف يشترك الثلاثة في صفات الألوهية؟ ثم يكون الإله واحداً؟ إنهم يرونه سرّاً عميقاً لا يمكن إدراكه! ونراه تناقضاً بيّناً لا يمكن قبوله.
يقول الاب فاضل سيداروس: إن الآب والابن هما في ما بينهما في علاقة (الغيرية)، أي الواحد تجاه الآخر، الواحد أمام الآخر، الواحد مقابل الآخر. فالواحد هو في خارج الآخر ومتمايزٌ عنه، والواحد يخرج نحو الآخر ويتّجه نحوه ويَهَبُ له ذاته، والواحد يُحِّبُّ الآخر ويتحاور معه، والواحد يَقتَبِلُ من الآخر ويبادله. فمثلما يخرج المولود من أحشاء أمه، يخرج الابن من الآب أمامه ومقابلاً له(15).
ما أصرح هذا الكلام في المغايرة بين الآب والابن والروح القدس، وما أوضحه في الدلالة على كيفية خروج أحدهم من الآخر، ولو على سبيل التشبيه، فإنّ الابن قد خرج من الآب وصار مقابلاً له ويتحاور معه، فكلٌّ منهم غير الآخر.
نقول: اتضح لنا ذلك، إذاً هم آلهة ثلاثة.
يقولون: كلا! ليس الأمر كذلك! إنّه إلهٌ واحد! ولا تسعوا خلف إدراك ذلك فهذا يفوق العقول!
يقول القديس أثناسيوس عن الآب والابن: هما اثنان، لأن الآب هو آب وليس ابناً أيضاً، وكما ان الابن هو ابن وليس آباً أيضاً، لكن الطبيعة هي واحدةٌ، وكلُّ ما للآب هو للابن.. فالابن والآب هما واحد في ذاتيّة وخصوصيّة الطبيعة، ولهما نفس اللاهوت الواحد.
فلاهوتُ الابن هو نفسه الذي للآب، ومن هنا أيضاً هو غير قابل للتجزئة، ولهذا فإنه يوجد إلهٌ واحدٌ وليس آخر سواه، وبما أنهما (أي الآب والابن) واحدٌ، وبما أن اللاهوت نفسه هو واحدٌ، فكل ما يقال عن الآب يقال عن الابن ما عدا كونه يُدعى آب(16).
نقول: بما أنهما اثنان حقيقة، لأنّ كلَّ واحدٍ ليس الآخر، وبما أن الآب ليس الابن، فلا يخلو الأمر من احتمالات ثلاثة:
1. إما أن يكون الإلهُ واحداً مُرَكباً من الآب والابن، وهذا ما يرفضه النصارى ويقولون بأن الإله غير مركب لاحتياج المركب إلى أجزائه.
2. وإما أن يكون كل من الآب والإبن إلهاً منفصلاً فيكون لدينا إلهان! لكنهم يقولون بأنه إلهٌ واحدٌ ليس آخر سواه!
3. وإما أن يكون الكلام متناقضاً، فهما اثنان، كلٌّ منهما إله، وكلاهما معاً إلهٌ واحد، وهذا الإله غير مركب ولا متعدد!
نعم هذا هو التناقض بعينه، وليس هذا الكلام مختصّاً بهذا القديس، يقول القديس غريغوريوس النزينزي:
اللاهوت (الله) هو واحدٌ في ثلاثة، والثلاثة هم واحد، والثلاثة فيهم اللاهوت، أو بتعبيرٍ أكثر دقة، الثلاثة هم اللاهوت (الله)(17).
وكذلك القدّيس إبيفانيوس: لا يوجد ثلاثة آلهة، بل إلهٌ واحدٌ حقيقيٌّ، لأن الابن الوحيد المولود هو واحدٌ من واحد، وواحدٌ أيضاً هو الروح القدس الذي هو واحدٌ من واحد، أي ثالوثٌ في وحدة، وهو إلهٌ واحد: آبٌ وابنٌ وروحٌ قدس(18) .
فهل هو مركبٌ من ثلاثة؟ كلا، هل هم آلهةٌ ثلاثة؟ كلا، إذاً الآب هو الابن وهو الروح القدس؟ كلا أيضاً! التناقض مجدداً، وصار الثلاثةُ واحداً! وسقطت كلُّ العلوم البشرية وتعطّلت العقول أمام هذه العقيدة!
يقول القمص سرجيوس: أعلن الله تعالى لنا في كتابه المقدس أن الأقانيم الثلاثة في ذاته الواحدة ليست صفات، ولا أسماء، بل هم ثلاثة أقانيم في ذاته الواحدة وذلك لأن:
أولاً: كل أقنوم يتخذ مظهراً خاصاً..
ثانياً: وكل أقنوم يتكلم مع الآخر أو عنه..
ثالثاً: الأقانيم يرسل أحدها الآخر ويخرج الواحد من عند الآخر ويرجع إليه..
رابعاً: يُنسب لكل أقنوم عمل خاص(19).
ويقول: بناءً على ذلك لا يمكن أن يكون هؤلاء الأقانيم صفات ولا أسماء بل هم أقانيم ثلاثة يتميّز الواحد عن الآخر من حيث الأقنومية، وإذ ذاك يكون إيماننا بالآب والابن والروح القدس ليس تعليماً بشرياً بل هو وحيُ الله المعلن في التوراة والإنجيل.. هؤلاء الأقانيم الثلاثة هم أقانيم متميزون عن بعض من جهة الأقنومية، الا أننا لا نعتقد أنهم منفصلون عن بعض كانفصال حنّا ومتى وبطرس، ولا أنه يوجد تفاوت بينهم في الزمان أو المقام او الصفات.. انما نعتقد أنهم متّحدون في الجوهر متساوون في سائر الصفات والكمالات الالهية.. هؤلاء الثلاثة هم واحدٌ وليسوا ثلاثة آلهة(20).
ولنحطّ الرحال قليلاً مع القمص سرجيوس.. لقد استشعَرَ وتلمَّسَ القمص من النقاط الأربعة التي ذكرها أن ذلك سيؤول إلى إثبات الآلهة الثلاثة، لأنّ الآب ليس هو الابن، وما يُنسَبُ له لا يُنسَبُ للابن، ولكلٍّ مظهرٌ خاصٌّ، فليس الآب هو الابن، وستكون النتيجة الطبيعية لذلك هي القول بالآلهة الثلاثة، وهو ما يناقض توحيد الكتاب المقدّس، فلجأ إلى ما عَدَّهُ المهرب والخلاص من ذلك بقوله أن هذا الاعتقاد (ليس تعليماً بشرياً)! بل وحيُ الله المعلن في الكتاب المقدس!
أما كيف يكون ذلك؟ يكتفي بأنّه لا يعتقد أن الثلاثة منفصلون كانفصال حنا ومتى وبطرس!
ولكن.. ماذا يعني أنهم غير منفصلين؟ هل يعني أنهم متمازجون معاً؟ سيوصلنا ذلك إلى القول بالتركيب ولا يقولون به.
أم يعني أنهم ثلاثةٌ وواحدٌ في نفس الوقت بما لا يمكن أن ندركه؟
نحن نزعم أن هذا مستحيلٌ، أن يكون الثلاثة في الحقيقة واحداً في الحقيقة، كله من نفس الجهة وفي نفس الوقت ومن نفس اللّحاظ، إنه أمرٌ يحكم العقل باستحالته، لكنّه يقول به لزعمه أنه عقيدة الكتاب المقدس!
يحاول الراهب القمص فليمون الأنبا بيشوى حل الإشكال المتقدم بأسلوب مختلف، حيث يذهب إلى أن الاختلافات بين الآب والابن هي تعبيراتٌ بشريّة، وعليه فعندما نقول أنّ الآب يخاطب الابن فهو لا يخاطبه بالحقيقة كما يخاطب أحدنا الآخر، وإنما عبّرنا من ضيق الخناق بالتعبيرات البشرية، دون أن يكون في ذلك أيّ تركيبٍ في الله تعالى ولا أجزاء ولا انفصال.
يقول: حينما نقول أن: الآب يخاطب الابن، او الإبن يخاطب الآب، أو الآب يرسل الابن، نقول إنها تعبيراتٌ بشريّة، ولا نعني بها إطلاقاً أنّ هناك انفصال بين الأقانيم.. فالله ليس فيه انفصالٌ ولا أجزاء، لأنّه: روحٌ بسيط.. إنما نعني: تمايُزَ الأقانيم.. إظهار الأقانيم للبشر. وأنّه لا يوجد تضادٌّ في عمل الثالوث ولا ثنائيّة في العمل.. إنما هم واحدٌ في الجوهر.. كلُّ شيء بالآب في الإبن في الروح القدس(21).
هل نتخلص بهذا من الإشكال فعلاً؟ نعم يمكن ذلك لو قلنا بأن الاعتقاد بكون الخطاب بين الآب والابن هو تعبيرٌ مجازي، على أن يترتب على ذلك القول بعدم التمايُزِ حقيقةً بين الآب والابن، فيكون الآبُ هو الابنُ وهو الروحُ القدس، وتكون هذه الألأفاظ الثلاثة (آب وابن وروحٌ قدس) تعبيراتٌ مختلفةٌ عن شيءٍ واحد، كما لو قلنا بأن الله تعالى هو الخالق وهو الرازق وهو المنتقم، فهي صفاتٌ ثلاثة تدلُّ على إلهٍ واحد، وليس لكلّ اسم من هذه الأسماء الثلاثة وجودٌ حقيقيٌّ مقابلَ وجود الله تعالى، ولا خطاب حقيقي بينها.
فلو كان هذا هو مراد القمص، لأمكن حلّ الإشكال، لكنه لا يريد هذا المعنى قطعاً، بل يُصِرُّ كما هي عقيدة النصارى على أنّ الآب ليس الابن، والابن ليس الآب، ولا هما الروح القدس! فرجع الإشكال من الباب الواسع، حيث يُثبِتُ وجود ثلاثة أقانيم أو أشخاص متمايزة، لكلٍّ منها صفات الألوهية، فيقول: تمايز الأقانيم ليس بمعنى امتياز واحد عن الآخر، إنما تمييزهم عن بعض.. الآب ليس هو الإبن. الإبن ليس هو الآب. الروح القدس ليس هو الآب أو الابن. إنما هم جوهرٌ واحد: فأقنوم الآب هو الآب، والإبن هو الإبن، والروح هو الروح. أنا والآب واحد.. ليس معناهاً أن أقنوم الآب وأقنوم الإبن أقنومٌ واحد.. بل هما أقنومان متمايزان، فَهُما اثنان في الأقانيم وواحدٌ في الجوهر.. لأنّ جوهر الله واحد، لذا: لا انفصال في الأقانيم.. ولا افتراق ولا تشويش.. ولا اختلاط(22).
لا انفصال ولا افتراق! ولا وحدة بينهما في غير الجوهر! إذاً هم ثلاثة آلهة! يقول: كلا ليسوا ثلاثة آلهة!
يقف العقلُ عاجزاً عن فهم كلماتهم، هل يا ترى فهموا أنفسهم معنى هذا الكلام؟ تابع معنا أيها القارئ الفَطِنُ لترى.
يقول الشماس اسبيرو جبّور: في اللاهوت، الأقنوم يمتلك الجوهر. الألوهة الواحدة موجودةٌ برمّتها في كلٍّ من أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس. النبرة لدى الآباء موضوعة على الوجود الشخصي للأقانيم.. الأقانيم الثلاثة يملكون الجوهر الواحد بالتمام. هو ملك كلٍّ من الأقانيم ملكاً تاماً. هو غير منقسم بينهم. هو لا يتجزأ. هم ثلاثة أما هو فواحد(23).
إذا كانت الألوهة برمّتها موجودة في كلّ أقنوم، فهذا يعني أن كلَّ واحد منها إلهٌ، وهم ثلاثة، فيكون الآلهة ثلاثة. ولا يقبلون بذلك!
مع أن هذا هو الفهم الطبيعي العقلائي لمثل هذه الكلمات، إذ كيف يملك كلُّ واحدٍ منهم الجوهر بتمامه، دون أن ينقسم ولا يتجزأ، ثم يكون كلُّ واحدٍ منهم غير الآخر، ثم يكون الثلاثة واحداً؟!
وأدلُّ دليلٍ على الاختلاف هو تجسُّدُ أحدهم دون البقية، وكون أحدهم مصدراً للبقية.
ثم كيف يجتمع ذلك مع كون الجوهر بتمامه محفوظاً في كل منهم؟!
يقول القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس: في الثالوث المسيحي الأقانيم داخل الله الواحد متساوية في كل شيء، فهي متساوية في الصفات، الآب يساوي الابن، ويساوي الروح القدس(24).
ويقول: الأقانيم الثلاثة هم واحد في الجوهر، لهم علمٌ واحدٌ ومشيئةٌ واحدة وقوّة واحدة، فليس في اللاهوت ثلاثة عقول أو ثلاث مشيئات أو ثلاثة مصادر للقوة، فلقد قال السيد المسيح: لأن مهما عمل ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك(25).
ويُنقَضُ عليه بأنّه كيف يكون أحدهم علّةً للآخر ومصدراً لعلومه ثم يكون مساوياً له في الصفات؟ فإذا كان أحدهما قد صدر عن الآخر فالصادر مُحتاجٌ إلى من يصدر عنه، والصادر عنه غير محتاج، فيكون الأول قويّاً غنيّاً والثاني محتاجاً مفتَقِراً، كما نصّ على ذلك عيسى (عليه السلام) وقال أنّ كلّ ما عنده من الله.
فكيف تكون القوّة واحدةً؟ وقوّة أحدهما مستمدَّةٌ من الآخر؟
نحاول أن نتبيّن عقيدة القديس أثناسيوس بطل الثالوث مما ينقله عنه الكُتّابُ النصارى فضلاً عما نقلنا عنه في كتبه، فيقول حول عقيدته توماس ف. تورانس: لقد كان مفهوم أثناسيوس الأساسي أنّه بما أن كيان الابن بكامله مطابقٌ تماماً لكيان الآب، وبما أنّهما واحدٌ في ذات الطبيعة وفي ذات اللاهوت، فكلّ ما يقال عن الآب يقال عن الابن ما عدا كونه آب. وإذا كان (الابن له كل ما هو للآب) وبالحقيقة هو نفسه (الكل) الذي للآب، واذا كان الابن هو (الله بكامله وكماله)، فبالحقيقة يكون هو أيضاً بالتأكيد أصل أو مبدأ الوجود مع الآب.. فالآب والابن والروح القدس هم واحدٌ بلا انقسام، وهم أزلياً في تواجد (احتواء) متبادل، كلٌّ منهم في الآخر، بكونهم الثالوث القدوس المبارك، ولكن هم (لاهوت واحد ورئاسة واحدة) أي أن الله مثلث الأقانيم، الثالوث غير المنقسم، هو وحده الرأس أو المبدأ المطلَق لكل الأشياء.. فكلّ أقنوم هو الله بأكمله، وكل أقنوم هو (كل ما هو الله منذ الأزل)(26).
كلُّ أقنومٍ هو الله بأكمله، والأقانيم ثلاثة، والثلاثة هم واحدٌ بلا انقسامٍ ولا تركيب!
هنا يتوقف القلم قليلاً.. يراجع الفكرُ حساباته، هل يمكن أن نقبل مثل هذه الكلمات؟! هل هي شطحاتٌ أم نكاتٌ يلقيها هؤلاء العلماء؟ أم أنها عقيدةٌ ربّانيّةٌ عميقةٌ لا يمكن للعقل أن يدركها؟!
نستذكر كلمات الكتاب المقدس حول أهميّة الحليب العقلي كما وردت في مقدمة الكتاب.. لنرى أن الاعتماد على الكتاب المقدّس يُحَتِّمُ علينا مراجعة العقل في أمهات المسائل الاعتقادية، فنرى أنّ العقل يقول بتناقض هذه العقيدة، فكيف يكون الواحدُ حقيقةً ثلاثة حقيقة؟! ولو سقط العقل لسقطت معه كل الحجج والبراهين المنطقية.
ينقل القمص سرجيوس عن ابن العسّال قوله: العلَّةُ في قولنا ان الله ثلاثة أقانيم هي أن الانجيل المقدس نطق بذلك، وكل من يعتقد من النصارى أن الاقانيم المذكورة ثلاثةُ آلهة مختلفة او متّفقة او ثلاثة أجزاء مبضعة، أو ثلاثة أشخاص متفرقة، او ثلاثة قوى مركبة، او غير ذلك مما يقتضي التشبيه والتجزئ والتبعيض وغير ذلك.. فهو كافر (27).
غريبٌ جداً هذا الكلام.
لقد تصفحنا الكتاب المقدس من أوّله إلى آخره فلم نجد فيه أيّ دليل صريح على الأقانيم الثلاثة! فكيف يلتزم النصارى بعقيدةٍ غير مفهومة يناقضُ أولها آخرها؟ ثم ينسبها ابن العسّال وغيره الى الكتاب المقدَّس؟
كيف لنا أن نقول بأن الأقانيم ثلاثةٌ ولكلٍّ منها صفاتُ الإله ثم إن قلنا أنّهم آلهةٌ ثلاثة صرنا كفاراً؟!
لا تشبيه ولا تجزئة ولا تبعيض ولا تركيب، ولا تفرقة بين الثلاثة.
فهو كيانٌ بسيطٌ لأنه غير مركب، ومع بساطته له ثلاثة أقانيم أو أشخاص، وبين الأشخاص تمايُزٌ، فكلٌّ منها غير الآخر، ولكن من قال أنّهم ثلاثة متفرقة فهو كافر!
لم يعد مفهوماً ما يريد ابن العسال قوله ولا قومه! فهل فهموا هم ذلك؟ لنتابع معهم ونرى.
في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الذي أمر بنشره البابا يوحنا بولس الثاني بحكم سلطته الرسولية: الثالوث واحدٌ. إننا لا نعترف بثلاثة آلهة، بل بإلهٍ واحدٍ بثلاثة أقانيم: ..فالأقانيم الإلهيّة لا يتقاسمون الألوهة الواحدة ولكن كلَّ واحد منهم هو الله كاملا: الآبُ هو ذات ما هو الابن، والابنُ هو ذات ما هو الآب، والآب والابن هما ذات ما هو الروح القدس، أي إلهٌ واحدٌ بالطبيعة. كلُّ أقنومٍ من الأقانيم الثلاثة هو هذه الحقيقة أي الجوهر، والإنيّة أو الطبيعة الإلهية(28).
وفيه: الأقانيم الإلهية متميزون تميُّزاً حقيقياً في ما بينهم: الله واحد ولكنه غير متوحِّد.. إنهم متميّزون تميُّزاً حقيقياً في ما بينهم: الذي هو الابن ليس الآب، والذي هو الآب ليس الابن، ولا الروح القدس هو الآب أو الابن(29).
لم تنقسم الألوهة الواحدة بينهم، أي أن القدرات الإلهية ليست منقسمة بين الثلاثة، كَأَن يُقال بأنّ الأوّل يخلق والثاني يرزق والثالث يعاقب، بل كلُّ واحدٍ منهم يتمتع بكلّ صفات الألوهيّة الكاملة، لذا قالوا أن (كلَّ واحد منهم هو الله كاملاً).
إذاً الآبُ هو الله، والابنُ هو الله، والروحُ القدس هو الله.
وبما أن الآب ليس الابن، والابن ليس الروح القدس، صار عندنا ثلاثةٌ يطلق على كلٍّ منهم أنه الله، فصار عندنا ثلاثة آلهة.
يقولون: كلا! ليسوا ثلاثة آلهة، إنما إلهٌ واحدٌ بسيطٌ غير مركب وغير متجزئ!
عدنا إلى حالة الضياع نفسها.
وهي تظهر جليةً في كثيرٍ من كلماتهم، وإن عدُّوها واحدةً من أقوى محاولاتهم في الدفاع عن عقيدتهم، يقول عوض سمعان: إنّنا لا نؤمن أنّ الآب إله، والابن إله، والروح القدس إله، حتى يصح الاعتراض بأننا نؤمن بثلاثة آلهة. بل نؤمن أن الآب هو الله والابن هو الله والروح القدس هو الله. ولا مجال للاعتراض على ذلك إطلاقاً، لأنّه بما أن جوهر الآب (وهو اللاهوت) هو نفسه جوهر الابن وهو نفسه جوهر الروح القدس، وبما أن اللاهوت أو الله واحدٌ ووحيدٌ ولا يتجزأ أو يتفكك على الإطلاق، إذاً فلا غبار على القول إن كلاً منهم هو الله وإنهم معاً هم الله(30).
فكيف يكون كل واحد منهم هو الله دون أن يكون إلهاً؟ أليس عيسى هو الله؟ والله هو الإله؟ والروح هو الله؟ والله هو الإله؟
ههنا يَعثُرُ العقل معهم، إن ما يقولونه مما لا يقبله العقل بوجه، فما موقفنا منه؟ لنتابع معهم.
يقول القديس توما الأكويني: لا بد من اثبات المساواة في الاقانيم الالهية، لأنّ المساواة تُقال بنفي الأكثر والأقل.. لو لم يكن في الاقانيم الالهيّة مساواةٌ لما كان لها ذاتٌ واحدة، فلم تكن الأقانيم الثلاثة إلهاً واحداً وهذا محال. فإذاً لا بد من اثبات المساواة في الاقانيم الالهية(31).
ويقول: الذات الالهية ليست ذات الآب بأكثر مما هي ذات الابن. فاذاً كما ان الابن حاصلٌ على عظمة الآب وهو معنى كونه مساوياً للآب، كذلك الآب حاصل على عظمة الابن وهو معنى كونه مساوياً للابن(32).
معنى المساواة هنا هو المساواة في الجوهر، وبالتالي فلا تنافي في كلماتهم عند قولهم أنّ الاب مساوٍ للابن، وأنّه غيره، فهو مساو له في الجوهر، وهو غيره في الأقنوم اي الشخص.
وعليه يرجع الامر للآلهة الثلاثة، ولا يقولون به! إنه التناقض مجدداً.
تقدّم في كلام جملة من علماء النصارى التصريحُ بأن الأقنوم هو الشخص، ما يعني أن هناك ثلاثة أقانيم أو أشخاص كلُّ واحدٍ منهم هو الله، وهذا يعني تعدُّد الآلهة، ولا يقولون به! فهل اتفقت كلمتهم على ذلك؟
يُلاحظ أن للنصارى مذاهب في تحديد المراد من الأقنوم، ومن أقوالهم في ذلك:
تقدمت بعض كلماتهم في ذلك، ومنها أيضاً ما ورد في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: واللفظة (شخص) أو (أقنوم) للدلالة على الآب، والابن، والروح القدس في التمييز الحقيقي في ما بينهم(33).
وهذا اعترافٌ من أعلى سلطة كنسية كاثوليكية معاصرة بإشراف البابا يوحنا بولس الثاني باستعمال الشخص او الأقنوم للدلالة على واحد من الثلاثة. فيصير الله ثلاثة أشخاص أو ثلاثة أقانيم. مع كونه إلهاً واحداً!
وقال المطران يوحنا زيزيولاس: الحقيقة الأساسية وهي أن الكائن = الشخص = الأقنوم(34).
وقال القمص سرجيوس: الاقنوم كلمة يونانية الأصل، معناها الوضعي يقرب من معنى كلمة شخص(35).
يقول الأب هنري بولاد اليسوعي: إن كلمة (أقنوم) تعنى (شخصاً). فنقول إنَّ الآب أقنوم والابن أقنوم والروح القدس أقنوم. لماذا لا نستخدم كلمة (شخص) ونقول إن الله واحد في ثلاثة أشخاص؟ لقد رفضت الكنيسة استخدام كلمة (شخص)، لأنَّ هذه الكلمة قد توحي لبعض الناس بكائنٍ بشريّ له حدوده وشكله وملامحه. فتحاشياً لكلّ تصوّر خاطئ ولكلّ تحديدٍ للأشخاص الإلهيّة، لجأت الكنيسة إلى كلمة غير عربيّة، مصدرها سريانيّ. وقد استخدمت كلمة أقنوم في اللاهوت المسيحيّ للإشارة إلى الأشخاص الإلهيّة الثلاثة. وهي لا تُستخدم في أيّ مجال آخر غير هذا المجال(36).
ولمّا كان معنى الأقانيم الثلاثة أشخاص ثلاثة، فإنّه سيوصل إلى القول بالآلهة الثلاثة حتماً، وإن لم يقولوا به!
وهذا القول ينسجمُ مع عقيدتِهم بكون التوحيد مختصّاً بالجوهر فقط.
وكلماتُهم التي ذُكِرَ فيها ما يؤكد إرادة الشخص من الأقنوم كثيرةٌ، وهذا أبو رائطة التكريتي عندما يقارن بين جوهر الثلاثة وبين جوهر الإنسان يقول مجيباً عمن قال (فليوصف هذه الثلاثة أقانيم آلهةً ثلاثةً كنحو ما قيل عن الناس)، يقول:
إنّه وإن كانوا يُسَمّون أناساً شتى فإنما يُعنى بذلك أقانيم شتى، لا جواهر شتى، لأنّ اسم الانسان إنما هو اسم الجوهر العام، ولذلك اشترك في اسمه جميع الأقانيم، فأمّا اسم القنوم الواحد: فكعبد الله وموسى وهارون، وغير ذلك..
فإن قالوا: فإذا صار اسم الله عندكم اسم الجوهر العام، فلا ينبغي لكم أن تصفوا كل واحد منها إلهاً دون ثلاثتها..
يقال لهم: فإنّه وإن كان اسم الله اسم جوهرٍ أي اسم ثلاثتها، فقد يستحقّ كل واحد منها التسمية باسم العام، لأنّه ليس بمخالفٍ في ذاته ذاتَ غيره من الأقانيم التي هي معه جوهرٌ عام، كاسم الذهب العام لكل الذهب(37).
فقد جعل أسماء الأشخاص كعبد الله وموسى وهارون أسماء أقانيم للناس، مثلها مثل الأقانيم الثلاثة، وكونُ الآب مصداقاً من مصاديق الجوهر العام يجعله واحداً، وكون عيسى مصداقاً آخر يجعله ثانياً، والروح القدس ثالثاً، فيثبُتُ بهذا كون الآلهة ثلاثة، ولا يقولون به، وهو نموذج آخر للتناقض.
تماماً كما لو قيل بأن القطع الذهبية الثلاثة مصداقٌ لعنوان الذهب، فيصدُق على كلّ واحدةٍ منها أنّها ذهبٌ، ويصدق عليها جميعها أنّها ذهب، وتتّصف كلّها بصفات الذهب، وتكون إحداها متمايزة عن الأخرى، فهذا يُثبِتُ كونها ثلاثة على نحو الحقيقة وإن كان جوهرها واحداً، فلو زعم شخصٌ أنّها مع ذلك واحدٌ على نحو الحقيقة نسبناه إلى الحماقة والجهل، لمخالفته بديهيات العقل بجمعه بين المتناقضين.
فكيف يجتمعُ المتناقضان في باب التوحيد فيكون الله هو الآب والله هو عيسى والله هو الروح القُدُس، وفي الوقت نفسه الله واحدٌ حقيقةً؟ ما لم تكن الوحدة مختصّةً بالجوهر، والمصاديقُ متعدّدة، فيخرج حقيقةً عن كونه واحداً، ومع الالتزام بأنّه واحدٌ حقيقيةً، ومتعدِّدٌ حقيقةً لتمايز كل من الثلاثة عن الآخر وثبوت أن أحدَهم ليس هو الآخر، يكون الواحدُ مساوياً للثلاثة حقيقةً، فلا مفرّ من التناقض المخالف لحكم العقل القطعيّ!
هذا كله بناءً على القول الأوّل من أنّ الأقنوم هو الشخص.
بعدما تبيّن أن الأقنوم هو الشخص، وبعدما أوقع ذلك في مشكلة التناقض العويصة، حاول بعض الباحثين النصارى تغيير معنى الأقنوم عن الشخص، يقول عوض سمعان: الأقنوم أو القنوم كلمةٌ سريانيةٌ يطلقها السريان على كل من يتميّز عن سواه.. ولذلك فإنّه يُراد بالأقنوم (التَعَيُّن) (38).
ويقول: ليس لكلمة (أقنوم) مرادفٌ في اللغة العربية أو غيرها من اللغات يؤدي معناها تماماً، لأنّ كلمة (شخص) العربية وما يرادفها في اللغات الأخرى تدلّ على الذات المنفصلة عن غيرها، والأمر ليس كذلك من جهة كلمة أقنوم(39).
نقول: لو سلّمنا أنّ هذه الكلمة لا مرادف لها في اللغة العربية ولا في غيرها من اللغات، إلا أن هذا لا يمنع من توضيح المراد منها ولو بجملة، أو فقرة أو حتى كتاب!
فنسير معهم لمحاولة فهم المراد من هذا التعيُّن، هل التعيُّن هو (التَشَخُّص)؟ هل يراد من التعيُّن التحقُّق في الواقع؟ أم في الذهن؟ أم يمكن أن يكون التعيُّن في الحيثية والجهة؟
لا شكّ أنّ التعيُّن مع القول بأن كُلّ واحد من الأقانيم ليس هو الآخر سيؤدي إلى القول بالاختلاف بينها ولو لم يُرَد من الأقانيم الأشخاص، لأنه إن كان الآب ليس الابن فإنّ تعيُّن الآب مختلفٌ عن تعيُّن الابن، وإلا صار الآب والابن واحداً والأمر ليس كذلك عندهم.
وإذا سُئِلَ عوض سمعان عن الفرق بين الأقنوم والشخص، لكي يتضح مراده فلا تُحَمَّل كلماته ما لا تحتمل، يجيب سمعان قائلاً:
كلمة (الأقانيم) تختلف عن كلمة (الأشخاص) من ناحيتين رئيسيتين:
1. الأشخاص هم الذوات المنفصل أحدهم عن الآخر، أما الأقانيم فهم ذات واحدة هي ذات الله.
2. إن الأشخاص وإن كانوا يشتركون في الطبيعة الواحدة، إلا أنه ليس لأحدهم ذات خصائص أو صفات أو مميزات الآخر. أما الأقانيم فمع تميّز أحدهم عن الآخر في الأقنوميّة، هم واحدٌ في الجوهر بكل صفاته وخصائصه ومميّزاته، لأنّهم ذات الله الواحد. فالأقانيم في المسيحية هم تَعَيُّنات اللاهوت، أو تَعَيُّن اللاهوت الخاص، أو هم اللاهوت مُعَيّناً، فإنّ جوهر الله هو عين تعيُّنِه، وهم تعيُّنُه أو إياه معيّناً، لأن الأقانيم ليسوا تعينات في الله، بل هو ذات الله أو بالحريّ هم عين ذاته (لأنه تعالى لا تركيب فيه)، لذلك لا يقال إن الأقانيم في الله، أو إن الله يشتمل على الأقانيم، بل يقال إن الأقانيم هم الله، والله هو الأقانيم.. الأقانيم ليسوا ذواتٍ منفصلة، بل هم ذاتٌ واحدة، هي ذات الله(40).
فهو يقول أنّ الناس وان اشتركوا في الطبيعة البشرية، إلا أن خصائصهم مختلفة، فليست خصائص البشر سواءً من الناحية الجسدية والعقلية والنفسية وغيرها، أما خصائص وصفات وميِّزات الأقانيم الثلاثة فهي متساوية، وعليه: فإن الفارق ليس في عدم الامتياز، وإلا لكان الثلاثة قد صاروا واحدا، إنما الفارق في أنّهم مع امتيازهم تكون خصائصهم واحدة.
وعند مناقشة مثل هذه المعتقدات، بل عند كلّ حديث عن الله سبحانه وتعالى، ينبغي أن نُنَزِّه ألسنتنا، فلا نشبّه الله تعالى بمخلوقاته.
لذا لن يكون بمقدورنا المقارنة بين الخالق جلّ وعلا وبين مخلوقاته، بل نقارن بين نموذين مختلفين من الأدوات المادية التي نستعملها، تتّحدُ في الخصائص في نموذجٍ وتختلف في آخر.
أما الخصائص المختلفة، فمثلاً: لدينا ثلاث سيارات من شركات مختلفة، كلّها تشترك في كونها وسائل نقلٍ تنقل الإنسان من مكان لآخر، لكنها تختلف في جودتها وسرعتها وقدرتها على السير في الأماكن الوعرة وغير ذلك.
ولدينا ثلاثة كرات قَدَمٍ صُنعت في معملٍ واحدٍ من مادةٍ واحدة، لا تختلف في الجوهر ولا في الخصائص والميزات.
في المثال الأول لا فرق في الجوهر، إنما يُلاحَظُ الفرق في الخصائص والميّزات.
أما في المثال الثاني، فلا فرق في الجوهر ولا في الخصائص والميزات، ولا تَعَدُّد إلا في التَعَيُّنات أ والتشخّصات.
ولكن في المثالين معاً، هناك مصاديق ثلاثة مختلفة ومنفصلة ومتباينة ومتمايزة، وان اشتركت في الجوهر والخصائص، أو اشتركت في الجوهر وافترقت في الخصائص.
فلو سرنا مع سمعان في ما فرّق به بين الأقنوم والشخص، لوجدناه (على فرض صحة كل كلامه) كحال المثال الذي مثّلنا به تماماً، فإنّ وحدة الجوهر بين الأقانيم الثلاثة لا تنفي تعدُّد الأشخاص لتعدّد التعيّنات، ولو لم يكن هناك اختلافٌ في الخصائص.
وعليه حتى لو كان المراد من الأقنوم هو التعيُّن وليس الشخص، سيوصلنا ذلك إلى تعدُّد الأشخاص، ومن ثمّ تَعَدُّد الآلهة، ولا يقولون به! إنه التناقض نفسه.
وهذا ليس قول سمعان وحده، بل شاركه فيه عددٌ من علماء النصارى، منهم هلال أمين في بداية شرحه لانجيل يوحنا بعد اعترافه بأن المقابل للأقنوم هو (شخص)، حيث قال: وكلمة "أقنوم" كلمةٌ سريانية يقابلها في العربية كلمة "شخص"، وقد استعملت الكلمة السريانية بدل العربية لأن كلمة "شخص" تفيد الشخصيّة المتميزة المنفصلة، ولكن كلمة أقنوم تفيد الشخصية المتميزة المتحدة، ولذلك فهي أقرب كلمة للتعبير عن أقانيم الله الثلاثة.
ويقول وليم ماكدونالد في نفس المورد من شرحه: يُعَلِّم الكتاب المقدس بوجود إلهٍ واحدٍ وثلاثة أقانيم في اللاهوت: الآب والابن والروح القدس. فكُلٌّ من هذه الأقانيم الثلاثة هو الله؛ والله هو كُلُّها.. ويطالعنا هنا الإعلان الأول من جملة عدّة إعلانات أخرى واضحة في هذا الإنجيل بأنَّ يسوع المسيح هو الله. لذلك لا يكفي القول إنه كان إلهاً، ولا إنه كان ”على شبه الله“، ولا الزعم بأنَّه يحمل سماتٍ إلهية. فالكتاب المقدس يعلِّم عنه صراحة بأنه الله. (انتهى).
فلم يرتفع إشكالُ التناقض على هذا المبنى أيضاً، ولا ينفع الالتزام بأنّ هذه الأقانيم (متميّزة متّحدة)، لأنّ الاتحاد في قولهم (الشخصية المتمايزة المتّحدة) هو في الجوهر فقط، والتمايُزُ ثابتٌ بمعنى أنّ كلّ واحدٍ منها ليس الآخر، وعلى هذا فإشكالُ التناقض باقٍ.
في محاولةٍ ثالثة للتخلُّص من الإشكال، ذهب بعضهم إلى أن الأقانيم الثلاثة هي خواص ذاتية، أو صفات ذاتية في الله تعالى.
ولعلّه إليه يشير ما ورد في مقدمة ترجمة ابن العسّال للأناجيل الأربعة: ونقدّس اسمه الكريم تقديساً واجباً، لما أطلعنا عليه من أسرار الإيمان، وتوحيد جوهره وذاته، وتثليث أقانيمه وصفاته(41). وفي مقدمة إنجيل لوقا: بسم الواحد بالذات، المثلّث بالصفات(42)، وفي مقدمة إنجيل يوحنا: بسم الإله الواحد بالذات المثلث الصفات(43).
يقول القمص إبراهيم لوقا: لأن وقوع القسمة في الروحيّ البسيط منفيٌّ منطقياً.. إنما تكون هذه القسمة في الخواص الإلهية، التي هي صفات الآب والابن والروح القدس. فوجوده عبارة عن صفة الأبوّة، ونطقه عبارة عن صفة البنوّة، وحياته عبارة عن صفة الانبثاق(44).
ويقول الشماس الإكليريكي د. سامح حلمي: الأقنوم كلمةٌ سريانية.. تعني حرفياً تحت الكيان، أو ما يقوم عليه الكيان الإلهي، فكلمة أقنوم تعني خاصيّة أو صفة ذاتيّة في الله تقوم عليها الذات الإلهية، وبدونها ينعدِمُ قيامها.. ان الاقانيم الثلاثة ليست أجزاء أو أقساماً في الجوهر الإلهي الواحد، لأن لله جوهراً بسيطاً لا يقبل التجزئة أو التقسيم، وإنما الأقانيم الثلاثة هي خاصياتٌ أو صفاتٌ ذاتيةٌ لازمةٌ لقيام الذات الإلهية(45).
ثم يقول:
أ. الله الآب: خاصية الوجود.. هذه الخاصية الذاتية (الوجود) هي أقنوم الآب.. فالآب هو الله من حيث هو أصل الوجود.
ب. الله الابن: خاصية العقل والمعرفة.. هذه الخاصية الذاتية (العقل والمعرفة) هي أقنوم الابن او الكلمة.
ج. الله الروح القدس: خاصية الحياة.. هذه الخاصية الذاتية (الحياة) هي أقنوم الروح القدس، لأن الروح هو الحياة.
هذه الأقانيم الثلاثة متمايزةٌ في الخاصية فقط، لكن لها طبيعة واحدة وجوهر واحد، فخاصية الوجود غير خاصية النطق غير خاصية الحياة، ورغم ذلك فالأقانيم الثلاثة متساوية في جميع الكمالات والألقاب الإلهية(46).
وهو لم يخترع هذا القول بنفسه، بل نقله عن غريغوريوس الثيئولوغوس 329-390 م حيث ينقل قوله: إذا نظرنا إلى الذات الإلهية نفسها باعتبار معنى الأبوّة كان أقنوم الآب هو الإله، وإذا نظرنا إلى هذه الذات بعينها باعتبار معنى النطق كان أقنوم الابن هو الإله، وإذا نظرنا إلى هذه الذات المشار إليها نفسها بمعنى الحياة كان أقنوم الروح القدس هو الإله، فكلُّ واحدٍ من الخواص الثلاث أعني الأقانيم الثلاثة هو الله، ولا يلزمنا القول بثلاثة آلهة إذا كانت الذات واحدة(47).
ولو كان مرادهم هو القول بأن صفات الله الذاتية هي ثلاثة: الوجود والعلم والحياة مثلاً، فيكون الله تعالى واحداً، وصفاته عين ذاته، لئلا يتعدد القديم، لصحّ الكلام، وهو ما نقوله في الله تعالى من أن صفاته ما لم تكن صفات فعلٍ (كالخلق والرزق والإحياء والإماتة) تقبل الفعل والعدم، فهي صفاتُ ذاتٍ بمعنى أنه سميع من حيث هو بصير من هو عليم، دون أن يكون العلم والسمع مبايناً لذاته.. وهو ما سيأتي بيانه في الفصل التالي بإذن الله.
لكن يلاحظ على هذا القول:
أولاً: أن كون الصفات ذاتيّة لله تعالى لا ينسجمُ مع القول بتمايز الأقانيم، وبأنّ كل واحدٍ منها سوى الآخر، لأنه سيؤول إلى التركيب او التعدّد في الذات الإلهية المقدسة.
ثانياً: أنّه وإن ذهب إليه جمعُ من علماء النصارى، إلا أن أكثرهم على خلافه، كما تقدّم في القولين السابقين، ومن كلماتهم الصريحة في نفيه ما ذكره الراهب باسيليوس المقاري: لكن لا يجب أن نفهم الأقانيم على أنها (أجزاء) من (كلٍّ)، أي كأنّ اللاهوت منقسمٌ إلى ثلاثة، ولا هي مجّرد صفاتٍ أو أوجهٍ أو تعبيرات. بل كل أقنومٍ قائمٌ بذاته في الجوهر الإلهيّ الواحد المشترك لكل الأقانيم(48).
فنفيُ كونها صفات أو أوجه يعني إنكار كونها خواص أو صفاتٍ ذاتية.
ويقول الأب سليم دكاش اليسوعي: مقولةُ الافتراق والاتصال معاً هي من غريغوريوس النّيصي، والإطلاق والإضافة هما من وضع باسيليوس القيصريّ كما يثبت مؤرخو الفكر اللاهوتي المسيحي. فمن المعلوم أن الخطاب اللاهوتي الكبادوكي انطلق من تأكيد ألوهيّة الروح ثم تطوّر إلى تصوّرٍ ثالوثيٍّ عام: فالتمايز المعنوي بين الله والأقانيم يرتبط قياسياً بالتمايز المعنوي بين الشيء العام وخواصّه.. وجدير بالذكر أن باسيليوس القيصري هو أول من قام بعملية التمايز هذه ليطبقها على إشكالية الوحدانية و الثالوث(49).. نعرف أن تحديد الخواصّ هو من وضع باسيليوس القيصري في ما يخصّ الأَبَويّة والبَنَويّة، ومن وضع غريغوريوس النيزيانزي في ما يخص الخروج الخاص بالروح القدس(50).
هذه الكلمات الأخيرة فضلاً عن تأكيدها أن هذه المعتقدات طارئة تبلورت بعد فترة طويلة جداً من أيام النبي عيسى (عليه السلام)، وفضلاً عن عدم تصريحها بكون التمايز بين الله والأقانيم هو من باب ذكر الشيء العام ومصاديقه، تصرِّحُ بأن التمايز من باب ذكر الشيء وخواصه، كما يذهب إليه أصحاب هذا القول الثالث، وفيه تأكيدٌ على اختلاف الخواص بين كل واحد من الأقانيم كما تقدّم.
ويحاول الأنبا إيسوذورس التخلص من إشكالية الكفر بحيث يكفي عنده وحدة الجوهر فيقول: إنه جل وعلا جوهرٌ واحدٌ وذاتٌ واحدة بثلاثة خواصّ، كالنفس كما نظرت، أو كالشمس فإنها قرصٌ وحرارةٌ وضياء، ومع وجود هذه الخواص الثلاثة التي كل واحدةٍ منها غير الأخرى، ليست الشمس ثلاث شموس بل شمسٌ واحدة، لأنها ذاتٌ واحدة، ولو تعددت خواصها. فكذلك ذات البارئ التي هي ثلاث خواص، ليست الخواص الثلاث ثلاثة آلهة ولو تعدّدت، لكون ذاتهم واحدة، جوهرهم واحد، وقوّتهم واحدة، وفعلُهم واحداً(51).
ويوضح معنى الخواص بقوله: ان كلاً من الثلاثة أقانيم يتميّز بخاصيةٍ دون الآخر مع وحدة الجوهر: ..إن الأقنوم الأول يتميّز بخاصية الأبوّة مع وحدة الجوهر.. فيكون علّة الابن والروح القدس.. والابن يتميز بخاصية البنوّة مع وحدة الجوهر.. وذلك كولادة النُطق من العقل والشُعاع من الشمس.. والروح القدس يتميز بخاصية الانبثاق مع وحدة الجوهر.. كصدور الحرارة من القرص، وليس هو والداً ولا مولوداً بل منبثقاً(52).
ويقول: إن المسيحيين لا يعتقدون بثلاثة آلهة، ولا هم بمشركين. والدليل على ذلك هو أنهم لا يعتقدون بوجود ثلاثة جواهر حتى تُمسَكَ عليهم الحجة.. فجوهر الله يعمّ الخواص الثلاثة، والأقنوم هو الجوهر الواحد الذي لا سواه، ولا يُعبد خلاه.. فكل أقنومٍ إله، أي أن الجوهر الواحد بخاصّة الأبوة إلهٌ، والجوهر الواحد بخاصة البنوّة إلهٌ، والجوهر الواحد بخاصة الانبعاث إلهٌ، وليس هم ثلاثة جواهر أو ثلاثة ذوات حتى يكونوا ثلاثة آلهة، فيقال: جوهرٌ بثلاث خواص، قادرٌ حيٌّ ناطق.. غير أن الخواص تتميز عن بعض بالابوّة والبنوّة والانبثاق(53).
ويلاحظ على كلماته:
أولاً: أنه أراد أن يُثبت كونه جوهراً واحداً فمثّل له بالشمس (فإنها قرص وحرارة وضياء) و(كل واحدة منها غير الأخرى)، فتكون الشمس واحدةً لكنّها ليست بسيطة، بل مركّبة، إما على نحو الأجزاء، أو العلة والمعلول، فلو لم تكن الحرارة والضياء من أجزاء الشمس، ولو سلمنا ببساطة القرص وأنّه غير مركّب بنفسه أيضاً، وقلنا أنّ الحرارة والضياء من آثاره، لثبت معنى من معاني التركيب والتعدُّد، ولو من ناحية تعدد الفعل والفاعل، أو تعدد الخواص.
ولمّا نقل الأنبا إيسوذورس الحديث للذات الإلهية المقدسة قال انها ذاتٌ واحدة، ولكن الخواص الثلاثة متعددة، فيرجع ذلك إلى التعدُّد في الذات الإلهية المركبة، وهو ينافي البساطة. فيقع في التناقض من جديد.
إنّهُ تعدُّدٌ في الحقيقة، مع دعوى القول بالوحدانية.
ثانياً: إنّ كون الاب علة الابن والروح القدس دليلُ المفارقة والمباينة، فلا يكون الشيء علّة نفسه، وإلا لزم توقف الشيء على نفسه، وهذا يدلّ على المباينة التامة بين العلّة والمعلول، والتعدُّد التامّ الحقيقيّ بينهم، وبهذا كيف يمكن القول بالتوحيد؟ فإنه يلزم منه القول بالتركيب أو بتعدد الآلهة. ولا يقولون بشيء منهما، فهو التناقض مجدداً.
ثالثاً: إن محاولة التخلص من الإشكال بنفي الجواهر الثلاثة غير مجدية أبداً، فإن تعدد الأقانيم يثبت الكفر ولو مع القول بجوهر واحد، إذ لا يعني الكفرُ القولَ بتعدُّد الجوهر بل بتعدد الله تعالى، وهم قائلون به، لأن الآب هو الله والابن هو الله والروح القدس هو الله، وهذه حقيقة التثليث الملازم للكفر، وإن قالوا بالتوحيد لساناً، فإنه تناقض بين أمرين لا يجتمعان.
يذهب الدكتور القس عماد شحادة إلى أن الأقنوم في السريانية يفيد (الشخص) في العربية كالقول الأول، ولكن لمّا كان المراد من الأقانيم (بحسب ما يقول) معنى آخر يختلف عن (الشخص) فقد استُعمل لفظ أقنوم ولم يُستعمل لفظ الشخص لكي تكون الكلمة غير معروفة المعنى!
وهو يشير بذلك إلى أمرٍ في غاية الخطورة، حيث أنّهم قد استخدموا عمداً لفظاً أجنبياً غير مفهوم المعنى في واحدة من أهمّ المسائل الاعتقادية، ولعلّ ذلك راجعٌ إلى محاولة إخفاء التناقض في هذه العقيدة التي تقوم على القول بالوحدة والتعدُّد في آن واحد ومن جهة واحدة!
يقول القسّ شحادة: الكلمة (أقنوم) في استخدامها السرياني تفيد معنى الشخص أو الشخصية، ولذلك فهي لا تفي بغرض إعطاء المعنى الدقيق.. والفائدة الوحيدة في استخدام هذه الكلمة في اللغة العربية هي إبعاد كلمة (الشخص) عن الله واستبدالها بكلمةٍ أجنبيةٍ غير معروفة في معناها!!! (54).
تقدّمت في الفصل الأول كلماتُ علماء النصارى بتنزيه الله تعالى عن الجزئية، وبما أن الأقنوم دلّ على الشخص، فيلزم من القول بالتثليث أن يكون الآلهة ثلاثة، وبما أنّ النصارى لا يقولون بوجود آلهة ثلاثة، تنقدِحُ شُبهَةُ التركيب وتعدُّد الأجزاء في الله تعالى مجدداً، لذا يبيّن علماؤهم بشكلٍ جليٍّ أن الأقانيم ليست أجزاءً في الله، فيسقط إشكال وجود أجزاء في الله تعالى، لكنّهم يقعون في التناقض مجدداً، من جهة كون الواحد ثلاثة بلا تركيب.
يقول القديس يوحنا الدمشقي: لا تركيب في الثالوث: ونقول إن لكلٍّ من الثلاثة أقنومَه الكامل، لئلا نوهم بأنهم طبيعةٌ واحدةٌ كاملةٌ مركّبة من ثلاثةٍ غير كاملين، ونقول أيضاً إن في الأقانيم الثلاثة الكاملين جوهراً بسيطاً واحداً فائق الكمال وقبل الكمال(55).
ويقول: إننا نقول بأن الأقانيم كاملون لئلا نفكّر بتركيبٍ في الطبيعة الإلهية، فالتركيبُ بدء التقسيم. ونقول أيضاً إن كلا من الأقانيم الثلاثة هو في الآخر، لئلا نصير إلى كثرة وجمهرة من الآلهة، لذلك نقرّ بعدم تركيب الأقانيم الثلاثة وبعدم اختلاطهم، ولذلك أيضاً نعترف بتساوي الأقانيم في الجوهر.. وبأنهم إلهٌ واحدٌ غير منقسم، فإن الله واحدٌ حقاً، وهو الله وكلمته وروحه(56).
هذا نموذجٌ آخر من نماذج التناقض، إلهٌ واحدٌ غير منقسم، أقانيمه متمايزة، أحدها ليس هو الآخر، مع عدم القول بالتركيب!
ويقول الراهب باسيليوس المقاري: إن ما نؤمن به هو: الله الواحد في ذاته، الثالوث في أقانيمه، الآب والابن والروح القدس، المتساوي في جوهره.. لكن لا يجب أن نفهم الأقانيم على أنها (أجزاء) من (كلٍّ)، أي كأن اللاهوت منقسمٌ إلى ثلاثة، ولا هي مجرد صفاتٍ أو أوجه أو تعبيرات. بل كل أقنوم قائم بذاته في الجوهر الإلهي الواحد المشترك لكل الأقانيم. وبهذا فإن الله الواحد هو الثلاثة أقانيم، ووجود كل أقنومٍ متميزٍ في ذاتيته عن وجود الأقنومين الآخرين: الآب والابن والروح القدس. ولكن الثلاثة متساوون في جوهر اللاهوت الواحد، ومن ذات جوهر اللاهوت الواحد. وكل أقنومٍ يعمل بطريقة متميزةٍ ولكن في الله الواحد. فنحن نُمَجِّدُ الله الواحد في ثالوث، والثالوث في الله الواحد (الكائن في وحدة جوهرٍ وتعدُّد أقانيمٍ في نفس الوقت) (57).
ولعوض سمعان هنا محاولةٌ لرفع التناقض، بعد نفي التركيب والتجزئة، وذلك بقوله أنّ الواحد راجعٌ إلى جهةٍ غير الجهة التي يرجع إليها الثلاثة، فيقول: لا شك في أنّه يكون واحداً من جهة الجوهر، لأنه إن لم يكن واحداً من هذه الجهة كان مركباً وقابلاً للتجزئة. والحال أنه ليس مركباً أو قابلاً للتجزئة. ويكون جامعاً (ثلاثة) من جهة التعيُّن.. وقد عبر ابن العربي في كتابه فصوص الحكم عن اللاهوت بالباطن، وعن الله بالظاهر، ثم أعلن أنهما واحدٌ، فقال عن الله: هو الظاهر وهو الباطن، وهو عينُ ما ظهر وعينُ ما بطن. كما أعلن أن ما يُستنتج منه أن الكثرة ليست في جوهر الله أو هُويته، بل هي في تعيُّنه أو ظاهريته، فقال: لا كثرة في هُوية ذات الحق، وكلُّ كثرةٍ واختلاط (أو علاقات) فهو بعد ذاته وظاهريته(58).
أقول: هذا نصٌّ صريحٌ يوافق ما تقدّم منه من تفسير الأقنوم بالتعيُّن، فالجوهر واحد، ولكنّ الأقانيم أي التعيّنات ثلاثة.
والوحدانية إنما هي في الجوهر فقط لا في التعيُّن.. وقد تقدّم أن التعيُّن يرجع إلى الشخص وإلا فالتشخُّص، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(59).
أما ابن عربيّ، فإنّ قوله قولٌ صوفيٌّ شاذٌّ نعتقد بأنه مساوقٌ للكفر، وهو القائل بوحدة الوجود والموجود حقيقة، فكلُّ شيء عنده هو الله، ولو أراد سمعان الالتزام بما ذهب اليه ابن عربي للزم عليه القول بأنه هو بنفسه ظهورٌ لله تعالى حقيقةً لا مجازاً، وهو كفرٌ بلا شك، وقد حققنا ذلك في كتاب (عرفان آل محمد (عليهم السلام)) فليراجع.
ويحاول عوض سمعان رفع التناقض من جديدٍ ببيانٍ آخر فيقول أنّ الوحدانية والثالوث ليس مَصَبُّهُما واحداً كي يقع التناقض، لأنّ كلاً منهما ناظرٌ إلى جهةٍ، فيقول:
1. بما أنه لا يراد بوحدانية الله الجامعة أنّه واحدٌ في تعيُّنه وجامعٌ أيضاً في تعيّنه، بل بالعكس يراد بها أنه واحدٌ في جوهره، وجامعٌ في تعيّنه، إذن ليس هناك أي تناقض..
2. بما أنه لا يراد بوحدانية الله الجامعة أنه جامعٌ في جوهره وواحدٌ في تعينه، بل بالعكس.. إذن لا سبيل للظن بأنها تنم عن وجود أي تركيب في ذاته.
3. وبما أنه لا يُراد بجامعية تعيّنه، ذاته وغيرها من الذوات، بل يراد بها ذاته وحدها، إذن لا سبيل للظن بأن هذه الوحدانية تَنُمُّ عن وجود أيّ شريك له.
وبذلك فإنّ وحدانية الله الجامعة لا تتعارض مع وحدانيته، أو عدم وجود تركيبٍ فيه، أو عدم وجود شريك له(60).
أقول: هو واحدٌ في الجوهرعنده، لكنّه متعددٌ في تعيُّنه، فصارت التعيُّنات ثلاثة، أما الوحدانية فغير ثابتة إلا في ذات الجوهر، فالتوحيد عنده هو توحيدٌ في جوهره لا في تعيّنه.
لكن سبق وأن قال سمعان نفسه: لا نفرّق مطلقاً بين جوهر الله وتعيّنه.. فجوهر الله ما هو إلا اللاهوت، وهذا الجوهر نفسه بالنظر إلى تعيُّنه ما هو إلا الله(61).
ومع كون الجوهر واحداً، والمتعيّن متعدداً، يلزم وجود شريكٍ للمتعيّن، لأنّ هناك أكثر من متعين: الآب والابن والروح القدس، لكنّه يحاول نفي وجود الشريك من جهة أنه من نفس الذات، أي من نفس الجوهر. وهذا باطل.
لأنّ الشريك يُتصوَّر على نحوين: إما شريكٌ من نفس الجوهر، وإما شريكٌ من جوهر آخر: أي إما شريك من نفس الصنف والنوع، أو شريك من صنفٍ ونوعٍ آخر.
وقوله يدفعُ الشريك الثاني، أي الشريك الذي ينتمي إلى صنفٍ ونوعٍ آخر، فليس له شريكٌ بشريٌّ ولا شريكٌ من الطيور ولا الأصنام. لكنّه يُثبت له شريكاً من نفس جوهره.
وتعبيُره عن التعيُّنات كلها ب(الذات) هو مغالطة واضحة.. فقد قال: تكون ذاتُه ليس تعيّناً واحداً، بل تعيّنات(62).
فصارت الذات هي التعيُّنات الثلاثة، وهي شراكة بين هذه التعينات الثلاثة، فصار الله ثلاثة.
وقد صرح بأن كل واحدٍ من التعيُّنات هو الله بقوله: إن كلاً منها يكون هو الله(63)، وقال: والأقانيم هي التعيُّنات: فالأقانيم في المسيحية هم تعيُّنات اللاهوت(64)، وقال: فإن جوهر الله هو عين تعيُّنه(65).
فجوهره هو عين تعيّنه، وذاتُه قد تعيَّنت في ثلاث تعيُّنات، فصارت الذات ثلاثاً.
ثم يقول: ليس معناه أنه ذاتٌ في ذوات أوذواتٌ في ذات، كلا لأنه ذاتٌ واحدةٌ لا تركيب فيها على الإطلاق. بل معناه أنّ ذاته الواحدة التي لا تركيب فيها هي بعينها تعيّنات(66).
ويقول: وبما أن ذات الله تعيّنات، إذن فمن البديهي أن يكون كل تعيُّنٍ من هذه التعينات ليس جزءاً من ذات الله، بل أن يكون هو ذات الله، لأنّه غيرُ مركّب من عناصر او أجزاء.. ولذلك يكون كل تعيُّنٍ من هذه التعيُّنات هو الله الأزليّ الأبديّ العالم المريد(67).
وهو بقوله هذا يصرح أن الله الأزلي هو التعيُّن الأول: الآب.
والله الأزلي هو التعيُّن الثاني: الابن.
والله الأزلي هو التعيُّن الثالث: الروح القدس.
فصار الله ثلاثاً.. ولا ينفع القول أنّه واحدٌ من جهة جوهره أو من جهة ذاته، لأن الآب ليس هو الابن، والابن ليس هو الروح القدس، فصاروا ثلاثة، وكلّ واحد منهم الله، فصار عندنا الله ثلاثة، وهو يتصف بصفة الوحدانية من حيث الجوهر، وهذه لا تكفي.
فإما أن يقال أنّ الوحدانية والتثليث من جهة واحدة فيقع التناقض، الذي يلازمه الشّركُ لكون القائل به ملتزماً بالتعدُّد حقيقةً.
وإما أن يقال أنّ الوحدانية من جهة الجوهر فقط والتثليث من جهة التعيُّن فقط، فقد تعيَّن وجودُ ثلاثٍة كلُّ واحدٍ منهم الله، فصار الله ثلاثة، وهو الشركُ بنفسه، ومع التمسُّك بأنّه واحدٌ لا ثلاثة حقيقةً، يقع التناقض من جديد، من جهة كون الواحد ثلاثة على نحو الحقيقة.
هل يدلّ تعدد الأقانيم الثلاثة، ووحدة جوهرها، واتفاقها في الصفات على اختصاص كلّ واحدٍ منها بما لا تختصُّ به بقية الاقانيم؟
قد تُوهِمُ بعض كلمات علماء النصارى (من التصريح بالمساواة في الصفات) أنّه لا اختصاص لشيء من الأقانيم بما يتميّز به بعضها عن بعض، كقولهم أنّ الاقنومين الثاني والثالث الابن والروح هما ذات الله.
يقول عوض سمعان: كما أن (روح الله) ليس عنصراً في الله، بل هو ذات الله، لأن الله لا تركيب فيه. كذلك فان (ابن الله) ليس كائناً مولوداً من الله، بل هو ذات الله، لأن الله لا يولد ولا يلد. وكل ما في الأمر أن (روح الله) دُعي بهذا الاسم لأنّه هو الذي يعلن اللاهوت مع مقاصده بوسيلةٍ روحية. و(ابن الله) دُعي بهذا الاسم لأنّه هو الذي يعلن اللاهوت مع مقاصده بوسيلة ظاهرية(68).
ويلاحَظُ على كلامه: أن نفي كون الابن كائناً مولوداً من الله، هو حقٌّ لا ريب فيه، فإن الله لا يلد ولا يولد، لكن عقيدة النصارى قائمة على أن عيسى (عليه السلام) مولود من الله تعالى، ويقولون أن هذه الولادة وإن لم تكن مادية، إلا أنّها ولادةٌ على نحو الحقيقة لا المجاز، ومن كلماتهم الصريحة في ذلك ما ذكره القديس كيرلّس الكبير: في حالة الذي هو ابنه بالطبيعة فإن هذا الاسم (الولادة) لا يُستعمل على سبيل المجاز، بل هو حقيقيٌّ من كل جهة(69).
والقديس كيرلّس كسائر علماء النصارى يؤمن بأن عيسى إلهُ حقٍّ وُلِدَ من إله حق حين يقول: هكذا نحن نقول: إن الابن في الآب والآب في الابن.. هو من نفس الجوهر مع الآب، وهكذا أيضاً فإننا نؤمن أنه إلهُ حَقٍّ وُلد من إله حق(70).
بل صدع بذلك قانون الإيمان الشهير (نيقية القسطنطينية) كما تقدّم: وبربٍ واحدٍ يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور: هو الله الصادر عن الله، نورٌ مولودٌ من النور، إله حق صادر عن الله الحق، مولودٌ غير مخلوق، هو والآب جوهرٌ واحدٌ(71).
وكلمات النصارى أكثر من أن تُحصى في كون الآب ليس ابناً، وأنّ الابن هو المولود، يقول القديس كيرلوس الكبير: الآب هو آبٌ وليس ابناً، والابن هو المولود وليس هو آباً.. ولهما في وحدتهما نفس الطبيعة(72).
ويقول: الآب هو خالق كل الأشياء، ما يرى وما لا يُرى.. إنّ كل الأشياء قد خُلِقَت بالابن.. إن الله الآب بطبيعته لا يخلق أو يدعو أيّ شيء إلى الوجود بأي طريقةٍ أخرى سوى بالابن في الروح، أي بقوّته الذاتية وحكمته(73).
فكلماته وإن كان يظهر منها الميلُ إلى القول الثالث المتقدِّم من أن الأقانيم هي الخواص أو الصفات، حيث ذهب إلى أن الآب يخلق بالابن في الروح: أي بقوّته الذاتيّة وحكمته، فعدَّ الابن والروح القوّة والحكمة، وهما من الخواص والصفات، وإن كان يظهر منه الميل لهذا هنا، إلا أنّه لا ينسجمُ تماماً مع قوله بالولادة الحقيقية دون المجازية، ولا مع كون الآب ليس الابن، والابن ليس الآب.
يزيد القديس يوحنا الدمشقي الأمر وضوحاً بجعل الآب مصدر الكمال فيقول: اختصاصات الأقانيم: إذاً كلّ ما كان للابن والروح كان لهما من الآب، حتى الوجود نفسه. ولو لم يكن الآب لما كان الابن ولا كان الروح. ولو لم يكن للآب شيءٌ لما كان أيضاً شيءٌ للابن ولا للروح، وبسبب الآب كان للابن والروح كل ما لهما(74).
وهذا تأكيدٌ صريحٌ على أن الكمال محصور في الله الآب (بتعبيرهم)، ويُحتمل مع احتياج الابن والروح للآب احتمالان:
الأول: احتياجهم اليه وعدم احتياجه إليهم، فتثبت الألوهية له وتُنفى عنهم، فلا يكون عيسى (عليه السلام) هو الله، ولا يكون الروح القدس هو الله، وهذا ما لا يعتقد به النصارى.
الثاني: احتياجهم اليه واحتياجُه إليهم، فيثبت إما التركيب في الذات الإلهية بحيث يكون الله تعالى مركباً من الثلاثة، ولا يعتقد به النصارى، وإما القول بالآلهة الثلاثة الذين يحتاج كلٌّ منهم للآخر، ولا يعتقدون به أيضاً.
فلا يبقى إلا التناقض، والقول المستحيل الذي لا يقبله العقل، بأن يكون الآب مستغنٍ غير محتاجٍ لهم، وهما محتاجان له، وفي الوقت عينه هم مساوون له في الجوهر! وهو وهم واحد!
نكمل مع الدمشقي حين يقول: إن اللاهوت لا يمكن أن يُقسَّم إلى أقسام.. عندما ننظر إلى اللاهوت على أنّه العلة الأولى.. فالذي يُتَصَوّر في ذهننا هو الواحد. أما عندما ننظر إلى مَن فيهم اللاهوت أو -بعبارة أدق- إلى مَن عندهم اللاهوت، لا سيّما الصادرَين من العلة الأولى بلا زمن، والمساويين لها في المجد وعدم الانفصال، وأعني الابن والروح، فالمسجود لهم ثلاثة: الآب آبٌ واحدٌ وهو لا مبدأ له أي لا علّة له، لأنّه ليس من أحد. والابن ابنٌ واحدٌ وهو ليس بلا مبدأ أي بلا علة، وهو من الآب.. الابن لا بدء له، لأنه صانع الأزمان وهو ليس تحت الزمان(75).
ثم يقول: واعلم أننا لا نقول بأن الآب من أحد، بل نقول انه أبو ابنه، ولا نقول إن الإبن علّة أو آب، بل نقول إنّه من الآب وإنّه ابن الآب. ونقول أيضاً إن الروح القدس من الآب ونسمّيه روحَ الآب(76).
وهذا كلامٌ صريحٌ جداً في كون الآب علةً للابن والروح، فالله تعالى هو علّة وجود عيسى (عليه السلام)، ولولا الله تعالى لم يكن لعيسى (عليه السلام) وجود، بينما ليس عيسى (عليه السلام) علة وجود الله(77)، وعليه فإنّ القول باختصاص كلّ أقنومٍ بخصائص تميّزه عن الآخر، يتضمن القول بكون أحدهم علّة لمن سواه، فكيف يكون العلّة والمعلولُ من جوهرٍ واحد؟ والغنيُّ والفقير واحداً؟ وكيف يكون المسجود له ثلاثة: أحدهم علة للآخرين؟ مع الحفاظ على التوحيد؟!
إنه التناقض مجدداً المودي للكفر بالله تعالى.
ولعلّ محاولة عوض سمعان المتقدِّمة إنما تصبُّ في خانة التخلص من التناقض، لذا يقول سمعان: فأبوّة الآب للابن لا يُراد بها إذن أن الآب أفضل من الابن مقاماً، أو أقدم منه زماناً، بل يُراد بها التعبير باللغة التي نفهمها عن نسبةٍ من نسب المحبّة السامية الكائنة بينهما!(78).
لقد بسّط سمعان الأبوّة التي يقولون بها بشكل لا يوافقه عليه كبار علماء النصارى، فقد تقدّمت كلماتهم أنّ الابن مولودٌ من الآب بمعنىً حقيقيّ، وأن الآب هو علة الابن، ولولا الآب لم يكن الابن ليوجد، وهذا كافٍ في إثبات التعدُّد المخالف لحقيقة التوحيد.
هل توحيدُ النصارى هو نفسه توحيد المسلمين؟
يعتقد المسلمون بامتناع وصف الله تعالى بوحدانيّة العدد أو الجنس، لكن وحدة الجوهر وتعدُّد الأقانيم عند النصارى لا تخلو من أحد هذين الفرضين أو ما يقربهما، وهو ما لا نقرّ به جزماً.
التوحيد على أقسام أربعة، يُبَيِّنُ حالها مولى الموحّدين وإمام المتّقين، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فقد روينا أنَّ أَعْرَابِيّاً قَامَ يَوْمَ الجَمَلِ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَ تَقُولُ إِنَّ الله وَاحِدٌ؟
فَحَمَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، قَالُوا: يَا أَعْرَابِيُّ، أَ مَا تَرَى مَا فِيهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مِنْ تَقَسُّمِ القَلْبِ؟
فَقَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): دَعُوهُ، فَإِنَّ الَّذِي يُرِيدُهُ الأَعْرَابِيُّ هُوَ الَّذِي نُرِيدُهُ مِنَ القَوْمِ.
حربُ الجملِ إذاً، وكلّ حربٍ خاضها الأنبياء والأوصياء، وكلّ تضحيةٍ قدّموها، وكلّ ما بذلوه من غالٍ ونفيس، إنّما كان لأجل ما يسأل عنه هذا الأعرابيّ، وهو وحدانيّة الله تعالى، ومن كان في المُعسكَرِ المقابل لأمير المؤمنين (عليه السلام) يقرّ بالتوحيد ظاهراً لكنّه يخالفه واقعاً، وليس إقرارُ النصارى بالتوحيد لساناً مع اعتقادهم بالثالوث حقيقةً إلا كإقرار أعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) بالله تعالى مع مخالفتهم لأمره بلزوم اتّباع أنبيائه وأوصيائه.
ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): يَا أَعْرَابِيُّ إِنَّ القَوْلَ فِي أَنَّ الله وَاحِدٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، فَوَجْهَانِ مِنْهَا لَا يَجُوزَانِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَوَجْهَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ:
فَأَمَّا اللَّذَانِ لَا يَجُوزَانِ عَلَيْهِ:
- فَقَوْلُ القَائِلِ: وَاحِدٌ، يَقْصِدُ بِهِ بَابَ الأَعْدَادِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الأَعْدَادِ، أَ مَا تَرَى أَنَّهُ كَفَرَ مَنْ قَالَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.
- وَقَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، يُرِيدُ بِهِ النَّوْعَ مِنَ الجِنْسِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ، وَجَلَّ رَبُّنَا عَنْ ذَلِكَ وَتَعَالَى.
وَأَمَّا الوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ:
- فَقَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ فِي الأَشْيَاء شِبْهٌ، كَذَلِكَ رَبُّنَا.
- وَقَوْلُ القَائِلِ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدِيُّ المَعْنَى، يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ فِي وُجُودٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا وَهْمٍ، كَذَلِكَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ(79).
فالوجه الأول الذي لا يجوز، هو إثباتُ الوحدانيّة من باب الأعداد، لأنّ العدد الأول يحتمل ثانياً، فلو كان الله هو الآب مثلاً، والله هو الابن، والله هو الروح القدس، لكان الله (ثالث ثلاثة)، فالآب هو واحدٌ، لكنّ لهذا الواحد ثاني وثالث، وهما الابن والروح القُدُس، وهذا مُمتنِعٌ لأنّه يؤول إلى تعدُّد الله تعالى، فهو أولٌ له ثانٍ وثالث وهكذا.
والوجه الثاني الذي لا يجوز، هو إثبات التوحيد للجنس، فيكون الله تعالى واحداً في جنسه، لإمكان أن يندرج تحت هذا الجنس أفرادٌ متكثرون، فلو قلنا مثلاً أن الإنسان وحدَهُ ناطقٌ، وأثبتنا النطق لجنس الإنسان وحده، دلّ هذا على أن غير جنس الإنسان لا ينطق، لكنّه ما أثبت وحدانية الناطق حقيقةً وإن ثبت وحدته مفهوماً، بل أثبت تعدُّدَه لتكثُّر أفراد الإنسان المنضوين تحت جنس الإنسان، فمحمدٌ وعلٌّي وحسٌن وحسينٌ كلهم من مصاديق الإنسان الناطق.
وإثبات وحدة الجنس الناطق وهو الإنسان لا ينفي تعدُّد أفراده ومصاديقه، فلو كان إثبات الوحدانية بهذا المعنى لله تعالى لكان ممتنعاً لمنافاته التوحيد.
فلو قلنا أنّ الله واحدٌ في (جوهره) كأننا قلنا أنّه واحدٌ في (جنسه)، وإن تعدّدت (أقانيم) هذا الجوهر أي (أشخاصه) أو (تميُّزاته)، فهذا التوحيد كالتوحيد السابق ممتنعٌ ومآله بل حقيقته الشرك بالله تعالى.
والوجه الأول المُثبَت، هو نفي الشبيه عن الله تعالى.
والوجه الثاني المُثبَت هو نفي الانقسام بكل صوره حتّى في العقل والوهم فضلاً عن الوجود.
لكن.. هل توحيد النصارى يوافق توحيدنا نحن المسلمين في المعتقد أم يخالفه؟
هذا ما تتكفل ببيانه المباحث التالية مع نماذج من كلماتهم.
يحاول أبو رائطة التكريتي أن يحتجّ على المسلمين، فيقول: إن الواحد لا يقال إلا على ثلاثة أوجه: إما في الجنس، وإما في النوع، وإما في العدد (80).
وهو يناجي (ذوي العقول والآراء) من المسلمين بحسب قوله، وبعدما يذكر الاشكالات على التوحيد بأقسامه الثلاثة هذه، يخلص إلى أنه لا بد من عدم القول بهذه الوجوه الثلاثة، فهو بحسب القاعدة يوافقنا، لأن الجنس والنوع عندنا مندرجان في الوجه الثاني المنفي، والعدد في الوجه الأول.
ثم يطرح إشكالاً مفاده أن الله إن كان واحداً في الجوهر فإنّه إما أن يكون عامّاً لأشخاص شتى، أو وصفاً لشخص واحد، وعلى الأول تعدَّدَ الإله، وعلى الثاني عاد لمحذور الوصف بالعدد وهو صفة المخلوقين.
ليخلص إلى أنه تعالى ليس واحداً في العدد بل ثلاثة! وهو عين الكفر بالله تعالى، فيقول: قد نصفه واحداً كاملاً في الجوهر، لا في العدد. لأنّه في العدد أي في الأقانيم ثلاثة(81).
وهو من أصرح الكلمات بأنهم قائلون بتثليث الله في العدد، مع وحدة الجوهر فقط، والجوهر بمثابة الجنس أو النوع أو العنوان العام الذي يندرج تحته هؤلاء الثلاثة، فللتَخَلُّص من إشكال التوحيد في العدد ذهب إلى القول بالتثليث في العدد، فصار الكفرُ جلياً بيّناً!
ولذا لم يجد حرجاً أن يصرّح بأن توحيدهم ليس كتوحيد المسلمين رأساً فيقول: لتعلموا وصفنا الله واحداً ليس على ما وصفتموه(82).
وهذا جوابٌ على من زعم الاتفاق في الوحدانية بين المسلمين والنصارى، فيما تلهج كلمات الطرفين بالمغايرة إلى حد الحكم بكفر الآخر من الطرفين.
لمّا كنا نقول أنّ الله تعالى واحدٌ، والإنسان يعلم من نفسه أنّه واحدٌ بالوجدان، ولمّا ثبت أن الله تعالى لا يشبه خلقه، وقع علماء النصارى كالتكريتي وسواه في مشكلة المشابهة بين الله ومخلوقاته، فأرادوا التخلص من القول بوحدانية الله في العدد وذهبوا إلى الثالوث، وقد غفلوا عن أنّا لا نقول بوحدانية الله في العدد كما تقدّم، وقد كان لإمامنا الرضا (عليه السلام) ما يدفع به الشبهة عمّن توهم التشابه بين الله تعالى وخلقه، لأنّ الله واحدٌ والإنسان واحد.
عَنِ الفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الجُرْجَانِيِّ عَنْ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ السَّمِيعُ البَصِيرُ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُ المُشَبِّهَةُ لَمْ يُعْرَفِ الخَالِقُ مِنَ المَخْلُوقِ، وَلَا المُنْشِئُ مِنَ المُنْشَإِ، لَكِنَّهُ المُنْشِئُ، فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ جَسَّمَهُ وَصَوَّرَهُ وَأَنْشَأَهُ، إِذْ كَانَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ وَلَا يُشْبِهُ هُوَ شَيْئاً.
قُلْتُ: أَجَلْ جَعَلَنِيَ الله فِدَاكَ، لَكِنَّكَ قُلْتَ: (الأَحَدُ الصَّمَدُ)، وَقُلْتَ: (لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ)، وَالله وَاحِدٌ وَالإِنْسَانُ وَاحِدٌ، أَلَيْسَ قَدْ تَشَابَهَتِ الوَحْدَانِيَّةُ؟
قَالَ: يَا فَتْحُ أَحَلْتَ(83)، ثَبَّتَكَ الله إِنَّمَا التَّشْبِيهُ فِي المَعَانِي(84) فَأَمَّا فِي الأَسْمَاءِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى المُسَمَّى، وَذَلِكَ أَنَّ الإِنْسَانَ وَإِنْ قِيلَ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يُخْبَرُ أَنَّهُ جُثَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ بِاثْنَيْنِ، وَالإِنْسَانُ نَفْسُهُ لَيْسَ بِوَاحِدٍ لِأَنَّ أَعْضَاءَهُ مُخْتَلِفَةٌ وَالوَانَهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَنْ الوَانُهُ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَجْزَاءٌ مُجَزَّاةٌ لَيْسَتْ بِسَوَاءٍ، دَمُهُ غَيْرُ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ غَيْرُ دَمِهِ، وَعَصَبُهُ غَيْرُ عُرُوقِهِ، وَشَعْرُهُ غَيْرُ بَشَرِهِ، وَسَوَادُهُ غَيْرُ بَيَاضِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ جَمِيعِ الخَلْقِ.
فَالإِنْسَانُ وَاحِدٌ فِي الِاسْمِ، وَلَا وَاحِدٌ فِي المَعْنَى، وَالله جَلَّ جَلَالُهُ هُوَ وَاحِدٌ لَا وَاحِدَ غَيْرُهُ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ وَلَا زِيَادَةَ وَلَا نُقْصَانَ.
فَأَمَّا الإِنْسَانُ المَخْلُوقُ المَصْنُوعُ المُؤَلَّفُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَجَوَاهِرَ شَتَّى غَيْرَ أَنَّهُ بِالاجْتِمَاعِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَرَّجْتَ عَنِّي فَرَّجَ الله عَنْكَ(85).
فلفظ الواحد وإن أطلق على الإنسان، إلا أنّه لا يُراد به لفظ الواحد الذي يُطلق على الله تعالى من جهات، فالفروقات عديدة أحدها أنّ الإنسان مُركَّبٌ من أجزاء، وغير ذلك مما ذكره الإمام (عليه السلام).
في كلمات علماء النصارى إشكالاتٌ على توحيد المسلمين! من أهمّها أنّ توحيد المسلمين مزيّفٌ وناقص!
يقول الاب صفرونيوس: أحذِّركم أيها الأخوة من توحيدٍ مزيفٍ ينشره البعض عن جهلٍ، غير عالمين إن التوحيد بدون الثالوث هو تعليمٌ عن الله الذي لم يُعطِ نعمًة للبشر؛ لأن النعمَة - وهي الشركة في الطبيعة الإلهية - مستحيلٌة في تعليم الموحّدين؛ لأن الله الواحد ليس فيه شركة ولا توجد فيه علاقة داخلية، أي في جوهره، ولا يَعرِفُ الشركة، ولا يمارسها. هو واحدٌ فقط: حياتُه وكيانُه الإلهيّ مغلقان أمام الخليقة(86).
يُلاحظ على كلام الاب صفرونيوس:
أولاً: أنّ النعمة في توحيد المسلمين غير مستحيلة، بل كلُّ نعمةٍ عند الناس فهي من الله تعالى بحسب القرآن الكريم، بدءً بنعمة الصراط المستقيم: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾(87)، ونعمة الكتاب والحكمة: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ﴾(88)، ونعمة إرسال الأنبياء وإيتاء المُلك: ﴿ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾(89)، ونعمة كمال الدين: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾(90)، والنعم الظاهرة والباطنة: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾(91).
بل إنّ نِعَمَ الله تعالى غير قابلة للإحصاء بحسب القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(92)، بل ما مِن نعمةٍ إلا وهي من الله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾(93).
وليس عيسى (عليه السلام) خارجاً عن هذه القاعدة، فكلُّ ما عنده هو من نِعَمِ الله تعالى عليه: ﴿إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾(94).
ثانياً: أنّ النِّعَمَ من الله لا تعني إعطاء المخلوق صفة الخالق، فلا يمكن أن يعطي اللهُ تعالى الإنسانَ صفة الأزليّة ولا صفة الغنى وعدم الاحتياج الى الخالق، ولا أمثالها من صفات الله التي لا يمكن أن يحوزها المخلوق، ولذا فليس من النعم الممكنة ما أسماه (الشركة في الطبيعة الإلهية)، فهذا يعني مشاركة المخلوقات للخالق في طبيعته، وهو أمرٌ مستحيلٌ في نفسه، فالصفات الذاتية لله تعالى غير قابلة للنقل والانتقال ولا للعطاء والإعطاء، ولازمُ هذا القول إمّا تَنَزُّلُ الخالق من مرتبته، او ارتفاع المخلوق الى مرتبة الخالق، وكلاهما ممتنعٌ مستحيل!
ثالثاً: أن إنكاره على المسلمين اعتقادهم بأنّ حياة الله تعالى وكيانه مغلقان أمام الخليقة ليس في محلّه، لأنّ هذا القول ليس مُختصاً بالمسلمين، إذ يشترك معنا النصارى في القول بعدم امكان اكتناه الذات الإلهية المقدسة كما تقدم في الفصل الثاني.
لا يكتفي الاب صفرونيوس بهذه الأقوال، بل يزعم أن توحيد الموحّدين (خطيئة)! فيقول: وإذا عدنا إلى خطايا الغنوصيين والموحِّدين وجدناهم قد تصوَّروا الله كواحدٍ فقط لكي يفلتوا من شَرَك وفَخّ الوثنية، وهذا جيّدٌ ولكنه علاجٌ ناقصٌ؛ لأنّ الواحد لا يكونُ واحداً بدون أن يُشرِكَ الآخرين في عطاياه ومحبّته؛ لأن عدم الشركة تغلق الوحدانيّة على الواحد، وتصبح أنانيّة كاملة تحطّم ما هو صالح. نحن لا نستطيع أن نتكلم عن وحدانيةٍ حقيقيةٍ بدون شركة؛ لأنّ الله يشركنا في كل ما خلق، ولا يمنع عنا أن يكون لنا اتصالٌ وشركة به، أي بكيانه وحياته الإلهية؛.. ولذلك ندرك أن الواحد الذي يتحدث عنه الغنوصيون والموحِّدون هو واحدٌ ناقصٌ؛ لأنه بلا شركة في كيانه ولا يشرك الآخرين في حياته(95).
هذا الاب يعدُّ توحيدنا توحيداً ناقصاً! لأن المخلوقات لم تشترك مع الله تعالى في: عطاياه ومحبته وكيانه وحياته وطبيعته الإلهية!
ويلاحظ على كلماته:
أولاً: أن الموحدين مع قولهم بالتوحيد وإنكارهم للتثليث يعتقدون أن كلّ ما عندهم بل أنّ أصل وجودهم من نِعَمِ الله تعالى وعطاياه، كما تقدم في الآيات المباركة، فكيف يكون التوحيدُ مانعاً من عطاء الله؟! هذا هو المعنى الُمتَصَوَّرُ من العطاء الإلهيّ الممكن، أما لو أراد من الشركة في العطايا الإلهية أن تصبح لنا صفات الله فهذا من المستحيلات.
ثانياً: أن الموحدين أيضاً يعتقدون بأن الله تعالى يحبّهم لاتّباعهم أمر رسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(96)، ولكنّهم لا يعتقدون أن حبّ الله كحبّ الناس، لأن الحبّ في البشر من الصفات النفسانيّة التي تنزَّهَ الباري عزّ وجلّ عنها لاستلزامها التغيُّر والتبدُّل فيه تعالى، وقد اتفق المسلمون والنصارى على تنزيهه عن ذلك. وسيأتي معنى حبّ الله تعالى للمؤمنين.
ثالثاً: أن في كلامه عن الشركة في كيان الله وحياته وجوهره ما يثير العجب، فإن هذا الاب يريد أن يشارك الله تعالى بكيانه وحياته الإلهيّة! وينسب للموحدين النقص لأنّهم لم يشتركوا مع الله في حياته!
قاتل الله الجهل وأهله.. يريدُ هذا الاب المعاصر للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمُعرِضُ عن دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يُعرَفَ الخالقُ من المخلوق، والرازقُ من المرزوق، والمُنشِئ من المُنشَأ!
لا يكتفي الاب صفرونيوس بذلك بل يقول: والتوحيدُ الذي يحرمُ الله من الشركة، أي يُنكِرُ أن تكون لله شركة، هو توحيدٌ ناقص؛ لأنّ عدم وجود الشركة في الجوهر الإلهيّ ينفي وجودها في الخليقة نفسها؛ لأنّ ما هو غير موجود في الله لا يمكن أن يكون موجوداً في الخليقة نفسها.. ولذلك نحن لا نؤمن بوجود هوّةٍ سحيقةٍ تفصل بين الخالق والمخلوق، وإنما نؤمن بأن اختلاف الخالق والمخلوق لا ينفي الشركة، بل يؤكّدها لأن انعدام الصلة ينفي صلاح الله كخالق. ونقول: كان من الأفضل لله ألا يخلق مطلقاً من أن يخلق وبعد ذلك يترك الخليقة في جهلٍ وتحيا بعيداً عنه بلا غايةٍ لخلقها. ولكن، ولأن الله خلقنا، فقد أعطانا الصورة الإلهيّة لكي نُدرك مِن ترتيب خلق طبعنا الإنسانيّ أننا نحمل بعضَ ملامح الذات الإلهية. وهكذا خلقنا لكي نعرِفه ونحبه ونرتفع إلى جمال الشركة بقوة الهبة والنعمة التي أعطيت لنا(97).
ويلاحظ على كلامه:
أولاً: أن لقوله (ما هو غير موجود في الله لا يمكن أن يكون موجوداً في الخليقة نفسها) لوازم فاسدةٌ كثيرة، منها:
لمّا لم يكن لله أي حاجة، أي لم يكن الله مُحتاجاً، صار (الفقرُ غير موجودٍ في الله)، فلزم أن (لا يكون الفقرُ موجوداً في الخليقة)! والحالُ أن الخليقة في غاية الافتقار لله تعالى.
ولمّا لم يكن في الله نقصٌ، يلزم ألا يكون في المخلوق نقصٌ! والحالُ أن المخلوق في غاية الضعف والنقص والجهل.
ولمّا لم يكن في الخالق تركيبٌ، لزم ألا يكون العبدُ مُرِكَّباً.. وهكذا حتى يصبح العبدُ هو المعبودُ عيناً!
أما إن أراد الشركة في (بعض ملامح الذات الإلهية)، فنقول: ما هي هذه الملامح؟ ومن أين علمنا أنه لا ينبغي أن نشترك في بعضها دون بعضها الآخر؟ ومن قال أنّه يمكن للإنسان أن يشترك فيما أسماه ملامح الذات؟ إنها خزعبلات ينسبها لنبي الله عيسى (عليه السلام) وهو منها براء، لخلوّ كلماته (عليه السلام) منها، ولِتَنِزُّه الذات الإلهيّة عن كلِّ مشابهةٍ ،بالخلق كما دلّ على ذلك العقل، والكتاب المقدّس الذي يعتقد به النصارى، والقرآن الكريم الذي نعتقد به نحن المسلمون، وقد أشرنا لهذه النصوص في كتاب (الثالوث والكتب السماوية) فليُراجع.
ثانياً: قوله أنّه (كان من الأفضل لله ألا يخلق مطلقاً من أن يخلق وبعد ذلك يترك الخليقة في جهلٍ) مردودٌ عليه، لأنّه إن كان المراد هو الجهلُ بحقيقة الذات الإلهية المقدسة، فهو أمرٌ يشتركُ فيه النصارى مع المسلمين، وقد تقدّم القول بامتناع اكتناه الذات الإلهية عند المسلمين والنصارى.
بل إن لكبار القديسين تصريحٌ بأنّه لا يُطلب معرفةُ الجوهر، بل أنّه قمّة الخبل، إنما المطلوب عندهم معرفة وجود الله لا أكثر من ذلك، والمسلمون أيضاً يعتقدون بوجود الله واتّصافه بكل صفات الكمال.
يقول القديس يوحنا ذهبيّ الفم: لا يُطلَبُ منا سوى أمرٍ واحدٍ وهو معرفة أن الله موجود، لا استقصاء جوهره(98).
وهذا اعترافٌ صريحٌ بأن ما ذهب اليه الاب صفرونيوس مُتمَحِّضٌ بالباطلٌ، وما ذهب اليه النصارى من الغوص في مسألة الثالوث هو أمرٌ غير مطلوب منهم، لذا تاهوا في هذا الأمر وخالفوا حكم العقل والنقل.
ويزيد هذا الامر وضوحاً بقوله: إذ يعيب الكاتبُ الإلهيُّ على إنسانٍ ما جحوده، لا يأخذ عليه جهله الله، بل جهله أن الله موجود(99).
فلا يؤاخذ الإنسان على الجهل بحقيقة الذات الإلهية، إنما يؤاخذ على جهله بوجود الله تعالى، لأن من الطبيعيّ أن لا يحيط المخلوق بالخالق، ولذا كان المدخل الذي دخله النصارى مدخلاً باطلاً.
بل إن صفرونيوس نفسه يصرح بهذا المعنى في كتابٍ آخر من كتبه، حيث يقرّ بأن أسرار جوهر الله لا تدرك! وبالتالي فهو لا يختلف عن هؤلاء الموحدين الذين يذمّهم، حيث يقول: ندرك أسرار المحبة، لا أسرار جوهر الله، لأننا لا نقدرُ أن ندرك أسرارَ جوهر الله، بل ندرك فقط ما تعلنه لنا المحبّة عن جوهر الله، ومن يدرك أسرار المحبة ويمارس المحبة يتعثر، أما من يحاول بالفضول وبشموخ الفكر أن يدخل هذا الهيكل المقدس، فإنه سريعاً ما يخرج حاملاً معه كل تناقض الفكر وعجزه(100).
ها هو تناقضُ الفكر يظهر جلياً في كلمات صفرونيوس وسائر القساوسة والآباء، وقد كان حرياً عليهم أن يطأطئوا الرؤوس خجلاً من تجاوزهم على الذات الإلهية المقدسة.
وكان من الطبيعي أن لا يكون معظم النصارى على دراية بدينهم، لكثرة هذا التناقض فيه، حتى قال القسّ عطا ميخائيل: ان السواد الأعظم من المسيحيين يسودهم الجهل في موضوع عقيدة الثالوث، وألوهيّة المسيح، وألوهيّة الروح القدس.. فهذه العقائد الثلاث هي أهم العقائد في كنيسة المسيح منذ تأسيسها على الإطلاق(101).
فإذا كان السواد الأعظم من المسيحيين يجهلون الثالوث، فأي مسيحيّة يؤمنون بها؟ وما ميزتهم على من لا يؤمن بالثالوث ويؤمن بالله الواحد الأحد؟
ثالثاً: يظهر ان الاب صفرونيوس قد أوقع نفسه في معضلة عجيبة، فهو من جهةٍ لا يقبل خالقاً يترك الخليقة في جهلٍ، ولا يسجد لإلهٍ مجهول، لكنه في نفس الوقت ينتمي لديانةٍ تعتقد أن الثالوث أمرٌ فوق العقل، فهو مجهول فعلاً وحقيقة!
رابعاً: لا ينسب الموحدون لله أنه في هوّة سحيقة عن خلقه كما يزعم صفرونيوس، فإن الله سبحانه وتعالى وهو المنَزَّهُ عن المكان والزمان، محيطٌ بهما إحاطة قدرةٍ وسلطنة، وقد تقدّم ذلك في الفصل الأول.
وقد وصف القرآن الكريم الله تعالى بأنه: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾، وفسّرها الإمام المعصوم (عليه السلام) بأنها إحاطةٌ: بِالْإِشْرَافِ، والْإِحَاطَةِ والْقُدْرَةِ.
﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ ولا فِي الْأَرْضِ ولا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ ولا أَكْبَرُ﴾ بِالْإِحَاطَةِ والْعِلْمِ لَا بِالذَّاتِ، لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ مَحْدُودَةٌ تَحْوِيهَا حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا كَانَ بِالذَّاتِ لَزِمَهَا الحوَايَةُ (102).
إن الله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ﴾(103)، وقال تعالى عن ساعة الموت: ﴿ فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾(104).
فليسَ الله في هوّة سحيقة، وليس بعيداً عن خلقه، لكن قُربَه ليس قرباً مكانياً، إذ لا يحويه المكان ولا يحيط به.
يقول الأب هنري بولاد اليسوعي: ممّا لا شكّ فيه أنَّ الآب هو مصدر الابن. لذا نُسَمّيه الآب، والابن نسمّيه الابن لأنه من الآب.. الآب أعظم من الابن، لأنّ الآب هو مصدر الابن، وله فضلٌ عليه..
فأين المساواة بين الأب والابن؟
سنوضّح هذه المساواة عندما نُدرك أنَّ بين الآب والابن شرطُ وجودٍ متبادَل، فلا وجودَ للابن إلاَّ من خلال الآب، ولا وجود للآب إلاَّ من خلال الابن. وكما أنَّ الابن لا ينفرد بذاته بعيداً عن الآب، كذلك الآب لا يستطيع أنّ يحقق ذاته إلاَّ بفضل الابن.
فهناك فضلٌ متبادَلٌ بين الآب والابن، لأنَّ كلاً منهما شرطٌ للآخر. كيف ذلك؟
هل يمكن للآب أنْ يُحقّق أبوّةً بدون الابن؟ طبعاً لا. فوجود الابن ضروريٌّ لتتوافر صفة الأبوّة لدى الآب.
وهل يمكن للآب أنْ يعيش المحبّة المطلقة بدون الابن؟ طبعاً لا. فوجود الابن ضروريٌّ أيضاً لتتوافر صفة المحبّة لدى الآب(105)..
ويلاحظ على كلامه اثبات النقص في الله تعالى لاحتياجه إلى عيسى (عليه السلام)، فالله تعالى (عندهم) يتّصف بصفة الأبوّة، وهذه الصفة لا يمكن أن تتوفر فيه ما لم يكن عيسى الابن موجوداً، فصار الله تعالى محتاجاً إلى عيسى لكي يحوز على صفاته!
وهذه الصفة من صفات الذات عندهم، فذاتُ الباري عزّ وجل محتاجة لعيسى (عليه السلام)! فقوله (الآب لا يستطيع أنّ يحقق ذاته إلاَّ بفضل الابن) يثبتُ لعيسى (عليه السلام) فضلاً على الله تعالى، جلّ الخالق عزّ وجل عن ذلك.
والابن شرطٌ لوجود الآب، فلا وجودَ لله تعالى عندهم إلا بوجود عيسى (عليه السلام)، فصار وجود الله تعالى مشروطاً بوجود عيسى (عليه السلام)!
وبهذا صار كلٌّ من الآب والابن مفتقراً للآخر، فصار هذا القول أسوأ من قول الثنوية، فإنهم وإن قالوا بإلهين، إلا أن كلّ إله عندهم غير محتاجٍ للآخر، بخلاف هؤلاء العلماء من النصارى حيث قالوا باحتياج كلّ واحدٍ للآخر!