بسم الله الرحمن الرحيم
﴿الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ﴾(1)، الحمد لله الذي خاطبه نبيُّه المؤيد بروح القدس عيسى (عليه السلام) بقوله: هذِهِ هِيَ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ المَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ(2).
الحمدُ لله الذي قال عنه الكتاب المقدّس: أَنْتَ هُوَ الإِلهُ وَحْدَكَ(3).. لاَ مِثْلَ لَكَ يَا رَبُّ(4).. يَا رَبُّ، لَيْسَ مِثْلُكَ وَلاَ إِلهَ غَيْرُكَ(5)..
من بيئةٍ عايشت المسيح في أيامه بحسب الكتاب المقدّس.. ينحدر راقم هذه السطور.. من قرية في وسط مثلث: صور وصيداء والنبطية: تدعى أنصار.
مُثلَّثٌ في جنوب لبنان، طاف فيه المسيح، يشفي المرضى في ربوعه كما في إنجيل متى: ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ(6).
والثابت أن المسيح بعد زيارته صيدا اتّجه شرقاً نحو النبطية(7).. وهو الذي ينقل أنّه: ترك والدته في إحدى مغاور عدلون(8)، وهي قرية أخرى في هذا المثلث.
وَلِصُور حكايةٌ في الدفاع عن عقيدة توحيد الله تعالى التي بشّر بها المسيح، حينما انعقد مَجمعُ صور سنة 335م، الذي اعتبر عقيدة التوحيد التي تُنفى معها ألوهية عيسى هي الحق المبين، وأبطلَ عقيدة التثليث، قبل أن تنقضّ عليه المجامع المسكونية الأخرى كمَجمع القسطنطينية(9).
أما النبطية التي استقبلت المسيح وسائر قرى هذه المنطقة، والتي آمنت بالإسلام بعد البعثة الشريفة، فإنّها اختارت طوعاً اتّباع أحد حواريي النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أبو ذرٍّ الغفاري، وتحوّلت إلى مدينة الحسين (عليه السلام)، حتى صارت تعرف بذلك.
وهكذا كانت سائرُ قرى جنوب لبنان، نماذج من هذه البيئة، كقانا الجليل التي أتاها المسيح: فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضًا إِلَى قَانَا الجَلِيلِ(10)، والتي تحتوي: أول كنيسة جاهر بها اللبنانيون وزيّنوا جدرانها بالرسوم والشعارات ورفعوا الصلبان فوق أعتابها(11).
إنها قرى لبنان: بلد الأرز، الذي قال فيه العهد القديم من الكتاب المقدس: هُوَذَا أَعْلَى الأَرْزِ فِي لُبْنَانَ جَمِيلُ الأَغْصَانِ وَأَغْبَى الظِّلِّ، وَقَامَتُهُ طَوِيلَةٌ، وَكَانَ فَرْعُهُ بَيْنَ الغُيُومِ(12).
وهي التي بقيت وفيّةً للمسيح حينما احتضن ترابُها قبرَ وصيّ عيسى بطرس، المعروف بشمعون الصفا(13)، وعدداً من أنبياء الله تعالى.
من هذه البيئة ننطلق في هذا الكتاب، حيث عرف معظم أهلها أن المسيح محلّ ابتلاء كثيرٍ من الأمم، فقد قال يوماً: وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ(14).
لقد حاذر المسلمون في هذه البلاد من التعثُّر في المسيح (عليه السلام)، كما حاذروا من التعثُّر في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد روينا في أحاديثنا: بَيْنَا رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ جَالِساً إِذْ أَقْبَلَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
إِنَّ فِيكَ شَبَهاً مِنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَلَوْ لَا أَنْ تَقُولَ فِيكَ طَوَائِفُ مِنْ أُمَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ قَوْلًا لَا تَمُرُّ بِمَلَإٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ يَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ البَرَكَة(15).
نحاول في هذا الكتاب أن نقرأ الكتاب المقدَّس بعهديه (التوراة والإنجيل) قراءةً مجرّدةً عن أيّ حُكمٍ مُسبق، لنرى أن هذا الكتاب (على فرض صحته) هل هو كتابٌ توحيديٌّ أم كتابٌ تثليثيّ؟
ونتساءل: هل قال النصارى(16) بالتثليث بناءً على الكتاب المقدَّس؟ بحيث تضَمَّنَ نصوصاً صريحة في ذلك؟
ولعل هذا السؤال يبدو غريباً للوهلة الأولى، إذ كيف للنصارى أن يعتقدوا بالثالوث ما لم يكن الثالوثُ دعوةَ المسيح في كتابه؟!
فليتابع القارئ الكريم معنا مستذكراً قول الكتاب المقدَّس نفسه: مَنْ يُجِيبُ عَنْ أَمْرٍ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهُ، فَلَهُ حَمَاقَةٌ وَعَارٌ(17).
هي دعوةٌ لكل مسيحيٍّ أن يتقمّص دور الباحث في الكتاب المقدّس متجرِّداً عن الخلفيات التي قد توجِّهُه بعيداً عن دلالة النصوص.
يتضمَّنُ بحثُنا محاولةً لسبرِ أغوار الكتب السماوية الثلاثة، فيما يخصُّ توحيد الله تعالى.
أمّا الكتاب المقدّس، فهو الذي يتضمنُ العهدَ القديم الذي يؤمن به اليهود والنصارى، والعهدَ الجديد الذي ينفردُ بالإيمان به النصارى.
وقد كُتبت كُتُبُ هذين العهدين بلغات مختلفة، من عبريّةٍ وآراميّةٍ (انبثقت عنها السريانيّة) كما هو الحال في معظم أسفار العهد القديم، إلى يونانيّةٍ كما هو الحال في معظم أسفار العهد الجديد.
وأما القرآن الكريم فقد نزل باللغة العربية كما هو اليوم.
ويتضمن العهد القديم(18) المتفق على صحته عند النصارى أسفار موسى الخمسة (التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية)، والأسفار التاريخية (12 سفراً)، والأسفار الشعرية (5 أسفار)، وأسفار الأنبياء الكبار (8 أسفار)، وأسفار الأنبياء الصغار (9 أسفار)، بما مجموعه 39 سفراً.
أما الأسفار القانونية الثانية فمختلف حولها حيث تقرّها الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية، وترفضها مجمل الطوائف اليهودية والكنائس البروتستانتية الإنجيلية، وهي سبعة أسفار، فضلاً عن إضافةٍ في سفرين من الأسفار المعترف بها عند الجميع، فيصير عددها 46 سفراً عند من يعترف بها(19).
وأما العهد الجديد(20)، فيتضمن الأناجيل أو البشارات الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا)، وأعمال الرسل، ورسائل بولس (14 رسالة)، والرسائل الجامعة (7 رسائل ليعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا)، ورؤيا يوحنا، بما مجموعه 27 سفراً.
اعتمدنا بشكل أساسي في هذا الكتاب على:
1. النسخة المترجمة إلى العربية والمشهورة بـ(فان دايك) أو (سميث وفاندايك) للعهدين القديم والجديد، وهي المعروفة بالبروتستانتية. واقتبسنا منها معظم النصوص الواردة في الكتاب، وقد عمل على إخراجها كل من الدكتور عالي سميث، والدكتور كرنيليوس فان دايك، وشارك فيها المعلم بطرس البستاني، والشيخ ناصيف اليازجي، والشيخ يوسف الأسير الأزهري، طُبعت سنة 1865م.
واعتمدنا أيضاً على نسخ أخرى للعهدين منها:
2. الترجمة المشتركة: أو الترجمة العربية المشتركة، دار الكتاب المقدس: صدرت عن اتحاد جمعيات الكتاب المقدس، وقد وضعتها لجنة مؤلفة من علماء كتابيين ولاهوتيين ينتمون إلى مختلف الكنائس المسيحية: الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية.
3. الترجمة اليسوعية أو (الكاثوليكية): (Jesuit Arabic Bible): وهي الترجمة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية، عن الأصل العبراني واليوناني، وصدرت في بيروت في أواخر القرن التاسع عشر، عام 1897 تحديداً.
4. الترجمة اليسوعية الجديدة: وهي إعادة نظر في الترجمة السابقة، صدرت سنة 1989م.
5. ترجمة كتاب الحياة: (Arabic Life Application Bible).
6. ترجمة الأخبار السارة: (Good News Arabic).
7. الترجمة العربية المبسطة، أو الترجمة السهلة:ARABIC BIBLE: EASY-TO-READ VERSION، طباعة: المركز العالمي لترجمة الكتاب المقدس سنة 2009 م.
8. ترجمة العالم الجديد: لشهود يهوه.
9. ترجمة الشريف Sharif Arabic Bible (SAB).
10. ترجمة العلامة فارس الشدياق 1857م.
11. ترجمة الآباء الدومنكان 1875م العراق، الموصل.
12. (كتاب المقدس) طَبَعه ريتشارد واطس عن النسخة المطبوعة في رومية سنة 1671م.
وهناك ترجمات خاصة بالعهد القديم وحده أو بعض أقسامه منها:
1. تفسير التوراة بالعربية لسعديا بن جاؤون بن يوسف الفيومي: وهي أول ترجمة يهودية من النص العبري مباشرة إلى اللغة العربية، بخلاف الترجمات المسيحية التي تمت عبر الترجمة السبعينية واللاتينية، كُتب بالكلمات العربية والخطوط العبرية، ويرجع إلى أكثر من 1100 عام، ويظهر أنه طُبع أخيراً طبعة أخرى محققة منقّحة بعدة لغات كما في موقع biblejew.com واعتبر التفسير الرسمي اليهودي للتوراة، بقلم معالي الحاخام سعديا غاؤون.
2. التوراة: ترجمة عربية عمرها أكثر من ألف عام.
3. التوراة السامرية: النص الكامل للترجمة العربية: الكاهن أبو الحسن إسحاق الصوري.
4. العهد القديم: ترجمة بين السطور عبري عربي: الأبوان بولس الفغالي وأنطوان عوكر، طباعة الجامعة الأنطونية.
5. سفر التكوين: الترجمة السبعينية للكتاب المقدس، وهي أقدم ترجمة يونانية وصلت إلينا نقلاً عن النص العبري الأصلي، إعداد الراهب إبيفانيوس المقاري جمعاً بينها وبين عدة ترجمات أخرى.
6. العهد القديم لزماننا الحاضر: ترجمة الاب صبحي حموي اليسوعي.
7. العهد العتيق: الدار الكاثوليكية المصرية 1937.
8. توراة موسى: ترجمة عربية للسبعينية: د. خالد جورج اليازجي.
وترجمات خاصة بالعهد الجديد وحده أو الأناجيل الأربعة وحدها منها:
1. الترجمة البولسية: قام بها الأب جورج فاخوري مع الآباء البولسيين، وصدرت في لبنان سنة 1953م.
2. المعنى الصحيح لإنجيل المسيح، True Meaning Arabic (TMA).
3. الأناجيل الأربعة: اعتماداً على ترجمة عربية عمرها أكثر من ألف ومئة سنة، طبعها د. سهيل زكار في كتاب: الأناجيل النصوص الكاملة، يرجح أنها تُرجمت في العصر العباسي.
4. العهد الجديد: ترجمة بين السطور يوناني عربي، إعداد الآباء: بولس الفغالي وأنطوان عوكر، نعمة الله الخوري ويوسف فخري، طباعة الجامعة الأنطونية.
5. إنجيل متّى: بترجمة جديدة لإينوك باول وتعريب أحمد ايبش، طبع في كتاب: تطور الإنجيل.
6. الأناجيل الاربعة: ترجمة ابن العسال سنة 1253م عن النص القبطي.
7. الأناجيل الأربعة: مترجمة عن القبطية 1935م: حبيب جرجس.
8. الأناجيل الاربعة 1864 م في المانيا برلين.
9. الانجيل: الشريف الطاهر المقدس، بيروت 1865 م عن السريانية للمطران جرمانوس فرحات الحلبي الماروني.
10. الإنجيل المقدس طبعة روما 1951م.
11. العهد الجديد: الطبعة الهندية في كلكتة 1816م.
12. العهد الجديد: القمص قزمان البراموسي 1981م.
13. العهد الجديد قبطي عربي، دار الكتاب المقدس.
14. العهد الجديد لربنا يسوع المسيح 1342 م: طبعه المستشرق الهولندي توماس اربنيوس.
15. ترجمة الكلية الأكليريكية للأناجيل الأربعة.
وبهذا يكون ما تسنّى لنا مراجعته من ترجمات العهد القديم حوالي عشرين ترجمة، ومن العهد الجديد قد زاد عن خمسٍ وعشرين ترجمة مختلفة.
مضافاً إلى جملةٍ من الكتب التي لم تعترف بها الكنيسة، كإنجيل برنابا، وإنجيل الديداكي وهو من أقدم الأناجيل التي وصلت إلينا نِسَخُها، وجملةٍ من الأناجيل الأخرى التي عُبِّرَ عنها ب(المنحولة) كإنجيل توما وإنجيل الطفولة العربي، مضافاً إلى كتاب المورمون وغيرها من الكتب المسيحية المختلفة.
وقد راجعنا عدة تفاسير وشروح للكتاب المقدّس منها شروح: هنري أ. أيرونسايد ووليم ماكدونالد وبنيامين بنكرتن وهلال أمين وناشد حنا ومتى بهنام وغيرهم من شراح الكتاب المقدس.
ونشرع في فصولِ الكتاب، معتذرين من قرّائنا النصارى إن أورث عندهم غمّاً أو حزناً، فليس لنا أن نذُمَّ كلَّ غمٍّ وحزنٍ إذ قد يكون سببه انفتاح أبواب الحكمة ومعرفة الله معرفةً حقّة كما يشير إلى ذلك نبيُّ الله سليمان بحسب الكتاب المقدّس: وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِمَعْرِفَةِ الحِكْمَةِ وَلِمَعْرِفَةِ الحَمَاقَةِ وَالجَهْلِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ هذَا أَيْضًا قَبْضُ الرِّيحِ. لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الحِكْمَةِ كَثْرَةُ الغَمِّ، وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْماً يَزِيدُ حُزْناً(21).
الحكمةُ كلُّ الحكمة في أن يصير أحدُنا مصداقاً لقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الالبَابِ﴾(22).
والحمد لله ربِّ العالمين
محمد مصطفى مصري العاملي
قمّ المقدّسة
في: 22-12-2019 م
الموافق 25 ربيع الثاني 1441 للهجرة الشريفة.