فصل1: أبحاث تمهيدية
يعتقد أتباع الأديان السماوية الثلاثة (اليهود والنصارى والمسلمون) أن الكتب التي بين أيديهم وحيٌ إلهي، وإن اختلفت أساليب الإيحاء بها وكتابتها.
ففي العهد القديم كتاب اليهود (وهو مكتوب بالعبرية وبعضه بالآرامية، وقد ترجمه اليهود قبل الميلاد إلى اللغة اليونانية) ما يدلّ على أن الله تعالى كتب كلامَه وعهدَه لبني إسرائيل على لوحَي حجرٍ أعطاهما لنبيه موسى (عليه السلام): فَكَلَّمَكُمُ الرَّبُّ مِنْ وَسَطِ النَّارِ وَأَنْتُمْ سَامِعُونَ صَوْتَ كَلاَمٍ، وَلكِنْ لَمْ تَرَوْا صُورَةً بَلْ صَوْتًا. وَأَخْبَرَكُمْ بِعَهْدِهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِ، الكَلِمَاتِ العَشَرِ، وَكَتَبَهُ عَلَى لَوْحَيْ حَجَرٍ(1).
ولمّا صنع بنو إسرائيل العجل أخذ موسى اللوحين وطرحهما وكسّرهما!: فَأَخَذْتُ اللَّوْحَيْنِ وَطَرَحْتُهُمَا مِنْ يَدَيَّ وَكَسَّرْتُهُمَا أَمَامَ أَعْيُنِكُمْ(2)، فأمر الله موسى بِنَحتِ لوحين جديدين، وأعاد الربُّ كتابة الكلمات عليهما: فَأَكْتُبُ عَلَى اللَّوْحَيْنِ الكَلِمَاتِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى اللَّوْحَيْنِ الأَوَّلَيْنِ.. وأعطاهما لموسى فوضعهما في التابوت كما أمره الربّ(3).
وكان موسى يكتب أقوالَ الربّ وأحكامَه التي يبلّغها لبني إسرائيل: فَكَتَبَ مُوسَى جَمِيعَ أَقْوَالِ الرَّبِّ(4).
وقبل وفاة موسى (عليه السلام): كَمَّلَ مُوسَى كِتَابَةَ كَلِمَاتِ هذِهِ التَّوْرَاةِ فِي كِتَابٍ إِلَى تَمَامِهَا(5).
وأكّد العهد القديم على ضرورة الالتزام بحرفيّة الوحي السماويّ، حين منع عن الزيادة والنقيصة فيه بقوله: كُلُّ الكَلاَمِ الَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ احْرِصُوا لِتَعْمَلُوهُ. لاَ تَزِدْ عَلَيْهِ وَلاَ تُنَقِّصْ مِنْهُ(6).
أما النصارى، فإنهم يعتقدون أنّ المسيح نفسه لم يترك إنجيلاً، ومن كلماتهم في ذلك: المسيح نفسه لم يترك من بعده وثيقة مكتوبة(7). المسيح علم شفوياً ولم يترك أيّ أثرٍ كتابيّ. تلاميذه بشّروا وتركوا لنا العهد الجديد في اللغة اليونانية(8).
رغم ذلك، فإنهم وهم المؤمنون بالعهد الجديد، يعتقدون أنّ ما فيه قد ثبت بوحيٍ سماويٍ أو بإعلان من عيسى (عليه السلام)، كما نصّ العهد الجديد نفسه على ذلك، ففي رسائل بولس: وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ المَسِيحِ(9).
وذهب يوحنا إلى أن ما أتى به كان مرسلاً بيد ملاك الله له: إِعْلاَنُ يَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ الله، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ، وَبَيَّنَهُ مُرْسِلاً بِيَدِ مَلاَكِهِ لِعَبْدِهِ يُوحَنَّا(10).
ومثلُه ما في رسائل بطرس: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ. لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ الله القِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ(11).
وتُعَمَّمُ القضية إلى سائر الأسفار بحسب النص التالي: كُلُّ الكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ الله، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ(12).
فالإنجيل إذاً قد كُتِبَ بحسب هذه النصوص، وبحسب اعتقاد النصارى بوحيٍ سماويٍ عبر الروح القدس ملاك الله، لعباده كَتَبَة الأناجيل القدّيسين.
وقد صرّح علماء النصارى بأن هذه الكتب هي إلهامٌ من الله، وإن أقرّوا بأن الكَتَبَة هم الناس، يقول الشماس اسبيرو جبّور: النظرية المسيحية في الوحي تعتمد على أن الله ألهم كَتبة الكتاب المقدس، فتناولوا القلم وكتبوا. اللغة هي لغة الكاتب والموضوع الديني هو ما يقوم الله بإلهامه.. لا ينسب المسيحيون نص الكتابة إلى الله، لا يؤمنون بالإنزال نصاً ومعنى. وليس لديهم حتى إنزال. يؤمنون بإلهام الله للكاتب. الكتابة كتابة إنسان(13).
ورغم أن المخطوطات الأصلية كلّها قد فقدت، إلا أنهم يعتقدون صحة ما بين أيديهم، يقول عالم اللاهوت الهولندي د. هيرمان بافينك: تجدر الملاحظة.. أن المخطوطات الأصلية التي سطّرها الأنبياء والرسل أنفسهم، قد فُقدت جميعاً بلا استثناء، وليس لدينا سوى ما نسخ عنها. وأقدم هذه بالنسبة الى العهد القديم تعود بنا الى القرنين التاسع والعاشر، وبالنسبة الى العهد الجديد إلى القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد. وبعبارة أخرى فإنَّ قروناً كثيرة تفصل بين المخطوطات الأصلية والمخطوطات التي نقلت عنها والموجودة عندنا(14).
وان اكتشفت بعد ذلك مخطوطات قمران وغيرها.
أما المسلمون فيعتقدون في قرآنهم الكريم بالوحي السماوي أيضاً: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا القُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾(15)، وفي قوله تعالى: ﴿وَ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ﴾(16).
هي عقيدةٌ تتّفق عليها الكتب السماوية وأتباعُها من لزوم اتِّباع وحي السماء والأخذ بما بلّغ الأنبياءُ الخلقَ فيه عن رب العباد.
وفي حين كان إعجاز القرآن الكريم دليلاً على صحته وصدقه، وتحدّيه للناس أن يأتوا بمثله وعجزهم عن ذلك برهاناً على كونه إلهياً سماوياً، لم يكن للكتاب المقدس بعهديه أي تحدٍّ لإثبات صوابيته، وإن ذهب بعض قساوسة النصارى إلى أن عدم تناقضه وإخباراته الغيبية الصحيحة وغيرها من الوجوه أدلة على صحته!
إن الاعتقاد بأن وحيَ السماء هو مصدر الكتب السماوية لا ينافي كثرة الكذب على الله تعالى، ووجود دعاوى باطلة وافتراءات تضل الناس عن سبيل الله تعالى باسم رب العباد.
ففي العهد القديم تحذيرٌ من نسبة الباطل لله تعالى: لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً(17).
وفيه: كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الله نَقِيَّةٌ. تُرْسٌ هُوَ لِلْمُحْتَمِينَ بِهِ. لاَ تَزِدْ عَلَى كَلِمَاتِهِ لِئَلاَّ يُوَبِّخَكَ فَتُكَذَّبَ(18).
وفيه: فَقَالَ الرَّبُّ لِي: «بِالكَذِبِ يَتَنَبَّأُ الأَنْبِيَاءُ بِاسْمِي. لَمْ أُرْسِلْهُمْ، وَلاَ أَمَرْتُهُمْ، وَلاَ كَلَّمْتُهُمْ. بِرُؤْيَا كَاذِبَةٍ وَعِرَافَةٍ وَبَاطِل وَمَكْرِ قُلُوبِهِمْ هُمْ يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ»(19).
وفي العهد الجديد أيضاً تحذير من الأنبياء الكذبة: اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!(20).
وفيه: وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ(21).
وفي القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾(22).
وفضلاً عن الكذب والافتراء على الله تعالى، فإن من الناس من يحرف الكلم، ففي العهد القديم: اليَوْمَ كُلَّهُ يُحَرِّفُونَ كَلاَمِي(23)، وفيه: قَدْ حَرَّفْتُمْ كَلاَمَ الإِلهِ الْحَيِّ(24).
وفي القرآن الكريم: ﴿يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾(25).
فتحريف الكلام يكون:
1. تارة بتغييره وتحويره وتزويره، أي تبديل ألفاظه.
2. وتارة أخرى بتحريفه عن مواضعه أي تغيير معناه بعد الإبقاء على لفظه، فيُفَسَّر بتفسيرٍ لا يتناسب مع ما يريده الله تعالى.
إذا كان الأمرُ كذلك، فلا بدّ من وجود:
1. قواعد وضوابط يُمَيّزُ فيها كلام الله من كلام الأنبياء الكذبة المفترين المُضلِّين، ويُعرف فيها وحيُ السماء فيُعزل عن الرؤى الكاذبة والدعاوى الباطلة والافتراءات على رب السماء، وهو ما تتكفّل به أبحاث إثبات صحة نسبة الكتاب لله تعالى وصيانته من التحريف، وهو أجنبيٌّ عن بحثنا هنا، لأننا ناقشنا الكتب السماوية في هذا الكتاب على فرض صحتها بحسب المعتقدين بها.
2. ضوابط أخرى لفهم كلام الكتب المقدّسة، على فرض صحتها، لئلا ننخدع بمن يُحَرِّفُها عن مواضعها أي يغيّر معانيها.
فإن بقاء الكتب المقدّسة على ما هي عليه هو المرحلة الأولى لبلوغ الغاية، وبقاء معانيها كما أرادها الله تعالى هو المرحلة الثانية لنفس الغاية، وأيُّ خللٍ في المرحلتين سيؤدي إلى فهمٍ مغلوطٍ لها ونتيجةٍ مغايرةٍ للغرض من إنزالها.
لمّا نزلت الكتب السماوية بلغاتٍ بشريّةٍ على الشعوب المختلفة، فإنّها جرت في أساليبها مجرى الناس أنفسهم في خطاباتهم اليومية ولغاتهم المحكية في الجملة، فتضمّنت كما هو حال كل اللغات نصوصاً صريحةَ الدلالة لا تحتمل إلا وجهاً واحداً، وأخرى ظاهرةً في معنى تدلُّ عليه ولا تُصرف عنه إلا بقرينةٍ، ونصوصاً مُجمَلة تحتاج إلى تحديد وجهها وتِبيان المراد منها.
وههنا يُطرح سؤالٌ محوريٌّ حول فهم النصوص الكتابية: هل ينبغي فهمها على ظاهرها مطلقاً؟ والأخذ بحرفيّتها من ناحية الدلالة؟
أم يلزم أن تؤخذ مجتمعة فيفسّرُ بعضها بعضاً؟ ويُحمَل الظاهر على الأظهر، والمتشابَه على المحكم.. ويُفهم المجاز على مجازيّته، وتُحمَل كثيرٌ من ألفاظها على التشبيه والاستعارة وأمثال ذلك؟
لقد أشار بولس إلى أهمية معرفة اللغة لفهم الكلام فقال: فَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْرِفُ قُوَّةَ اللُّغَةِ أَكُونُ عِنْدَ المُتَكَلِّمِ أَعْجَمِيًّا، وَالمُتَكَلِّمُ أَعْجَمِيًّا عِنْدِي(26).
وفي إنجيل متّى إشارة إلى أهمية الأرضيّة الصالحة لفهم الكلام حقّ فهمه، فليس كل من سمع الكلمة فهمها ووعاها: وَأَمَّا المَزْرُوعُ عَلَى الأَرْضِ الجَيِّدَةِ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ(27).
أما القرآن الكريم فقد بيّن الأمر جلياً بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾(28).
ولأهميّة هذا المطلب وخطورته، فإنّ من المناسب عرضَ نماذج من أساليب الكتب السماوية في إيصال الأفكار، وهي تؤكد احتوائها على المحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والكناية والاستعارة والتشبيه، وغير ذلك مما يفيدنا في فهم هذه الكتب، فلا يستغرب القارئ الكريم من هذا المنهج بعد الدخول في البحث إذا ما اتضحت معالمه عنده.
يلتزم أتباع الأديان السماويّة بأن الله تعالى ليس كمثله شيء (كما سيأتي في الفصل الثاني)، ولذا فإنهم يحملون النصوص التي تخالف هذا المعنى على معنى مجازيّ كما هو واضح، وإلا يلزم أن يُنسب للربّ يدٌ وإصبعٌ وعينٌ وأُذُنٌ وأنفٌ وفمٌ ورجلان وغير ذلك.
ففي العهد القديم نصوص عديدة تتضمن مثل هذه التعابير منها:
أَمِلْ يَا رَبُّ أُذُنَكَ وَاسْمَعِ. افْتَحْ يَا رَبُّ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ(29).
اَلآنَ عَيْنَايَ تَكُونَانِ مَفْتُوحَتَيْنِ، وَأُذُنَايَ مُصْغِيَتَيْنِ إِلَى صَلاَةِ هذَا الْمَكَانِ(30).
فَهَا يَدُ الرَّبِّ تَكُونُ عَلَى مَوَاشِيكَ الَّتِي فِي الحَقْلِ، عَلَى الخَيْلِ وَالحَمِيرِ وَالجِمَالِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ، وَبَأً ثَقِيلاً جِدًّا(31)..
ثُمَّ أَعْطَى مُوسَى عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الكَلاَمِ مَعَهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ لَوْحَيِ الشَّهَادَةِ: لَوْحَيْ حَجَرٍ مَكْتُوبَيْنِ بِإِصْبعِ الله (32).
يَمِينُكَ يَا رَبُّ مُعْتَزَّةٌ بِالقُدْرَةِ. يَمِينُكَ يَا رَبُّ تُحَطِّمُ العَدُوَّ(33).
صَعِدَ دُخَانٌ مِنْ أَنْفِهِ، وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ. جَمْرٌ اشْتَعَلَتْ مِنْهُ. طَأْطَأَ السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ، وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ(34).
وقد التزم النصارى بتنزيه الله تعالى عن الأعضاء، فحُملت هذه الألفاظ على معانٍ مجازية، لذا قال الراهب القمص فليمون الأنبا بيشوى:
مثل هذه التعابير البشرية التي هي بعيدةٌ كل البعد عن جوهر الله لأن الله ليس بجسد فيوصف.. وليس له أعضاء بشرية(35).
وقال عالم اللاهوت الهولندي د. هيرمان بافينك:
الكتاب المقدس الذي يتكلم بأسمى طريقة عن عظمة الله.. يتحدث عنه باستعارات وتشبيهات نابضةٍ بالحياة، فهو يتحدث عن عينيه وأذنيه ويديه وقدميه، فمه وشفتيه، قلبه وأحشائه.. ويستعير الكتاب المقدس لله استعارات شتّى كالشمس والنور والينبوع والعين والصخر والملجأ والسيف والترس والأسد والنسر، والبطل والمحارب.. والأب(36).
هي أنواع استعارة وتشبيه إذاً يفيض بها الكتاب المقدس عن الله تعالى، وليس فيها شيء من المعاني الحقيقية، وكلُّ ظاهرٍ ينافي تنزيه الله تعالى يُعرَضُ عنه ويُقدَّمُ التفسير الذي يتناسب مع كماله عزّ وجلّ.
يشهد على ذلك أيضاً بعض ترجمات العهد القديم في بعض الفقرات، ففي ترجمة سعديا بن جاؤون (ص269) وفي ترجمة أبو الحسن إسحاق الصوري (ص135) ورد أن اللوحان (مكتوبين بقدرة الله) بدلاً من (بِإِصْبعِ الله)، كما في أغلب النسخ.
ويعطي القديس يوحنا الدمشقي(37) قاعدةً عامة لذلك بقوله: إن الكثير مما يُفهم عن الله فهماً غامضاً لا يمكن التعبير عنه تعبيراً صائباً، بل نضطر في الكلام عمّا يفوقنا إلى استعمال ما هو على شكلنا. مثلاً، في الكلام عن الله ننسب إليه تعالى النوم والغضب والإهمال واليدين والرجلين وما شابه ذلك(38).
ونموذجها يمين الربّ مثلاً، فيقول الدمشقي: لا نقول بيمين مكانية، فكيف تكون يمينٌ مكانية لمن لا يُحصر؟ واليمين واليسار تختصّان بالأجسام المحدودة، لكننا نعني بيمين الآب مجد لاهوته وكرامته(39).
ويؤيَّدُ ذلك بما في إنجيل برنابا: قال متى: يا معلم، إنك لقد اعترفت أمام اليهودية كلّها بأن ليس لله من شبهٍ كالبشر، وقلت الآن: إن الإنسان ينالُ من يد الله. فإذا كان لله يدان فله إذاً شَبَهٌ بالبشر. أجاب يسوع: إنك لفي ضلالٍ يا متى. ولقد ضلّ كثيرون هكذا إذ لم يفقهوا معنى الكلام. لأنّه لا يجبُ على الإنسان أن يُلاحظ ظاهر الكلام بل معناه(40).
ورد في العهد القديم: فَسَمِعَ الله أَنِينَهُمْ، فَتَذَكَّرَ الله مِيثَاقَهُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَنَظَرَ الله بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَلِمَ الله(41).
ولا يلتزم النصارى بعلم الله بعد جهلٍ، ولا بتذكُّره بعد نسيان، فيحملون الكلام على غير ظاهره.
يقول الراهب القمص فليمون الأنبا بيشوى عن الله تعالى: يعلم منذ الأزل كل ما يحدث في الكون.. ليس أمامه ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل(42).
ذلك أنه قد ثبت عدم محدودية علم الله لِما كان وما لم يكن، قال القديس توما الأكويني: كل ما يمكن للخليقة أن تصنعه أو تفتكره أو تقوله وكل ما يمكن لله أن يصنعه كل ذلك يعرفه الله وان لم يكن موجوداً بالفعل، وبهذا الاعتبار يجوز أن يقال ان الله يعلم اللاموجودات ايضاً(43).
ذكر العهد القديم ندمَ الرب مرات عديدة منها: فَنَدِمَ الرَّبُّ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ يَفْعَلُهُ بِشَعْبِهِ(44)، ومنه: فَنَدِمَ الرَّبُّ عَنِ الشَّرِّ(45)، ومنه: وَالرَّبُّ نَدِمَ لأَنَّهُ مَلَّكَ شَاوُلَ عَلَى إِسْرَائِيلَ(46). وغير ذلك من الموارد.
ولأنّ الندم نقصٌ كاشفٌ عن جهل، ولأنّ الله تعالى منزّه عن النقص والجهل، حمل النصارى الندم على حالة تصويرية تُشبِهُ الحالة البشرية، فهو معنى مجازيّ لا حقيقيّ، قال: الراهب القمص فليمون الأنبا بيشوى: ما معنى أن الله ندم على الشر.. فلم يصنعه؟ معناه أن الله لم يتغيّر، إنما الشعب هو الذي تغيّر، وهنا يعلن الله لهم بلغة البشرية صفحَهُ عنهم، فندم الله عن الشر الذي قال أن يفعله بشعب..(47).
يشهد على ذلك أيضاً بعض ترجمات العهد القديم، فقد خلت بعض موارد ترجمة سعديا بن جاؤون من لفظ الندم وحلّ محلّه (الصفح): فصفح الله عن البليّة التي قال أن يحلّها بقومه(48)، وقريب منه ترجمة أبو الحسن إسحاق الصوري(49)، وفي ترجمة (بين السطور عبري عربي) استبدل الندم بالعود عن السوء الموعود فكان النصّ: فعاد الربّ عن السوء الذي قال إنّه سينزله بشعبه(50)، لكن سائر الموارد كما في (صموئيل الأول والثاني) ما خلت من نسبة الندم لله تعالى، فلا بدّ أن يكون المراد منها هو المعنى المجازي المتقدّم.
ورد في العهد القديم: وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى نَاثَانَ قَائِلاً: «اِذْهَبْ وَقُلْ لِعَبْدِي دَاوُدَ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أَأَنْتَ تَبْنِي لِي بَيْتًا لِسُكْنَايَ؟ لأَنِّي لَمْ أَسْكُنْ فِي بَيْتٍ مُنْذُ يَوْمَ أَصْعَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ إِلَى هذَا اليَوْمِ، بَلْ كُنْتُ أَسِيرُ فِي خَيْمَةٍ وَفِي مَسْكَنٍ(51).
وفي ترجمة الحياة: كُنْتُ أَتَنَقَّلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ فِي خَيْمَةٍ هِيَ مَسْكَنٌ لِي.
وفيه أيضاً: حِينَئِذٍ تَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ: «قَالَ الرَّبُّ إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي الضَّبَابِ. إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ بَيْتَ سُكْنَى، مَكَانًا لِسُكْنَاكَ إِلَى الأَبَدِ»(52).
وفي الترجمة المشتركة: في السَّحابِ يسكُنُ الرّبُّ. وفي الترجمة الكاثوليكية: قالَ الرَّبُّ إِنَّه يَسكُنُ في الغَيمِ المُظلِم.
وفي موارد أخرى ذكر أن موضع سكنى الأب هو السماء: .. وَاسْمَعْ أَنْتَ فِي مَوْضِعِ سُكْنَاكَ فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا سَمِعْتَ فَاغْفِرْ(53).
وفي المزامير: مِنَ السَّمَاوَاتِ نَظَرَ الرَّبُّ. رَأَى جَمِيعَ بَنِي البَشَرِ. مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ تَطَلَّعَ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ الأَرْضِ(54).
وظاهر العبائر أن الربّ كالناس يسير في خيمة، وأنه يسكن في مكان محدد، أرضيّاً كان أم سماوياً، ولازم الأمرين الجسمية والمحدودية التي يجلّ الخالق عزّ وجل عنها.
فلا بدّ من عدّ مثل هذه الكلمات من المتشابهات التي ينبغي ردّها إلى المحكمات، ويتضح ذلك بالعودة إلى نصوصٍ أخرى تبيّن أن الله تعالى لا يُحَدُّ بمكانٍ، وأن البيتَ الذي بُني إنما بُني لاسم الله لا لكي يكون الله تعالى فيه، جلّ ربنا عن ذلك.
ومن هذه النصوص: لأَنَّهُ هَلْ يَسْكُنُ الله حَقًّا عَلَى الأَرْضِ؟ هُوَذَا السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُكَ، فَكَمْ بِالأَقَلِّ هذَا البَيْتُ الَّذِي بَنَيْتُ؟.. لِتَكُونَ عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ عَلَى هذَا البَيْتِ لَيْلاً وَنَهَارًا، عَلَى المَوْضِعِ الَّذِي قُلْتَ: إِنَّ اسْمِي يَكُونُ فِيهِ(55).
ومنها: وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «قَدْ سَمِعْتُ صَلاَتَكَ وَتَضَرُّعَكَ الَّذِي تَضَرَّعْتَ بِهِ أَمَامِي. قَدَّسْتُ هذَا البَيْتَ الَّذِي بَنَيْتَهُ لأَجْلِ وَضْعِ اسْمِي فِيهِ إِلَى الأَبَدِ(56).
فكان المراد من سُكنى الرب في البيت سُكنى اسمُه فيه، أي أن يكون اسمه موضوعاً فيه، لأنّ الله تعالى منزّه عن الحلول في الأماكن، ويكونُ المراد من سُكنى الرب: سُكنى إسم الرب، فعندما يقول داوود (عليه السلام): قَدْ بَنَيْتُ لَكَ بَيْتَ سُكْنَى(57)، يبيّن العهد القديم ذلك بقوله: وَكَانَ فِي قَلْبِ دَاوُدَ أَبِي أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا لاسْمِ الرَّبِّ(58). فالمرادُ من بيت الرب بيتَ اسم الرب.
ومثلها لا بدّ من تأويل كلّ ما دلّ على تجسم الله تعالى أو تحيُّزه، كالقول بركوبِه وطيرانه كما في المزامير: رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ، وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ(59).
ومن هذا الباب تنفتح أبوابٌ في غاية الأهمية، فلو نَسَبَ الكتابُ المقدَّس لله تعالى ما لا يليق بشأنه ولا ينافي كماله لزم حملُهُ على خلاف الظاهر، وقد يُراد منهُ جملة من المعاني، فتارة يُراد اسم الله كما في هذا النموذج، وتارة يُراد رضاه عزّ وجل أو غضبه أو دينه أو رسله وأنبياءه وأولياءه، وهكذا في كلّ مورد لزم من الأخذ بالظاهر مخالفة صفات الله تعالى وكماله.
ورد في العهد القديم: لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ نَارٌ آكِلَةٌ، إِلهٌ غَيُورٌ(60).
وليست حقيقة الرب ناراً بلا شك ولا شبهة، إنما هو معنى مجازيّ فسّره القساوسة كالقس انطونيوس فكري بأنه: شديد الغيرة على مجده وعلى شعبه وشديد الإنتقام من أعدائه ومقاوميه ويبيدهم، وناره تحرق الخطية من قلوب شعبه.
وفسره القمص تادري يعقوب ملطي أيضاً بأنه يعني: الله نارٌ آكلة، يُلهب القلب بنيران الحب التي لا تقدر كل مياه العالم أن تُطفئها، وفي نفس الوقت تُحرق كل شرٍ وفسادٍ.
وينقل ملطي عن القدِّيس أغسطينوس تفسيره: أنت أيها الرب نار آكلة تحرق اهتماماتهم التي بلا حياة وتجدِّدهم أبدياً.
هو إحراق مجازيٌّ إذاً يراد منه الانتقام من أعدائه بالنار، أو توفيق المؤمنين لترك الأعمال السيئة، والتخلُّص من الخطايا والشرور، أو ما يُلهب قلوبهم بالحب.
وفي حين ورد في معظم النسخ أن الرب نارٌ آكلة، ورد في ترجمة سعديا بن جاؤون: لأن عقاب الله ربك نارٌ آكلة(61)، فكانت الترجمة مختلفة من أساسها، وفي ترجمة أبي الحسن إسحاق الصوري: لأن الله إلهك كالنار المحرقة، هو القادر المعاقب(62).
وهكذا ورد وصف الرب بأوصافٍ مختلفة لا يُراد منها الحقيقةُ جزماً كقولهم أن: الرَّبَّ يَنْبُوعَ المِيَاهِ الحَيَّةِ(63). وهكذا في موارد عدّة.
في العهد القديم: وَكَلَّمَ دَاوُدُ الرَّبَّ بِكَلاَمِ هذَا النَّشِيدِ.. فَقَالَ: «اَلرَّبُّ صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي، إِلهُ صَخْرَتِي بِهِ أَحْتَمِي.. لأَنَّهُ مَنْ هُوَ إِلهٌ غَيْرُ الرَّبِّ؟ وَمَنْ هُوَ صَخْرَةٌ غَيْرُ إِلهِنَا؟(64).
ولا ريب في أن الرب ليس صخرةً! إنما يراد من الصخرة هنا رمزُ القوة والحصانة ومن يُعتمد عليه، فهو صاحب القدرة، ومن خفي عليه هذا المعنى على وضوحه كانت الآيات نفسها مرشدة له: (صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي).
والنص نفسه تضمّن تعبيران حول الصخرة، فتارة يقول: (اَلرَّبُّ صَخْرَتِي) وتارة أخرى (إِلهُ صَخْرَتِي)، ولعلّه يراد من الأولى أنّه هو القوة التي أعتمِدُ عليها، ومن الثانية أنّه هو الإله الذي يعطيني قوتي.
في المزامير ما يتضمّن طلباً من الله أن يستيقظ! ففيه: اِسْتَيْقِظْ! لِمَاذَا تَتَغَافَى يَا رَبُّ؟ انْتَبِهْ! لاَ تَرْفُضْ إِلَى الأَبَدِ(65).
يفسّرها القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله: إنه لا يقول هذا لكي يجعلنا نظن أن الله ينام، فهذا سيكون منتهى الجنون. بكلمة (تتغافى) يُظهر المزمور صبر الله واحتماله من نحونا(66).
ويقول: الذي يقول إن الله ينام يشير إلى صبر الله واحتماله، والذي يقول إن الله لا ينام يوضح أن طبيعة الله طاهرة ونقية(67).
ويقول القديس يوحنا الدمشقي: ويراد بنسيانه ونومه ونعاسه تأجيلُه الانتقام من الأعداء(68).
في كلمات العهد القديم سوى ما تقدّم عشراتُ بل مئاتُ الموارد التي أُريدَ منها التشبيهُ والاستعارةُ والكنايةُ وأمثال ذلك..
منها على سبيل المثال: أَلَيْسَ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ جِدًّا يَتَحَوَّلُ لُبْنَانُ بُسْتَانًا، وَالبُسْتَانُ يُحْسَبُ وَعْرًا؟(69).
قال ناشد حنا في تفسيره لها: لا يقصد بلبنان هنا جبل لبنان لكن الوحي يأخذ لبنان كتشبيهٍ نجده كثيراً في النبوات للارتفاع مثل أرز لبنان العالي، أو تشبيهاً للازدهار.
ومنها: وَمَفْدِيُّو الرَّبِّ يَرْجِعُونَ وَيَأْتُونَ إِلَى صِهْيَوْنَ بِتَرَنُّمٍ، وَفَرَحٌ أَبَدِيٌّ عَلَى رُؤُوسِهِمِ. ابْتِهَاجٌ وَفَرَحٌ يُدْرِكَانِهِمْ. وَيَهْرُبُ الحُزْنُ وَالتَّنَهُّدُ(70).
ولا ريب أن الحزن والتنهُّد لا يهرب كما تهرب الكائنات الحيّة، لكنّ مثل هذه الاستعارات والتشابيه متعارفةٌ في كافة اللغات، فلا يلزم حمل كلّ حديث على حرفيته، فإذا ما مرّ معنا ما يشيرُ إلى تجسُّد الله تعالى مثلاً أو إلى كونه شخصاً أو أقنوماً لم يكن هناك مانعٌ من حمله على الاستعارة والتشبيه بحسب القرائن المتقدّمة، بل كان ذلك لازماً.
ومن نماذج ذلك أيضاً: اِفْتَحْ أَبْوَابَكَ يَا لُبْنَانُ، فَتَأْكُلَ النَّارُ أَرْزَكَ. وَلْوِلْ يَا سَرْوُ، لأَنَّ الأَرْزَ سَقَطَ(71).
وقال رشاد فكري في تفسيرها: إذا عرفنا أن لغة هذه الأعداد لغة استعاريّة وتشبيهيّة اتضح لنا المعنى بسهولة.. فالمقصود هو الجانب القضائي أي وقوع الخراب والدمار. وعلى ذلك يكون لبنان هنا كناية عن إسرائيل نفسه في مجده وقوته.
ومثلها قوله: لِتَفْرَحِ السَّمَاوَاتُ وَتَبْتَهِجِ الأَرْضُ(72).
يقول القديس يوحنا الدمشقي: السماوات ليست حيّة.. وإذا كان الكتاب الإلهي يقول: (لتفرح السماوات وتبتهج الأرض) فذلك أنه يدعو إلى السرور الملائكة الذين في السماء، والبشرَ الذين على الأرض(73).
من رسائل بولس: لأَنَّ جَهَالَةَ الله أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ الله أَقْوَى مِنَ النَّاسِ! (74).
وفسّرها شرّاح الإنجيل بخلاف الظاهر منها، فقال وليم ماكدونالد: في الواقع، لا جهالة في الله ولا ضعف. حاشا! إنما الرسول يقول في العدد 25 أن ما يبدو جهالةً عند الله في نظر الإنسان، هو في الواقع أحكَمُ من الناس مهما كانوا حكماء. كذلك ما يبدو ضعيفاً عند الله في نظر الإنسان، يتبيَّن أنه أقوى من أي شيء يقدر الإنسان على تحقيقه.
وقال بنيامين بنكرتن: فقولهُ جهالةُ الله أحكَمُ من الناس يُظهر سموّ أفكار الله بالمُقابَلَة مع حكمة الإنسان. وليس كأنّهُ يوجد شيء من الجهالة فيهِ تعالى حاشا وكلا.
وقد اختلفت نسخ الانجيل في ترجمة هذه العبارة، ففي حين كانت أغلب النسخ شبيهةً بنسخة فان دايك المتقدمة، ورد في الترجمة اليسوعية: لأن الحماقة من الله أكثر حكمة من الناس، والضعف من الله أوفر قوة من الناس.
لكنّ بعض النسخ عدّلت اللفظ ليخلو ظاهرُه من هذا الإشكال، ففي ترجمة الاخبار السارة: فما يبدو أنه حماقةٌ من الله هو أحكمُ من حكمة الناس، وما يبدو أنه ضعفٌ من الله هو أقوى من قوة الناس. وقريب منها الترجمة السهلة والترجمة المشتركة وترجمة الشريف. وبهذا صار نصُّ هذه الترجمات بنفسه خالٍ من الإشكال دون الحاجة لتأويل، فيما ظلّت أغلب النسخ الأخرى بحاجة لهذا التصرُّف في ظاهر اللفظ لنفي الجهل والحمق والضعف عن الله تعالى.
يقول بولس في بعض رسائله حول المسيح: لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لحمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ(75).
وقد خلت أغلب التراجم من أي تعابير عن اللحم والعظم، واكتفت بذكر أنّهم أعضاء جسم المسيح، وفسّرها متى بهنام: أنه صارت لنا علاقةٌ مع المسيح المُقام من الأموات.
فلم تُحمَل أعضاء جسم المسيح (ولحمه وعظامه) على المعنى الحقيقيّ إنما على المعنى المجازيّ الذي يدل على الارتباط بينهم وبينه كالارتباط بين أعضاء الجسد، وهو نظير ما ورد عندنا في الأحاديث الشريفة: وَإِنَّ المُؤْمِنِينَ فِي إِيثَارِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمِثْلِ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالسَّهَر(76).
ينقل متّى عن عيسى (عليه السلام) قوله: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لالقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لالقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا(77).
وحملُها على ظاهرها يعني أن عيسى (عليه السلام) جاء حاملاً سيفاً لا ليلقي سلاماً بل ليثير فتنة بين الناس وداخل الأُسَر المؤتلفة، لذا عَدَلَ مفسرو الكتاب المقدس عن ظاهرها، فقال وليم ماكدونالد مثلاً: ينبغي فهم كلمات الرب يسوع هنا على أنها استعارة تبدو فيها النتائج الظاهرة لمجيئه كما لو كانت القصد البادي لذلك المجيء. فهو يقول إنه لم يأتِ ليلقي سلاماً على الأرض بل سيفاً. لقد أتى في الحقيقة ليصنع سلاماً..
وقال بنيامين بنكرتن: ولو تاب إسرائيل، لحصلوا على السلام. ولكن إذ رفض فإنّه ينبّه تلاميذه أن لا ينتظروا سلاماً على الأرض. «بل سيفاً»، والسيف عبارة عن الانقسام والعداوة القاتلة.
فجعل الأولُ منهما ما ذكره عيسى (عليه السلام) من باب ذكر السبب (قدوم عيسى (عليه السلام)) وإرادة النتيجة (فقدان السلام ووقوع السيف) دون أن يحمّله (عليه السلام) مسؤولية ذلك، وتبعه الثاني فحمّلهم مسؤولية الانقسام ووقوع السيف بينهم وبرّأ عيسى (عليه السلام) من ذلك، وهو خلاف الظاهر فعلاً، لكن الظاهرَ البدويّ لا يمكن أن يكون مقصوداً أبداً هنا.
وقد خلت كل ترجمات الإنجيل من أي إشارة لهذا المعنى إلا ترجمة (المعنى الصحيح لإنجيل المسيح) حيث ورد فيها: لا تَظُنّوا أنّي جِئتُ لأُقيمَ السَّلامَ بَينَ المؤمنينَ وغَيرِ المؤمنينَ في الأرضِ على حِسابِ الحقّ. بل جِئتُ برِسالةِ الحَقِّ الّتي هي كحَدِّ السَّيفِ لأفصِلَ بَينَهُم! وهكذا ستُثيرُ دَعوتي الخِلافَ بَينَ الابنِ وأبيهِ، والبِنتِ وأُمِّها، وزَوجةِ الابنِ وحَماتِها.
وهكذا كان لا بدّ من الخروج عمّا دلّ عليه النص في مختلف ترجمات الإنجيل والمصير إلى ما ذُكر في هذه الترجمة لئلا يلزم ما ينافي مقام عيسى (عليه السلام) فإنّه مُنَزَّهٌ عن بثّ الفرقة بين الأُسِر المتماسكة.
من كلمات المسيح بحسب الإنجيل: وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ الله لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ(78).
وليس المراد هو كونهما جسداً واحداً حقيقيةً فهذا يخالف الوجدان، إنما يراد منه شدّة القرب بينهما حتى كأنهما جسدٌ واحدٌ، فشدّة القربّ والصلة بين طرفين أو شخصين تُسوّغ في جملةٍ من الحالات وصفهما بوصف واحد أو عَدَّهُما واحداً، وهذا ما ينبغي التنبُّه له كثيراً عند البحث في الكتاب المقدّس لفهم مقاصده ومعانيه.
من كلمات المسيح في العهد الجديد مع أبناء قَتَلَة الأنبياء: أَيُّهَا الحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟(79).
ومن كلماته لهم: يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟(80).
ولا شك أن هؤلاء الناس ليسوا حياتٍ ولا أولاداً للأفاعي، إنما يراد بهذا التعبير اتّباعهم للشرّ وفسادهم وتشبيهاً بالحيّة التي هي الشيطان كما يقول مفسرو الإنجيل ومنهم هنري أ. أيرونسايد في تفسيره للآيات فليراجع.
قال الله تعالى في خطابه لنوح (عليه السلام): ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾(81).
ولئن أراد جاهلٌ أن ينسب لله عيناً كأعين الناس، كانت نِسبَتُه مخالفةً لمنهج العقلاء وأهل اللغات والمحاورات في فهم الكلام، فإن العين هنا تعني الرعاية والحفظ وما شابه.
وقد قال أمير البلاغة (عليه السلام) في نهجه الشريف: نَافِحُوا بِالظُّبَى، وَصِلُوا السُّيُوفَ بِالخُطَا، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ الله، وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ الله، فَعَاوِدُوا الكَرَّ، وَاسْتَحْيُوا مِنَ الفَرِّ(82).
وفي تفسير القمي: بِأَعْيُنِنا: أي بحفظنا وحرزنا ونعمتنا(83).
قال تعالى عن يوم القيامة: ﴿وَجاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾(84).
ولا يمكن أن يكون مجيء الله تعالى كمجيئنا لاستحالة ذلك وتنزُّه الباري عزّ وجل عنه، كما عن الصادق (عليه السلام): وَلَيْسَ لَهُ جَيْئَةٌ كَجَيْئَةِ الخَلْق(85).
كما لم يكن ذهاب إبراهيم (عليه السلام) إلى ربه كذهابه إلى بيته بجسده: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾(86).
لذا كان المراد من مجيء الله تعالى في الآية وسائر الآيات مجيء أمر الله: إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لَا يُوصَفُ بِالمَجِيءِ وَالذَّهَابِ تَعَالَى عَنِ الِانْتِقَالِ، إِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ وَجَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَالمَلَكُ صَفّاً صَفّاً(87).
في القرآن الكريم عدة آيات حول نسيان الله للكافرين أو المنافقين، منها قوله تعالى: ﴿المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾(88).
وقوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(89).
والآية الثانية قرينةٌ قطعيةٌ لمن خفي عليه المعنى واشتبه عليه الأمر في نسيان الله تعالى للقوم، ففيها يمتنع اجتماع نسيانهم مع نزول عذاب الخُلد عليهم، بحيث تشير إلى أن النسيان هو تركهم في العذاب الأخروي كما تركوا طاعة الله في الدنيا، لذا لما سُئل الإمام الرضا (عليه السلام) عن الآية أجاب: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَنْسَى وَلَا يَسْهُو وَإِنَّمَا يَنْسَى وَيَسْهُو المَخْلُوقُ المُحْدَثُ، أَ لَا تَسْمَعُهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ وَإِنَّمَا يُجَازِي مَنْ نَسِيَهُ وَنَسِيَ لِقَاءَ يَوْمِهِ بِأَنْ يُنْسِيَهُمْ أَنْفُسَهُمْ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَاليَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا﴾ أَيْ نَتْرُكُهُمْ كَمَا تَرَكُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ هَذَا(90).
غَضَبُ الله على المشركين به وعلى المنافقين مما لا ريب فيه، وقد دلت على ذلك آيات عديدة، منها قوله تعالى: ﴿وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِالله ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً﴾(91).
والغضب الإلهيّ بحسب الإنجيل أيضاً شامل لفجور الناس وآثامهم: لأَنَّ غَضَبَ الله مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ(92).
وقد عرّف بعض اللغويين الغضب بأنه: ثوران دم القلب إرادة الانتقام(93)، وهو ما لا يمكن نسبته لله تعالى المنزه عن مجانسة المخلوقات، وعن التحوّل من حال إلى حال، فلا بدّ من تفسير الغضب الإلهي بالعقاب ونظائره لا بما عهدناه من غضب المخلوقين، كما فسّره الأئمة المعصومون ^، فقد أجاب الباقر (عليه السلام) عندما سئل عن غضب الله تعالى فقال: هُوَ العِقَابُ، يَا عَمْرُو إِنَّهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الله قَدْ زَالَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ فَقَدْ وَصَفَهُ صِفَةَ مَخْلُوقٍ، وَإِنَّ الله تَعَالَى لَا يَسْتَفِزُّهُ شَيْءٌ فَيُغَيِّرَهُ(94)، وهو ينسجم مع أصل الغضب في اللغة الذي هو: أصلٌ صحيح يدلُّ على شدَّة وقُوّة(95).
فلا يعقل أن يكون الغضب الإلهيّ كالغضب البشري الذي يستلزمُ التغيُّرَ والتبدُّلَ من حال إلى حال، فإنّه تعالى مُنَزَّهٌ عن ذلك.
وقد أقرّ علماء النصارى بهذا المعنى، فقال القديس توما الأكويني: ان الله انما يوصف بالغضب ونحوه على سبيل التشبيه في الأثر، لأنّه لما كان من شأن الغضبان أن يقتصّ أطلِقَ الغضب على القصاص مجازاً(96).
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(97).
ونِسبَةُ الأسف لله تعالى تتنافى وكماله عزّ وجل، لذا كانت هذه النصوص من مصاديق إسناد الفعل إلى غير فاعله، مع قيام القرينة على ذلك، وهو من الأساليب المعتمدة في اللغة، فمع قيام القرينة العقلية والنقلية على أن الله تعالى لا يأسف كأسف العباد، وورود نصٍّ ظاهره أسَفُ الله تعالى، يُحمل على أسف أوليائه الذين جعلهم الدعاةَ إليه والأدلاء عليه، وقد بيّن هذا المعنى الإمام الصادق (عليه السلام) حينما قال: إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْسَفُ كَأَسَفِنَا وَلَكِنَّهُ خَلَقَ أَوْلِيَاءَ لِنَفْسِهِ يَأْسَفُونَ وَيَرْضَوْنَ، وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ، فَجَعَلَ رِضَاهُمْ رِضَا نَفْسِهِ، وَسَخَطَهُمْ سَخَطَ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُمُ الدُّعَاةَ إِلَيْهِ وَالأَدِلَّاءَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ صَارُوا كَذَلِكَ، وَلَيْسَ أَنَّ ذَلِكَ يَصِلُ إِلَى الله كَمَا يَصِلُ إِلَى خَلْقِهِ.. وَلَوْ كَانَ يَصِلُ إِلَى الله الأَسَفُ وَالضَّجَرُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَهُمَا وَأَنْشَأَهُمَا لَجَازَ لِقَائِلِ هَذَا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الخَالِقَ يَبِيدُ يَوْماً مَا، لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَهُ الغَضَبُ وَالضَّجَرُ دَخَلَهُ التَّغْيِيرُ، وَإِذَا دَخَلَهُ التَّغْيِيرُ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ الإِبَادَةُ، ثُمَّ لَمْ يُعْرَفِ المُكَوِّنُ مِنَ المُكَوَّنِ وَلَا القَادِرُ مِنَ المَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَا الخَالِقُ مِنَ المَخْلُوقِ، تَعَالَى الله عَنْ هَذَا القَوْلِ عُلُوّاً كَبِيراً(98).
وهذا بابٌ تنحلُّ منه شبهات كثيرة، فتأمّل، واحفظ أيُّها القارئ الفطن، فإنّه يرفع كثيراً من الشُبُهات.
ومنهُ يفتح بابُ الحلّ لما ورد في الكتاب المقدّس: اسْمَعُوا يَا بَيْتَ دَاوُدَ! هَلْ هُوَ قَلِيلٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تُضْجِرُوا النَّاسَ حَتَّى تُضْجِرُوا إِلهِي أَيْضًا؟(99).
فإنّ الله تعالى لا يأسف ولا يضجر، ولذا عَدَلوا في ترجمة الشريف الى عبارة: فَهَلْ تَجْعَلُونَ صَبْرَ إِلَهِي أَيْضًا يَنْفَدُ؟
وفي الترجمة السهلة إلى لفظ: حَتَّى تَستَنفِذُوا صَبْرَ إلَهِيَ أيضاً؟
فيصير قريباً مما تقدم تحت عنوان (ندم الرب) بحيث فُسِّر بإنزال عقابه، ويكون انتهاء صبره هنا بمعنى نزول عقابه على هذا التفسير.
ثمرة الفصل: المحكم والمتشابه والحقيقة والمجاز
يظهر مما تقدم اشتراك الكتب الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن الكريم باستعمال الاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز، وتضمنها لنصوصٍ محكمةٍ وأخرى متشابهة، ما يعني عدم الأخذ بحرفية الكلام على نحو الإطلاق، إنما يُنظر في القرائن العقلية والنقلية قبل تفسير الآيات في هذه الكتب، فكلٌّ نصٍّ دل على تجسيم الله تعالى أو تحيُّزه في مكانٍ أو على جهله أو نسيانه أو وصفه بما لا يصح وصف الخالق الكامل به لا بد من حمله على خلاف ظاهره، وهكذا لو دليل دليلٌ على تشبُّهه بالمخلوقات وأمثال ذلك.
لذا اعترفت أعلى سلطة في الكنيسة بوجود المعاني المجازية في الكتاب المقدس، حيث ورد في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الذي أمر بنشره البابا يوحنا بولس الثاني بحكم سلطته الرسولية: في تقليد قديم أنه من الممكن تمييزُ معنيين للكتاب المقدس: المعنى الحرفي، والمعنى الروحي، على أن يُقَسَّم هذا الأخير إلى معنى مجازي، ومعنى أدبي، ومعنى تفسيري(100).
كذلك أقرّ كبارُ قديسي النصارى القدماء بذلك، منهم على سبيل المثال يوحنا الدمشقي حين قال: المعنى الحقيقي هو البيّنة المؤكدة لشيء ما، أما المعنى المجازي فبيِّنة غير مؤكدة.. من عادة الأنبياء أن يشخصوا الجوامد ناسبين إليها عيوناً وأفواهاً، مثلاً: البحر رأى فهرب. ليس للبحر عيون في الواقع لأنه من الجوامد.. وهكذا سمّى (النبي) الأفعال كلاماً بالمعنى المجازي، في حين أنها لم تكن أقوالاً بالضبط بل أفعالاً(101).
ويقول: إن كلّ ما يُقال في الله بطريقة جسميّة يتضمّن فكرة خفية ترشدنا مما فينا إلى ما يفوقنا(102).
وهذه نماذج يسيرة من مئات النماذج في هذه الكتب، قد اعتاد الأنبياء عليها كما يقول الدمشقي، وهي محل اتفاقٍ بين الجميع، ما يجعل القارئ يأنس بوجوه الاستدلال التي ستأتي إن شاء الله تعالى.
ولما كان المؤمن بهذه الكتب السماوية معتقداً بحكمة مُنزِلِها، وبعصمتها عن الخطأ، كان لا بدّ أن يفسّر بعضُها بعضاً بما يرتفع معه التناقض المحتمل لو أمكن، لئلا يلزم الإخلال بحكمة الإله الحكيم.
كذلك أقرّ القساوسة المعاصرون بوجود قواعد عدّة لا بدّ من اتباعها في تفسير الكتاب المقدّس، ذكر بعضها الدكتور القس لبيب ميخائيل بقوله: إن أول قوانين التفسير الصحيح للآيات العسرة الفهم هو أن نفسر هذه الآيات بالآيات الموضحة لها من الكتاب المقدس، أي أن نفسر الكتاب المقدس بالكتاب المقدس(103).
ثم أقرّ بلزوم العمل وفق (القرينة) وما يدلُّ عليه السياق، وأقرّ بلزوم تفسير الآيات العسرة الفهم على ضوء الآيات السهلة الفهم، وبوجود معانٍ مجازية في الآيات ينبغي تمييزها عن المعاني الحرفية، ومع عدم إمكان القول بالتفسير الحرفي أو قيام قرينة على خلافه فلا بدّ من المصير إلى المعاني المجازية(104).