بسم الله الرحمن الرحيم(1)
لقد أكثر الدكتور شريعتي من استعمال مصطلح (التشيع الصفوي) بل أفرد لهذا الموضوع كتاباً خاصاً قارن فيه بينه وبين ما أسماه (التشيع العلوي).. وقصد بالصفوي التشيُّع أيام الدولة الصفوية التي حكمت إيران ردحاً من الزمن، فذم هذا التشيُّع وعدّه انحرافاً عن تشيّع أمير المؤمنين العلوي بل تحريفاً له.
ولئن كانت بعض المفردات التاريخية التي ذكرها تتمتع بقدر من الصحة في بعض الأحيان من جهة تأثر شرائح من الشعب الإيراني بموروثات وأساطير عرقية أو قومية، أو حتى دينية مخالفة لمذهب الحق، كَمَيل شريحة منهم للتصوف أو الغلو أو غير ذلك.. إلا أن شريعتي وسّع الدائرة كثيراً وعدّ أغلب مفردات التشيع التي كانت منتشرة في ذلك الزمن دخيلة على التشيع مناقضة لمبناه.
ولا يهمنا هنا الموقف من الحكم الصفوي، بقدر ما تهمنا الآراء الدينية التي ادّعى الدكتور شريعتي براءة التشيع العلوي منها.. ذلك أنه لم يقصر دعواه على من عاش في ذلك الزمن، بل عدّه أحد أبرز المصاديق لهذا التشيع المشوّه، و(نموذجاً بارزاً) عن تشيُّعٍ منحرف تعود جذوره إلى مؤسسٍ عاش في زمن علي (عليه السلام) هو (أبو سفيان)! وأن هذا التشيع يستمد سماته وجذوره من منطقه!!(2)..
وأنّ عناصر هذا التشيع كانت موجودة قبل زمان الصفوية، ليخلص إلى أن هذه العناصر:
قد تسلّلت بشكل لا شعوري حتى إلى الكتب القديمة المعتبرة حالها حال الكثير من العناصر الدخيلة التي تسلّلت إلى هذه الكتب سواء من الديانات القديمة أو من الحضارات المعاصرة أو حتى من عقائد الجاهلية الأولى(3)..
وعلى سبيل المثال يصبح الشيخ الكليني أحد أعاظم علماء الشيعة يصبح عنده ممن يروي مثل هذه العناصر في كتاب الكافي!(4).. وإن عبّر عن جزء منه في مورد آخر بأنه:
كتاب أصول الكافي العظيم(5).
ويصبح أكثر علمائنا اليوم ممن ينتهج هذا المنهج أيضاً مشاركون في إفراغ التشيع من مضمونه بحسب الدكتور شريعتي!
وهو بهذه الخطوة يسقط الشريحة الكبرى من علمائنا قديماً وحديثاً بهذا العذر.. ويقول حتى عن العصر المتأخر وهو عصره:
فربما ما زالت ثمة مصالح خاصة تقتضي أن يبقى التشيّع الصفوي هو الحاكم على ضمير الأمة وعقلها الجمعي(6)..
ثم يعود ليؤكد انتشار هذا التشيع في أيامه فيقول:
إن التشيع الصفوي الذي أخذ يستشري هذه الأيام ويرفع راياته قبال التشيع العلوي لم يكن وليد العهد الصفوي فقط(7).
لكن، ما هي المعتقدات التي جعلته يتبنى مثل هذا القول؟
يظهر أن ما عده (فروقاً) بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي على قسمين:
القسم الأول: معتقدات لم يفهمها حقَّ فهمها ولم يدرك عمقها ومغزاها الواقعي وحقيقة اعتقاد الشيعة بها فأدى ذلك به إلى إنكار اعتقادهم بها وحاول تفسيرها بما يدفع به الشبهة التي علقت في ذهنه.. وظنّهم خارجون عن رحاب التشيع لاعتقادهم بها.. كمسائل (العصمة والإمامة) و(الغيبة) و(الشفاعة) و(الاجتهاد) وغيرها، وقد أفردنا لبعضها قبسات خاصة.
القسم الثاني: وهي التي حاكم فيها أوهاماً من (بنات أفكاره) بحيث نسب إلى شريحة كبيرة من الشيعة ما لا وجود له بين (كل الشيعة) على مر العصور! وتحدّث عن أشياء في خياله ووهمه، فكانت تتضمن نسبة أقوال لم يسمع بها أحد من الشيعة ولم يروّج لها أحد في تاريخ التشيع!
ولما كان يعتبر العلامة المجلسي والشيخ البهائي من نماذج علماء التشيع الصفوي، بل لعل المجلسي أبرزهم عنده فقد عمدنا إلى الاستشهاد بكلام العلامة المجلسي لبيان عدم صحة نسبة هذه الاقوال إليه، وبراءة التشيع وعلمائه وعوامه منها على مرّ التاريخ.
ومن نماذج ذلك في كلمات الدكتور شريعتي:
- قوله (في باب العدل):
أما في التشيع الصفوي فالعدل معناه أن الله ليس بظالم، وان يزيد سيذهب بعد الموت إلى جهنم، بينما الحسين يذهب إلى الجنة، وليس ثمة علاقة لذلك بحياتنا الدنيوية وأوضاعنا الراهنة، بل هو مجرد بحث علمي من شأن الفلاسفة الإلهيين ولا علاقة للناس به! (8).
ومن الواضح أن الشيعة لا يعتقدون بذلك! فإن كل مفردة من مفردات حياة الشيعي قائمة على الإيمان بالعدل الإلهي الذي عُدّ أصلاً من أصول الدين (أو المذهب) عند الإمامية، ولم نقرأ في كتابٍ شيعي أو نسمع من شيعيٍ عالماً أو عامياً مثل هذه الدعوى! فإثباتها على عهدة مدّعيها!
بل إن المجلسي نفسه (رمز التشيع الصفوي عند شريعتي) قد أفرد في أبواب (العدل) ثلاثة وعشرين باباً تزيد عن مجلد كامل وهو المجلد الخامس من بحار الأنوار وقسم من المجلد السادس.. وتتضمن فيما تتضمن (نفي الظلم والجور عنه تعالى وإبطال الجبر والتفويض.. باب الأرزاق والأسعار.. باب من لا ينجبون.. باب الأطفال ومن لم يتم عليهم الحجة في الدنيا.. باب عموم التكاليف.. باب عقاب الكفار في الدنيا..)(9).
إلى غيرها من الأبواب التي ملئت بالآيات الشريفة والروايات المباركة وأقوال العلماء التي تنفي مثل هذه التهمة وتبين أن لا أساس لها في عالم الواقع، لترسم طريقاً في منهج الحياة الذي يريده الله العادل منا طريقاً للآخرة.
- قوله في باب (التقية):
التقية في التشيع العلوي عبارة عن تكتيك عملي يخضع لضوابط وظروف معينة يقدّرها القائد، ولذا قد تجب التقية وقد تحرم، بينما التقية في المنظار الصفوي هي جزء من عقائد الشيعة الثابتة والملازمة لشخصية الشيعي في كل الأحوال! (10).
والحال أن أحداً من الشيعة لا يعتقد بمثل هذا المعتقد! بل إن المجلسي نفسه ينقل في بحاره(11) أن الشهيد الثاني قد قسم التقية (بانقسام الأحكام الخمسة) (12).. ثم نقل عن الطبرسي عن المفيد أن التقية قد تجب أحياناً وتكون فرضاً، وتجوز أحياناً من غير وجوب، ويكون في وقت أفضل من تركها و..
ثم كرر المجلسيُّ النقل(13)، إلى أن أكثر من نقل الروايات في هذا المعنى وصرح به مراراً في باب التقية والمداراة(14) وما بعدها..
فيلاحظ المتتبع إذاً أن المجلسي وأضرابه من العلماء وافقوا أسلافهم على هذه المسألة ولم يخرج عنها أحد منهم..
وفضلاً عن أنه ما عرف عن أحد قوله بوجوب التقية دوماً، فإنّا وجدنا بعض من خالف تعاليم العترة الطاهرة في أيامنا قد اعتبر أن زمن التقية قد انتهى مطلقاً.. فإن هؤلاء أيضاً قد أضاعوا البوصلة في تطبيق الحكم ومصاديقه لا في أصله.
- وقوله في باب (السنة) النبوية:
غير أن التشيع يبدو في حلة أخرى عندما ننظر إليه بعدسة صفوية فيتحول إلى فرقة ومذهب مناوئ للسنة النبوية بحيث يضع العترة وأهل البيت في مقابلها.. التشيع الصفوي يرى أن (كتاب الله وعترتي) هي بديل عن (كتاب الله وسنتي) ولا يمكن أن يجتمعا معاً، وخطورة هذا الادعاء يساوي خطورة وسوءً ادعاء التسنن الأموي بأن التشيع العلوي مخالف للسنة وان الشيعة روافض يعتبرون علياً هو النبي بل هو الإله! (15).
وهو بقوله هذا يثير العجب والدهشة فعلاً!! إذ أنّه سبق المخالفين في تشنيعهم على الشيعة بأشواط! فلم نسمع في طول التاريخ مخالفاً يزعم أن أحداً من الشيعة ينكر (سنة النبي) (صلى الله عليه وآله وسلم)! بل يجعل هذه (الفرية) على حد (فرية تأليه علي) (عليه السلام)!!
ونعود للمجلسي مجدداً فنراه يروي في أكثر من مورد حديثاً يتضمن لفظ (كتاب الله وسنتي)(16)..وينقلها عن الاحتجاج وعن كتاب سليم بن قيس وغيرهما.. كما يرويها الكليني في الكافي(17) وغيره..
ونعود لعلماء الشيعة وعوامهم على مر التاريخ، فلا نجد أحداً منهم قد أنكر (سنة النبي) (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأين يا ترى عثر الدكتور شريعتي على رجل شيعي يلتزم بما نسبه لعموم الشيعة؟!
نعم لعلّ الأمر قد اشتبه عليه حينما وجد أن علماء الشيعة يؤكدون على أن حديث الثقلين قد ورد بصيغة (كتاب الله وعترتي) لا (كتاب الله وسنتي) لأن الثقل الذي أمر النبيُّ الناس بالتمسك به بعد حياته هو عترته الطاهرة، وامتثال هذا الأمر بنفسه (أي التمسك بالكتاب والعترة) هو امتثالٌ (للسنة النبوية الشريفة)، والمثبتان لا يتعارضان، ومثل هذا المعنى لا ينبغي أن يخفى على الدكتور شريعتي..
فإن كان هذا هو سبب الشبهة عنده كان حقاً عليه أن يسأل العلماء ليتعلم منهم ويعرف حقائق الأمور ودقائقها قبل كيل التهم إليهم.. وعلماء (الصفوية) بزعمه ما بَلَت آثارهم ولا انطفأت شعلتهم بعد!
ثم إن الأمر يتكرر في جملة من المفردات الأخرى على نفس الوتيرة.. كما في قوله عن العترة:
التشيّع الصفوي: فالعترة عنده هي عبارة عن أسرة، وهي وسيلة لتعطيل العمل بالقرآن وسيرة النبي وتشويه الوجهة الحقيقية للرسالة ولمبادئها الأولى كالتوحيد، وبالمقابل إرساء قيم مبتدعة تقوم على أساس العنصر والدم والوراثة (18).
وفي قوله عن الدعاء:
لقد جعلت الذهنيةُ الصفوية الدعاءَ بديلاً عن العمل، بينما كان النبي يجهد نفسه بالعمل ومن ثم يدعو! (19).
وكذلك قوله في الإمامة والعمل، يقول:
ولكن التشيّع الصفوي ينظر إلى الاعتقاد بالأئمة من زاوية أخرى يكون فيها الاعتقاد بهم ليس سوى اعتقاد ب(12) شخصية من جنس ما وراء الطبيعة واثني عشر رقماً واسماً مقدساً يجب علينا أن نحبّ أصحابها ونثني عليهم ونتقرب إليهم دون السعي إلى الالتزام بالتبعية والاقتداء بهم(20)..
وفي نظائرها من الأقوال التي لا تمت للحقيقة بصلة، فلم يؤمن أحد من الشيعة بأن العترة وسيلة لتعطيل العمل بالقرآن وسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
ولم تكن الإمامة يوماً قيمة قائمة على عنصر الوراثة غير المستحقة وإلا لكان في هذا طعن بالعدالة والحكمة الإلهية! إنما هو استحقاق لهؤلاء الأفراد من هذه الأسرة الطاهرة المباركة التي تمتعت بخصائص أهّلتها لتكون في أعلى مراتب الكمال..
ولم يؤمن أحد من الشيعة بأن الدعاء بديلٌ عن العمل.. ولا قالوا بسقوط وجوب التبعية والاقتداء..
ولعل ما ينطبق على هذه الدعاوى التي نسبها لهم هو قوله نفسه:
لقد مسخت كثير من القضايا التي تطرح في العالم وحرفت بطريقة بشعة بحيث اكتنفها الغموض أحياناً ولحقها الخطأ(21).
لكن أنْ لا يرى هذا الخطأ إلا الدكتور شريعتي ولا يعرف بوجود مثل هذه الاعتقادات أحد من الشيعة غيره لهو أمر غريب جداً!
وبهذا (وبما سيأتي) يتضح أنه لا يوجد فعلاً تيار في الوسط الشيعي يؤمن بجملة مما يتحدث عنه الدكتور شريعتي.. ولا نعرف ما هي المصادر التي اعتمد عليها في كيله هذه الاتهامات الى الفئة الكبرى من التيار الشيعي في يومنا هذا.. بل إن كتب المخالفين لم تنسب لنا إلا النزر اليسير مما نحن منه براء! فهل أخذ الدكتور شريعتي بعضاً منها ونسج على منواله من وحي خياله؟!
فإنّه يتحدث عن تيارٍ يستشري في الوسط الشيعي أيامه لا عن أزمان غابرة! إلا اللهم إن كان يسمع ممن يعيش في بيئة صوفيّة خاصة تزعم ويزعم أنها التشيّع المعاصر، فقَصَرَ فكره عليها وحاكم الشيعة عموماً على ذلك!