بسم الله الرحمن الرحيم(1)
أشرنا فيما سبق إلى اعتقاد الإمامية مجمعين على عصمة الأنبياء قبل بعثتهم، وإلى أنه من ضروريات المذهب، وإلى قيام الأدلة العقلية القطعية عليه، إتماماً لحجة الله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلّهِ الحجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾(2).. ويلزم من هذا القول الاعتقاد بامتناع كونهم غير مؤمنين في أي وقت من الأوقات، فهم (أنبياء منذ ولادتهم) وقبل (بعثتهم).. وبعبارة أخرى.. فإن للنبي مقامان:
الأول: مقام المعرفة الإلهية، والعمل والطاعة لأوامر الله جل جلاله.
والثاني: مقام الدعوة والتبليغ لما أمر به.
ولا تلازم بين هذين الأمرين بمعنى أن الأول لا يتوقف على الثاني، ولا يلزم من انتفاء الثاني في ظرف زمني (قبل البعثة) انتفاء الأول فيه.
وإن ادُّعيَ أن هذا الكلام ليس من المسلمات التي يجب اعتقادها في أنبياء الله تعالى أجمعين، فلا شك بانطباقه على أنبياء أولي العزم (عليهم السلام)، وعلى وجه الخصوص سيّدهم وخاتمهم وأكملهم وأفضلهم وأرفعهم درجة عند الله، من قال عنه بارئ الخلائق: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾(3).
وإن لم يكن غريباً أن يقول عيسى (عليه السلام) الذي يتشرّف بالإئتمام بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ﴿كَانَ فِي المهْدِ صَبِيّاً﴾(4): ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾(5).
أفيكون غريباً ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المشهور: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين؟!(6).
لكنّ للدكتور شريعتي رأي آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وذلك حين يتحدث عن:
روحه المضطربة بحثاً عن الحقيقة(7)!!.
ففيما (يُخلق النبي نبياً) يرى في روحه الدكتور شريعتي روحاً مضطربة لا تزال في طور البحث!!
لكنك تراه عندما يتحدث عن ليلة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مورد آخر يقول:
أخذ الهم والقلق يضغطان بشدة على الروح القوية التي لم تضطرب قط طيلة حياته المليئة بالمخاطرات!(8).
فروح النبي كانت تارة مضطربة تبحث عن الحقيقة! وتارة أخرى غير مضطربة طيلة حياته!!
ثم يتحدث عن تردد عليّ وتفكيره قبل الإيمان بالبعثة الظاهرة وقوله للنبي:
(أمهلني أفكِّر بالأمر أو أستشير أبي!).... وأمضى تلك الليلة يفكر في تلك الدعوة(9).
وقد مرّت الإشارة إلى هذه الأقوال تفصيلاً..
وإذا كان الدكتور شريعتي قد استقى أقواله هذه من الكتب التي صرّح بأنها كتب البلاط، وسار خلف روايات منكرة متناً وسنداً رواها ابن الأثير(10) وابن كثير(11) وابن إسحاق(12)، والتي يدعوا فيها النبي علياً قائلاً له (تكفر باللات والعزى)!!
فما الذي دعاه لهذا يا ترى وكتب القوم تطفح بمرويات تثبت أن علياً ممن: لم يكفروا بالله طرفة عين(13)..
وهو قد أسرف في الاعتماد على كتب القوم فما باله أعرض عن مثل هذه النقولات عندهم واعتمد على المنكر من القول؟!
ولو ألقى نظرة إلى نهج البلاغة لوجد فيه الخبر اليقين، فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ ولَا يَرَاهُ غَيْرِي ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.
ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟
فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر(14).
ولئن كان هذا اعتقاده بخاتم الأنبياء وسيد الأوصياء فلا عجب أن يعتقد بأن لسيدة النساء :
إحساس طفولي.. يتحول تدريجياً إلى عهدٍ واعٍ(15).
ويلاحظ القارئ لكتب الدكتور شريعتي أنه يغرق أحياناً في نزعة مادية تكاد تنسيه كلَّ لوازم الاعتقاد بعالم الغيب..
فيصبح الأنبياء والأوصياء والكمل من الخلق، الذين نعتقد أنهم أقرب الناس لله تعالى كغيرهم تماماً من حيث الخصائص الذاتية والمؤهلات الشخصية، فيجهلون ربهم تارة، ويترددون في الإيمان به تارة أخرى، ويخالف رأيهم بالأمس رأيهم اليوم وغداً..
فلا عجب أن يقال من بعد ذلك أن فلان أفضل من سيّد الخلق في هذا الأمر أو ذاك!
وكأنه يقيس آل محمد صفوة الخلق على نفسه وسائر البشر! وحينها لا غرابة في مثل هذه النتائج الاعتقادية الكارثية!
وكأن الله تعالى لم يقل عن سيّدهم: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾(16).
وكأن القرآن الناطق فاقد لمزية التناسق وعدم الاختلاف التي تميّز بها القرآن الصامت: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾(17).
فإذا كان الاختلاف علامةً على التناقض الذي يقع فيه البشر ويجلّ عنه ما ينسب لله تعالى، أيكفي حينها أن نجلّ (كتاب الله) عن الاختلاف ثم ننسب الاختلاف لـ(رسول الله)؟!
وهل يمكن أن يبلّغ الكتابَ (الكاملَ) غير رجل (كاملٍ) يصح أن يكون (كتاباً ناطقاً) منزهاً عما يمكن أن ينقض عرى الحجة الإلهية التامة؟!
وهل يمكن أن تخرم قاعدة إتمام الحجة هذه في عليٍّ نفس النبي أيضاً؟! وفي الصديقة الكبرى التي قُرِنَ رضاها برضا الله والنبي، وغضبها بغضبهما؟!
وههنا يتضح موضع عقيدة العصمة عند الدكتور شريعتي بين مدرسة العترة ومدرسة مخالفيهم..
ويظهر أن من يعدّهم رموزاً في (المذهب الصفوي) ما حادوا عن الاعتقاد الحق في مذهب علي وآله (عليهم السلام).. وأنه هو الذي يغرّد بعيداً عن سرب الخلص من الشيعة في معتقده..
وإذا كان هذا رأيه بالمعصومين، فلا غرابة أن يقول على لسان المعلم (الذي قد يقصد به نفسه أو غيره):
إن رسالة فاطمة هي أن تعدّنا مثلها، وعلى كل فرد منّا أن يكون كفاطمة وكزينب. وكل فتاة يمكنها أن تكون كفاطمة، بل من واجبها أن تكون كفاطمة(18).
وذلك في مقابل ما عبر عنه في قصته نقلاً عن (الملالي) في مسألة الاقتداء بالسيدة الزهراء والسيدة زينب (عليهما السلام) بأنّه:
لا يمكن اتخاذهما أسوة ومثالاً يحتذى(19).
ولا ندري من هم هؤلاء الذين منعوا من اتخاذ المعصومين أسوة ومثالاً! ولا أين سمع الدكتور شريعتي بمثل هذا الكلام الذي لو كان لَبَان!
ويظهر بهذا أنه عجز عن التفرقة بين أمرين:
أولهما: كون النبي قدوة وأسوة، وهو ما لا ينكره أحد من المسلمين، وكيف ينكره أحد منهم وقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾(20)، وقال: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾(21)، وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾(22).
ثانيهما: كون مقام صفوة الكُمّل مما لا يمكن لبشر أن يدركه، وهو ما أشارت إليه جملة كبيرة من الروايات منها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): يَا عَلِيُّ مَا عَرَفَ الله حَقَّ مَعْرِفَتِهِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ ومَا عَرَفَكَ حَقَ مَعْرِفَتِكَ غَيْرُ الله وغَيْرِي(23) .
فمن تحدّث عن علوّ مكانتهم ورفعتهم ونفى إمكان الوصول لمرتبتهم الخاصة لم يخرج عن كونهم أسوة يجب الاقتداء بهم.. وقدوة يجب السير على خطاهم..
ونحن نزعم أن أحداً من الشيعة الذين يشملهم شريعتي بكلامه لا يلتزم بمثل هذه الدعوة، فليس فيهم إلا من يجعل العترة الطاهرة أسوة بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولئن سلّمنا تنزّلاً بوجود فرقة ما منحرفة عن نهج العترة الطاهرة منقرضة أو باقية لم يسمع بها إلا الدكتور شريعتي أو قلة قليلة، فإن الشيعة براء من مثل هذه التهم، والأمر أوضح من الشمس في رابعة النهار!
فكيف ينسب مفهوماً خاطئاً عن العصمة إلى بعض الشيعة في معرض الذمّ دون أن يكون لهذا القول أثرٌ في كتاب، ولم ينقل عن إنسان؟