بسم الله الرحمن الرحيم(1)
أنكر الدكتور شريعتي على الشيعة اعتقادهم بالولاية التكوينية للأئمة، مشبهاً هذا المعتقد بالأساطير ومعتقدات الأديان الوثنية!
قال أثناء حديثه عن الشيعة:
.. من جهة يجري العمل على رفع مقام ومنزلة الإمام إلى مرتبة الألوهية.. يتحول هذا الإمام من عبد طاهر وقائد من جنس البشر إلى موجود غير بشري شبيه بالآلهة الصغار الذين يحيطون بالإله الأكبر في الأساطير وفي معتقدات الأديان الوثنية، ولهذا الموجود خصائص إلهية كالخالق والرازق والمدبّر والمهيمن على مصائر الناس، ويتمتع بولاية تكوينية على حدّ ولاية الله! (2).
لكن الدكتور شريعتي نفسه أقرّ في موضع آخر بإمكان أن (يتسلّط) الإنسان الكامل على (جميع الموجودات)، ومَثَّلَ لهذا الإنسان بآدم (عليه السلام) حين سجدت له الملائكة، فقال:
وحسب ما أعتقده أنا وأفهمه من معاني سجدة الملائكة لآدم، هو تسليم جميع القوى الطبيعية وما وراء الطبيعة المادية والتي نشعر بها نحن مقابل موجود متعالٍ إسمه (إنسان)، الإنسان الآدمي وليس إنسان بني آدم، الإنسان الذي يستطيع أن يكون إنساناً. إنسان بتلك الاستعدادات التي مُنحت له، وهذه الاستعدادات تعني جميع القوى في الوجود والتي تعمل لأجله، فهو يستطيع أن يتسلّط على جميع الموجودات(3).
فتراه ينكر الولاية التكوينية تارة ويشنع على الشيعة بها، ويقر بها حيناً آخر معتقداً بتسلُّط بعض الناس على كل الموجودات، وهو تعبير آخر عن هذه الولاية! وعن الإعتقاد بالـ(آلهة الصغار) بتعبيره..
ولا يخفى أن منشأ هذا القول هو صريح القرآن الكريم الذي أثبت الولاية التكوينية لبعض خلق الله تعالى، والتي تعني إقدار الله تعالى لبعض الخلق على التصرف في بعض المخلوقات أو فيها كلها..
ففي حين أعطى الله تعالى بعض الأنبياء قدرة الإحياء فقال في محكم كتابه لنبيه عيسى: ﴿إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني فَتَنْفُخُ فيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْني﴾(4).
وقال عن لسانه (عليه السلام): ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله﴾(5).
ثم عقّبها بإحياء الموتى وإبراء المرضى والإخبار عن المغيبات.. كما أعطى ملك الموت القدرة على قبض أرواح الخلق.. وسخّر الرياح والجبال والحديد لبعض أنبيائه.. وغير ذلك مما دلت عليه نصوص الكتابين الصامت والناطق.
ويصعب هنا تفسير فعل الدكتور شريعتي، من جهة الطعن بعقيدةٍ ثم الاعتقاد بها نفسها!
على أن الأمر يتكرر معه مجدداً، فتراه يعتبر الطواف حول غير الكعبة من مظاهر الشرك بالله تعالى! ويتهم التشيع الصفوي بـ(عبادة علي والمراقد والأضرحة)!
يقول:
يجب أن يتم إفهام الجميع بأن العقائد المنحرفة من قبيل عبادة علي والمراقد والأضرحة هي من معالم التشيع الصفوي وخصائص هذه الفرقة، وإلا فإن علماء التشيع لهم فتاواهم الصريحة والواضحة في هذا المجال، ويتفقون في الرأي على أن عبادة غير الله والاعتقاد بأن غيره مؤثر في الوجود والطواف حول غير الكعبة وحتى المحبة لغير الله هي من مظاهر الشرك بالله تعالى(6).
وما يلبث أن يؤيد هذا (الشرك بالله تعالى) في كتاب آخر حينما يحث على الطواف بقبر الحسين (عليه السلام) فيقول:
إذاً وقد سقط الحج كشعار في يد العدو ما العمل؟! الإتجاه معلوم ومعروف، الطواف بقبر الحسين، هو إذاً الطواف حول الكعبة الحقيقية، كعبة الشهيد وكعبة الدم، كعبة الإنسان الذي هو ضحية(7)..
وهذا تناقضٌ آخر في أمهات المسائل الاعتقادية حيث تكون فيصلاً بين الإيمان وغيره، فبين الاعتقاد بأن الطواف حول القبور شرك، وبين الحث على الطواف حول القبر لأنه الكعبة الحقيقية تناقض لسنا نعرف وجهاً لرفعه!
ثم إن الدكتور شريعتي أنكر على الشيعة اعتقادهم بخلق الأئمة من طينة خاصة، وزعم خلو أقدم كتبهم من هذا المعنى وخص بالذكر كتاب الحجة من الكافي، وعد هذا الاعتقاد مرادفاً للقول بألوهيتهم ^، فقال:
في ضوء قراءة شاملة للنصوص الإسلامية وخصوصاً الشيعية وعلى الأخص كتاب الحجة من الكافي وهو من أشهر وأقدم نصوصنا يظهر أن المسلمين يفهمون الإمام بأنه (إنساناً ما فوق) لا أنه (ما فوق الإنسان)، وهذا المعنى الثاني نفذ أخيراً إلى عقولنا.
(ما فوق الإنسان) يعني أن الإمام من نوع وجنس وماء وطين آخر غير طينتنا، ولو كان كذلك فلا يمكن أن يكون نموذجاً وقدوة لبني الإنسان..
إن هذا النوع من التفكير الديني الذي كان موجوداً قبل الإسلام يعني رفع مستوى الأشخاص إلى مقام الآلهة وأرباب النوع والملائكة، وقد حاربه الإسلام حرباً لا هوادة فيها، فمنذ البدء أعلن أن نبي الإسلام بشر مثلنا(8)..
ويلاحظ على كلامه أمور:
أولاً: أنه لا ملازمة بين خلقهم من طينة خاصة وبين كونهم آلهة، بل لا يمكن كونهم آلهة مع كونهم مخلوقين من طينة خاصة، فهذا تعارض بَيِّن، إذ المخلوق لا يكون إلهاً مهما كانت الطينة التي خلق منها، ونفس خلقه من الطينة دليل على أنه ليس بإله..
ثانياً: أن خلقهم من طينة خاصة لا يعني خروجهم عن البشرية! كما أن خلق الإنسان الأبيض من نطفة تختلف عن نطفة الإنسان الأسود لا يخرج أحدهما عن عنوان البشرية! وكما أن خلق الذكر من نطفة تختلف عن نطفة الأنثى والأخ من نطفة تختلف عن نطفة أخيه لا يخرج أحدهما عن عنوان البشرية! وبالتالي فلا مانع من كونهم قدوة خلقوا من طينة خاصة إكراماً من الله تعالى لهم لسابق علمه بطاعتهم إياه، كما أكرم عيسى فأنطقه في المهد صبياً وكان عيسى قدوة بالاتفاق.
ثالثاً: ما ذهب اليه من خلو كتاب الحجة من الكافي من مثل هذا المعتقد مجانب للصواب تماماً، فهذا الكليني يروي في نفس الكتاب عدة روايات حول خلق النبي والائمة ^ من طينة خاصة ومنها ما يلي:
1. عن أبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ الله خَلَقَنَا مِنْ عِلِّيِّينَ وَخَلَقَ أَرْوَاحَنَا مِنْ فَوْقِ ذَلِك(9)..
2. وعنه (عليه السلام): إِنَّ الله خَلَقَنَا مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ ثُمَّ صَوَّرَ خَلْقَنَا مِنْ طِينَةٍ مَخْزُونَةٍ مَكْنُونَةٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، فَأَسْكَنَ ذَلِكَ النُّورَ فِيهِ فَكُنَّا نَحْنُ خَلْقاً وبَشَراً نُورَانِيِّينَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِي مِثْلِ الَّذِي خَلَقَنَا مِنْهُ نَصِيباً(10).
3. وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الله خَلَقَنَا مِنْ أَعْلَى عِلِّيِّينَ وخَلَقَ قُلُوبَ شِيعَتِنَا مِمَّا خَلَقَنَا وخَلَقَ أَبْدَانَهُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَقُلُوبُهُمْ تَهْوِي إِلَيْنَا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِمَّا خُلِقْنَا(11).
فهذا المعتقد قد نفذ إلينا من أقدم كتب الشيعة ولم ينفذ إلينا أخيراً، ولا نعرف كيف ينفي الدكتور شريعتي وجود هذا المعنى في كتاب الكافي دون الإحاطة بما فيه، ثم تظهر كل هذه الروايات وغيرها وهي صريحة فيما نعتقد!
فهذا نموذجٌ آخر عن التهافت في كلمات الدكتور شريعتي في مسائل الإيمان والكفر والولاية..