بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على الإمام الغائب..
السلام على باب الله الذي منه يؤتى..
السلام على وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء..
السلام على السَّبَبِ المتَّصِل بين الأرض والسماء..
لقد ذَكَرَ الصادقُ إمامَ زماننا المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه فقال:
أَمَا وَالله:
1. لَيَغِيبَنَّ سَبْتاً (زمناً) مِنْ دَهْرِكُمْ.
2. وَلَيَخْمُلَنَّ حَتَّى يُقَالَ: مَاتَ! هَلَكَ! بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ!
3. وَلَتَدْمَعَنَّ عَلَيْهِ عُيُونُ المُؤْمِنِينَ! (الغيبة للنعماني ص152)
وفِعلاً.. غاب الإمامُ عليه السلام منذ ما يزيد عن ألفٍ عام.. والله يعلم كم تستمرُّ الغيبة..
وخَمُلَ ذكرُه أو أمره أو الاعتقاد به.. أي خَفي.. والأمرُ كذلك عند أغلب الناس.. حتى المسلمين منهم.. فجُلُّهم لا يعتقد بحياته..
والذين اعتقدوا بولادته.. ارتدَّ قسمٌ منهم بعد ذلك.. فمنهم من قال بلسانه: مات.. هلك.. بأيِّ وادٍ سلك!
ومِنهم من كشف فعله عن اعتقاده بموته! ولو لم يُصَرِّح بلسانه!
إنَّ الإمام إمام الدنيا بأسرها، وإمامنا جميعاً، فلو نصبَ أحدُنا نفسه إماماً.. وجعل نفسه للدين رائداً.. واعتقد أنّه يحلُّ محلَّ المعصوم.. وفي قباله.. فكأنَّه يقول بفعله هذا: مات الإمام أو هلك!
ومَن اعتقد أنَّ لأحدٍ مكانة الإمام ومنزلته ورُتبته فكأنه ما اعتقد بإمامة الإمام عليه السلام!
لكنَّ الذي يستوقفنا هو قوله عليه السلام:
وَلَتَدْمَعَنَّ عَلَيْهِ عُيُونُ المُؤْمِنِينَ!
وفي رواية: لَتَفِيضَنَّ! أي تسيل.
فلماذا تفيض عليه الدموع وهو حيٌّ يُرزق؟!
ليست عيون مخالفيه هي التي تفيض، فهم لا يؤمنون به، بل عيون المؤمنين هي التي تدمع عليه..
قد نفهم سبب بكاء المؤمنين على جَدَّيه عليٍّ والحسين عليهما السلام، فقد قُتِلا بالسيف قتلاً..
أو على آبائه وأجداده حتى النبيِّ صلى الله عليه وآله.. فقد قتلوا سُمَّاً!
ولكن لماذا تدمع أعين المؤمنين على الإمام الحيّ الغائب؟!
إنَّ المؤمن رقيق القلب منكسِرٌ.. والله عند المنكسرة قلوبهم..
ولكن.. حتى رقيق القلب لا يبكي إلا لسببٍ..
وأسباب البكاء على الغائب المهديّ عليه السلام كثيرةٌ.. منها:
السبب الأول: الفراق والفقد
لقد تَحَدَّثَ الإمام الرضا عليه السلام عن الفتنة التي تقع عند فقدان الشيعة الثالث من (وَلَدِه)، أو الرابع من (وُلده)، وهو المهدي عليه السلام، ثمَّ قال:
يَحْزَنُ لِفَقْدِهِ أَهْلُ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ!
فالمؤمنون من أهل الأرض يحزنون كما يحزن أهل السماء..
ثم يقول عليه السلام:
كَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ مُتَأَسِّفٍ! مُتَلَهِّفٍ! حَيْرَانَ! حَزِينٍ لِفَقْدِهِ!
المؤمنون يتأسَّفون لفقد الإمام.. وأكثرهم تأسُّفاً العلماء.. فمَن زادت معرفته بالإمام اشتدَّ تأسُّفه لفقده.. وتلهُّفه للقياه..
أما الحيرة التي تصيب المؤمنين.. فها هي ببابكم.. قد طرقت أبواب الشيعة.. وجعلتهم حيارى لفقد إمامهم.. لا يجدون ركناً يلجؤون إليه.. مع عظيم دور العلماء.. فلولاهم لارتدَّ الناس عن دينهم.. إلا أنَّ أحداً لا يحلُّ محلَّ الإمام..
ثم يقول عليه السلام: حَزِينٍ لِفَقْدِهِ!
إنَّ من أسباب حزن المؤمنين هو فقد الإمام عليه السلام..
وليس في ذلك عجبٌ.. فَمَن قال أنَّ الفقدَ لا بُدَّ أن يكون فَقدَ مَوتٍ حتى نبكي الإمام؟!
إنَّا إذا نظرنا إلى البكَّائين الخمسة.. وجدنا آدم قد بكى على جنَّته.. وجَنَّتُنا إمامنا المعصوم.. أفلا نبكي لفقده؟! ألا نتألم لبُعده؟!
وهذا يعقوب ويوسف قد بكى أحدهما الآخر، وهو يعلمُ أنَّه حيٌّ، لشدَّة الفراق، وصارا من البكائين الخمسة، أفلا يبكي المؤمن إمامه بعد فقده وفراقه؟!
السبب الثاني: وحدة الإمام وبُعده عن أهله
لقد وصف الباقرُ الإمامَ المنتظرَ عليه السلام بأنه: الشَّرِيد الطَّرِيد، الفَرِيد الوَحِيد! المُفْرِدَ مِنْ أَهْلِهِ! (الغيبة للنعماني ص178).
والشريد الطريد هو الهارب المفرَد الذي لا يؤوى..
وفي روايةٍ عن الكاظم عليه السلام: الغَرِيبُ!.. الغَائِبُ عَنْ أَهْلِهِ!
هي غربةٌ ووحدةٌ عن المؤمنين.. وعن أهله.. يكبيه لأجلها المؤمنون..
السبب الثالث: أنه موتور بوالده
ففي الحديث أنَّه: المَوْتُور بِوَالِدِهِ.. وفي آخر أنَّه: المَوْتُورُ بِأَبِيهِ (ع).
الموتور هو الذي قُتِلَ له قتيلٌ، ولم يُدرَك دَمُه.
لكنَّ الإمام ليس موتوراً بوالده العسكريِّ عليه السلام فقط.. بل بآبائه جميعاً، واحداً بعد واحدً.. وصولاً إلى الحسين الشهيد عليه السلام، الذي ضَمِنَت الأرضُ ومن عليها دمه..
ثم أمير المؤمنين عليه السلام، الذي تهدَّمت بقتله أركان الهدى.
ثم رسول الله صلى الله عليه وآله.. وهو القائل عن المهدي أنَّه: أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلْقاً وَخُلْقاً! (كمال الدين ج1 ص287).
لهذا ولغيره.. يكادُ المؤمن يموت كمداً لفقد الإمام.. وقد سبقه المؤمنون حتى في زمن الأئمة عليهم السلام.. فهذا داوود الرقِّي يقول للصادق عليه السلام: جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَدْ طَالَ هَذَا الأَمْرُ عَلَيْنَا حَتَّى ضَاقَتْ قُلُوبُنَا وَمِتْنَا كَمَداً!
هم يعيشون بين أظهر إمام زمانهم وقد ماتوا كمداً وضاقت قلوبهم لطول هذا الأمر.. فما بال المؤمن في زمن الغيبة والبُعد عن إمام زمانه؟!
أجاب الصادق عليه السلام داود حينها قائلاً: إِنَّ هَذَا الأَمْرَ آيَسَ مَا يَكُونُ مِنْهُ وَأَشَدَّهُ غَمّاً يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ بِاسْمِ القَائِمِ وَاسْمِ أَبِيهِ (الغيبة ص181).
فإنَّ الفرج بالنداء باسم الموعود يكون بعد أن يصل اليأس إلى أعلى درجاته بارتداد المرتدِّين، والغم إلى أعلى مراتبه بأذيَّة المؤمنين..
المؤمن يتأذى لفقد الإمام.. لأنَّه لَيِّنُ القلب على إمامه.. يخاطب ربَّه فيقول: اللهم.. لَيِّنْ قَلْبِي لِوَلِيِّ أَمْرِك!
ثمَّ يدعو الله لكي يصبِّرَه ويجعله من المسلمين فيقول:
حَتَّى لَا أُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ، وَلَا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ!
وَلَا أَكْشِفَ عَمَّا سَتَرْتَهُ، وَلَا أَبْحَثَ عَمَّا كَتَمْتَهُ، وَلَا أُنَازِعَكَ فِي تَدْبِيرِكَ!
وَلَا أَقُولَ لِمَ؟ وَكَيْفَ؟ وَمَا بَالُ وَلِيِّ الأَمْرِ لَا يَظْهَرُ؟ وَقَدِ امْتَلَأَتِ الأَرْضُ مِنَ الجَوْرِ، وَأُفَوِّضُ أُمُورِي كُلَّهَا إِلَيْك! (كمال الدين ج2 ص482).
لم يكن الشيعةُ وحدَهم في تلك الأزمان يشتاقون ويترقَّبون.. بل كان أئمتهم كذلك من قبل ولادة المهدي عليه السلام!
فهذا الإمام الصادق عليه السلام كان قد نَظَرَ في كتاب الجَفر، وهو الكتاب الذي يشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا، وما كان وما يكون، قد خصَّ الله به النبيَّ والأئمة من بعده.. وتأمَّلَ فيه ولادة الإمام المهدي عليه السلام وغيبته.. فتأثَّر بأمرين:
الأول: هو غيبة الإمام.
والثاني: هو بلاء المؤمنين بغيبته..
فلمّا دخل عليه أصحابه.. رأوه جالساً على التُّراب..
وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الوَالِهِ الثَّكْلَى، ذَاتِ الكَبِدِ الحَرَّى! قَدْ نَالَ الحُزْنُ مِنْ وَجْنَتَيْهِ، وَشَاعَ التَّغْيِيرُ فِي عَارِضَيْهِ، وَأَبْلَى الدُّمُوعُ مَحْجِرَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
سَيِّدِي غَيْبَتُكَ نَفَتْ رُقَادِي! وَضَيَّقَتْ عَلَيَّ مِهَادِي! وَابْتَزَّتْ مِنِّي رَاحَةَ فُؤَادِي!
سَيِّدِي غَيْبَتُكَ أَوْصَلَتْ مُصَابِي بِفَجَائِعِ الأَبَدِ!
وَفَقْدُ الوَاحِدِ بَعْدَ الوَاحِدِ يُفْنِي الجَمْعَ وَالعَدَدَ! (كمال الدين ج2 ص352)
المعصومُ يبكي غيبة المعصوم وإبطاءه!
أفلا يبكي المؤمنون إمامَ زمانهم الغائب؟!
بلى.. لَتَدْمَعَنَّ عَلَيْهِ عُيُونُ المُؤْمِنِينَ!
ولقد حَزِنَ الصادق عليه السلام على المؤمنين.. لطول الغيبة في أيامهم، وتَوَلُّد الشكوك في قلوبهم من طول الغيبة..
وَارْتِدَاد أَكْثَرِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَخَلْعهمْ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ أَعْنَاقِهِمُ!
لهذا وذاك بكى الصادق وقال: أَخَذَتْنِي الرِّقَّةُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيَّ الأَحْزَانُ!
ولو ظلَّ المؤمنُ يعيشُ هذا الحزن والألم بأعلى درجاته لَوَافته المنيَّة حقَّاً حُزناً وكَمَداً..
لكنَّ لدى المؤمن ما يُهَوِّنُ الخطب.. ويخفِّفُ المصيبة.. ويتسعين به على غيبة إمامه..
من ذلك أنَّ الله تعالى لا يفعل بالعبد المؤمن إلا ما فيه الخير والصلاح، فإن مَلَكَ الدُّنيا كان خيراً له، وإن قُرض بالمقاريض كان خيراً له..
وفي غيبة الإمام ثمارٌ مع كلِّ ما فيها من شدائد..
ومن ثمارِها أنَّها تكون سبباً لصفاء الإيمان من الكَدَر، وارتداد مَن كانوا على ظاهر الإيمان، لكنَّ طينتهم كانت خبيثةً!
فقد قال الصادق عليه السلام:
إِنَّهُ تَمْتَدُّ أَيَّامُ غَيْبَتِهِ لِيُصَرِّحَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَيَصْفُوَ الإِيمَانُ مِنَ الكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ يُخْشَى عَلَيْهِمُ النِّفَاقُ إِذَا أَحَسُّوا بِالاسْتِخْلَافِ وَالتَّمْكِينِ وَالأَمْنِ المُنْتَشِرِ فِي عَهْدِ القَائِمِ (ع) (كمال الدين ج2 ص356).
فمن الشيعة اليوم من إن لم يرتدوا في زمن غيبته وظلوا على تشيُّعهم حتى ظهور الإمام، لظهرت فيهم حسيكة النفاق بعد ظهوره! لماذا؟!
لقد استخلف الله الإنسان على هذه الأرض.. وكان كُلَّما استغنى وتَمَكَّنَ فيها تَكَبَّرَ وطغى وتَجبَّر.. أو نافَقَ وأبطن خلاف ما أظهر!
لذا اقتضت حكمة الحكيم أن يخرج هؤلاء من بين أهل الإيمان بالغيبة الطويلة.. التي صارَت سبباً لتمحيص المؤمنين.. فيخرج المنافقون منهم.. أهل الطينة الخبيثة.. ويظلُّ المخلصون الصادقون.. الثابتون على الاعتقاد بالإمام..
ومن هذه الثِّمار أنّ الثابتين من المؤمنين يصيرون أفضل من أهل كلِّ زمان! كما عن السجَّاد عليه السلام، حينما قال:
إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ القَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ وَالمُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ!
لِأَنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَاهُمْ مِنَ العُقُولِ وَالأَفْهَامِ وَالمَعْرِفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ المُشَاهَدَة! (كمال الدين ج1 ص320).
هذا أيضاً يُهوِّنُ الخطب.. ويزيد المؤمن تمسُّكاً بإمامه.. ويخاطبه في زيارته فيقول: فَلَوْ تَطَاوَلَتِ الدُّهُورُ، وَتَمَادَتِ الأَعْمَارُ، لَمْ أَزْدَدْ فِيكَ إِلَّا يَقِيناً!
إنَّ غيبة الإمام كحضوره.. لا فرق في ذلك من حيث المعتقد عند أهل الإيمان..
فإنَّنا وإن كُنَّا نُحبُّ حضوره.. ونتشوَّق بل نتلهَّفُ لِلُقياه.. إلا أنَّ طول عمره لا يورث عندنا شكَّاً فيه.. بل يقيناً فوق يقين.. وإيماناً مع إيمان.. بوجوده.. وحياته.. واهتمامه بنا.. فهو الذي يمرض إذا مرضنا.. ويألم إذا ألمنا.. ويرعانا برعايته التي لولاها لاصطلمنا الأعداء.. ونزل بنا اللأواء..
اللهم عجِّل لوليك الفرج.. وثبتنا على ولايته.. وأرضِه عنَّا.. وأرضِنا به.. انك سميع الدُّعاء..
والحمد لله رب العالمين
ألقي هذا البحث في قم المقدَّسة ليلة الخميس السابع من ذي القعدة 1445 هـ الموافق 15-5-2024 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|