بسم الله الرحمن الرحيم
قد يُخفي المؤمن عقيدته الحقَّة خَوفاً.. وهي التقيَّة المحمودة..
وقد يُخفيها خَجَلاً.. إن لَم يكن عالماً بعظمتها، في نفسها، وعند الله تعالى.
إنَّ العقيدة إذا كانت حقَّةً.. فهي العقيدة التي يرتضيها الإله الخالق العظيم.. وهي التي يؤمن بها الأنبياء والمرسلون.. والأوصياء والصدِّيقون.. والعباد المؤمنون.
فَلِمَ الخجلُ منها؟!
لم الخجل من الإسلام؟! وهو الشَّرَفُ الأعلى!
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الْإِسْلَام! (الكافي ج8 ص19).
ولِمَ الخجلُ من التشيُّع؟! وهو عِزُّ الإسلام بل شَرَفُه!
قال عليه السلام:
أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ عِزّاً، وَعِزُّ الْإِسْلَامِ الشِّيعَةُ!
أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَرَفاً، وَشَرَفُ الْإِسْلَامِ الشِّيعَةُ! (الكافي ج8 ص213).
فما أعظم الإسلام.. وما أعظم التشيُّع..
لكنَّ مَن ضعفت معرفته، أو ضعف إيمانه ومعتقده، قد يخجل من دينه ومذهبه! ويستحي من الحقّ، ويصيبه التحيُّر والدَّهشة.
وسبيل الخلاص من ذلك رَفع الجهل وتقوية الإيمان، وليس ذلك إلا بالتعلُّم، وتثبيت المعتقد وترسيخه وتقويته، وهو ما تتكفَّلُ به مباحث العقيدة.
إنَّ المؤمن قد يُسأل، أو يسأل نفسه:
1. لماذا التزمتُ الإسلام ديناً؟!
2. ولماذا اعتنقتُ التشيُّع مذهباً؟!
نحن نزعم أنَّ الإسلام هو التشيُّع حقيقةً، وهو الحقّ المطلق، الذي لا يدانيه سواه من الأديان والمذاهب.
وها نحن نشرع بإذن الله ببعض الأبحاث التمهيدية الإجمالية حول العقيدة الحقَّة.. ومعالمها وأصولها.. وأدلَّتها ووجوهها..
ثمَّ نُفَصِّلُ في سلسلة أبحاثٍ أخرى ما أجمَلنا.. متوكلين على الله سبحانه وتعالى، ومستمدِّين العون منه ومن أوليائه عليهم السلام.
مع التنويه على أنَّ البحث العَقَديّ المنصف لا يعني الإنطلاق من الصفر، ولا التخلي عن الفطرة السليمة، ولا عن الأدلة العقلية التي نعتقد بها..
ولئن كان قلب الولد كالأرض الخالية، كلَّما ألقي فيها قبلته.. فإنَّ العاقل البالغ المُدرك ليس كذلك، وهو الذي لا يصحُّ له أن يتنازل عن أصوله وأدلته بحال.
نعم مقتضى بيان الأدلة الحقَّة توضيحها لمن غفل عنها وفق أصولنا، مع مراعاة آداب الاختلاف بأعلى مراتبها، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ في ضَلالٍ مُبين﴾ (سبأ24).
وههنا أسئلة ثلاثة:
السؤال الأول: لماذا البحث في العقيدة؟
يُطرَحُ هذا السؤال مراراً وتكراراً: فتارة نطرحه على أنفسنا، وتارة أخرى يطرحه علينا المخالف لنا.
يعتقد المؤمن أنَّ الدَّاعي للبحث في العقيدة عَقليٌّ.. ونقليّ.
أمّا الداعي العقلي، فقد اشتهر بين العلماء تصويره بوجوه مختلفة منها:
1. دفع الضرر ولو كان مُحتملاً.. فلو فُرِضَ أنَّ كلام أصحاب الأديان حقٌّ، وكان الحقُّ منحصراً في فرقة، كان كلُّ من خالفها من أهل النار، وعُذِّبَ من لم يؤمن يوم القيامة.
2. تحصيلُ المصلحة الشخصية في الدُّنيا.. فإنَّ الإله لو كان موجوداً، وآمن به عبدُه، وفقه لخير الدُّنيا، واطمأنَّت نفسه وارتاحت مع كلِّ بلاءات الحياة.
3. تحصيلُ المصلحة الاجتماعية.. فلو كان الإلهُ موجوداً حقَّاً، وكانت تعاليمه هي التي ينقلها أتباع الأديان، كان صلاح الأمة في الالتزام بها، لأنَّ الخالق أعلم بصلاح عباده، وما سَنَّها لهم إلا لخيرهم وصلاحهم.
هذه الوجوه وغيرها كلُّها حقٌّ لا ريب فيه..
لكنَّ هناك وجهاً آخر يُشيرُ إليه القرآن الكريم، يستحقُّ أن يتوقف عنده حتى غير المعتقد بالقرآن الكريم، ويتأمل فيه، فهو يتضمَّنُ نصَّاً عجيباً، ذاك حيث قال تعالى: ﴿أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون115).
تتحدَّثُ الآية الشريفة عن خطابٍ يوجَّه للناس بعد انقضاء عالم البرزخ، والنفخ في الصور، والرَّجع إلى الله تعالى..
فيأتيهم السؤال: ﴿أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً﴾؟!
هل خُلِقَت كلُّ هذه المخلوقات العجيبة عبثاً؟! هل يمكن أن يكون هذا الكون بما فيه من إتقانٍ وإبداعٍ وجمالٍ وبهاءٍ وروعةٍ قد خُلِقَ عَبَثاً؟!
إنَّ عظمته تدلُّ على عظمة صانعه، والصانع العظيم الذي أتقن الصُّنع لا يعقل أن يكون عابثاً لاهياً لاعباً!
إنَّ التأمُّل في هذه الآية وحدها لا يدع عذراً لمعتذر، فالعقل يأبى أن يكون هذا الكون قد خُلِقَ صُدفةً، وينكر فكرة أن يكون الخالق قد خَلَقَ عبثاً، ولا يرتضي أن يكون الخلق جرى دون حكمةٍ ولا غرض.
فإن كان الأمر كذلك، وجب على كلِّ عاقل البحث عن ذلك ومعرفته، وهو ما يتكفَّل به علم العقيدة أولاً.. ثم سائر العلوم كالفقه وسواها.
ثمَّ لو لم يكن الأمر كذلك.. لكفانا أنَّ العقل يحكم برجحان اتباع الأحسن والأفضل والأكمال.. بل يُلزِمُ بذلك لو كان في الأمر خطورة.. وإلى هذا أشار تعالى حينما حَدَّثَ عن أولي الألباب: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الالبَابِ﴾ (الزمر18).
ونحن إذا نظرنا إلى الكتب السماوية، التي يؤمن بها أتباعها، ويعتقدونها وحي السماء، وهم حوالي نصف البشر اليوم، نجد فيها التحذير الشديد من اتباع العقيدة الباطلة.. والتهديد والوعيد بالعذاب الأبدي لمن خالف أمر السماء.
ففي التوراة، العهد القديم، وبعد ذكر جملةٍ من تعاليم ووصايا موسى عليه السلام، ينقل الكهنة وصيةً له عليه السلام نصُّها: مَلْعُونٌ مَنْ لاَ يُقِيمُ كَلِمَاتِ هذَا النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهَا (التثنية27: 26).
وفي الإنجيل: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ (غلاطية3: 10).
وفي القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرينَ﴾ (آل عمران85).
وفيه: ﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ وَما لهُمْ مِنْ ناصِرينَ﴾ (آل عمران91).
هكذا يظهر اتِّفاق النقل مع العقل، واجتماع الأديان السماوية الثلاثة على لزوم البحث عن الحقّ أولاً، ثمَّ اتِّباعه.
السؤال الثاني: هل سَبَرتَ غور كل الأديان؟!
قد يُقال:
هل سَبَرتَ أيُّها المسلم الشيعيّ غور كلِّ الأديان على وجه البسيطة، واطَّلعت على ما عندها، حتى قدرت على تمييز الحق من الباطل؟! وجزمت بأنَّ الحق في دينك ومذهبك؟!
ثمَّ قد يُقال:
هل يحتاجُ أحدنا للإطلاع على كلّ الأديان السماوية وغيرها؟ فإن لم يطلع عليها لم يكن متَّبِعاً للحق عن دليل؟!
وهل يملك أحدنا من الوقت ما يكفيه ليحيط بأدلة الأديان والمذاهب الحاضرة والبائدة؟! أم أنّ العمر ينقضي قبل ذلك؟
وهل أراد الله تعالى من الناس ترك كلِّ أمور دنياهم للبحث عن أمور دينهم؟! كيف يكون الدينُ دينَ يُسرٍ إذاً؟!
ههنا يقال في الجواب:
إنَّ الدين والمذهب الذي يثبت حقانيته مقروناً بإبطال كلِّ ما عداه.. يُغني أصحابه عن النَّظر في كلِّ الأديان، وتكون حجَّته تامَّةً بلا شكٍّ، شرط أن تكون أدلته قطعيَّة يقينية لا تقبل الشك.
حينها يكون ديناً صحيحاً ولو لم يطلع أتباعه على كل عقيدةٍ على وجه الأرض.
بيان ذلك:
1. أنَّ المسلم الشيعي لمّا أثبت وجود الله تعالى بالدليل.. أبطل قول الملحدين واللاأدريين، فالملحد جاحدٌ دون دليل، واللاأدري جاهلٌ، أما الموحد فقد أقام الله على وجود الله فأبطل دين الإلحاد بشقيه.
2. ولمّا أثبت الوحدانية، ونزَّه الله تعالى عن الشريك والولد.. أبطل قول المشركين والثنوية واليهود والنصارى، فلا يصحُّ شيء من أقوالهم مع إثبات التوحيد.
3. ولمّا أثبت تنزُّه الله تعالى عن مشابهة المخلوقات.. أبطل قول المجسِّمة.. والمشبِّهة.. والمتصوِّفة.
4. ولمّا أثبت نبوَّة النبيِّ صلى الله عليه وآله نسخ كل ما تقدَّم من الأديان، فما كان منها صحيحاً قد انتهى أمده.
5. ولمّا أثبت له الخاتمية، منع من قبول كلِّ دينٍ بعده، كالقاديانية والمرمونية وغيرهما..
6. ولمّا أثبت الإمامة بالعقل والنقل.. مقرونةً بالعصمة والكمال.. أبطل كل مذاهب المسلمين سوى التشيُّع.
حينها.. حقَّ للشيعي أن يفتخر ويقول:
لهذا صرتُ شيعياً!
لأنّ التشيُّع قائمٌ على الدليل والبُرهان.. فيثبت عقيدة الحق ويبطل ما عداها..
ويجمع بين العقل والنقل والفطرة..
وقد روي عن الصادق عليه السلام في قول الله عزَّ وجلّ: ﴿فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها﴾ قَالَ:
1. التَّوْحِيدُ
2. ومُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
3. وعَلِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (التوحيد ص329).
السؤال الثالث: لعلَّ الحقَّ في مكان آخر؟!
إنَّ من كان إيمانه وعقيدته مبنيَّاً على دليلٍ قطعي.. وأورث عنده يقيناً راسخاً لا شكَّ فيه، ولا شبهة تعتريه.. كان مطمئناً بما عنده.. لذا لم يبق مجال عنده لهذا السؤال..
فقولهم: (لعلَّ الحقَّ في مكان آخر) يُقال لمن أقام على دينٍ بلا يقين، أمّا من كان على بيِّنَةٍ من أمره فلا محلّ عنده للشك والترديد.
لقد ورد في الحديث: إِنَّمَا الشَّكُّ مَا لَمْ يَأْتِ الْيَقِينُ، فَإِذَا جَاءَ الْيَقِينُ لَمْ يَجُزِ الشَّكُّ (الكافي ج2 ص399).
وفي الحديث: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِناً وَأَحَبَّ أَنْ يَزْدَادَ إِيمَاناً، وَأَنْتَ شَاكٌّ وَالشَّاكُّ لَا خَيْرَ فِيهِ (الكافي ج2 ص399).
لذا لا يتردَّدُ المؤمن في عقيدته، ولا يتراجع، بل يتَّبع الحقَّ عازماً على الثبات عليه حتى آخر أنفاسه، ومن علم الله تعالى منه ذلك وفقه لاتباع الحق..
ولعله لهذا ولغيره.. قال أمير المؤمنين عليه السلام في نهجه:
لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ المُؤْمِنِ بِسَيْفِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَا أَبْغَضَنِي!
وَلَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى المُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي!
وَذَلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ (ص) أَنَّهُ قَالَ:
يَا عَلِيُّ لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يُحِبُّكَ مُنَافِق! (نهج البلاغة)
هكذا لا يعبأ المؤمنُ بالضلالات والشبهات التي تثار من كلِّ جهةٍ.. فهو مطمئنٌ إلى ما آتاه الله..
وقد ورد في الحديث: إِنَّ المُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ الله (بصائر الدرجات ج1 ص80).
وهكذا يكون المؤمن صلباً في عقيدته..
وقد قال الباقر عليه السلام: المُؤْمِنُ أَصْلَبُ مِنَ الجَبَلِ، الجَبَلُ يُسْتَقَلُّ مِنْهُ، وَالمُؤْمِنُ لَا يُسْتَقَلُّ مِنْ دِينِهِ شَيْءٌ (الكافي ج2 ص241).
فلا عجب أن ترى الشيعة أكثر الناس تمسُّكاً بعقيدتهم، حيث يجمعون فيها بين العقل والنقل، دون سائر الأديان جميعاً، وهو ما يأتي الحديث عنه إن شاء الله
والحمد لله رب العالمين
الثلاثاء 15 ربيع الثاني 1445 هـ
الموافق 31 - 10 - 2023 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|