بسم الله الرحمن الرحيم(1)
الإلحاد الجديد..
إنه محاولة حديثة بلغة عصرية لإحياء (الإلحاد البائد) بعدما استشعر أبناؤه أن نيرانهم قد خبت، ودعوتهم قد وهنت.. فانطلقوا عبر مقولة (خير وسيلة للدفاع هي الهجوم).. لكنهم لم يوفقوا في ذلك ايضاً..
هذه مناظرة جرت قبل حوالي 1250 سنة من اليوم.. ننقلها (بالمحاكاة) إلى عصرنا الحاضر، فنرى أن (الملحدين الجدد) لا يزيدون عن أسلافهم شيئاً في العلم أو التعقّل.. وإن زادوا عنهم شيئاً فبالعناد والمكابرة..
المناظرة جرت بين الإمام السادس من أئمة العترة الطاهرة، الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، مع أحد (الزنادقة) لتُختتم بإيمان الزنديق بعدما تهاوت إشكالات الإلحاد وسلّم في نتيجة المناظرة بما قاله الصادق (عليه السلام)..
نستخلص كلمات بعض هؤلاء الملحدين المعاصرين لنضعها جواباً في هذه المناظرة كي يتبين الخيط الابيض من الاسود..
1. الظن عجز!
يروي الشيخ الكليني في كتاب الكافي الشريف فيقول:
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) لِلزِّنْدِيقِ: أَتَعْلَمُ أَنَّ لِلْأَرْضِ تَحْتاً وَفَوْقاً؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَدَخَلْتَ تَحْتَهَا؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَمَا يُدْرِيكَ مَا تَحْتَهَا؟
قَالَ: لَا أَدْرِي، إِلَّا أَنِّي أَظُنُّ أَنْ لَيْسَ تَحْتَهَا شَيْءٌ.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): فَالظَّنُّ عَجْزٌ لِمَا لَا تَسْتَيْقِنُ(2).
القاعدة الأولى:
الظن عجزٌ مقابلٌ لليقين. فماذا عند الملحدين؟
يتحفنا علماء العصر الحديث اليوم بكثير من النظريات العلمية التي تصيب تارة وتخطئ أخرى، وتبتني تارة على (حقائق دامغة) ومسلّمات لا تقبل الشك تساهم في زيادة الوعي عند الناس أو في تطور البشر في ما يحتاجونه في حياتهم.. وتبتني أخرى على (ظنون أو أوهام) تثبت صحتها مرة وسقمها أخرى..
يتحدث عالما الرياضيات والفيزياء الملحدين (ستيفن هوكنغ Stephen Hawking) و(ليوناردو ملودينو Leonard Mlodinow)، والأول هو أحد أبرز علماء الفيزياء النظرية على مستوى العالم، يتحدثان كما مجموعة كبيرة من العلماء عن النظرية العلمية M والتي يتوقع الكثير منهم أن تكشف أبعاداً غير مسبوقة في مجالات الفيزياء، فيقولان:
حسب النظرية (إم) فإن الكون الذي نعيش فيه ليس هو الكون الوحيد.
وبدلاً من ذلك، فإنها تتنبأ بأن هناك عدداً كبيراً من الأكوان التي خُلقت من العدم، ولا يتطلّب خلقها تدخلاً من إله أو من كائن فوق طبيعي.
وبالأحرى، فإن تلك الأكوان المتعددة تنشأ بشكل طبيعي من القانون الفيزيائي. إنها تنبؤات العلم(3).
وبغض النظر عن عقيدتنا الدينية في وجود أكوان أخرى من عدمها، نسأل هذين (العالمين) سؤال الإمام الصادق (عليه السلام): ما يدريكم بتلك العوالم؟
وأنتم تقولون:
ما زال البشر يحاولون للآن حلّ شفرة طبيعة النظرية (إم)، لكن هذا قد لن يكون ممكناً(4).
إنكم إذاً لم تتمكنوا من حل شفرة النظرية التي تتحدثون عنها، بل تحتملون أن يكون حلها غير ممكن أبداً! ثم تعتمدون عليها في إثبات (وجود أكوان) غير هذا الكون، وتضيفون لذلك أن هذه الأكوان قد (خلقت من العدم) دون خالق!
إنه كلامكم مع عدم وجود إثبات في أيديكم يدورُ بين الوهم أو الظن.. (والظن عجزٌ لما لا تستيقن).. فثبت عجزكم عن إثبات ما تزعمونه من تكون الأكوان بلا خالق.
يقول تعالى في كتابه: ﴿ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِم﴾(5).
فإذا سئل هؤلاء كما سئل الزنديق: هل شهدتم خلق السماوات والأرض؟
يقولون: كلا.
فنقول: فكيف تعلمون أنها خلقت من العدم؟ وكيف تعلمون أنه ليس لها خالق؟
إن (الظن عجز) وأنتم عاجزون.
2. هل يجحد العاقل ما لا يعرف؟!
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله: أَ فَصَعِدْتَ السَّمَاءَ؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: أَ فَتَدْرِي مَا فِيهَا؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: عَجَباً لَكَ! لَمْ تَبْلُغِ الْمَشْرِقَ وَلَمْ تَبْلُغِ الْمَغْرِبَ وَلَمْ تَنْزِلِ الْأَرْضَ وَلَمْ تَصْعَدِ السَّمَاءَ، وَلَمْ تَجُزْ هُنَاكَ فَتَعْرِفَ مَا خَلْفَهُنَّ، وَأَنْتَ جَاحِدٌ بِمَا فِيهِنَّ؟!
وَ هَلْ يَجْحَدُ الْعَاقِلُ مَا لَا يَعْرِفُ؟!
قَالَ الزِّنْدِيقُ: مَا كَلَّمَنِي بِهَذَا أَحَدٌ غَيْرُكَ(6).
مجدداً مع الملحدَين الشهيرين هوكنغ وملودينو..
لنوجّه لهما سؤالاً مختلفاً هذه المرة..
نقول: هل يمكنكما أن تعرفا ما هي نتيجة تفاعل ثلاث (جُسَيمات) فيما بينها؟
يجيبان بصريح العبارة:
نحن لا نستطيع حتّى أن نحلّ بالضبط معادلات ثلاثة جسيماتٍ أو أكثر تتفاعل فيما بينها(7).
فنسألهم مجدداً عن تفاصيل الجسيم فيقولان:
إن كائناً فضائياً في حجم الإنسان سيحتوي على حوالي ألف ترليون ترليون جُسيم حتى لو كان إنساناً آليا، فسيكون من المستحيل حلّ المعادلات والتنبؤ بما سيفعله(8).
إذا كان هؤلاء (العلماء) عاجزين عن إدراك نتيجة التفاعلات بين جسيماتٍ يتضمن جسم الإنسان منها ألف ترليون ترليون جسيم! فمن أين لهم أن يدركوا أن ليس لهذه (الجُسَيمات) محرّك؟ وأنه ليس لها خالق؟
وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟
إلا أن يكون غير عاقل!
أو أنهم: ﴿جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُم﴾(9)!
ثم كيف لهم أن ينكروا الخلق إن لم يعرفوا المصلحة فيه؟
فهل ساغَ لمن جهلَ الحكمة في شيءٍ يراه أمامه أن ينكر أن له خالقاً فيجحده وهو مقرٌّ بعجزه عن العلم والمعرفة؟
أيكون كلامهم علمياً وهم مقرون بالعجز؟! وكلامنا غير علميّ إن قلنا أنّ الحكيم لا يفعل إلا لحِكْمَة؟
إنها القاعدة الذهبية الثانية: هل يجحد العاقل ما لا يعرف؟!
3. لا حجة للجاهل!
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): فَأَنْتَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَكٍّ، فَلَعَلَّهُ هُوَ وَلَعَلَّهُ لَيْسَ هُوَ؟
فَقَالَ الزِّنْدِيقُ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ!
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): أَيُّهَا الرَّجُلُ لَيْسَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ، وَلَا حُجَّةَ لِلْجَاهِلِ(10).
هنا نترك هذين الملحدين ونوجه السؤال الى الملحد الشهير الآخر بروفيسور الفيزياء والفلك فيكتور ستينغر Victor Stenger الذي ينفي في كتابه عن الله تعالى أن يكون الله خالق الكون(11)..
فنقول له:
هل (النظريات العلمية) التي تعتمدون عليها وتزعمون أنها أوصلتكم لعدم وجود الله هي نظريات قطعية؟ فهل تزعمون أنكم (عالمون حقاً) بلا احتمال الخطأ والاشتباه؟
يجيب ستينغر:
علينا هنا الاقرار والاعتراف بأن النماذج والنظريات العلمية مهما كانت (جيدة الإثبات) تظل إبداعات بشرية وعرضة للتغيير على يد التطورات المستقبلية(12).
ستينغر هذا نفسه يدعي عدم وجود الله تعالى! في نفس الوقت الذي يقرّ فيه بالجهل و(بالفراغات الموجودة في المعرفة العلمية) (13).
نسأله مجدداً:
هل نزل بك الموت فعلمت أن ليس هناك حياة بعده؟ وليس هناك عقاب أو ثواب؟
يجيب بالنفي سريعاً.
لكنه يعود فيقول:
الاحتمال العقلاني للحياة بعد الموت أقرب للصفر. ولكن يمكن للعلم على الأقل أن يؤكد لنا أن الكثيرين الذين اختاروا عبادة الإله الخطأ لن يتعذبوا للأبد.. سيرقدون بسلام (14).
القاعدة الذهبية الثالثة تأتي سريعاً: (لا حجة للجاهل) و(ليس لمن لا يعلم حجةٌ على من يعلم).
فأي علم حديث يمكنه له أن يؤكد أن فلاناً لن يتعذب بعد الموت؟ وأي اختبار علمي أجراه هؤلاء أكد لهم عدم وجود حياة بعد الموت؟
وأي قانون فيزيائي يؤكد ذلك؟
لقد أطاحت هذه القاعدة بستينغر وزملائه: لا حجة للجاهل!
4. الله يسيّر الكون؟
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ تَفَهَّمْ عَنِّي فَإِنَّا لَا نَشُكُّ فِي الله أَبَداً.
أَمَا تَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَلِجَانِ فَلَا يَشْتَبِهَانِ؟ وَيَرْجِعَانِ قَدِ اضْطُرَّا لَيْسَ لَهُمَا مَكَانٌ إِلَّا مَكَانُهُمَا؟
فَإِنْ كَانَا يَقْدِرَانِ عَلَى أَنْ يَذْهَبَا فَلِمَ يَرْجِعَانِ؟ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُضْطَرَّيْنِ فَلِمَ لَا يَصِيرُ اللَّيْلُ نَهَاراً وَالنَّهَارُ لَيْلًا؟
اضْطُرَّا وَالله يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ إِلَى دَوَامِهِمَا، وَالَّذِي اضْطَرَّهُمَا أَحْكَمُ مِنْهُمَا وَأَكْبَرُ.
فَقَالَ الزِّنْدِيقُ: صَدَقْتَ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): .. الْقَوْمُ مُضْطَرُّونَ يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ.
لِمَ السَّمَاءُ مَرْفُوعَةٌ وَالْأَرْضُ مَوْضُوعَةٌ؟ لِمَ لَا يَسْقُطُ السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ؟ لِمَ لَا تَنْحَدِرُ الْأَرْضُ فَوْقَ طِبَاقِهَا وَلَا يَتَمَاسَكَانِ وَلَا يَتَمَاسَكُ مَنْ عَلَيْهَا؟
قَالَ الزِّنْدِيقُ: أَمْسَكَهُمَا الله رَبُّهُمَا وَسَيِّدُهُمَا .
قَالَ: فَآمَنَ الزِّنْدِيقُ عَلَى يَدَيْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)(15).
بعد المقدمات الثلاثة:
1. الظن عجزٌ.
2. وليس للعاقل أن يجحد ما لا يعرف.
3. لا حجة للجاهل على العالم.
تأتي النتيجة الذهبية:
الله تعالى خالق الكون ومُسيِّرُه.
كيف ذلك؟
الشمس والقمر لا يشتبهان.. الليل لا يصير نهاراً.. السماء لا تسقط على الارض.. كلُّ ما يجري في الكون يجري وفق نظام تكويني دقيق لا يُعقل أن لا يكون له مدبِّر، والملحدون مقرّون بالعجز عن إدراك هذا وغيره.. كما تقدّم.. ولا بدَّ أن يكون الصانع والمدبِّرُ حكيماً عالماً حياً غنياً... وليس سوى الله تعالى.
نضيف لهؤلاء الملحدين زميلاً (لا أدرياً) لنستعين بكلماته في تأكيد هذه المعاني، إنه (برايان غرين Brian Greene) أستاذ الفيزياء والرياضيات في جامعتي كولومبيا وكورنيل، يقول في كتابه الذي حاز على جائزة آفاينتيس Aventis للكتب العلمية من بين 117 كتاباً علمياً..
أولاً: ليس لدينا تفسير!
يقول برايان غرين Brian Greene:
لا يوجد أي تفسير لماذا يتكون عالمنا من هذه الجسيمات وبهذه الكتلة وشحنات القوى بالتحديد(16).
والحديث عن العديد من الجسيمات بما فيها الكواركات Quarks والتاو Tau والميون Muon وغير ذلك..
ومثله عالم فيزياء الجيسيمات ايزيدور اسحق رابي Isidor Isaac Rabi الحاصل على جائزة نوبل، الذي يتساءل عمّن أمر بإيجاد هذه الجسيمة؟!(17).
ثانياً: كله يوصل لله تعالى!
يقول غرين Greene:
ربما علينا أن نتقبل أنه بعد الوصول لأعمق المستويات الممكنة التي يقدمها العلم، لا زالت هناك مع ذلك أمور في الكون من دون تفسير.
وربما علينا أن نتقبل أن هناك سمات معينة للكون هي على ما هي عليه بالصدفة، أو نتيجة حادث، أو هي اختبار إلهي(18).
الصدفة والحادث تم استبعادهما سابقاً، فلا يبق إلا الله تعالى.
ثالثاً: أمور لا يمكن تخيُّلها!
يقول غرين Greene:
تم اكتشاف بعض أهم أسرار الطبيعة خلال المائة عام المنصرمة... تلك الجواهر التفسيرية قد فتحت آفاقاً على عالم كنا نتخيل أننا نعرفه.
إلا أننا لم نتمكن حتى من تخيّل عظمته(19).
ما صار الآن (أسراراً) من أسرار الطبيعة كشفه العلم كان في يومٍ ما (فوق الخيال)، فلو ساغ نفي ما لا نعرف ولا نتمكن من تخيُّل عظمته لكان لزاماً علينا إبطال هذه العلوم التي بين أيدينا كلها.
لكن العاقل (لا يجحد ما لا يعرف)، وليس لأحد منهم أن يجحد الله تعالى وإن عجز عن (تخيُّل عظمته)!
رابعاً: نيوتن والتأثير في المخلوقات.
ينقل براين Brian عن نيوتن Newton قوله:
الأمر الذي لا يمكن تصوره هو أن تقوم مادة جامدة غير حية من دون وساطة من أي شيء آخر ليس مادياً بالتأثير في مادة أخرى من دون اتصال متبادل..
الأمر المنافي للعقل بالنسبة لي لدرجة أنني واثق ألا أحد له كامل القوة الفكرية في الامور الفلسفية سيقع في هذا، ولا بد للجاذبية من عامل مسبب يؤثر باستمرار وفقا لقوانين معينة، لكن سواء كان هذا العامل مادياً أو غير مادي، فقد تركت هذا لعناية قرائي(20).
يضع نيوتن Newton يده على الجرح ليقول أنه لا بدّ من قانون (السببية) و(العليّة) فلا بُدَّ للجاذبية من (عامل مسبّب).. وإذا ما ترك نيوتن Newton للقرّاء تحديد المؤثر في كل متأثرٍ نجد أن من الكفاية بمكان الاستعانة بأعرابيٍّ قال يوماً عبارة خَلُدَت في التاريخ حين نطق قائلاً:
إِنَّ الْبَعْرَةَ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ، وَآثَارَ الْقَدَمِ تَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ.
فَهَيْكَلٌ عُلْوِيٌّ بِهَذِهِ اللَّطَافَةِ، وَمَرْكَزٌ سُفْلِيٌّ بِهَذِهِ الْكَثَافَةِ، أَ مَا يَدُلَّانِ عَلَى الصَّانِعِ الْخَبِير؟!