بسم الله الرحمن الرحيم
لمّا كانت قساوة القَلب مِن علامات الشَّقاء، والبُعد عن الله تعالى، لم يكُن غريباً أن يكون يزيدُ أقسى النَّاس قلباً، وقد قالت سكينة سلام الله عليها: وَالله مَا رَأَيْتُ أَقْسَى قَلْباً مِنْ يَزِيدَ! وَلَا رَأَيْتُ كَافِراً وَلَا مُشْرِكاً شَرّاً مِنْهُ وَلَا أَجْفَى مِنْهُ! (الأمالي للصدوق ص167).
لقد أورثت معاصي يزيد، وبغضه لآل محمدٍ قساوةً في القلب، وشَرَّاً لا مَثيلَ له.. لا يضاهيه كلُّ شَرٍّ وسوءٍ يصدر حتى من الكفّار والمشركين!
أصحابُ القلوب القاسية هؤلاء يُحشَرون يوم القيامة حَشراً غريباً.. يُحشَرُ أحدُهم ممسوخ القلب!
منهم المتبرِّكون بما جرى على آل محمد عليهم السلام، فعن الرضا عليه السلام فيمن صام يوم عاشوراء أو تَبَرَّك به: لَقِيَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى مَمْسُوخَ القَلْبِ (الكافي ج4 ص147).
إنَّ ما بينَ القَلبِ القاسي في الدُّنيا، والقلب الممسوخ في الآخرة.. صورٌ من الدَّجل والنِّفاق، تَظهَرُ في فِعال أهل الشقاء..
وفي أيام الحسين عليه السلام تَكَثَّرَ أصحاب القلوب الممسوخة.. بدءً مِن يزيد ابن معاوية.. مروراً بمروان ابن الحكم وعبيد الله بن زياد.. وصولاً إلى سائر أتباعهم وأعوانهم وأنصارهم..
ثمَّ تَوسَّطَ بين القادة والولاة الكَفَرة، وبين الأعوان والأتباع الجَهَلة، عُلماءٌ فَجَرَةٌ، يماثلون إبليس في مكره وخِدَعه وشيطنته.. ويضاهونه في احتياله وتلبيسه.
فتَزايَدَ الأبالسةُ في رَكب يزيد.. ومَن تلاه من حُكَّام الجَور..
وقد ظهر الدَّجَل والشيطنة في مواقف كثيرة:
من هذه المواقف كلامٌ منسوبٌ ليزيد، يكشف عن مقدار الدَّجَل والتلبيس.. الذي قام به: إمّا يزيدُ بنفسه، أو أتباعه وأعوانه، أو علماء البلاط بعد ذلك..
لقد قيل أنّ سكينة بنت الحسين خاطبت يزيد قائلة: يا يزيد، بنات رسول الله (ص) سبايا!
فقال: يا بنت أخي! هو والله عليّ أشدُّ منه عليك!! (الطبقات الكبرى ج1 ص488).
وقيل بأنَّ يزيد قال لها: رحم الله أبا عبد الله! عَجَّلَ عليه ابن زياد! أما والله لو كنت صاحبه ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا بنقص بعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه!! (المصدر ص489).
إن كان يزيدُ فعلاً قد قال هذا الكلام، فإنَّ سُكَينَةَ وهي نموذجٌ من نماذج الطُّهر والشَّرَف والكمال، قد رأت من شيطنة يزيد في هذه الكلمات العجب..
فهو مع تصريحه بأنَّ قتلَه لسيد الشهداء كان ثأراً لأشياخه في بدر، وانتقاماً من بني أحمد (ص)!
يعود ويزعم أنَّ قتل الحسين عليه السلام كان أشدَّ عليه منه على ابنته سكينة! وأنَّ كان يود لو ينقص عمره ليدفع عن سيد الشهداء!
هي شيطنةٌ من يزيد إن كان قال هذا القول.. أو من مؤرخي البلاط.. الذين ضلُّوا وأضلوا، وكذبوا على الله ورسوله.. أفلا يكذبون وينسبون ليزيد ما لم يقله ليخففوا من وطأة ما فعله بالحسين عليه السلام؟!
في رَكب يزيد إذاً أبالسةٌ كُثُر.. تُسمَع من لسانهم كثيرٌ من كلمات الدَّجل والنِّفاق والكذب!
منهم مروان الذي زعم أنَّ يزيد: بِوَجْهِهِ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ! (مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ج4 ص39).
ومنهم الضحاك بن قيس، حيث زعم أنّ يزيد: في هَديه وقصد سيرته مِن أفضلنا حلماً! وأكرمنا علماً.. تَسكُنُ به القلوب، ونأمن به الفتن! (الفتوح ج4 ص333).
لقد زعموا أنَّ صاحب القلب الممسوخ ممَّن تسكنُ به القلوب!
وأنَّ صاحب النَّفس القبيحة ممَّن يُستسقى به الغمام! بدلاً من رسول الله صلى الله عليه وآله!
وأنَّ صاحب أعظم فتنةٍ أودت بسيِّد شباب أهل الجنة، في أعظم مصيبةٍ في التاريخ، هو ممَّن تُؤمَن بهم الفِتَن!
ثمَّ نسبوا له الحلم والعلم! وطول الباع وسعة الصَّدر! ورفيع الذِّكر!
فهذا عمرو الأشدق يقول: والله انّ يزيد لطويل الباع! واسع الصدر! رفيع الذكر! إن صرتم إلى عدله وسعكم! وإن لجأتم إلى جوده أغناكم! (الفتوح ج4 ص333).
هل صار قتلُ الحُسينِ عدلاً أيُّها الأراذل؟! أيُمتَدَحُ يزيدُ بالعدل وقد ارتكب أعظم فاجعةٍ أبكَت السماوات بمن فيها والأرض ومن عليها؟!
أيُّ انحرافٍ عن صراط الله هذا؟!
أمَّا العقول التي وهبها الله لهؤلاء، فقد صارت أسيرة الهوى..
وأمَّا القلوب التي أودعها فيهم، فقد قَسَت فصارت كالحجارة أو أشدَّ قسوة..
لقد استنَّ هؤلاء بِسُنَّة معاوية بن أبي سفيان عليه وعليهم لعائن الله.. فهو القائل للحسين عليه السلام أنَّ يزيد خيرٌ منه لهذه الأمّة!
قال للحسين: وأمّا أنت وهو، فهو والله خيرٌ لأمة محمد صلّى الله عليه (وآله) وسلم منك.
فقال الحسين: مَن خيرٌ لأمّة محمد؟! يزيد الخَمور الفَجور؟! (الفتوح ج4 ص339).
إذا كان الله تعالى قد فَضَّل الحسين على كلّ من في الأمة، بل على سائر الأمم.. وَجَعَلَهُ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وآله، وجعل النبيَّ منه، وجعله سيد شباب أهل الجنة..
ثم جاء معاوية ليقسم بكلِّ جرأة بالله تعالى أنَّ يزيد خيرٌ من الحسين!
فلا عجب حينها أن يقول مروان والضحاك والأشدق ما قالوا!
ولا عجب حينها أن تصدُرَ كلُّ القبائح من أتباع معاوية ويزيد.. فهؤلاء هم الذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله..
قال تعالى: ﴿وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحيمِ﴾ (المائدة10).
لقد كذَّب هؤلاء بكلِّ آيات الله.. وأعظم الآيات نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وآله، وكذَّبوا بالأوصياء عليهم السلام.. بل كفروا بالله تعالى وإن أظهروا الإسلام.
لقد أتوا بأقبح القبائح، وقتلوا الحسين عليه السلام، فكيف يحجبهم عن الانتقاص منه شيء؟! وما الذي يمنعهم من تعظيم رموز الضلال، وأعداء الحسين عليه السلام.
لقد أرادوا تشويه صورته، والحطّ من مكانته.. وهم يظنون أنهم سينجحون في ذلك!
جهلوا أنَّ الله يأبى إلا أن يُتمَّ نوره..
ظنُّوا أنَّهم بقتلهم الحسين عليه السلام، واتهامه بالظُّلم يقدرون على محو أمره!
فقال قائلهم.. عبيد الله بن زياد.. لابن سعد، عن الحسين وأصحابه:
فَازْحَفْ إِلَيْهِمْ حَتَّى تَقْتُلَهُمْ وَتُمَثِّلَ بِهِمْ! فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ مُسْتَحِقُّونَ! فَإِنْ قُتِلَ حُسَيْنٌ فَأَوْطِئِ الخَيْلَ صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ! فَإِنَّهُ عَاقٌّ شَاقٌّ، قَاطِعٌ ظَلُومٌ! (وقعة الطف ص188، جمل من أنساب الأشراف ج3 ص391).
الحُسين وأصحابه مُستحقّون للقتل عند هؤلاء! وللتَّمثيل!
لقد نهى النبيُّ أن يُمَثَّلَ حتى بالكلب العَقور!
وهؤلاء يزعمون أنَّ الحسين يستحقُّ أن يُمثَّلَ به!
فإنّا لله وإنَّا إليه راجعون
الله تعالى يأمر بطاعة الحسين، ومودَّته، واتِّباع أمره، وينهى عن مخالفته.. ويزعم الأرجاسُ أنَّ الحسين هو العاقّ!
لقد وقع من الظُّلم على الحسين عليه السلام ما أبكى ملائكة السماوات.. وهؤلاء يزعمون أنَّه ظلومٌ عليه السلام!
فإنَّا لله وإنا إليه راجعون!
إنَّ من هوان الدُّنيا على الله أنُ يقال ذلك للحسين عليه السلام..
ومن هوان الدُّنيا أن يُنسب الحسين عليه السلام للكذب!
فمن مفارقات يوم عاشوراء أنَّ رجلاً أنصارياً قاتلَ مع الحسين عليه السلام، وأحبَّ أن يبذل مهجته فيه.. فقُتِلَ دفاعاً عن سيِّدِ الشُّهداء.. وكان له أخٌ في معسكر الشيطان.. مع عمر بن سعد.. فقال للحسين عليه السلام:
يَا حُسَيْنُ! يَا كَذَّابُ! يا بنَ الكَذَّابِ! أَضْلَلْتَ أَخِي وَغَرَّرْتَهُ حَتَّى قَتَلْتَهُ؟! (جمل من أنساب الأشراف للبلاذري ص400).
فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.
أيُّ خيرٍ يُرتجى من هؤلاء الأرجاس! حين يُنسَبُ الحسين وأبوه للكذب؟! والحقُّ لا يفارقهم بحال.. فهم ميزانه وعلامته، وبهم يعرف الحقُّ والصدق..
ثمَّ يُنسَب لهم الإضلال! وقَتلَ مَن دافعَ عنهم دفاعه عن الحق!
وهكذا يُتَّهَمُ الإمام تارةً بأنَّه: مَرَقَ مِنَ الدِّينِ وَخَالَفَ الإِمَامَ!!
وأخرى بأنَّ أهل بيته: أهل بيت ملعونون!!
وثالثةً يقال له: نَحْنُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ الطَّيِّبُونَ! مُيِّزْنَا مِنْكُمْ!!
ورابعة يقول ابن زياد: الحَمْدُ لله الَّذِي أَظْهَرَ الحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَنَصَرَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَحِزْبَهُ! وَقَتَلَ الكَذَّابَ ابْنَ الكَذَّابِ: الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَشِيعَتَهُ!
وخامسةً يقول يزيد لزينب عليها السلام: إنَّمَا خَرَجَ مِنَ الدِّينِ أَبُوكِ وَأَخُوكِ! ثمَّ يزعم أنَّها عليها السلام عدوَّة الله!!
وسادسةً يقول والي المدينة عن الزَّهراء والحسين عليهما السلام: لو كانت حيةً لأحزنها قتله. ثم لم تَلُم من قتله يدفع عن نفسه!!
وهكذا تتكثَّر كلمات الأبالسة.. في أيام معاوية ويزيد ومَن تلاهم..
كُلُّ واحدةٍ من هذه الكلمات وسواها ممَّا أعرضنا عن ذكره تورث عند المؤمن أذيَّة عظيمة.. حيثُ تُنسَبُ فيها القبائح والنقائص والرذائل للأطهار.. لسادة الخلق والوجود.. ويُنتقَصُ منهم..
ثمَّ يأتي دور علماء البلاط.. فيُبَرَّأ يَزيد.. فهذا الغزالي ينكر قتل يزيدٍ للحسين عليه السلام! ويمنع من لعنه! (إحياء علوم الدين ج9 ص19).
وذاك ابن حجر يُخَطِئ من يتَّخذ يوم عاشوراء مأتماً على الحسين! (الصواعق المحرقة ص184).
وثالثٌ يعدُّ إقامة المأتم وإظهار الحزن يوم عاشوراء بِدعةً ابتدعها الرافضة! (حاشية رد المختار ج2 ص460).
فإذا كان هذا حال ولاة أمَّة الإسلام وقادتها، وجيوشها وجمهورها، وعلمائها وفقهائها..
لم يكُن عجباً أن يُلعَنَ عليٌّ على المنابر، ويقال عنه أنَّه: لِصٌّ من لصوص الفتن!
وأن يُقال أنَّ: معاوية بن الخطاب.. قاتَل عليَّ بن العاص!!
وأن يقولَ أحمقٌ آخر أنَّ علياً: هو أبو فاطمة! وأنَّه قُتِلَ في غزاة حنينٍ مع النبي!!
وأنَّ فاطمة عليها السلام: امرأة النبي عليه السلام! بنت عائشة! أخت معاوية!! (مروج الذهب ج3 ص32-33).
لقد طالَ ما سَرَدنَا عن هؤلاء..
وأتعَبَ القارئَ كثرةُ الافتراء على الحسين وآله الأطهار..
وهالَه مقدارُ الجهل الذي عاشته أمَّة الإسلام في تلك الأيام ولا تزال..
وفي بطون الكتب ممّا لم نذكر أضعاف ما ذكرنا..
لكنَّ اللافت هنا أمور:
أولها: أنَّ حال الأمة اليوم لا يزال كحالها بالأمس، ففي ذلك اليوم قتلوا الحسين عليه السلام، وأسالوا الدِّماء الطاهرة وهم يزعمون التقرُّب إلى الله في ذلك! فيما كانوا يسألون عن حكم دم البعوضة! ويتورَّعون عن قتلها لو ثبتت حرمته! (الأمالي للصدوق ص144).
واليوم تُرتَكَبُ أفظع الجرائم بحق المؤمنين وغيرهم، مِن قبل مَن يزعمون اتِّباعَ سنَّة النبيِّ صلى الله عليه وآله.
ثانيها: أنَّ الجهل إذا عَمَّ في أمَّةٍ لَم يُرتَجَ منها الخيرُ أبداً.. فلقد أرسلَ الله رسولَه على حين انبساطٍ من الجَهل.. فأنار للنّاس طريقَهم.. ثمَّ ما لبثوا أن عادوا لجهلهم بإعراضهم عن أبواب العلم والهداية.. بل آذوهم وظلموهم وقتلوهم وشرَّدوهم.. واليومَ لا يزالُ الجهلُ في أمَّة الإسلام عميماً، لإعراضهم عن الإمام المعصوم المطهَّر.. الذي لا خلاص لهم إلا به.
ثالثها: أن لا نجاة للأمَّة من تلبيسات إبليس، ومن فِخَاخِه، وفِخاخِ شياطين الإنس، إلا بالتمسُّك بآل محمدٍ عليهم السلام.. وقد قال أميرُ المؤمنين عن فِخَاخِ الشياطين: يَا كُمَيْلُ، إِنَّ الْأَرْضَ مَمْلُوءَةٌ مِنْ فِخَاخِهِمْ! فَلَنْ يَنْجُوا مِنْهَا إِلَّا مَنْ تَثَبَّتَ بِنَا! (بشارة المصطفى ج2 ص28).
ليس هؤلاء إلا الشيعة، الذين يُحيون أمرَ آل محمدٍ، ويسيرون على هَديِهم.
وهذه عاشوراء، فيصلٌ بين الحقِّ والباطل..
يُحييها أحبابُ الحسين بكلِّ نحوٍ قدروا عليه.. فيبكون الحسين عليه السلام، ويلبسون السواد، ويطعمون الطَّعام، ويقيمون المآتم، ويَشُجُّون الرؤوس، ويجعلونها أيام حزنٍ طويل.. ليجزيهم الله أحسن جزاء العاملين.
ثبَّتَنا الله على ولاية آل محمدٍ.. وعظم الله لنا ولكم الأجر بهم.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
ليلة الخميس، الليلة الثامنة من محرم 1445 هـ، الموافق 26 – 7 – 2023 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|