بسم الله الرحمن الرحيم
يومُ الولادة.. هو أوَّلُ يومٍ لنا في هذه الدُّنيا..
هو يومٌ منتَظَرٌ في كلّ أسرَة.. يترقَّبه صغارها والكبار، يفرحون ويُسرُّون عندما يرزقهم الله طفلاً، وتبدأ اللحظات في احتساب عمره.. وإفنائه! فهو لم يستنفذ بعدُ شيئاً مما كتبه الله تعالى له من ساعاتٍ وأيام.
تُخفي هذه الفرحة الظاهرة لأهل المولود خَلفَهَا أسراراً، أوَّلُها سؤالٌ ينقدح: لماذا يخرجُ المولود إلى الدُّنيا باكياً؟ ونحن مسرورون به، مترقِّبون لقدومه!
يفسِّرُ العلمُ ذلك في أيامنا بأنَّ بكاءه سبيلٌ لطرد السوائل من رئتيه، اللتان شَرَعَتَا تَوَّاً في أداء دورهما، كي يتمكَّن من التنفُّس في هذا العالم الجديد، بعدما كان معتمِداً على حَبلٍ يربطه بأمِّه، يغذيه بما يحتاجه من الأوكسيجين.
لكنَّ خلفَ ما يظهر أمرٌ غيبيٌّ، لا نراه، ولا نذكر حدوثه معنا!
ففي الأخبار الصحيحة عن العترة الأطهار، أنَّه عندما يبلغ أوان خروج الولد، يوحي الله عزَّ وجلّ للرحم أن تُفتَح: فَيَبْعَثُ الله إِلَيْهِ مَلَكاً يُقَالُ لَهُ زَاجِرٌ، فَيَزْجُرُهُ زَجْرَةً، فَيَفْزَعُ مِنْهَا الوَلَدُ فَيَنْقَلِبُ فَيَصِيرُ رِجْلَاهُ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَرَأْسُهُ فِي أَسْفَلِ البَطْنِ، لِيُسَهِّلَ الله عَلَى المَرْأَةِ وَعَلَى الوَلَدِ الخُرُوجَ.. فَإِذَا احْتُبِسَ زَجَرَهُ المَلَكُ زَجْرَةً أُخْرَى فَيَفْزَعُ مِنْهَا، فَيَسْقُطُ الوَلَدُ إِلَى الأَرْضِ بَاكِياً فَزِعاً مِنَ الزَّجْرَةِ (الكافي ج6 ص15).
زَجرَةُ الملك هذه أورثت عند المولود الصغير فَزَعاً، كان فيه خيرُهُ وصلاحُه، لأنَّ بيتَه الذي سكنه حتى الساعة لم يعد صالحاً لسُكناه، وبقاؤه فيه يشكِّلُ خطراً على وجوده، وعلى أمِّه التي حملته: حَيْثُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَداً، وَوَقَتْ بِالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَجَمِيعِ الجَوَارِحِ، مَسْرُورَةً مُسْتَبْشِرَة (تفسير الإمام الرضا عليه السلام ص334).
يُنسي الفَزَعُ المولودَ ميثاقاً أخذه الله عليه في عالم الذَّر.. ويسهِّل عليه خروجه إلى عالم البلاء والامتحان..
تلك ساعةُ فَرحَةٍ وأنسٍ لأهله ومنتظريه.. وساعةُ وحشةٍ غريبةٍ له!
إنَّ الوحشة خلافُ الأُنس أو ضدُّه، وقد أَنِسَ الطفلُ ببيته لشهورٍ، وها هو اليوم يخرجُ منه فَزِعاً.. مستوحِشاً.. مُقبِلاً على عالمٍ غريبٍ عنه تماماً..
يقول الإمام الرضا عليه السلام:
إِنَّ أَوْحَشَ مَا يَكُونُ هَذَا الخَلْقُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ:
1. يَوْمَ يُولَدُ وَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَيَرَى الدُّنْيَا.
2. وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى الآخِرَةَ وَأَهْلَهَا.
3. وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى أَحْكَاماً لَمْ يَرَهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا (الخصال ج1 ص107).
هي عوالم مختلفة، يتنقَّلُ أحدُنا بينها، فتصيبُهُ وحشةٌ غريبةٌ، لا يدفعُها عنه إلا الله تعالى، فيؤمِنُ روعته، ويهدئه، ويعينه.. ولقد سلَّمَ الله تعالى على يحيى عليه السلام في هذه المواطن الثلاثة: يوم وُلِدَ ويوم يموتُ ويوم يُبعَثُ حيّاً.. كما سَلَّمَ عيسى عليه السلام على نفسه فيها..
لكنَّ هذه الوحشة لا تُصيبُ كلَّ أحدٍ.. فالإمام المعصومُ مثلاً: إِذَا وَقَعَ عَلَى الأَرْضِ وَقَعَ عَلَى رَاحَتِهِ، رَافِعاً صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ (الكافي ج1 ص388).
والمؤمنُ يأملُ أن لا تُصيبه ساعة وفاته، فيدعو ربَّه تبعاً لإمامه، فيسأله توفيقاً لصالح الأعمال: حَتَّى يَكُونَ المَوْتُ مَأْنَسَنَا الَّذِي نَأْنَسُ بِهِ (الصحيفة السجادية الدعاء40).
ساعةُ الولادة إذاً وساعة الموت من أوحش الساعات.. وكذا البعث والنُّشور.. لكنَّ الله تعالى قد يجعل ساعة الموت كما البعث أُنساً لعباده المؤمنين.. إن أطاعوه وامتثلوا أمره، وتقرَّبوا إليه بما يحب..
إنَّ من أشدّ ساعات ابن آدم: السَّاعَةُ الَّتِي يُعَايِنُ فِيهَا مَلَكَ المَوْتِ (الخصال ج1 ص120)، وهي الساعة التي ينبغي له أن يستعدَّ لها، فلئن كانت ساعة الولادة غير مسبوقةٍ بتكليفٍ يؤدي امتثاله إلى ارتفاع وحشتها، فإنَّ الساعة التي يظهر فيها ملك الموت ليست كذلك!
وساعة الموتُ هذه على شدَّتها.. ليست أصعب العَقَبات، فالموتُ بنفسه عقبةٌ، أي طريقٌ وعرٌ يُرتقى بمشقَّة، لا تُبلَغُ الجنانُ إلا بقطعه..
رغم ذلك.. إِنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ألف عَقَبَةٍ، أَهْوَنُهَا وَأَيْسَرُهَا المَوْتُ! (من لا يحضره الفقيه ج1 ص134).
فلا حولَ ولا قوَّة إلا بالله..
لقد وُلِدَ أحدُنا فَزِعاً باكياً مستوحشاً.. ثم غفلنا عن وحشةٍ تنتظرنا إن لم نقدِّم لغدنا.. ساعة نفارقُ أحبابنا وأهالينا.. وديارنا وأموالنا.. وما اعتدنا عليه، وأنِسنا به وألِفناه..
إنَّ سيرة أعبد الناس وأزهدهم وأفضلهم تثيرُ فينا العَجَب! فهؤلاء الذين رفع الله عنهم كلَّ سوءٍ ووحشةٍ قد عاملوا الموتَ مُعاملةً تحثُّنا على التدبُّر والتأمُّل!
فهذا الحسن بن عليّ عليه السلام، الإمام المطهر من الذنوب، المبرأ عن العيوب:
كَانَ إِذَا ذَكَرَ المَوْتَ بَكَى!
وَإِذَا ذَكَرَ القَبْرَ بَكَى!
وَإِذَا ذَكَرَ البَعْثَ وَالنُّشُورَ بَكَى!
وَإِذَا ذَكَرَ المَمَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ بَكَى!
وَإِذَا ذَكَرَ العَرْضَ عَلَى الله تَعَالَى ذِكْرُهُ شَهَقَ شَهْقَةً يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْهَا! (الأمالي للصدوق ص179).
يبكي المعصومُ بكاءَ خشيةٍ وهو لم يعص الله طرفة عين! يُشفِق من تلك الساعات وهو صاحبُ الزُّلفى فيها.. وله الأمر والنهي حينها بأمر الله!
فأين نحن من ذلك؟
لقد بكى الإمام الحسن عليه السلام أيضاً ساعة وفاته، ولمّا سئل عن ذلك قال:
إِنَّمَا أَبْكِي لِخَصْلَتَيْنِ: هَوْلِ المُطَّلَعِ، وَفِرَاقِ الأَحِبَّةِ! (الزهد ص79).
فهو عليه السلام في ذلك معلِّمٌ، مُشفِقٌ، ذاكرٌ للموت في أيامه ولياليه، كما كان الصادق عليه السلام، يرفع صوتَهُ آخر الليل بدعائه حتى يُسمِعَ أهل الدار قائلاً: اللهمَّ أَعِنِّي عَلَى هَوْلِ المُطَّلَعِ، وَوَسِّعْ عَلَيَّ ضِيقَ المَضْجَعِ، وَارْزُقْنِي خَيْرَ مَا قَبْلَ المَوْتِ، وَارْزُقْنِي خَيْرَ مَا بَعْدَ المَوْتِ (الكافي ج2 ص539).
آهٍ من تلك الساعة.. ساعةٌ غريبةٌ.. لا نعرفُ كنهها.. ولا نُدركُ حقيقتَها.. ولا نعملُ لها حقَّ عملها!
لكنَّ ما نعلَمُهُ عنها يكفينا.. لتستقيم أمورُنا..
إلا أنَّ طول الأمل.. يُنسينا.. والغفلةُ تقتُلُنا.. فليس مقدارُ ما نعلمُ عنها شيئاً يسيراً.. لكنَّا نعاملُها: كَأَنَّ المَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ! وَكَأَنَّ الحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ!
ونحن نرى الموت رأي العَين.. لكنَّها رؤية البصر لا البصيرة..
يقول الصادق عليه السلام: لَوْ عَرَفَتِ البَهَائِمُ مِنَ المَوْتِ مَا تَعْرِفُونَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِيناً قَطُّ! (من لا يحضره الفقيه ج2 ص288).
لقد عَرَّفَ الله تعالى البهائم به عزَّ وجل، فهي شريكةُ الموجودات في معرفة ربِّها، وإن لم نفقه تسبيحها وإقرارها له.
كذلك هي شريكةٌ لنا في معرفة الموت.. لكنَّ معرفتها به بسيطةٌ.. يسيرةٌ.. تُنَاسِبُ شأنَها..
أمّا نحنُ.. فقد أدرَكَت عقولنا عنه، وعَلَّمنا ربُّنا وساداتنا من أحواله الكثير.. رغم ذلك غَفِلنَا عنه يومنا بل دهرنا!
لقد أخذَ منّا الأحبابَ والأصحاب.. والأهلَ والإخوان.. واحداً بعد آخر..
وكلَّما بكينا على فقيدٍ.. التفتَ إلينا ملك الموت بِغَيظٍ وقال:
مَعَاشِرَ القَوْمِ: مِمَّ بُكَاؤُكُمْ؟
فَوَ الله مَا ظَلَمْنَاهُ فَتَشْكُوا!
وَلَا اعْتَدَيْنَا عَلَيْهِ فَتَضِجُّوا وَتَبْكُوا!
وَلَكِنْ، نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَبِيدُ رَبٍّ وَاحِدٍ، وَلَوْ أُمِرْتُمْ فِينَا كَمَا أُمِرْنَا فِيكُمْ لَامْتَثَلْتُمْ فِينَا كَمَا امْتَثَلْنَا فِيكُمْ، وَالله مَا أَخَذْنَاهُ حَتَّى فَنِيَ رِزْقُهُ، وَانْقَطَعَتْ مُدَّتُهُ، وَصَارَ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يَحْكُمُ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَإِنْ صَبَرْتُمْ أُجِرْتُمْ، وَإِنْ جَزِعْتُمْ أَثِمْتُمْ، كَمْ لِي مِنْ رَجْعَةٍ إِلَيْكُمْ آخُذُ البَنِينَ وَالبَنَاتِ، وَالآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ (الفضائل لابن شاذان القمي ص88).
لقد أصابَ الأحياءَ وَحشةٌ، لفراق حَبيبٍ.. وهم كُثُرٌ مجتمعون، يأنسُ بعضهم ببعض، ويسلِّي بعضهم بعضاً، ويعزِّي أحدهم الآخر.. ولهم في الدُّنيا ما يشغلهم عن ميِّتِهم بعد حين..
ولكن..
ما حال هذا الميِّت؟! حينما فَقَدَهم جميعاً، وفارقهم دفعةً واحدة.. وانتقل من عالمٍ إلى آخر.. وصار تحت أطباق الثرى.. لا يُسعِدُ باكياً.. ولا يُجيبُ داعياً..
إنَّ الإنسان يأنس بأهله وأحبته، حتى أنَّ أحد أسباب طلب الأولاد في الدعاء ذكوراً وإناثاً هو الأنس: آنَسُ بِهِمْ مِنَ الوَحْشَةِ، وَأَسْكُنُ إِلَيْهِمْ مِنَ الوَحْدَةِ (الكافي ج6 ص7).
لكنَّ هذا الأنس ينقضي.. عندما تحينُ ساعة الوحشة العجيبة.. حين يموتُ أحدُنا فيرى الآخرة وأهلَها.. تتغيَّرُ الموازينُ.. فيقتصرُ الأنسُ على ما قَدَّم من عملٍ صالحٍ.. وعلى زوّار قبره، وما يناله منهم من بِرٍّ وخير..
ولعلَّ الوحشة وحشتان:
وحشةٌ ينفردُ بها الكافر.. وأخرى يشتركُ فيها كلُّ أحدٍ.. المؤمنُ والكافر.. وهي وحشة فراق الأحبة.. لكنَّ للمؤمن ما يعوِّضه الله به من أُنسٍ مذخور..
فالموت للمؤمن: كَنَزْعِ ثِيَابٍ وَسِخَةٍ قَمِلَةٍ، وَفَكِّ قُيُودٍ وَأَغْلَالٍ ثَقِيلَةٍ، وَالِاسْتِبْدَالِ بِأَفْخَرِ الثِّيَابِ وَأَطْيَبِهَا رَوَائِحَ، وَأَوْطَإِ المَرَاكِبِ، وَآنَسِ المَنَازِلِ.
ولئن استوحشنا لفقدان حبيبٍ مؤمنٍ.. واستوحشَ لفراقنا.. فلقد عوَّضَهُ الله تعالى ما يَسُرُّه به، ويؤنسه، من أفضل منازل البرزخ وآنَسِهَا، وحرَّرَهُ ممّا ثقُل عليه حمله في الدُّنيا، وأراحه من قيودها وأغلالها، وبلائها ونَصَبِها..
والموت للكافر: كَخَلْعِ ثِيَابٍ فَاخِرَةٍ، وَالنَّقْلِ عَنْ مَنَازِلَ أَنِيسَةٍ، وَالِاسْتِبْدَالِ بِأَوْسَخِ الثِّيَابِ وَأَخْشَنِهَا، وَأَوْحَشِ المَنَازِلِ، وَأَعْظَمِ العَذَابِ (معاني الأخبار ص289).
كلُّ وحشةٍ نتخيَّلُها.. يسيرةٌ أمام (أوحش المنازل)، في عالمٍ لا ندركُ عنه إلا اليسير..
كلُّ عذابٍ وقع على عبدٍ من العباد في الدُّنيا هَيِّنٌ أمام (أعظم العذاب) الذي يُنزلُه الله تعالى بالكافر بعد موته..
فالموتُ يفتحُ باباً لآنَس المنازل.. وآخر لأوحشها..
آنَسُ المنازل للمؤمن.. وأوحشها للكافر..
والمؤمن يدعو فيقول: اللهم اجعل الموت: مَأْنَسَنَا الَّذِي نَأْنَسُ بِهِ..
وارحمنا وموتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين
الخميس، غرَّة شهر رمضان المبارك 1444 هـ، الموافق 23-3-2023م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|