• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : الموت والقيامة .
                    • الموضوع : 214. ما أسرع الملتقى! .

214. ما أسرع الملتقى!

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا كُنْتَ فِي إِدْبَارٍ، وَالمَوْتُ فِي إِقْبَالٍ، فَمَا أَسْرَعَ المُلْتَقَى‏!

نَعَم.. ما أسرَعَ المُلتقى..

بالموت!

نسيرُ نحوَهُ.. بأنفاسنا..

ويسيرُ نحوَنا.. بما قدَّرَ الله له ولنا..

فهو خلقٌ من خلق الله.. خَلَقَهُ بعدما خَلَقَ الحياة.. وصارَ باباً للفُرقَة بين الرُّوح والجَسَد.. كما بين الأحباب..

يُفرِّقُ الموتُ الأحباب.. فيصير أحدهم في غاية البُعد عن الآخر.

عن أمير المؤمنين عليه السلام: مَا أَبْعَدَ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ لِانْقِطَاعِهِ عَنْهُ!

يحصل الانقطاع بالموت، ولو لم يُدفَن الميِّت بعد.. إذ تنقطع الصلة بقبض الروح.. فيصيرُ الميتُ بعيداً عن الحيِّ..

لكنَّ الحيَّ ليس بعيداً عن الميِّت!

فَمَا أَسْرَعَ المُلْتَقَى‏! بالموت..

يقول عليه السلام: مَا أَقْرَبَ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ (غرر الحكم ص164).

إذا كان الميِّت قد سبق الأحياء.. فكلُّهم به لاحقون.. فما أقربهم منه!

لقد صار الميِّتُ بعيداً عن الحيِّ لانقطاعه عنه.. وصار الحيُّ قريباً من الميِّت لِلَحاقه به..

ولكن..

هل تكفي سُرعةُ اللَّحاق واللقاء كي يخفت ألم الفراق؟!

إن هذان الأمران مختلفان.. ولا تَلازُمَ بينهما..

فسُرعَةُ اللقاء.. بموت الأحياء عمّا قريب.. لا تُبَرِّدُ ألم الفراق..

وهذه الزَّهراء عليها السلام.. خيرُ سيدةٍ في الوجودُ.. تبكي خيرَ أبٍ وإنسانٍ في الدّنيا.. رغم وعد اللقاء القريب..

فإنَّه صلى الله عليه وآله لمّا نُعِيَت إليه نفسه طلب من أمِّ سلمة أن تدعو له حبيبة قلبه، وقُرَّة عينه فاطمة.

جاءته عليها السلام وهي تقول:

نَفْسِي لِنَفْسِكَ الفِدَاءُ، وَوَجْهِي لِوَجْهِكَ الوِقَاءُ يَا أَبَتَاهْ، أَ لَا تُكَلِّمُنِي كَلِمَةً؟ فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ وَأَرَاكَ مُفَارِقَ الدُّنْيَا، وَأَرَى عَسَاكِرَ المَوْتِ تَغْشَاكَ شَدِيداً (الأمالي ص636).

آهٍ من تلك الساعة..

آهٍ لتلك النَّفس الطاهرة التي تَقِي أباها.. وتبكيه ليلها ونهارها.. في بيت أحزانها.. وكلُّ مَحَلٍّ حَلَّت فيه صار بيتاً للأحزان!

سألَته صلى الله عليه وآله قبل أن يفارق الدنيا: يَا أَبَتَاهْ فَأَيْنَ المُلْتَقَى يَوْمَ القِيَامَةِ؟

هو لقاءٌ موعودٌ حتميٌّ.. في مواطن ذلك اليوم المختلفة: عند الحساب.. عند الشفاعة للأمة.. عند الصراط..

لكنَّ اللقاء الموعود لا يدفع ألم هذه الساعة.. وإن كان حقاً وصدقاً..

وهكذا كان لأهل البيت الطاهر مواقفُ يَعِدُ فيها بعضُهم بعضاً باللقاء.. فيخفف ذلك حرارة الفراق، دون أن يطفئها..

وهذا عليُّ بن الحسين عليه السلام ينادي أباه يوم الطفوف: يَا أَبَتِ، العَطَشُ قَتَلَنِي، وَثِقْلُ الحَدِيدِ قَدْ أَجْهَدَنِي.

خَفِّفُ الإمام هولَ ذلك عن قُرَّة عينه.. بأن دعاه إلى الشهادة! قائلاً:

وَا غَوْثَاهُ، قَاتِلْ قَلِيلًا، فَمَا أَسْرَعَ المُلْتَقَى بِجَدِّكَ مُحَمَّدٍ (ص)!

وَيَسْقِيكَ بِكَأْسِهِ الأَوْفَى..

وَاسْتَهَلَّتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ، ثُمَّ قَالَ: عَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ العَفَاءُ (مثير الأحزان ص69).

هكذا تفيضُ العيونُ دَمعاً على الآل الأطهار.. وعلى الأحبة والأعزّة..

لكنَّ ههنا مفارقةً عجيبة..

يتألَّمُ أحدُنا لفراق أحبَّته.. فيُرشِدُهُ النبيُّ صلى الله عليه وآله لما يخفِّف عنه مُصابَه.. وهو ذِكرُهُ لمصيبةٍ أعظَم.. بل ذِكرُهُ لأعظم مصيبةً.. تلك مصيبة فَقد الرَّسول..

فكلَّما عَظُمَ قَدرُ الفقيد وشأنه كلَّما عظمت المصيبة به.. وليس أعظم في الوجود منه صلى الله عليه السلام.. وهو القائل:

مَنْ أُصِيبَ مِنْكُمْ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي، فَإِنَّهُ لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا (الكافي ج‏3 ص221).

إنَّ فقد النبيِّ أعظم مصيبةٍ حلَّت على المؤمنين.. فإذا استذكَرَها المؤمنُ هَوَّنَ ذلك عليه مصيبته، بفقد أحبَّته..

ولكن.. بأيِّ شيءٍ يُخفَّفُ عن فاطمة عليها السلام.. حينما فَقَدَت أباها؟! فما مِن مصيبةٍ أعظم حتى تستذكرها وتخفف عنها ألَمَها بفراق أبيها..

لقد كانت ليلة وفاته صلى الله عليه وآله أعظم ليلةٍ على آل محمد، وأطول ليلة، حينها أرسل الله تعالى لهم مَن يُعَزِّيهم، فأتاهم آتٍ يسمعون كلامه ولا يرونه، خاطبهم قائلاً:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ.

إِنَّ فِي الله عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَة.. فَتَعَزَّوْا بِعَزَاءِ الله (الكافي ج1 ص446).

ثمَّ أعادُ الحُسَينُ عليه السلام هذه التعزية على الحوراء زينب لما تألمت لِما يجري عليه يوم الطفوف..

هو آخر الخمسة الذين كانوا يذكِّرون الناس برسول الله صلى الله عليه وآله، فكان فقدُهُ كفَقدِهِم جميعاً، فحقَّ أن يكون التعزِّي بفقده كالتعزي بفقد الرسول.. فقال لها عليها السلام:

يَا أُخْتَاهْ، اتَّقِي الله، وَتَعَزَّيْ بِعَزَاءِ الله، وَاعْلَمِي أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ يَمُوتُونَ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ لَا يَبْقَوْنَ.. وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ بِرَسُولِ الله (ص) أُسْوَةٌ (الإرشاد ج2 ص94).

هكذا يتعزَّى المؤمنُ.. لكُلِّ فاجعةٍ تنزلُ عليه.. من فَقد الرَّسول.. إلى فقد الحسين.. وسائر الأطهار والاطياب.. والأحباب..

يتألَّم.. لكنه يصبر.. وإنَّ: مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزَاءِ الله تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ حَسَرَاتٍ عَلَى الدُّنْيَا (الكافي ج2 ص315).

يتصبَّرُ المؤمن وهو يعلم أنَّ ملكَ الموت يقول لأهل الميِّتِ عندما يراهم يبكون على ميِّتِهم:

لَا تَبْكُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي فِيكُمْ عَوْدَةً وَعَوْدَةً، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَد! (تفسير القمي ج2 ص6).

لا تُفني هذه التعزيةُ الألم.. لكنَّها تخفِّفُه.. وتدعو العاقل إلى الاعتبار.. وإلى الاستعداد للموت.. فإذا كان للموت غمرات لا تعتدل على عقول أهل الدُّنيا، وإذا كان ما بعد الموت أطمُّ وأطمُّ من الموت.. كان حريَّاً بالعاقل أن يُقَدِّم لغده..

وإن غداً.. لناظره قريب..

فما أسرعَ الملتقى..

رحم الله أمواتنا.. وعاملهم بكرمه ورحمته..

وختم لنا بحسن العاقبة..

والحمد لله رب العالمين

الخميس 2 شعبان 1444 هـ الموافق 23 – 2 – 2023 م


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=279
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 02 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5