• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
              • القسم الفرعي : عرفان آل محمد (ع) .
                    • الموضوع : مقدمة وتمهيد .

مقدمة وتمهيد

مقدمة وتمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿رَبِّ اشْرَحْ لي‏ صَدْري‏ * وَيَسِّرْ لي‏ أَمْري‏ *

وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِساني‏ * يَفْقَهُوا قَوْلي‏﴾(1)

الحمد لله الذي لا تُدرِكُ العقولُ عظمَتَه، ولا تحيطُ الأوهامُ كنهَه، الذي وَسَمَ بالرسوخ في العلم من أقرَّ له بالعجز عن معرفته.

والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين، الذين بلغوا الغاية في المعرفة والقرب منه تعالى، فأغنى الله تعالى خلقَه بهم، إذ كانوا أدلاء عليه، وأبواباً إليه، يأخذون بيد السالك إلى الله تعالى فيختصرون عليه الطريق ويُعَبِّدون له المسير.

الأمم قبل الإسلام

تقول الزهراء البتول (عليها السلام) في وصف حال الأمم قبل بعثة أبيها محمدٍ عبدِ الله ورسوله (صلى الله عليه وآله): فَرَأَى الْأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لِأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ الله بِأَبِي مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا(2).

فكانت الأمم تعرفُ الله تعالى رغم تفرّقها وعبادتها للأوثان وإنكارها له تعالى: (مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفَانِهَا)، إذ قد يجتمع الجحود مع استيقان القلب كما هتف به الذكر الكريم: ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوًّا﴾(3).

وهذا الوصف الدقيق لحال الأمم قبل الإسلام: إن قَرَأتَه في كلام سيدة النساء (عليها السلام)، فلن تجد له كفواً إلا إن كان القائل مَن كان لها كفواً، وليس آدم ومن دون، سوى عليّ بن أبي طالب!

وقد قال (عليه السلام) في وصف تلك الأيام وبعثة الرسول (صلى الله عليه وآله): وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ:

  1. بَيْنَ مُشَبِّهٍ لله بِخَلْقِهِ(4).
  2. أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ(5).
  3. أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ(6).

فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَة(7).

الانقلاب على الأعقاب والفتن

وبعد أن هدى الله عزّ وجل بمحمّد (صلى الله عليه وآله) (أهلَ الأرض) من الضلالة، وأنار ظُلَمَ (الأمم) به (صلى الله عليه وآله).. وجمعهم لخير رسالةٍ تحت راية خير رسول.. ما تلبَثُ آية الانقلاب على الأعقاب أن تحكي فصلاً آخر من فصول سلسلة الهداية والغواية، حينما قال تعالى: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ ومَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً وسَيَجْزِي الله الشَّاكِرينَ﴾(8).

أَنْ تنقلبَ الأمةُ على الأعقاب: يعني أن تظهر فيهم (حَسَكَةُ النِّفَاقِ)، فلا عجب أن (أَطْلَعَ الشَّيْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ) فـ (اسْتَبْدَلُوا والله الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ) عندما (زَعْزَعُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ)! (9).

فبعد أن أرشد الله تعالى بِنَبِيِّه الناسَ إلى معرفته وتوحيده، وأخرجهم من ظلمات الجهل بحُسن تدبيره، وترك فيهم الثقلين صراطاً مستقيماً للنجاة، انقلبت الأمة على الأعقاب واستجابت لدعوة إبليس حينما وجدهم خفافاً، فسقطوا في الفتنة الكبرى، أعقبتها سائر الفتن كقطع الليل المظلم..

أثمَرَ استبعادُ الصفوة وتَحَكُّمُ الأذناب في الأمة الإسلامية جهلاً وتجهيلاً بأمَّهات المسائل الدينية، حتى الفطرية منها، فطالَ ذلك معرفةَ الله عزّ وجلّ، بعدما تشوّهت وتلوّثت المعارف العقلية والنقلية.

ولأرباب الفتن حكاياتٌ، تبدأ عند بعضهم من استثمار الانقلاب الكبير في السقيفة، الذي دبّره قومٌ أسسوا أساس الظلم والجور على الآل، وسلبوا الحقّ أهله، فاستثمرت هذا الحدَثَ المهولَ فِرَقٌ ومذاهب، وجدت فيه بغيتها، واختبرت فيه حظوتها.. فعادت المللُ المتفرقة بصُوَرٍ إسلامية.. كان منها: المُجسِّمَة، وكثير من الفلاسفة، ورموز من المتصوّفة وأشِقَّاؤهم العرفاء.. وسواهم..

فتنة المتصوّفة وأشقاؤهم العرفاء

واحدة من أشدّ الفتن في تاريخ الإسلام.. فتنةُ قومٍ زعموا أنهم بالله عارفين، وأنّهم إليه تعالى أقربُ المُقرَّبين، وأنهم الطريق الذي يرشدُ الأوّلين والآخرين.

ولو غُضَّ البصَرُ عن مناشئ هذه الفتنة في الأديان البائدة، أو تلك المنسوخة، فإن الفتنة المهولة هذه تشتدُّ في الإسلام مع بعض أقطاب التصوّف أمثال (با يزيد البسطامي)(10) وهو القائل: لا إله إلا أنا فاعبدون! (11)، وهو صاحب القول الشهير: سبحاني ما أعظم شأني!(12).

ومع الجنيد البغدادي(13)، حينما قال: ليس في جبّتي سوى الله!(14).

ومع حسين بن منصور الحلاج(15)، صاحب البيت الشهير:

أنا من أهوى، ومن أهوى أنا             نحن روحان حللنا بدنا (16)

فاحت من هذه الكلمات وأمثالها روائح الزندقة بادّعاء الألوهية! فكان القول بالحلول أو الاتحاد منطلقاً في مثل هذه (الشطحات).

وانتهى الأمر ببعض هؤلاء بأن حُكِمَ عليهم بالردّة فقتلوا قتلاً شنيعاً.

تأويل كلمات الصوفية!

وكُلَّما سِرتَ في طريق التاريخ المُظلم.. لَحِظتَ صدىً يتردّد لكلمات الكفر هذه.. إذ صارت تُحمَلُ على معانٍ جديدة وتُنسَبُ إلى مشارب شتّى، وبدأ التأويل والتبرير لمثل هذه الكلمات قرناً بعد قرن في عدد من مدارس التصوف وطرقه التي انتشرت في ربوع بلاد المسلمين..

لقد تنوّعت وجوه الدفاع عن كلمات هؤلاء، وانبَرَت فِرَقٌ تتبعهم وتحسن الظن بهم وتجتهد في نشر كلماتهم، وفي تبريرها ما أمكن، وإلا فتأويلها.. ثم زعم جمعٌ منهم أنها حقيقة التوحيد، فيما أسماه بعضهم (التوحيد الوجودي) وأسماه آخرون (وحدة الوجود) أو (وحدة الوجود والموجود) مُدّعين أنها التوحيد الحقّ! فيما أطبق علماء الإمامية على كونها كفراً أو مستلزمة للكفر!

المنع من تأويل كلماتهم

وغيرُ خفيٍّ أن مسلك تأويل كلماتهم يواجه مشاكل عديدة منها:

1. أن التأويل لا بد أن يكون لداعٍ، والداعي هنا مفقودٌ، إذ يأبى المتصوفة والعرفاء تأويل كلماتهم، وقد صرّح بذلك الكثير من أئمتهم، ومن أبرزهم شيخهم الأكبر ابن عربي حين قال:

وإن سافر شيخك‏.. لا تتأوّل عليه كلامه فيما يأمرك أو يحدّثك به، وقف عند ظاهر ما تسمع، وافعله إذا أمرك، وإن تيقّنت أنّه خطأ فامض لما أمرك ولا تعرّج على تأويلٍ فيه، وإن تأوّلت أمره وأصبت فهو خطأ! كما أنّك إذا لم تتأوّل وفعلته كما أمرك وكان ذلك الأمر خطأً فقد أصبت(17)..

وقد تبعهم في ذلك العرفاء، فقال بعض معاصريهم (كالسيد محسن الطهراني):

فإذا توصل شخص معين بالبرهان والدليل العقلي وانكشاف حقائق عالم التوحيد من خلال الإشراق الباطني والإفاضة القدسية؛ كما يدعي ذلك الشخص واقعاً وجزماً وبدون أي ترديد أو تشكيك.. إلى الحكم بوحدة الوجود، فعندها كيف يمكننا أن نحمل كلامه على خلاف معتقده ونظره القطعي ونتيجته التي لا تقبل الشك ولا الترديد؟

أليس هذا توجيه بما لا يرضي صاحبه؟ وبأي حق يمكن أن نمنح أنفسنا إجازةً في حمل كلام شخص واعتقاده ونظره العمليّ والشهوديّ على خلاف رأيه ونظره؟ فهذا الفعل بنفسه مخالف للشرع ومخالف للعقل ومخالف للمنطق والعرف(18).

2. أن التأويل لا بد أن يكون لقرينة، والقرائن مفقودة لمنعهم عن ذلك، بل واتهامهم المتأول لكلماتهم بمخالفة الشرع والعقل والمنطق والعرف.

3. أنه قد ورد نصٌّ خاص من المعصوم (عليه السلام) بالنهي عن تأويل كلماتهم، حيث أن المتلاعب بالألفاظ كمقدّمة للتلاعب بالدين، والذي يدسّ السم بالعسل لا يصح حسن الظن به، روى ذلك المحقق الأردبيلي في حديقة الشيعة عن الصادق (عليه السلام) بعدما ذم الصوفية وقال: وسيكون أقوامٌ يدّعون حبّنا، ويميلون إليهم ويتشبّهون بهم، ويلقّبون أنفسهم بلقبهم ويؤولون أقوالهم(19)..

فكان تأويل أقوال المتصوّفة من موارد الذم في حديثه (عليه السلام).

وعلى هذا جرت سيرة العقلاء، من عدم حمل من عُلم تلاعبه بالألفاظ على المحامل الحسنة، فكيف مع وضوح كلماته؟!

التصوف يتلبَّس بالتشيع: إنّه العرفان!

لكن أسوأ ما في الأمر بعد كلمات الكفر، هو نسبة هذه الأقوال إلى العترة الطاهرة من آل محمد (عليهم السلام)! تركّزَ ذلك في القرن الثامن وما تلاه، حيث حمَلَ معه إنجازاً صوفياً تمثَّل بتغلغل جملةٍ من أفكارهم وعقائدهم في بعض المدارس الشيعية تأثُّراً بأئمة التصوف كابن عربي شيخهم الأكبر وأمثاله ممّن تقدم عليه أو تأخر عنه..

فصرتَ ترى ما يُعرَف بالتصوف الشيعي مقابل التصوف السني! سواء كان ذلك انتحالاً من بعض فرق التصوّف للتشيع اسماً، أو غزواً فكرياً حَرَف بعض ضعاف القلوب من الشيعة عن طريقهم(20)، أو تقيّة اتّبعها بعض الشيعة خوفاً على أنفسهم وذابت على إثرها عقيدتهم بمرور الأيام.

ثم ما لبثت جملة من هذه المدارس أن انسلخت من اسم التصوف هرَباً من المواقف الجريئة التي اتخذها علماء الشيعة بحق التصوف والمتصوفة، وصبَغت على نفسها صبغة (العرفان) وتلوّنت بلون (الولاء للعترة الطاهرة) وهم يعتقدون بمعتقدات البسطامي والحلاج، ويزعمون الفناء والاندكاك في الذات الإلهية حتى يصير أحدهم ذات الله! (21).

يقول قطب الفرقة الصوفية المعروفة في إيران باسم فرقة (نعمت اللهية الجنابادية) او (نعمت اللهي گنابادي) أن التصوُّف والعرفان هما شيء واحد، قال:

يقولُون إن التصّوف غير العرفان، نعم، هما لغتان متفاوتان لفظاً ولکن معناهُما واحد، «عباراتنا شتّى وحسنك واحد»، وإلقاء هذا لاشتباهٍ کان من قديم الأياّم (22).

ثم جعل عدم التصريح بالتصوّف من قبل العرفاء راجعاً لأسباب سياسية أو خوفاً من تحمُّل الضرر والخسارة، فقال:

الاختلاف الّذي قائلون به بينهما(23).. يمکن أن يکون باقتضاء الوضعية السياسية التي تمنعهم أن يخالفوا مع العرفان ايضاً.. ومن جهة أخرى لا يستطيعون أنْ يقبلوا التصوف لأن قبوله يؤدي إلى تحمّل الضّرر والخسارة في دنياهم ولهذا يقولون أن العرفان غير التصّوفّ(24).

وأقرّ بذلك بعض (العرفاء) الشيعة، قال السيد محسن الطهراني مدافعاً عن التصوّف مؤكداً أن حقيقته والعرفان واحدة، قال:

 لكن حقيقة العرفان والتصوف واحدة، وهي الإدراك الشهودي لذات الحق المقدسة(25).

وقد قيل: إذا عرف السبب بطل العجب.

فإذا قرأت كلمات جملة من (العرفاء الشيعة) عرَفت ما أراد قوله هذا (القطب الصوفي) وأقره عليه هذا (العارف)، إذ لا تجد في كلمات هؤلاء العرفاء إلا اجتراراً لكلمات المتصوّفة السُنَّة جيلاً بعد جيل! فإن في كلامهم ما يثير حميّة الغيور على دينه، ويكاد لولا حكمته يخرج عن عقاله!

يقول العارف (الشيخ حسن زاده آملي) ما ترجمته:

إلهي، حتى الآن كنت أقول ﴿لا تأخذه سنة ولا نوم﴾ والآن صرتُ أرى أني أيضاً (لا تأخذني سنة ولا نوم)!! (26).

ويقول (العارف بالله!) السيد أحمد الموسوي النجفي:

منْ يشمّ رائحة التّوحيد يتّوجه دائماً إلى مصداق لكلمة (لا إله إلا الله).. وعندما يصل إلى هذه المرتبة من اليقين يقول أنا موجود، عندها يقول كما قال البسطامي: سبحاني سبحاني، ما أعظم شأني(27).

ويقول:

(لا إله إلاّ أنت) هي كلمة ذي النّون الذي كان في المعاينة مستغرقاً في بحار الولايّة بواسطة ما وهي الحوت، ولو وصل إلى مقام معاينة الشهود لقال: لا إله إلاّ أنا فاعبدني(28).

هذه بعض نماذج مدرسة العرفان المعاصر!

ومن نماذجها السيد محمد محسن الطهراني حين يقول عن العرفاء:

صار وجودهم مندكّاً وفانياً في وجود الحق. وهنا لا يبقى للعبد والمخلوق وجودٌ في مقابل الله وحضرة الحق تعالى كي يقوم بعبادته، ولا تقابل بينهما حتى يقصد التقرب إليه. فالإثنينية في هذه الحالة تكون قد ارتفعت بينهما بشكل جذري.. فهنا يبقى موجود واحد فقط وحقيقة واحدة وواقع واحد وذات واحدة؛ وهي وجود ذات الله تعالى فقط. وعندها هو الذي يعبد وهو الذي يقف للصلاة وهو الذي يركع وهو الذي يسجد!! (29).

لقد كان التشيُّع ولا يزال بريئاً من هذه الافتراءات على الله تعالى، إذ أنّه لا سواه، سبيلُ محمدٍ وآل محمد (عليهم السلام).

ومهما حاولت هذه المدارس بثّ اللوثة في الفكر الطاهر، فإنّه يظلَّ كنبعٍ عذبٍ مُنَزَّهٍ عن عقيدة التجسيم وشطحات المتصوفة والعرفاء، وهذا ما يُبيِّنُه هذا الكتاب بإذن الله.

كل من خالفهم فهو من أهل النار

رغم خطورة هذه المعتقدات وبطلانها، إلا أن ما زاد الطين بلّة بعد قول المتأخرين منهم بوحدة الوجود، هو زعمهم أن من خالفهم في عقيدتهم هذه وقال بأنه (موجود) فهو من أهل النار!!

فحذارِ أيها المؤمن! إذ ينبغي عليك بزعمهم أن تعتقد أنك لست موجوداً حقيقة فتكون مؤمناً بما يسمّونه (التوحيد الوجودي) وهو عبارة أخرى عن القول ب(وحدة الوجود والموجود)! وإلا تفعل ذلك يكون دخولك في النار واجباً!

قال السيد حيدر الآملي:

وأمّا بحسب الباطن، فمعلومٌ انّه لا يحصل التوحيد الحقيقي الا بنفي وجودات كثيرة واثبات وجود واحد، كقولك: ليس في الوجود سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، فالكل هو وبه ومنه واليه...

 كلّ من لم يكن مسلماً مؤمنا بالإسلام اليقيني والتوحيد الشرعي، لا يمكن دخوله في الجنة، بل يكون دخوله في النار واجبا.. وبعد التوحيد ليس الا الشرك.. وكذلك من يكون مسلما مؤمنا، موحّدا بالتوحيد الحقيقي الوجودي، وجب دخوله في الجنة(30)..

فإنّهم يرون أن اعتقاد الإنسان بوجودٍ لغير الله تعالى يجعله في مصاف المشركين بالله تعالى ويكون من أهل النار! كما سيأتي في مطاوي الكتاب.

هذا الكتاب

يعالج الكتاب هذه الجوانب وسواها في بابين:

نبيّن في الباب الأول جملة من المباحث التوحيدية الحقّة، وحقيقة العرفان عند العترة الطاهرة، بدءً من معرفة الله بين العقل والنقل، مروراً ببيان معرفة الله تعالى حقّ معرفته، واستحالة اكتناه الذات المقدسة، ولزوم الإقرار بالعجز عن ذلك، والنهي عن التفكر في ذات الله، ولزوم وصفه تعالى بما وصف به نفسه، وللفارق بين الصفات والأسماء، وبيان كون معرفة الإمام هي معرفة الله، وأن الإيمان تصديقٌ وعمل..

مع جملة من المباحث الأخرى وفق أدلة العقل القطعية ونهج آل محمد (عليهم السلام)، وهو ما ينبغي أخذه من منبعه صافياً نقياً غير ملوّث بالأدران، لم تخالطه الآراء الفاسدة ولا الأقوال الكاسدة ولم يُمزج باطل الأهواء فيه، فهم معدن العلم والحكمة ولا يصدر منهم إلا الحق والخير.

ونتعرّض في الباب الثاني إلى عرفان المتصوفة.. بدءً من شبهة الإحاطة بالذات الإلهية، مروراً بالحلول والاتّحاد والفناء في الله، وصولاً إلى وحدة الوجود والموجود.. يتبعها موقف علماء الشيعة من عقيدة المتصوفة والعرفاء.

وقد ألجأنا ابتلاء أفرادٍ من عموم المؤمنين ببعض هذه الأفكار والمعتقدات إلى تبسيط البحث فيها ومحاولة مناقشتها بأوضح السُبُل لئلا يبقى للشبهة فيها محلّ.

وقد نقتصر في بعض الحالات على استدلالٍ عقلي واضح، أو روايةٍ مرشدة إلى حكم العقل هذا، أو مبيّنة لما خفيَ عليه.. موافقة لأمّهات العقائد الدينية، فلا نحتاج إلى الخوض في أسانيدها.. خاصة ما كان منها معلَّلاً، ظاهراً وجهه، مبيّنة جهته..

وإن قيل: أليس في هذه الأبحاث نقضٌ للعروة المجتمعة؟ وإثارة للفتنة والفُرقة بين المؤمنين ممن ينبغي عليهم الاجتماع على كلمة سواء؟ أليس الأولى غضُّ البصر عن هذه المسائل وتركها حفاظاً على وحدة الصف والكلمة؟

كان الجواب: إن هذه الأبحاث تنطلق من باب الحرص على وحدة الصفّ ورصه، وجمع الشمل ولمّه، لأن الصف لا ينبغي أن يتوحد إلا خلف راية الحق الخفاقة، وليس خلف الشبهات الباطلة..

إن للعاطفة مجالها وللمنطق دربه، فليس من الحق والصواب تجاهل ما ينسب للمعصومين (عليهم السلام) ويؤدي إلى تحريف وتشويه المسيرة الناصعة لأتباع آل بيت محمد (عليهم السلام).

ولا يمكن التغاضي عمن لم يرتدع يوماً عن إغواء رعايا آل محمد والمستضعفين من المؤمنين، ممن يسعى لقطع طريق العباد الصالحين، ويعمل على إبعاد الناس عن الحق المبين.. فيعمل على تشويه وتلبيس الطريق بعد أن كانت ناصعة بيضاء للسائرين..

وقد قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ‏﴾(31)، وروينا عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) عندما سئل عن الطعام في الآية قوله: عِلْمُهُ الَّذِي يَأْخُذُهُ عَمَّنْ يَأْخُذُهُ(32).

فلزم الحذر من طعام المتصوِّفة وأشقاؤهم العرفاء.. فإنَّ رأيهم إلى أَفَن..

والحمد لله رب العالمين..

محمد مصطفى مصري العاملي

من جوار فاطمة المعصومة سليلة الأطهار

قم المقدسة

15 شهر رمضان 1439 للهجرة

 


(1) سورة طه 25-28.

(2) الإحتجاج على أهل اللجاج للطبرسي ج‏1 ص 98.

(3) النمل 14.

(4) وهم الذين ما لبثت فتنتهم أن عادت بلبوس جديد في الإسلام تحت ستار التجسيم.

(5) لنا مع هؤلاء أبحاث في كتاب خاص تحت عنوان: الإلحاد في مهبِّ الريح.

(6) وهم على طوائف، منهم معظم المتصوّفة وكثيرٌ من العرفاء، وقد خصّصنا الباب الثاني من الكتاب لمناقشتهم..

(7) نهج البلاغة، الخطبة الأولى ص44.

(8) آل عمران 144.

(9) كلماتٌ متفرقة للزهراء عليها السلام بعد وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله)، من خطبتها في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن كلماتها مع نساء المهاجرين والأنصار.

(10) المتوفى سنة 261 هـ على ما في طبقات الصوفية للسلمي ص68، وقيل: 234 هـ.

(11) هذه العبائر وأمثالها مما يأتي قد اشتهر نقلها عنهم، وورد ذكرها في عشرات المصادر القديمة والحديثة، حتى أن إمامهم الأكبر ابن عربي قد ذكرها في فتوحاته ج3 ص117.

(12) ذكرها أبو طالب مكي المتوفى سنة 383 هـ في: قوت القلوب في معاملة المحبوب‏ ج2 ص123، وقريب منه ما ذكره السراج الطوسي المتوفى سنة 378 هـ في: اللمع في التصوف ص390، وحاول تبريرها بما يأتي في مطاوي الكتاب، وغيرها من المصادر.

(13) المتوفى سنة 297 هـ.

(14) سر الأسرار ومظهر الأنوار، لعبد القادر الجيلاني ص561.

(15) المتوفى سنة 309 هـ.

(16) ديوان الحلاج ص158.

(17) التدبيرات الالهية فى اصلاح المملكة الانسانية ص 230.

(18) أسرار الملكوت ج‏2 ص422-423.

(19) حديقة الشيعة ص747، وعدّ سنده صحيحاً، وعنه إثبات الهداة للحر العاملي ج‏4 ص204، ومستدرك الوسائل ج‏12 ص323.

(20) راجع كتابنا الموسوم بـ: تنزيه التشيُّع من خرقة التصوُّف.

(21) راجع الشمس المنيرة ص27 لمحمد محسن الطهراني.

(22) التعرف مع العرفان والتصوف! ص12، وهو كتيّب لهذه الفرقة مترجم للعربية ترجمةً ركيكة.

(23) هكذا في المتن، وأبقيناه دون تصحيح الأخطاء للحفاظ على دقة النقل.

(24) التعرّف مع العرفان والتصوف ص14.

(25) حريم القدس ص55.

(26) الهى نامه (علامه حسن زاده آملى) ص66، ومحاولة توجيهه بما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): (تَنَامُ عَيْنِي وَلَا يَنَامُ قَلْبِي‏) واضح البطلان لاختصاص قوله تعالى: ﴿لا تأخذه سنة ولا نوم﴾ بالله عزّ وجل.

(27) كتاب التوحيد الشهودي، الشهود الرابع.

(28) كتاب التوحيد الشهودي، الشهود التاسع.

(29) أسرار الملكوت ج2 ص61.

(30) المقدمات من كتاب نص النصوص ص 404.

(31) عبس 24.

(32) الكافي ج‏1 ص50.


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=27
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5