بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللَّعنُ الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدِّين.
* * *
يكتنفُ الغُموضُ مَفَاصِلَ شتَّى من حياة عُظَماء الأرض، ذلك أنَّ العَظَمَةَ لا تُلازِمُهم عادةً في كلِّ أدوارِ حياتهم، ولا في كلِّ حَلَقَاتِها وأحدَاثِها.
فتخفى بعضُ خِصالِهم وصِفاتِهم، وتُحجَبُ بعضُ الأحداثِ التي تَجري عليهم قبل أن يصيروا في دائرة الضوء، ثمَّ يُخْفُون بعضَهَا بأنفسهم حتى آخر حياتِهم، كي تُستَر نقائصُهُم وجهاتُ الضَّعف فيهم.
* * *
لكنَّ عُظماء السَّماءِ والأرضِ ليسوا كذلك.. فإنَّهم بين أهل الأرض بدورٌ طالعة، وأنوارٌ في سَماء المَجد ساطعة..
هؤلاء هم المنزَّهوُنَ عن النقائصِ والعُيوب.. المبرَّؤون عن المعاصي والذُّنوب.. الذين زُقُّوا العلم زقّاً.. كبيرهم والصَّغير..
إنْ خَفِيَت عن الأمَمِ بعضُ أحوالِهم.. فلأنَّ أهل البَغي قد أنزلوا الظُّلم بدارهم.. ألا ترى وَضيعاً يحسدُ شريفاً؟!
وان استَتَرَت جُلُّ خِصالُهم.. فلأنَّ الأمَمَ قد عجِزَت عن إدراك مكانتهم.. وقَصَّرَت في إدراك عَظَمَتِهم.. فليس للدَّنيِّ الحقيرِ أن يحوي عظيماً جليلاً..
* * *
وأعظَمُ هؤلاء العُظَماء.. أمينُ الله المأمون.. ورسولُ الرَّحمة.. الصادقُ الأمين، محمدُ بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)..
اختاره الله تعالى.. مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِشْكَاةِ الضِّيَاء.. أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَة.. شجرة طَيِّبة.. أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماء..
* * *
مِن هذه الشَّجَرَة.. كانت فاطمةُ بنت محمَّد (عليها السلام)..
هي عُنصُرُ الشَّجرَةِ النبويَّة وأصلُها، فكأنَّها شارَكَت أباها..
وفَرعُ الشَّجرَةِ وأعلاها، فكأنَّها شارَكَت إمامَها الوليّ الأعظم..
وغُصنُها.. فكأنَّها شارَكَت أبناءها.. حجج الله على عباده، وخُزّانهُ في أرضِه وسمائه..
فمَن هي فاطمة؟ حتى بلغت كلَّ ذلك؟!
* * *
فاطمة.. هي بَضعةُ النبيِّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونورُ عَينِه، وثمرةُ فؤاده، وروحُهُ التي بين جَنبَيه!
فمَن ذا الذي يحيطُ ببضعةِ حبيبِ الله عِلماً؟ ومَن يقدرُ على النَّظر إلى مَن كانت (نور عين) الذي كان (لله نوراً)؟! وأيُّ روحٍ هذه التي حَوَاها بين جنبيه مَن دنا فتدلّى.. فكان قابَ قوسَين أو أدنى؟!
هي مريمُ الكُبرى.. وقد تاهَت العقولُ في مريم الأولى.. وعُدَّت مع الله إلهاً! أو أمّاً للإله! فمَن يقدِرُ على إدراكِ كُنهِ مريم الكُبرى؟!
* * *
فاطمة.. هي الطَّاهِرَة المطَهَّرة.. والمُطَهِّرةُ لشيعتِهَا بولايتها..
هي التي على مَعرِفَتِهَا دارَت القُرون الأولى!
وهي التي فُرِضَت طاعتُها على جميع الخلائق!
وقد حارَت الألبابُ في فَهم ذلك.. وانكَسَرَتِ الأقلامُ أمامه..
* * *
هي فوقَ ذلك وديعةُ الله تعالى ورسولِه (صلى الله عليه وآله وسلم) للأمَّة عامَّةً، ولعليٍّ خاصَّةً، فلطالما استودعَ الرَّسولُ أمَّتَهُ أهلَ بيته، وأوَّلهم فاطمة (عليها السلام).
ثمَّ ما لبثَ أن أوصى بها أميرَ المؤمنين (عليه السلام) قبل شهادته قائلاً:
يَا أَبَا الحَسَنِ، هَذِهِ وَدِيعَةُ الله، وَوَدِيعَةُ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ عِنْدَكَ، فَاحْفَظِ الله، وَاحْفَظْنِي فِيهَا، وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ.
لقد حفِظَ عليٌّ الوَديعة، ومَن تَبِعَهُ من المؤمنين، وقد قال الموصِي (صلى الله عليه وآله وسلم): فَمُؤْمِنُو أُمَّتِي يَحْفَظُونَ وَدِيعَتِي فِي أَهْلِ بَيْتِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
فصاروا من شِيعَتِهَا ومُحبِّيها، الذين تلتقطهم يومَ القيامة، كما يلتقط الطَّيرُ الحَبَّ الجَيِّدَ من الحَبِّ الرديء.
* * *
لكنَّ قريشاً.. وأغلب الأمَّة، لم يكونوا مِن هؤلاء..
بل لم يكن شيءٌ أبغضَ إليهم من ذِكر عليٍّ وفاطمة! ولم يكونوا أكثر حسداً لأحدٍ منهم لعليٍّ وفاطمة!
فوثبت قريشُ على آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجحدَت فضلَهم، ومَنَعَتهُم حقَّهُم.
لقد ضيَّعوا الوديعة..
وجَحَدُوا الرَّسول.. بِظُلمِ البَتول!
أرادوا قطعَ نَسلِهِ من الزَّكِيَّة المباركة!
وَجَرَحُوا كَبِدَ خَيْرِ الوَرَى، فِي ظُلْمِ ابْنَتِهِ، وَاضْطِهَادِ حَبِيبَتِهِ، وَاهْتِضَامِ عَزِيزَتِهِ، وَبَضْعَةِ لَحمِهِ، وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ.
* * *
لقد غصبوها حقَّها..
ثمَّ دخلوا عليها بيتَها.. وهو بيتُ النبيّ!
وأدخلوا الذلَّ دارَها! وهي دارُ عليّ!
لقد وَقَفَ الشياطينُ على بابِها.. أرادوا إحراقَهَا وأهلَ بَيتِهَا جميعاً!
أحرقوا بابَها.. وبابُها بابُ النبيّ! حتى سَفَعَت النارُ وجهَها!
هتكوا حجابَها.. وحجابُها حجابُ الله!
ضَرَبُوهَا وهي حامل! فأسقطوا جَنِينَهَا!
دَقُّوا ضِلعَها! فتَهَشَّم!
مَلَؤُوُهَا: دَاءً وَحَسْرَةً وَكَمَداً وَغُصَّةً!
وقَتَلوُهَا.. حتى مَاتَتَ.. مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ!
* * *
مَن أنت يا فاطمة.. حتّى انهَدَّ رُكنُ عليٍّ بفقدك؟! وظَهَرَ من فضلكِ ما لا يُحَدّ.. رغمَ حَسَدِ الحاسدين، وبَغي الظَّالمين، وجَهلِ الجاهلين.
ماذا جَرَى عليكِ.. حتى صارَت مُصيبتُكِ مُصِيبَةً: لَا عَزَاءَ لَهَا!
سَل بابَها وجَنِينَهَا.. سَل ضِلعَها المكسُور.. وقبرها المستُور..
* * *
لقد خَرَجَت (عليها السلام) من الدُّنيا ساخطةً على أمَّة لم تَرعَ حقَّ الله ورسوله فيها.. بِدَلِيلِ دَفْنِهَا لَيْلًا فِي حُفْرَتِهَا..
لقد: خَرَجَتْ مِنْ دُنْيَاهَا مَظْلُومَةً مَغْشُومَةً، مَقهورةً مَغلوُبَة.
لقد صارت فاطمةُ: وَدِيعَةَ الله المَقهُورَة!
وستقدمُ على أبيها: مَحْزُونَةً، مَكْرُوبَةً، مَغْمُومَةً، مَغْصُوبَةً، مَقْتُولَةً!
آهٍ لِقَلبِكَ يا رسولَ الله.. آه لِقَلبِكَ يا أميرَ المؤمنين..
كيف رأى عليٌّ ما رأى يومَ الدَّار؟! ولم يَحصِد رؤوسَ القوم؟!
ما أعظمَ تسليمَكَ يا عليُّ لأمر الله، وصبرَكَ على بلائِه!
ما أعظمَ صبرَكَ يا وليَّ الله المنتظر.. الآخذ بالثَّار..
* * *
في هذا الكتاب..
خمسةٌ وأربَعُون مقالاً وبَحثاً حول السَّيدة الزَّهراء (عليها السلام)..
حولَ ولادَتِها.. وفضلِها.. وظُلامَتِها.. وقَهرِهَا..
حول موقفِهَا يومَ الدَّار.. وموقفِ بَعلِها..
حول مكانَتِهَا يومَ القِيَامَة.. وعَظِيمِ مَنزِلَتِهَا..
وحول بعض عَظِيماتِ التَّاريخ.. كأمِّها.. وطاهراتٍ من نَسلِها المُبَارَكِ الميمون..
نَضَعُهَا بين يَدَي القُرَّاء الكرام، إحياءً لأمرِها (عليها السلام).. بِقَدرِنَا الضَّئِيل.. لا بِقَدرِها الجَلِيل.. فذاك شأنٌ لا مَطمَعَ لنا ولا للخَلائِقِ فيه..
فإنَّها السيِّدَةُ العظيمةُ التي سُمِّيَت فاطمة: لِأَنَّ الخَلْقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا..
رَاجِينَ نَظرَةً منها (عليها السلام)، ورَحمةً من الله تعالى، وقَبُولاً حَسَنَاً.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.
مُحَمَّد مُصطَفى مَصرِي العَامِليّ
قُمّ المُقَدَّسَة
مِن جِوَارِ شَفِيعَةِ الشِّيعَة، سَميَّة الزَّهرَاء (عليها السلام)، فاطمة المعصومة (عليها السلام)
الجمعة، الخامس عشر من ربيع الثاني 1444 هـ
الموافق 11 - 11 - 2022م