• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
              • القسم الفرعي : الوديعة المقهورة .
                    • الموضوع : الفصل الثالث: موقفها يوم الدار .

الفصل الثالث: موقفها يوم الدار

 الفصل الثالث: موقفها يوم الدار

30. لو نَشَرَت فاطمة شَعرَها!

بسم الله الرحمن الرحيم

أحداثٌ عاصفةٌ جَرَت في بيت الوحي والنبوّة قبل شهادة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حين نزَلَ جبرائيل على الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، ناقلاً أمرَ الله تعالى: قَدْ دَنَا يَا مُحَمَّدُ مَصِيرُكَ إِلَى رَبِّكَ وَجَنَّتِهِ، وَهُوَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْصِبَ لِأُمَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)(1).

خلا رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمير المؤمنين (عليه السلام) ليلته تلك، وكان ذلك في يومِ تلك المرأة، فأحسَّت بأنَّ السماءَ تُدبِّرُ أمراً، فأصرَّت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُخبرها به قبل أن يبادر الناس بذلك، فأخبرها بأمر الله تنصيبَ عليٍّ (عليه السلام)، وحذَّرها من مخالفته، وأمرها بستر ذلك حتى يجهَر به بنفسه (صلى الله عليه وآله وسلم).

فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ أَخْبَرَتْ حَفْصَةَ! وَأَخْبَرَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَما أَبَاهَا!

استنفر المنافقون والطلقاء حينها، واجتمعوا على قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يصدعَ بالولاية في غدير خمٍّ، لكنَّ الله تعالى أفشل مَسعاهم، حتى بايعوا علياً في خُمٍّ أجمعين.

لقد اجتمع القومُ واتَّفقوا على أن لا يطيعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما فرض عليهم من ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن يجعلوا قوله تحت أقدامهم! وكتبوا ذلك في صحيفةٍ استودعوها ابن الجرّاح، ثم أودعوا الصحيفة في الكعبة الشريفة!

بيتُ الله الذي أعزَّهُ تعالى وشرَّفَهُ يصيرُ محلاً لصحيفةٍ، يتَّفقُ فيها أصحابها على نقض البيعة! وهم الذين يقدِّسُهم جلُّ المسلمين اليوم!

وهؤلاء قومٌ اتَّفَقَت كلمتهم على قتل عليٍّ (عليه السلام)، حين زعموا أنَّ الله تعالى قد قبض نبيَّه: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ أَحَداً مِنْ بَعْدِهِ!

ثمَّ أجمعوا على أنَّ من كره قولهم: فَخَالَفَ الحَقَّ وَالكِتَابَ وَفَارَقَ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِ صَلَاحاً لِلْأُمَّةِ!(2).

لقد كانت مؤامرةً لقتل عليٍّ (عليه السلام)، أودعوها مِن عمى قلوبهم بيتَ الله كي يشهد عليهم يوم القيامة بما جنت أيديهم!

ولما انتقل النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جوار ربه، توالت فصول المؤامرة، حتى جاء يومُ الهجوم على الدّار، اليوم المشؤوم في تاريخ الإسلام، واليوم الأسود في تاريخ البشرية، حيثُ تجرَّأ القومُ على أعظم امرأةٍ في الوجود! وكان ما كان..

لقد أخرجوا علياً (عليه السلام) من بيته، قاصدين قتلَه، حيثُ لم يبق له ناصرٌ ولا مُعين، حينها كان للزَّهراء دورٌ تنفردُ به.

فماذا فعلت حينها؟ وما الأحداث التي تلت ذلك؟!

أولاً: لماذا خرجت الزهراء؟

إذا كان الدِّينُ يُحفظُ بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، فإنَّهُ يُحفَظُ بالوصيِّ من بعده، ولكلٍّ من الأوصياء دورٌ يؤديه إلى أن تنقضي أيامه.

لقد كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) دَورٌ مذخورٌ من الله تعالى في حفظ الدين من الناكثين والقاسطين والمارقين وسواهم، فهو السَّدُّ المنيع أمام أهل النِّفاق، ليمنعهم من أن يطفؤوا نور الله بأفواههم.

وقد أراد القومُ قتلَه، فخرجت الزَّهراء من بيتها، لتقوم بدورٍ يَعجزُ عنه كلُّ أحدٍ سواها، فقالت لأبي بكر:

مَا لِي وَمَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، تُرِيدُ أَنْ تُؤْتِمَ ابْنَيَّ وَتُرْمِلَنِي مِنْ زَوْجِي!(3).

القومُ يريدون قتلَ عليٍّ (عليه السلام) لكي يصفو لهم الحكم، لكنَّ الزَّهراء قَرَنَت نفسها بعليٍّ (عليه السلام)، فالإعتداء على عليٍّ اعتداءٌ عليها وعلى ابنيها، أي على سَيِّدَة نساء العالمين، وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة.

فلو أنكرَ مُنكِرٌ مكانةَ عَليٍّ (عليه السلام) على وضوحها، فليس له أن ينكر مكانتها (عليها السلام) ومكانة الحسنين (عليهما السلام).

فأكملت بذلك الحجَّة على القوم، حيثُ أرادوا أن يظلموها وابنيها بقتلِ عليٍّ (عليه السلام) من غيرِ جُرم.

وقد حقَّقَت الزَّهراء مُرادها تماماً، فما رجعت حتى: (أَخَذَتْ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ)(4)، فلم ترجع خائبةً، وما رَجَعَت إلى بيتها إلا ويدها في يد عليٍّ (عليه السلام)، فكانت خَيرَ مُدافعٍ عن إمامها.

ثانياً: كيف خرجت الزهراء؟

إنَّ في خروج الزَّهراء (عليها السلام) إشارات بالغة الدلالة، عميقة المغزى، فقد ذكر الشيخ الكليني في الكافي الشريف أنَّه:

لمَّا أُخْرِجَ‏ بِعَلِيٍّ (عليه السلام) خَرَجَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) وَاضِعَةً قَمِيصَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عَلَى رَأْسِهَا، آخِذَةً بِيَدَيِ ابْنَيْهَا(5).

وههنا إشارتان:

الإشارة الأولى: قميص الرسول (ص)

إنَّه القميص: الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) حِينَ خَرَجَتْ نَفْسُهُ!

ويظهر أنَّ للباس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أثراً خاصَّاً، فقد كانت قمصان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك عند الأئمة المعصومين، وقد أظهر الإمام الصادق (عليه السلام) لبعض أصحابه (قَمِيص رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الَّذِي عَلَيْهِ يَوْمَ ضُرِبَتْ رَبَاعِيَتُهُ)، وكان (فِي كُمِّهِ الأَيْسَرِ دَمٌ)، وقال: فِيهِ يَقُومُ القَائِمُ!(6).

وفي خبرٍ آخر أنّ المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف): يَخْرُجُ مَوْتُوراً غَضْبَانَ أَسِفاً لِغَضَبِ الله عَلَى هَذَا الخَلْقِ، يَكُونُ عَلَيْهِ قَمِيصُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الَّذِي عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ(7).

هذا قميصٌ عليه دَمُ الرَّسول، يكون مع المهدي (عليه السلام) عندما يخرج للإنتقام، وذاك قميصُ الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الزَّهراء (عليها السلام)، وهو الذي كان عليه حين خرجت نفسه الطاهرة.

فما السرُّ في استعمال هذين القميصين في الموردين؟! إنَّ عِلمَ ذلك عندهم (عليهم السلام)، لكن من الواضح الجليِّ أنَّ في الحالتين علامة على الغضب الشديد، والتوجه نحو الله تعالى، والاستعانة به، وهو ما ظهرَ بما فعلته الزَّهراء كما سيأتي، وبما يفعله المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

الإشارة الثانية: آخِذَةً بِيَدَيِ ابْنَيْهَا!

لم تخرج الزهراء وحدها، بل خرجت معها نساء الهاشميات:

خَرَجَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) وَالِهَةً! فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ هَاشِمِيَّةٌ إِلَّا خَرَجَتْ مَعَهَا حَتَّى انْتَهَتْ مِنَ القَبْرِ(8).

لكنَّ خروج الهاشميات معها لم يُغنِ عن خروج ابنيها، وهي آخذة بيديهما، إنَّهُ موقفٌ يُذَكِّرُ بموقف النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم المباهلة، حينما: غَدَا رَسُولُ الله آخِذاً بِيَدِ الحَسَنِ وَالحُسَيْن‏!(9)، وكان ما كان حين ارتعبَ النصارى وخافوا نزول العذاب من السَّماء.

وهو موقفٌ يذكر بكلمةٍ عظيمة قالها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حينما: أَخَذَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بِيَدِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ هَذَيْنِ الغُلَامَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأُمَّهُمَا فَهُوَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ(10).

على الأمَّة أن تحذر إذاً، إنَّهم القوم الذين أراد النبيُّ أن يُباهل بهم النصارى، وقد اقتيد أحدُهم إلى المسجد الآن، ثم خَرَجَ بقيَّتُهم يدهم بيد بعضهم متوجهين إلى الله تعالى في طلب خلاصه، فما الذي يمكن أن يجري؟!

ثالثاً: ماذا جرى بعد خروجها؟

لقد هدَّدت الزهراءُ القوم، إن لم يخلوا عن عليٍّ (عليه السلام)، فقالت:

خَلُّوا عَنِ ابْنِ عَمِّي، فَوَ الَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالحَقِّ، لَئِنْ لَمْ تُخَلُّوا لَأَنْشُرَنَّ شَعْرِي، وَلَأَضَعَنَ قَمِيصَ رَسُولِ الله عَلَى رَأْسِي، وَلَأَصْرُخَنَّ إِلَى الله تَعَالَى، فَمَا نَاقَةُ صَالِحٍ بِأَكْرَمَ عَلَى الله مِنْ ولَدَيَّ!(11).

وفي حديثٍ آخر أنَّها قالت: فَمَا صَالِحٌ بِأَكْرَمَ عَلَى الله مِنِ ابْنِ عَمِّي، وَلَا النَّاقَةُ بِأَكْرَمَ عَلَى الله مِنِّي، وَلَا الفَصِيلُ بِأَكْرَمَ عَلَى الله مِنْ ولدي(12).

قَالَ سَلْمَانُ: فَرَأَيْتُ وَالله أَسَاسَ حِيطَانِ المَسْجِدِ تَقَلَّعَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا حَتَّى لَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَنْفُذَ مِنْ تَحْتِهَا نَفَذَ!(13).

إنَّه تهديدٌ عظيمٌ ظَهَرَت آثاره في تلك اللحظة، لقد استشعرَ القومُ الخطرَ فِعلاً، فما قُتِلَ عليٌّ! حين حَفِظَته الزهراء بذلك.

ولكن.. ماذا لو دَعَت الزَّهراءُ عليهم؟!

عن الإمام الباقر (عليه السلام): وَالله لَوْ نَشَرَتْ شَعْرَهَا مَاتُوا طُرّاً(14).

لقد كانَ الموتُ والعقاب قابَ قوسين أو أدنى من القوم، حتى قال عليٌّ (عليه السلام): إِنِّي أَرَى جَنْبَتَيِ المَدِينَةِ تُكْفَئَانِ، فَوَ الله لَئِنْ فَعَلَتْ لَا يُنَاظَرُ بِالمَدِينَةِ أَنْ يُخْسَفَ بِهَا وَبِمَنْ فِيهَا!(15).

فإن قالَ قائلٌ: إنَّها رجَعَت بأمر عليٍّ (عليه السلام) حينما بعثَ إليها سلمان، فكيف تكون هي الحافظة لعليٍّ (عليه السلام)؟

قلنا: لقد حفظته بما ظهرَ منها فأدخل الرُّعبَ في قلوبهم، ولطالما خافَ القومُ عندما كانت تظهر المعاجزُ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومِن ذلك حينما كشفَ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرَ صحيفتهم المشؤومة التي اتفقوا فيها على قتل عَليٍّ (عليه السلام)، ثم بيَّنَ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه إنما أعرضَ عنهم ولم يضرب أعناقهم امتثالاً لأمر الله تعالى، حينها (أَخَذَتْهُمُ الرِّعْدَةُ)!(16).

فكيف بهم لما تقلَّعت حيطان المسجد! وكادت المدينة أن يُخسفَ بها؟! وهكذا نالت الزَّهراء بُغيتها حينما (أَخَذَتْ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ)، أي بيد عليٍّ (عليه السلام).

وإن قالَ قائلٌ: أيُعقل أن تنشر الزَّهراء شعرَها أمام القوم؟!

قلنا: نَشرُ الشَّعر لا يُلازم ظهوره للأجنبي، فإنَّ المرأة المؤمنة لا تنشرُ شعرَها إلا بعيداً عن أعين الرجال، فكيف بسيِّدة النِّساء؟!

هذا لو فُسِّرَ نَشرُ الشَّعر بإظهاره، أما لو فسِّرَ بأنه فكُّ الظفائر أو سَدلُ الشَّعر تحت الحجاب فليس فيه دلالةٌ على الكشف أصلاً حتى بعيداً عن أعين الناظر الأجنبي.

ففي كتب اللغة: نشر: ‌النون والشين والراء: أصلٌ صحيح يدلُّ على فَتْحِ شيء وتشعُّبِ(17).

فلَم يؤخذ في معنى النَّشر إظهار المنشور أو ستره، بل يعني فكُّه أو فتحه أو تفرقته، دون أن يتضمَّنَ معنى كشفه أمام أيِّ أحد.

وإن أبَيتَ ذلك تَعَنُّتاً، واعتقدتَ أنَّها (عليها السلام) قد تكشفُ شعرَها أمام القوم (وهو ما لا يكون)، فإنَّ العيون تعمى من قوَّة نورها لو حصلَ ذلك، وقد سَبَقَ أن غَشِيَت أبصارُ القوم لمّا اقتحموا دارَها، وهذا ثاني القوم يقول:

فَدَفَعْتُ البَابَ وَدَخَلْتُ، فَأَقْبَلَتْ إِلَيَّ بِوَجْهٍ أَغْشَى بَصَرِي!(18).

هكذا يظهرُ بعضُ نور فاطمة فتعمى الأبصار، وفاطمةُ كلُّها نورٌ من نور، وقد قال الصادق (عليه السلام): خَلَقَ الله فَاطِمَةَ مِنْ نُورٍ(19).

ولا عَجَبَ أن تُقلع حيطان المسجد، أو يُخسف بالمدينة، أو يموت القوم طُرَّاً، فإنَّ الكونَ يخضعُ لها لو أرادت، فكيف لو توجَّهت إلى الله تعالى.

ألم يُجرِ الله تعالى وجوب طاعتهم على (جميع الأشياء)؟!

عن الإمام الجواد (عليه السلام): إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً وَفَاطِمَةَ، فَمَكَثُوا الفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا، وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا!(20).

هكذا تطيعُ الجماداتُ آلَ محمدٍ، فيما يتجرأ عليهم شَرُّ خلقِ الله تعالى! ويعتدي عليهم أعداء الله تعالى، فيُمهلُهم الله تعالى ليزدادوا إثماً.

هكذا هم آل محمد، الباب المبتلى بهم الناس، صبروا لأمر الله تعالى، والله تعالى حكيمٌ لا يفعلُ إلا لحكمةٍ.

ولمّا أمَرَهُم بالصبر ولم ينتقم عاجلاً من أعدائهم، ولم يمنعهم منهم، عرفنا أن لله في ذلك تدبيراً، وأن الصَّبرَ عليه أولى.

ولا يزال المؤمنون صابرين منتظرين لأمر الله تعالى، حتى يحين الوقت الموعود، فيخرج المنتقم لفاطمة (عليها السلام)، وعليه قميصُ رسول الله، مَوْتُوراً غَضْبَانَ!

إنَّه الغَضبَان لغضب أمِّه فاطمة، أفلا يغضب الشيعة لغضبها وغضبه؟! لكنَّهم يمسكون أنفسهم، ويصبرون إلى أن يأتي أمرُ الله.

اللهم عجِّل لوليك الفرج، وسهِّل له المخرج، واجعلنا من أنصاره وأعوانه، بمحمدٍ وآله (21).

 

31. يوم أرادوا.. إحراق فاطمة!

بسم الله الرحمن الرحيم

يُنكِرُ بعضُ الجُهَّال أن يكون أصحابُ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أحرقوا بابَ فاطمة!

يُبالغُ هؤلاء في تلميعِ صورةِ قومٍ ارتدّوا على أعقابهم بعد شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحُرِموا في الآخرة من ورود حوضه، ومرافقته في جنان ربه.

لكنَّ حقيقة الأمر أنَّ إحراقَهُم (لِبَابِ فاطمة) لَم يكُن خطَّتَهم الأولى، ومرادَهم الأوفى، ولا كان الغاية العُظمى، بل كان هَدَفُهُم الأوَّل (إحراق فاطمة وعلياً والحسن والحسين (عليهم السلام))!

نعم الأمرُ أشدُّ غرابةً لِمَن لم يَعرِفِ القومَ وحِقدَهم وحسَدَهم لنبيِّ الإسلام ووصيه.

هي مسألةٌ خطيرةٌ جداً، فكيفَ بِمَن لم يُصَدِّق إحراق الباب أن يُصَدِّقَ رغبتهم وسَعيَهُم الحثيث لإحراق آل بيت الرَّسول؟!

لقد وَرَدَ هذا المعنى في العديد من الروايات، والكثير من النصوص التاريخية، تارةً عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخرى عن لسان الزَّهراء (عليها السلام)، وثالثةً عن لسان عمر نفسه.

ومِن ذلك ما قالَه أمير المؤمنين (عليه السلام) لهم:

.. لِتُحْرِقُونِي وَفَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَابْنَيَّ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ، وَابْنَتَيَّ زَيْنَبَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ(22).

وقال: أَرَادُوا أَنْ يُحْرِقُوا عَلَيَّ بَيْتِي(23).

وهوَ صريحٌ في أنَّهم أرادوا إحراقَهُم لا إحراق باب البيت فقط.

وقد قالت الزَّهراء (عليها السلام):

فَجَمَعُوا الحَطَبَ الجَزْلَ عَلَى بَابِنَا، وَأَتَوْا بِالنَّارِ لِيُحْرِقُوهُ وَيُحْرِقُونَا، فَوَقَفْتُ بِعَضَادَةِ البَابِ، وَنَاشَدْتُهُمْ بِالله وَبِأَبِي أَنْ يَكُفُّوا عَنَّا وَيَنْصُرُونَا(24).

وهو موافقٌ لما ذكره أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، وهو الذي هدَّدَ به عمرُ مراراً:

فَأَقْبَلَ بِقَبَسٍ مِنْ نَارٍ عَلَى أَنْ يُضْرِمَ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَلَقِيَتْهُ فَاطِمَةُ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ الخَطَّابِ، أَ جِئْتَ لِتُحْرِقَ دَارَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ!(25).

وهو القائل: افْتَحِي البَابَ وَإِلَّا أَحْرَقْنَا عَلَيْكُمْ بَيْتَكُمْ!(26).

ثُمَّ أَمَرَ أُنَاساً حَوْلَهُ أَنْ يَحْمِلُوا الحَطَبَ، فَحَمَلُوا الحَطَبَ، وَحَمَلَ مَعَهُمْ عُمَرُ، فَجَعَلُوهُ حَوْلَ مَنْزِلِ عَلِيِّ وَفَاطِمَةَ وَابْنَيْهِمَا (عليهم السلام)(27).

لم يجعلوا الحطب على باب البيت فقط، ولا أرادوا إحراق الباب وحده، بل جعلوه حول المنزل وأرادوا إحراقه وإحراق مَن فيه.

والنصوصُ في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، وقد نقلت بعض الموسوعات المعاصرة عن كتاب مثالب النواصب لابن شهر آشوب رحمه الله أن كميَّة الحطب كانت كبيرة إلى درجة أنهم اختبزوا عليها ثلاثين يوماً!

وأنهم: (احتطبوا ثلاثين يوماً من الحطب الذي وضعه الأول والثاني ليحرقوا بيت علي وفاطمة (عليهما السلام)، فأراد أبو حفص أن يحرقهم حتى يستريح منهم دفعه واحدة!)(28).

ومَن تَتَبَّعَ النصوص، وما جرى في تلك الأيام، يجد الأمرَ بيِّناً جلياً، رغم خفاء الكثير من أحداث تلك المرحلة، واضطراب ما وصلَ إلينا، فالقومُ قد أجمعوا أمرَهم على استئصال بيت النبوّة، وقتلهم جميعاً!

أما عليٌّ (عليه السلام)، فقد اتفقوا على قتله، وذكروا ذلك في صحيفتهم الملعونة قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما أيقنوا أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يعدّ الأمور ليكون عليٌّ خليفةً له من بعده(29).

وتيقَّنوا من الأمر بعد شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى غضب ثانيهم وقال عن عليٍّ (عليه السلام): إِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ لَنَا أَمْرٌ حَتَّى نَقْتُلَهُ(30).

أمّا قَتلُ الأسرة المباركة، فقد صرَّحت الزهراء (عليها السلام) بذلك حينما خاطبت الثاني قائلة: وَيْحَكَ يَا عُمَرُ، مَا هَذِهِ الجُرْأَةُ عَلَى الله وَرَسُولِهِ؟!

تُرِيدُ أَنْ تَقْطَعَ نَسْلَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَتُفْنِيَهُ وَتُطْفِئَ نُورَ الله ﴿وَالله مُتِمُّ نُورِهِ﴾(31).

والذي يظهر عند التأمُّل في النصوص ومجريات الأحداث أنَّ الذي أفشَلَ خطَّتَهم هذه هو تَصَدِّي الزَّهراء (عليها السلام) لهم من وراء الباب، ففوَّتَت عليهم ما رأوه فرصةً لإحراق الدار بمَن فيها.

فكان آل محمدٍ بين خيارات منها:

الأوّل: أن يقومَ عليٌّ (عليه السلام) إلى القوم، فيتَّخذونها ذريعةً لقتله وإحراقه وإحراق أسرته الطاهرة.

الثاني: أن لا يستجيب أحدٌ لهم، كأن ليس في البيت أحد، وحينها تُضرَمُ النار بالبيت ومَن فيه.

الثالث: أن تقوم الزَّهراء (عليها السلام)، فتُلقي الحجة عليهم، وتمنعهم من إحراق البيت بمَن فيه، وهو ما كان، حتى لو أدى ذلك إلى تغيير خطّتهم وإحراق الباب وحده وقتل الزَّهراء (عليها السلام)، فإنَّها بهذا كانت المضحيَّة في سبيل حفظ منظومة الإمامة، التي لن يقومَ لها قائمةٌ لولا أمير المؤمنين والحسنين (عليهم السلام) جميعاً.

ويظهر أن عمر بن الخطّاب أدركَ سريعاً ما رامَته الزَّهراء (عليها السلام) من الوقوف خلف الباب، حيثُ صارت مانعاً أمامهم من إحراق البيت، ومانعاً من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال لها:

مَا بَالُ ابْنِ عَمِّكِ قَدْ أَوْرَدَكِ لِلْجَوَابِ وَجَلَسَ مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ؟

فقالت له:

طُغْيَانُكَ -يَا شَقِيُّ- أَخْرَجَنِي وَالزَمَكَ الحُجَّةَ، وَكُلَّ ضَالٍّ غَوِيٍّ(32).

لم تخرُجِ الزَّهراءُ خارجَ بيتها وقت الخطاب هذا، رغم ذلك عبَّرَت بالخروج (أَخْرَجَنِي)، ولكنَّ الذي أخرجَها ليس علياً (عليه السلام)، بل الطُّغيان والتجبُّر والتجاوز على حقِّ الله وحقِّ رسوله.

ليس لهؤلاء حقٌّ في أن يحيطوا بيت عليٍّ وفاطمة، ولا أن يحرقوه ولا أن يقتحموه، فإن فعلوا ذلك ساغَ للزَّهراء أن تدافع عن بيتها وأسرتِها الشريفة، ولو أدى ذلك إلى شهادتها.

والذي يظهر أنَّ هذه الكلمات العظيمة واحتجاج الزَّهراء عليهم من خلف الباب كانت سبباً لتغيير خطَّتهم، فبعدما أعرضوا عن إحراق البيت بمن فيه، صارَ هدفهم إخراج عليٍّ (عليه السلام) وحده، لقتله بحجة رفض البيعة.

لقد اتفقوا من قبل على قتله، وجددوا العزم على ذلك، وأفضلُ وسيلةٍ هي إخراجُهُ بالقوة تحت حجة البيعة، ثم قتله وإنهاء أمره.

ههنا: حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) عِنْدَ بَابِ البَيْتِ، فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ المَلْعُونُ بِالسَّوْطِ(33).

حتى الساعة أنقذت الزَّهراءُ الأسرةَ المباركة من مجزرة الإحراق التي لا تُبقي منهم أحداً، لكنَّ علياً (عليه السلام) لا يزال في خَطَرٍ مُحدِق، فالقوم يريدون قتله.

أخرجوه، فتبعته الزَّهراءُ (عليها السلام)، وكان الدُّعاء سلاحَها هذه المرَّة، فتقلَّعت حيطان المسجد من أسفلها، وكادَ يُخسَفُ بالمدينة.

أصابَ القومَ خوفٌ، فأفرَجوا عن عليٍّ (عليه السلام).

ثم عادوا لاحقاً لنغمة (القتل أو البيعة) وكان ما كان مما يأتي الحديث عنه.

وتبيَّن أن الزّهراء (عليها السلام) قد قامت بإفشال الخطتين للقوم:

الخطة الأولى: لما أرادوا استئصال العترة الطاهرة، فوقفت خلف الباب، وألقت الحجة عليهم، ولم يخرج لهم عليٌّ ولم يجبهم.

الخطة الثانية: لما أرادوا قتل عليٍّ (عليه السلام)، فأنقذته بخروجها (عليها السلام).

فكانت الخطَّة الثالثة: إما قتل عليٍّ أو البيعة الظاهرية، فكانت الثانية خيارَ عليٍّ (عليه السلام) لأسباب نعرض لها إن شاء الله.

لكنَّ العجيبَ في الأمر هو ما رواه ابن حمزة، وهو من أئمة الزيدية (توفي سنة 614 هـ)، أنَّ عبد الرحمن بن السائب الذي كان مع عمر يوم أرادوا إحراق البيت قال له: إن في البيت فاطمة، أفتحرقها؟

فأجاب عمر بقوله: سنلتقي أنا وفاطمة!(34).

هيَ كلمةٌ غريبةٌ من ابن الخطّاب يوم الدّار إن صَحَّ صدورها منه، ولكن ما الذي يقصده الرَّجُل؟ هل يقصد شيئاً سوى أنَّه سيلقاها ويُحرقها؟

أو أنَّهُ سيقتُلُها انتقاماً مِن أبيها وبَعلها؟! وإظهاراً للحقد والحسد الدفين على بني هاشم؟!

لقد التقى ابنُ الخطّاب فعلاً بفاطمة، لقاءً لَيتَه لم يكن، فأبرَحَها ضَرباً بعدما استخدَمَ النّار سلاحاً على البضعة الطاهرة.

لكنَّه ما تخيَّل يوماً أنّ هذا السِّلاح سيرتدُّ عليه وعلى صاحبه مرَّتين، مرَّةً في الدّنيا، وأخرى في الآخرة.

ولقد أخبَرَهُ أميرُ المؤمنين بالمرَّتين:

أما الأولى، فحين يخرجُ الإمام الحجَّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ويُحرِقُهُما بالنار التي أوقداها على باب الزَّهراء!

فقد روي عنه (عليه السلام):

وَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمَا وَقَدْ أُخْرِجْتُمَا مِنْ قَبْرَيْكُمَا طَرِيَّيْنِ بِصُورَتَيْكُمَا.. ثُمَّ يُؤْتَى بِالنَّارِ.. وَهِيَ النَّارُ الَّتِي أَضْرَمْتُمُوهَا عَلَى بَابِ دَارِي لِتُحْرِقُونِي وَفَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَابْنَيَّ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ وَابْنَتَيَّ زَيْنَبَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ، حَتَّى تُحْرَقَا بِهَا.. وَيَصِيرُ مَصِيرُكُمَا إِلَى النَّارِ جَمِيعاً(35).

وعن الباقر (عليه السلام) أنَّ الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف):

يُحْرِقُهُمَا بِالحَطَبِ الَّذِي جَمَعَاهُ لِيُحْرِقَا بِهِ عَلِيّاً وَفَاطِمَةَ وَالحَسَنَ وَالحُسَيْنَ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ)؛ وَذَلِكَ الحَطَبُ عِنْدَنَا نَتَوَارَثُهُ!(36).

أما الإمام الجواد (عليه السلام)، فقد روي عنه أنّه قال: أَمَا وَالله، لَأُخْرِجَنَّهُمَا ثُمَّ لَأُحْرِقَنَّهُمَا، ثُمَّ لَأُذَرِّيَنَّهُمَا، ثُمَّ لَأَنْسِفَنَّهُمَا فِي اليَمِّ نَسْفاً(37).

جَمَعَ الأجلافُ الحطبَ على باب عليٍّ والزَّهراء، ثم أحرقوا الباب، فاحتفظَ آلُ محمدٍ بشيء من ذلك الحطب، وتوارثوه حتى يكون وَقوداً لنارٍ يُشعِلُها إمام العدالة على الأرض، فيُحرِقُهُما بنارٍ أوقداها ليحرقا بها الأطهار!

ثمَّ ينتظرُ هؤلاء عذابٌ يوم القيامة يفوق عذاب إبليس نفسه!

فعن سلمان رحمه الله: إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يُؤْتَى بِإِبْلِيسَ مَزْمُوماً بِزِمَامٍ مِنْ نَارٍ، وَيُؤْتَى بِزُفَرَ مَزْمُوماً بِزِمَامَيْنِ مِنْ نَارٍ، فَيَنْطَلِقُ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ فَيَصْرَخُ وَيَقُولُ:

ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، مَنْ أَنْتَ؟ أَنَا الَّذِي فَتَنْتُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَنَا مَزْمُومٌ بِزِمَامٍ وَاحِدٍ، وَأَنْتَ مَزْمُومٌ بِزِمَامَيْنِ؟

فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَمَرْتُ فَأُطِعْتُ، وَأَمَرَ الله فَعُصِيَ‏(38).

لقد أمرَ اللهُ تعالى باتِّباع رسوله، ومودته في القربى، وتجليل وصيّه، وتعظيم بضعته، ودَبَّرَ الثاني معَ الأوَّلِ أمراً خلافَ أمر الله، في أعظمِ وصيَّةٍ إلهيةٍ تَعصِمُ النّاس عن الزَّلل، وظلما أفضل خلق الله من الأولين والآخرين، وأسَّسا لظلامةٍ لا تزالُ آثارها إلى اليوم، وستبقى حتى يأذن الله بإخمادها.

هذا حالُ أعداء آل محمد (عليهم السلام).

لقد تصوَّرَ إبليس أنه أشقى خلق الله، حتى قال له تعالى: بَلَى قَدْ خَلَقْتُ مَنْ هُوَ أَشْقَى مِنْك(39).‏

ليس هؤلاء إلا أعدى أعداء آل محمد وظالميهم، مَن أمرا بإحراق بيت فاطمة، بل أحرقا بابها، وأسقطا جنينها.

قالها الثاني يوماً: سنلتقي أنا وفاطمة!

لكنَّه لن يلتقي بها بعدُ، لقد صارَت في دار الكرامة عندَ ربِّها معزَّزَةً مكرَّمة، وصارَ في تابوتٍ من نار.

لقد أشعلَ ناراً على بابِها، فأحرقته في الدُّنيا والآخرة.

التقى بها على باب بيتها مُحَرِّقاً له، فالتقت به النيرانُ في الدُّنيا والآخرة، بئس مثوى الظالمين.

والحمد لله رب العالمين(40).

 

32. أين عليٌّ.. يوم الدّار؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

أين عليٌّ.. يوم الدار؟! سؤالٌ يُكَرِّرُ نفسَه على مرِّ الأيام والعصور.

إذا كان بابُ فاطمة قد كُشِفَ: فأين البطلُ المِغوارُ عن ذلك؟! أين مُجَندِلُ الأبطال، ومُبيد الكتائب، وصاحب ذي الفقار؟!

أيُعقَلُ: أن يكون في الدار عليٌّ، وتُضرَب فاطمة؟!

لقد تعدَّدَت إجاباتُ هذا السؤال، واليوم نطرحه بصيغةٍ أخرى، تكون أدعى وأسهل في فهم الحقيقة.

فنقول: حَقَّ للسؤال أن يكون:

أين الله.. يوم الدار؟!

بل:

أين الله كُلَّ يوم؟(41)

ألم يُلازم الظُّلمُ بني آدم على هذه الأرض؟! فأين كان الله تعالى عن ذلك؟! هل كان ذلك خفياً عليه؟! نعوذ بالله.

أم كان عاجزاً عن الدَّفع والذَّب عن المظلومين؟! إن هذا مُنكَرٌ من القول.

إذاً أين كان الله تعالى عندما سوَّلَت لقابيل نفسُه قتلَ أخيه فقتله؟!

وأين كان الإلهُ العظيم القادرُ حينما كان قومُ نوحٍ يسخرون منه؟! وقوم إبراهيم يقهرونه، وقوم موسى يظلمونه ويستضعفون هارونه، بل حين كان أنبياء الله يُقتَلُون سِرَّاً وجهاراً، ليلاً ونهاراً!

قال تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذينَ قالُوا إِنَّ الله فَقيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الحَريقِ﴾(42).

إنَّ الله يسمع ويرى، لقد رأى قتلَ أنبيائه وكَتَبَ ذلك، وكان قادراً على الدَّفع عنهم، فلماذا لم يَدفع عنهم؟! كما لم يدفع عن نَبيِّه في بداية دعوته، مع ما وقع عليه من ظُلمٍ وقَهر واضطهاد؟

ما السرُّ في ذلك؟!

لا ريبَ أنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يدفع عن أوليائه، ولا يُعجِزُهُ الأرجاس أن يعاجلهم بالعقاب: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ﴾(43).

ولا شكَّ أنه تعالى عالمٌ بما يجري: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الله غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الأَبْصارُ﴾(44).

ولا ريبَ أنَّ في التأخير مَزيدُ عقوبةٍ للكفّار، وحكمةٌ بالغةٌ لله تعالى:

﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلي‏ لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلي‏ لهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهينٌ * ما كانَ الله لِيَذَرَ المُؤْمِنينَ عَلى‏ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميزَ الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾(45).

هو قانونُ السَّماء في امتحان الخلق إذاً، أراده الله تعالى أن يكون سَيّالاً في كلِّ زمانٍ حتى مع أقرب خلقه وأحبهم إليه، فبذلك يمتازُ الخَبيثُ من الطيب.

وعلى هذا، يَسوغُ في حكمةِ الحَكيم أن لا يتدخَّلَ للذَّبِّ عن أوليائه وأحبائه، ولا يدفع عنهم كلَّ سوءٍ وخطرٍ ولو كان قادراً، عندما تقتضي المصلحةُ ذلك.

ولا يلزم على الله تعالى أن يبيِّن لخلقه وجه الحكمة في فِعاله: ﴿وَما كانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلكِنَّ الله يَجْتَبي‏ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاء﴾(46).

وقد قال تعالى: ﴿لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ﴾(47).

نعم إنَّ لله تعالى حكمةٌ بالغةٌ في أن يدع أنبياءه وأولياءه يُقهرون عندما تنقلب الموازين عليهم، فقد ورد في الحديث الشريف أنَّ الله تعالى تَلَطُّفاً بعباده من أن يُغالوا بأنبيائه ويتخذونهم آلهةً جعلهم في أحوالٍ شتى، متقلبة حالاتهم متغيِّرَةً ظروفهم، حيث:

كَانَ مِنْ تَقْدِيرِ الله عَزَّ وَجَلَّ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ أَنْبِيَاءَهُ (عليهم السلام) مَعَ هَذِهِ القُدْرَةِ وَالمُعْجِزَاتِ فِي حَالَةٍ غَالِبِينَ وَفِي أُخْرَى مَغْلُوبِينَ، وَفِي حَالٍ قَاهِرِينَ وَفِي أُخْرَى مَقْهُورِينَ، وَلَوْ جَعَلَهُمُ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ غَالِبِينَ وَقَاهِرِينَ وَلَمْ يَبْتَلِهِمْ وَلَمْ يَمْتَحِنْهُمْ لَاتَّخَذَهُمُ النَّاسُ آلِهَةً مِنْ دُونِ الله عَزَّ وَجَلَّ(48).

هكذا يفهمُ المؤمنُ أنَّ في صَبرِ الكُمَّل على البلاءات رِفعةً في درجاتهم، وتَواضُعاً لله تعالى وتسليماً لأمره، حين يقبَلون ما أجرى الله عليهم من مصائب ومِحَن، وأن ليس في ذلك شيءٌ من النقص يَردُ عليهم، بل مزيد رفعةٍ وكمالٍ وقُربٍ من الله تعالى.

أين عليٌّ.. يوم الدار؟!

بالعود إلى السؤال الأمّ..

نعَم، كان عليٌّ في الدار، وكان الله معه.. بقدرته وجبروته وعظمته ومجده!

الله تعالى يَقدِرُ أن يدفعَ عن الزَّهراء، وعليٌّ يقدرُ بإقدار الله تعالى، وبما أيَّدَهُ به من (قُوَّةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ وَنَفْسٍ بِنُورِ رَبِّهَا مُضِيئَةٍ)(49)، فقالعُ باب خيبر قادرٌ بهذه القدرة الربّانية أن يقلع أساس القوم وأركانهم.

ولكن يا تُرى:

هل يسبقُ عليٌّ رَبَّه إن لم يأمره بذلك؟! هل يعصي إلهَ السماء والأرض إن لم يأذن له بالقيام لحكمةٍ يعلَمُها؟!

ألم يكن الله تعالى قادراً أن يذُبَّ عن الحسين (عليه السلام)؟! ألم يكن الحسينُ (عليه السلام) قادراً على أن يستفيد من هذه القوة الملكوتية فيخسف الأرض بالأرجاس الأنجاس؟!

ألم يقدر ملائكة الرحمان على الذبِّ عن حُرَم الرسول في كربلاء؟! والمنع من أن تُضرَبَ حرائرُ الرسالة؟!

بلى لقد قدروا على ذلك، وامتنعوا.. فكشفَ امتناعهم أنَّ ذلك كان بأمر السماء، إنفاذاً لمشيئة الرحمان، بأن تجري الأمورُ بأسبابها.

ولقد كان له في رسول الله أسوةٌ حسنة، فهذا جابرٌ يروي فيقول: أَنَّ رَسُولَ الله مَرَّ بِعَمَّارٍ وَأَهْلِهِ يُعَذَّبُونَ فِي الله فَقَالَ: أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّة(50).

وفي نصٍّ آخر: وَقَتَلَتْ قُرَيْشٌ أَبَوَيْهِ وَرَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: صَبْراً آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمُ الجَنَّة(51).

لقد مارست قُريشُ أسوأ أنواع التعذيب لهم حتى قتلتهم، ورسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى ذلك بأمِّ عينيه، ثم يأمرهم بالصَّبر!

لقد رأى الله تعالى ذلك، ورأى رسولُه ذلك، وقد عُذِّبوا أمامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنَّه لم يُبادر إلى سيفٍ يحمله، لأنَّ المصلحة ما اقتضت ذلك، وما نزلَ الأمرُ به من السماء.

ثم كان هذا ديدنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا ثُنِيَت له الوسادة وكان مبسوط اليد، يأمُرُ فيُطاع، وقد اجتمع المنافقون في ليلةٍ مظلمةٍ وعمدوا إلى رَمي ناقته (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة ليقتلوه، ثم تقدَّموا إلى الناقة ليدفعوها، وكان عمار وحذيفة يدفعان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

تساءل حذيفة عن الوجه في عدم قطع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرؤوس هؤلاء، فإنَّهم قد أقدموا على مؤامرة قتل الرَّجل الأول في عالم الوجود، وسفير الله في أرضه، ونبيّه وحجته على عباده، لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أُعْرِضَ عَنْهُمْ!

وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّهُ دَعَا أُنَاساً مِنْ قَوْمِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى دِينِهِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، فَقَاتَلَ بِهِمْ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى عَدُوِّهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ!

وَلَكِنْ دَعْهُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَإِنَّ الله لهمْ بِالمِرْصَادِ، وَسَيُمْهِلُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ يَضْطَرُّهُمْ إِلى‏ عَذابٍ غَلِيظٍ(52).

وهؤلاء أنفسهم هم أصحابُ الصحيفة المشؤومة، مَن اتفقوا على أن يظلموا محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذريته، وقال فيهم (صلى الله عليه وآله وسلم): وَلَوْ لَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَنِي بِالإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ بَالِغُهُ لَقَدَّمْتُهُمْ فَضَرَبْتُ أَعْنَاقَهُمْ(53).

فصارَ كَفُّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أهل النفاق والشِّقاق مع قدرته عليهم، امتثالاً لأمر الله تعالى، لأنَّه عزَّ وجلَّ أراد تأخير العقوبة، ليتم ابتلاء الخلق وامتحانهم، وهكذا كان كَفُّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عنهم بأنفسهم وأعيانهم بعد شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) امتثالاً لأمر الله تعالى.

وإنَّما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار، ليجزيهم عذاب الهون باستكبارهم وطغيانهم وَتَجَبُّرهم.

وهكذا جَرَت في عليٍّ (عليه السلام) سنةُّ الله في محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي خمسةٍ ممن تقدَّم عليه من الأنبياء (عليهم السلام)، فقال (عليه السلام):

إِنَّ لِي فِي خَمْسَةٍ مِنَ النَّبِيِّينَ أُسْوَةً:

1. نُوحٍ: إِذْ قَالَ ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾.

2. وَإِبْرَاهِيمَ: إِذْ قَالَ ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله﴾.

3. وَلُوطٍ: إِذْ قَالَ ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾.

4. وَمُوسَى: إِذْ قَالَ ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لمَّا خِفْتُكُمْ﴾.

5. وَهَارُونَ: إِذْ قَالَ ﴿إِنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي‏﴾(54).

إذاً لعليٍّ (عليه السلام) أسوةٌ بمَن تقدَّمَ من أنبياء الله، وهو المعصومُ المطهَّر، وحالُ عَليٍّ مع الناس حال العالم مع الجُهَّال، لا يفقهون السرَّ في عظيم فِعاله، فيلومونه على كلامه وعلى صَمته! وعلى قيامه وقعوده! وهو إمامٌ قام أو قعد، وقد اشتكى (عليه السلام) من هذا الجهل يوماً فقال في نهجه:

فَإِنْ (أَقُلْ)، يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى المُلْكِ!

وَإِنْ (أَسْكُتْ) يَقُولُوا: جَزِعَ مِنَ المَوْتِ!

هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي، وَالله لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ البَعِيدَة(55).

لقد باحَ (عليه السلام) ببعضِ ذلك العلم، فأبانَ شيئاً مما دعاه للكفِّ عن القوم، والمؤمنُ يبحثُ في ذلك، فإن فَهِمَهُ كان من (أهل الفَهمِ والتَّسليم)، وإن عجز عن فهمه كان من (أهل التسليم)، لثبوت عصمة الإمام وحكمته، وامتثاله لأمر الله تعالى في كلِّ صغيرة وكبيرة.

هكذا صارَ الشيعةُ من أهل الفَهمِ والتعقُّل أولاً، والتسليم والانقياد ثانياً، فزادهم الله فَهماً وإدراكاً لِحَرَكات وسَكَنات أئمتهم، وتسليماً لأمرهم، فأعرضوا عن الجاهلين، وعلموا أنَّهم يرومون الانتقاص من عليٍّ وفاطمة (عليهما السلام)، وتحميل المجنيِّ عليه جريمة الجاني!

علموا أنَّ المخالف إن كان يسأل ليعلم ففي قليل الحقِّ الكفاية، وإن كان يسأل ليطعن فهو أولى بالإعراض ﴿قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ في‏ خَوْضِهِمْ يَلْعَبُون‏﴾(56).

والحمد لله رب العالمين(57).

 

33. يوم لم يؤذن لعليٍّ.. بِحَصدِ الرؤوس!

بسم الله الرحمن الرحيم

اتَّفَقَت كلمةُ الشيعة على وقوع الظُّلمِ على عليٍّ (عليه السلام): فسُلِبَ حقُّه، وانتُهِكَت دارُه، وظُلِمَت وضَرِبَت حَليلته، حتى رَحَلَت شهيدةً مقتولة!

ثم نُسِبَ لَهم اعتقادُهم بأنَّ عليَّاً (عليه السلام) كان (موصىً) و(مقيَّداً)، فلَم يدفَع عن نفسه وأسرته، ولم يطلب حقَّهُ بالسيف بسبب الوصيَّة.

فهَل يُعقَلُ ذلك؟!

إنَّ قيامَ عليٍّ (عليه السلام) بالسيف دفاعاً عن نفسه وأسرَته وحقوقه لا يخلو من صورتين:

الأولى: حَملُ السَّيفِ بالأسباب

الثانية: حَملُ السَّيف بالإعجاز

فما حالُ عليٍّ (عليه السلام) مع هذين الاحتمالين؟

الصورة الأولى: حَملُ السَّيفِ بالأسباب

ونُريدُ مِنها الإقدام على العمل المسلَّح وفق الأسباب الطبيعية، بعيداً عن المَدَد الغيبي، والإعجاز الإلهي.

فَعَليٌّ (عليه السلام) وإن كان أشجعَ مَن عليها، لا يسبقُه سابق، ولا يلحق به لاحق، إلا أنَّهُ بَشَرٌ كرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تجري عليه قوانينُ السَّماء، ففي أُحُدٍ: شُجَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُه(58)، وكان في معرض الموت والقتل.

والله تعالى ما أمرَ عبادَه بمخالفة السنن الكونية، بل حثَّهم على الإعداد لكل شيءٍ قبل الخَوض فيه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ﴾(59)، وقال تعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾(60).

ولقد كان لعليٍّ (عليه السلام) أسبابٌ جَمَّةٌ مَنَعَتهُ عن حَملِ السَّيف منها:

1. حفظ الأسرة الطاهرة

لقد تقدَّمَ أنَّ القومَ أرادوا إحراق عليٍّ وفاطمة والحسنين وسائر ذرية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أرادوا قَتلَ الأسرة المباركة، وكانوا يتحيَّنون الفرصة لذلك، وخَيرُ فرصَةٍ هي حَملُ عليٍّ (عليه السلام) للسلاح، ففوَّت عليهم الإمام ذلك، وأفشلت الزَّهراء خطَّتَهم بأن وقفَت من خلف الباب تُجيبُهم، وُتَحرِّجُ عليهم أن يدخلوا بابَها، فانتقلوا إلى خِطَّةٍ بديلةٍ أحرَقوا بها الباب وفعلوا ما فعلوا.

وقد صرَّح أميرُ المؤمنين (عليه السلام) أنَّه تجنَّبَ حمل السيف حفظاً للأسرة الطاهرة، ومن ذلك قوله لابن عباس:

وَلَوْ لَا اتِّقَائِي عَلَى الثَّقَلِ الأَصْغَرِ أَنْ يَبِيدَ، فَيَنْقَطِعَ شَجَرَةُ العِلْمِ وَزَهْرَةُ الدُّنْيَا وَحَبْلُ الله المَتِينُ وَحِصْنُهُ الأَمِينُ، ولدُ رَسُولِ الله رَبِّ العَالَمِينَ، لَكَانَ طَلَبُ المَوْتِ وَالخُرُوجُ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أَلَذَّ عِنْدِي مِنْ شَرْبَةِ ظَمْآنَ، وَنَوْمِ وَسْنَانَ(61).

وقال في موردٍ آخر: فَإِذَا لَيْسَ مَعِي رَافِدٌ وَلَا ذَابٌّ وَلَا مُسَاعِدٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الهَلَاكِ(62).

فإنَّ القيامَ إنَّما يُرادُ منه الذَّبُ عن نفسه الشريفة وأسرته الطاهرة، وسينتُجُ عن ذلك هلاكه وهلاك الثِّقلِ الأصغر، فيكون في قيامه تفويتٌ للغرض ونقضٌ له، وخلاف المصلحة في الإبقاء عليهم صلوات الله عليهم.

وإنَّ الرَّجُلَ العاقل يحسب العواقب، فإن وجد في الصبر ثماراً أعظم من سلّ السيف كان من الصابرين، وهذا حال عليٍّ (عليه السلام).

2. انتفاء القدرة الظاهرة

لم يكُن لعليٍّ (عليه السلام) مَن يستجيب له ممَّن تقوم به الكفاية، فإنَّ العمل المسلَّحَ يحتاج إلى أعوانٍ وأنصارٍ ويدٍ مبسوطةٍ وعدَّة وعدد.

ولكن لم يكن مع عليٍّ شيءٌ من ذلك، وكلماتُه في هذا المعنى أكثر من أن تُحصى، منها قوله (عليه السلام):

أَمَا وَالله لَوْ كَانَ لِي عِدَّةُ أَصْحَابِ طَالُوتَ أَوْ عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ وَهُمْ أَعْدَاؤُكُمْ لَضَرَبْتُكُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَئُولُوا إِلَى الحَقِّ، وَتُنِيبُوا لِلصِّدْقِ، فَكَانَ أَرْتَقَ لِلْفَتْقِ وَآخَذَ بِالرِّفْقِ(63).

ومَن لم يكن له عدَّةٌ يقاتل بها كانت يدُه مقطوعة جذّاء، وقد قال في شقشقيَّته الشهيرة: وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ(64).

وهو القائل: وَلَوْ كُنْتُ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا لَفَرَّقْتُ جَمَاعَتَكُمْ(65).

هذا هو معنى الوصية التي يتحدَّث عنها الشيعة، فليست الوصيَّةٌ شيئاً خلاف موازين العقل والشَّرع، بل هي موافقةٌ له بلا شكٍّ ورَيب، بل جزءٌ منه.

وقد أوصاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً، حين أمره بالصبر لعلمه بعدم وجود الناصر، وعَلَّقَ الأمر بالقيام على الأنصار، وهو العالم بانتفائهم.

وقد روت الأمة كلمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَمِنَ السنة روى المناوي في كتاب كنوز الدقائق قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام): يا علي إنك ستُبتَلى بعدي، فلا تقاتلن!(66)

وروى الشيعة أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له بالصبر لما يجري عليه وعلى البضعة الطاهرة (عليها السلام): وَعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ بِكَ وَبِهَا حَتَّى تقدمُوا عَلَيَّ(67).

كلَّ هذا لعلم النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم الناصر، وقد قال له (صلى الله عليه وآله وسلم):

يَا عَلِيُّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ حَتَّى يَنْزِلَ الأَمْرُ.. فَإِذَا أَمْكَنَكَ الأَمْرُ فَالسَّيْفَ السَّيْفَ، القَتْلَ القَتْلَ، حَتَّى يَفِيئُوا إِلى‏ أَمْرِ الله وَأَمْرِ رَسُولِهِ(68).

وقد علَّلَ له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، وبيَّن له أن في قيامه دون أعوانٍ إلقاءٌ للنفس في التهلكة، ولا يجوز ذلك، بل يجب حقن الدِّماء، لذا قال له (صلى الله عليه وآله وسلم) تارة: وَإِنْ أَنْتَ‏ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَبَايِعْ وَاحْقِنْ دَمَكَ(69).

وتارة أخرى: وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَاكْفُفْ يَدَكَ وَاحْقِنْ دَمَكَ(70).

وقال له ثالثةً: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَاصْبِرْ، وَكُفَّ يَدَكَ، وَلَا تُلْقِ بِيَدِكَ إِلَى التَّهْلُكَةِ(71).

وإنَّ في قتله (عليه السلام) إطفاء لنور الله، فلا سبيل لثبات الحقِّ على وجه البسيطة إلا بعليٍّ (عليه السلام)، ولو قُتِلَ لم يبق لعبادة الله بعده على الأرض أثرٌ ولا عينٌ، فينتقض الغرضُ من بعثة الأنبياء وخلقة الخَلق، وقد قال له (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يدلُّ على هذا المعنى:

إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ إِنْ نَاهَضْتَ القَوْمَ وَنَابَذْتَهُمْ وَجَاهَدْتَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ فِئَةٌ أَعْوَانٌ‏ تَقْوَى بِهِمْ أَنْ يَقْتُلُوكَ فَيُطْفَأَ نُورُ الله وَلَا يُعْبَدَ الله فِي الأَرْضِ(72).‏

وقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ إِلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَالجُحُودِ بِأَنِّي رَسُولُ الله(73).

3. المصلحة العامة

إنَّ للأنبياء والأوصياء دوراً عظيماً في صلاح الأمّة، وعندما يدورُ الأمرُ بين وقوع الجَور والظُّلمِ عليهم خاصة، أو فساد الأمة بأسرها، يُقَدِّمون النَّفعَ والصلاح العام، وإن كان فيه أذيَّةٌ لأشخاصهم.

ولقد علمَ الإمام (عليه السلام) أنَّ القوم إنما ظلّوا على ظاهر الإسلام لأنَّهم وجدوا أنها الطريقة الوحيدة لنيل المُلك والسُّلطان، فلو منعَهم إياه بقوّة السيف لارتدوا عن دين الله تعالى، ولذهبت جهود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سدى، ولمنعوا الأمم الآتية والأجيال القادمة مِنَ التعرُّف على الحق بنقضهم العهود في الظاهر والباطن معاً.

ولذا قال (عليه السلام): ولو لا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعةً إلى الرئاسة، وسلماً إلى العزّ والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً!(74).

وهو ما يفسِّرُ رجوع الناس كفاراً وارتدادهم عن الإسلام لو قام فيهم بالسيف، وقد قال: وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ كُفَّاراً(75).

وعنه (عليه السلام): وَايْمُ الله لَوْ لَا مَخَافَةُ الفُرْقَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَعُودُوا إِلَى الكُفْرِ، وَيُعَوَّرَ الدِّينُ، لَكُنَّا قَدْ غَيَّرْنَا ذَلِكَ مَا اسْتَطَعْنَا(76).

وعن الباقر (عليه السلام): لَمْ يُمْنَعْ أَمِير المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِنْ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ إِلَّا نَظَراً لِلنَّاسِ، وتَخَوُّفاً عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ فَيَعْبُدُوا الأَوْثَانَ، وَلَا يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَكَانَ الأَحَبَّ إِلَيْهِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنْ أَنْ يَرْتَدُّوا عَنْ جَمِيعِ الإِسْلَامِ(77).

ألا يجب الدفاع عن النفس؟

فإن قيل: هذا يُفَسِّرُ قعوده عن المطالبة بحقِّه، ولا يفسِّرُ قعوده في الدِّفاع عن نفسه، والدِّفاعُ عن النَّفس واجبٌ لا يحتاجُ إلى أنصار.

قلنا: لا بد من التمييز بين صورتين:

الصورة الأولى: أن يُفرضَ القتال على الولي المعصوم، فلا بدَّ من أن يقاتل ولو لم يكن معه أحدٌ من الأنصار.

الصورة الثانية: أن لا يُفرَضَ عليه القتال إلا تخييراً، أي أن يُخيَّر بين القتال وبين شيءٍ آخر، فإذا وجد المصلحة في ترك القتال تركه وأتى بالخيار الآخر.

وهو حالُ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد بَيَّنَ حالهم بعدما فشلت خطَّتهم الأولى بالقضاء على الأسرة المباركة، فقال (عليه السلام):

إِنَّ القَوْمَ حِينَ قَهَرُونِي وَاسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي، لَوْ قَالُوا لِي: (نَقْتُلُكَ البَتَّةَ) لَامْتَنَعْتُ مِنْ قَتْلِهِمْ إِيَّايَ وَلَوْ لَمْ أَجِدْ غَيْرَ نَفْسِي وَحْدِي.

وَلَكِنْ قَالُوا: إِنْ بَايَعْتَ كَفَفْنَا عَنْكَ وَأَكْرَمْنَاكَ وَقَرَّبْنَاكَ وَفَضَّلْنَاكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ قَتَلْنَاكَ، فَلمَّا لَمْ أَجِدْ أَحَداً بَايَعْتُهُمْ، وَبَيْعَتِي إِيَّاهُمْ لَا يُحِقُّ لَهُمْ بَاطِلًا، وَلَا يُوجِبُ لَهُمْ حَقّاً(78).

فلم يكن حملُ السيف واجباً لأن هناك طريقاً للتخلُّص من القتل ولو بالبيعة الظاهرة.

ألا يجب الدِّفاع عن الأسرة؟!

فإن قيل: هذا يبرِّر عدم دفاعه عن نفسه، ولكن هل يشمل عدم دفاعه عن زوجته وأولاده؟

قلنا: لقد كان أميرُ المؤمنين (عليه السلام) مُخَيَّراً بين أن يحمل السيف فيقتلون جميعاً، وبين أن يضع السيف وتتصدى الزَّهراء (عليها السلام) فتكون الدائرة عليها خاصةً، وتُحفظ الإمامة، وبقية الأسرة الطاهرة، وهو ما يبرِّرُ دفاع الزهراء (عليها السلام) عنه، وقد حالت بينهم وبينه (عليه السلام) لأجل ذلك.

وقد علم اللُّعناء أنها ستفعل ذلك من قبل، ذلك أن حفظ الإمام أوجب من كل شيء، وقد أرسل عُمَر لقنفذ يلفتُه إلى هذا المعنى قبل حدوثه فقال له:

إِنْ حَالَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فَاطِمَةُ فَاضْرِبْهَا!(79).

وهو ما جرى فعلاً: وَحَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) عِنْدَ بَابِ البَيْتِ فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ المَلْعُونُ بِالسَّوْطِ(80).

وقد روي هذا المعنى عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، متحدِّثاً عن قنفذ: هُوَ الَّذِي ضَرَبَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) بِالسَّوْطِ حِينَ جَاءَتْ لِتَحُولَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَمَاتَتْ (عليها السلام)(81).

الصورة الثانية: حَملُ السَّيف بالإعجاز

إذا كان عليٌّ (عليه السلام) لم يحمل السَّيف لأنَّ الموازين والأسباب لم تكن لصالحه ولا لصالح أسرته ولا لصالح الإسلام، فلماذا لم يحمل السيف ويستعين بالقدرات الغيبية التي أعطاه الله تعالى؟! ألم يكن عليٌّ قادراً على ذلك؟!

بلى.. كان (عليه السلام) قادراً على الاستعانة بالقوَّة الملكوتية والمدد الغيبي، ولو فعلَ ذلك لأفناهم عن بكرة أبيهم.

ولكنَّ هذه الاستعانة تخضَعُ للمصلحة والحكمة والأمر الإلهي، ولم يكن من الحكمة أن يقوم (عليه السلام) بذلك فيُفنِي أمَّة الإسلام، ولا يبقى له بعد ذلك من باقية! وقد أشار (عليه السلام) إلى هذا المعنى بقوله:

أَمَا وَالله لَوْ أُذِنَ لِي بِمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لَحَصَدْتُ رُءُوسَكُمْ عَنْ أَجْسَادِكُمْ كَحَبِّ الحَصِيدِ، بِقَوَاضِبَ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَقَلَعْتُ مِنْ جَمَاجِمِ شُجْعَانِكُمْ مَا أَقْرَحُ بِهِ آمَاقَكُمْ، وَأُوحِشُ بِهِ مَحَالَّكُمْ، فَإِنِّي مُذْ عُرِفْتُ مُرْدِيَ العَسَاكِرِ، وَمُفْنِيَ الجَحَافِلِ، وَمُبِيدَ خَضْرَائِكُمْ، وَمُخْمِدَ ضَوْضَائِكُمْ(82).

لن يعجزَ عليٌّ (عليه السلام) عن حَصد الرؤوس، بالإعجاز أو بغيره، لكنَّ في ذلك خلاف الحكمة والمصلحة، فإنَّ الواقعة لا تخلو من إحدى حالتين:

1. إمّا أن يغلبوه ويقهروه (عليه السلام)، ثم يقتلوه وأهل بيته، فينقطع نور الله في الأرض.

2. وإمّا أن يغلبهم ويفلج عليهم، فيفنيهم عن بكرة أبيهم، ولا يُبقي على الأرض من المسلمين دَيّاراً.

وكلتاهما نتيجتان لا يرتضيهما الله تعالى، ولا رسوله، ولا وليه المعصوم، لذا رأى (عليه السلام) أنَّ: الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى‏(83).. فصَبَر.

ولذا لم يورد (المُخَالِفِينَ خَلِيجَ المَنِيَّةِ)!

ولم يرسل عليهم: (شَآبِيبَ صَوَاعِقِ المَوْتِ)(84).

والقوم يعرفون ذلك، وقد قال أوَّلُهُم لثانيهم: فَوَ الله، لَوْ هَمَّ ابن أبي طالب‏ بِقَتْلِي وَقَتْلِكَ لَقَتَلَنَا بِشِمَالِهِ دُونَ يَمِينِه!(85).‏

وقد فرَّ الثاني لما ضرب سيدة النساء من ظاهر الخمار سريعاً إلى خارج الدار ثم قال لأصحابه:

قَدْ جَنَيْتُ جِنَايَةً عَظِيمَةً لَا آمَنُ عَلَى نَفْسِي. وَهَذَا عَلِيٌّ قَدْ بَرَزَ مِنَ البَيْتِ وَمَا لِي وَلَكُمْ جَمِيعاً بِهِ طَاقَةٌ. فَخَرَجَ عَلِيٌّ وَقَدْ ضَرَبَتْ يَدَيْهَا إِلَى نَاصِيَتِهَا لِتَكْشِفَ عَنْهَا وَتَسْتَغِيثَ بِالله العَظِيمِ مَا نَزَلَ بِهَا، فَأَسْبَلَ عَلِيٌّ عَلَيْهَا مُلَاءَتَهَا وَقَالَ لَهَا:

يَا بِنْتَ رَسُولِ الله! إِنَّ الله بَعَثَ أَبَاكِ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، وَايْمُ الله لَئِنْ كَشَفْتِ عَنْ نَاصِيَتِكِ سَائِلَةً إِلَى رَبِّكِ لِيُهْلِكَ هَذَا الخَلْقَ لَأَجَابَكِ حَتَّى لَا يُبْقِيَ عَلَى الأَرْضِ مِنْهُمْ بَشَراً.

.. فَكُونِي يَا سَيِّدَةَ النِّسَاءِ رَحْمَةً عَلَى هَذَا الخَلْقِ المَنْكُوسِ وَلَا تَكُونِي عَذَاباً(86).

لقد علمَ القومُ أنَّهم لو اجتمعوا جميعاً، بل لو اجتمع من في الأرض جميعاً على قَهرِ عليٍّ ما قهروه يقيناً، وصرَّحوا بذلك، فإنَّ من يعتصم بالله تعالى لو كادته السماوات والأرض لجعل الله له من بينهنّ مخرجاً.

وهذا عليٌّ إمامُ المعتصمين بالله، وسيِّدُهم وأفضلهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن لم يكن لعليٍّ أن يفعل غير ما فَعَل، كما لم يكن للزَّهراء أن تفعل غير ما فعلَت.

لقد بعثَ الله تعالى حبيبَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمةً، فلم يكن لعليٍّ ولا لفاطمة (عليهما السلام) أن يُنزلا العذاب على هذا الخلق المنكوس، بل كانا رحمةً كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

لهذا ما كَشَفَت الزَّهراء شعرَها ولا دَعَت على القوم، وما أوردهم عليٌّ خليجَ المنيّة، ولا حَصَدَ رؤوسهم.. إمتثالاً لأمر الله تعالى، وإكمالاً للامتحان الإلهي: ﴿حَتَّى يَميزَ الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾.

والحمد لله رب العالمين(87).

 

34. ليس عليٌّ (ع).. كمحمد (ص)!

بسم الله الرحمن الرحيم

يذهبُ الشيعة الكِرام إلى أنَّ علياً (عليه السلام) هو (نَفسُ محمدٍ) (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستدلُّون على ذلك بآية المباهلة، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وَأَنْفُسَنا﴾، ولم يكن من الأنفس حينها إلا هو وعليّ عليهما وآلهما السلام.

فصارَ عليٌّ في حقيقته وجَوهره وصِفاته وخِصَاله نفسَ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم).

لكنَّهُم لمّا تأمَّلوا فيما جرى بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعدم قيام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسيف لفقدان الناصر، مقابلَ تكليف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدَّعوة ولو مُنفَرِداً، لزم عليهم أن يُبيِّنوا حقيقة الموقفين.

ثمَّ أوقفهم قولُ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام) كما يرويه سليم في كتابه: يَا أَخِي إِنَّكَ لَسْتَ كَمِثْلِي!

فتأمَّلوا في دلالة النصين، ليجيبوا على السؤال: هَل مِن فرقٍ بين النبيّ والإمام؟

أولاً: التقيَّة بين النبيِّ والإمام

لقد استدلَّ الشيعةُ على جواز التقيَّة بأدلَّةٍ قرآنية مباركة، ونصوصٍ شريفةٍ كثيرة، والمهمُّ هو اتِّفاق كلمتهم أعزَّهم الله على أنَّ التقيّة لا تصحُّ على الأنبياء فيما لا يُعرف إلا منهم، فلو اتَّقى الأنبياء وأخفوا شيئاً من معالم الدِّين لامتنع على الأمة أن تُحيط به عِلماً.

وكذا لو انحصرت معرفةُ أمرٍ من أمور الشريعة بالإمام المعصوم (عليه السلام)، فإنَّ التقية لا تسوغ له، إلا أن يُعرَفَ ذلك الأمر من طريقٍ آخر، ولو منه (عليه السلام) في وقت وظرفٍ آخر، أو من إمامٍ آخر.

ولكن لمّا كان النبيّ هو المبتدئ بالشرع، كان بيانُ جُلِّ الأحكام منحصراً به، فما ساغت التقيَّة بحقِّه غالباً.

وكان حكم الإمام كالنبي فيما انحصر بيانه به، مفارقاً له فيما كان معلوماً من جهةٍ أخرى، لأنَّ تكليف الإمام حينها إجراء الأحكام لا بيانها بعد بيان النبيّ لها.

وقد بَيَّن السيد المرتضى رحمه الله هذه المعاني ببيانٍ واضحٍ جليٍّ فقال رحمه الله:

إن الإمام لا يجوز أن يتَّقي فيما لا يُعلم إلا من جهته، ولا طريق إليه إلا من ناحية قوله، وإنما يجوز التقية عليه فيما قد بان بالحجج والبيِّنات، ونصبت عليه الدلالات.. ثم لا يتقي في شيءٍ إلا ويدل على خروجه منه مخرج التقية.. ثم إن التقية إنما تكون من العدوّ دون الولي، ومن المتّهم دون الموثوق به(88).

ثانياً: اختلاف الظَّرف بين النبيِّ والإمام

إذاً ليس الاختلاف بين النبي والإمام من جهة التقيَّة في أصلها، بل في حيثيَّتها وظَرفها، فإذا انحصرت معرفة الحق بالنبي أو الإمام حَرُمَت التقيَّة عليهما معاً، وإذا عُرِفَ الحقُّ من طريقٍ آخر، جازَت لهما معاً.

لكنَّ ظَرف النبي من حيث كونه مؤسساً، وظرف الإمام من حيث كونه مُكَمِّلاً، يجعل التقيَّة غير سائغة غالباً في حق النبيِّ، وإن ساغت في جملةٍ من الموارد في حقِّ الإمام، وقد أشار إلى هذا المعنى نبيُّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، حينما قال لعليٍّ (عليه السلام):

يَا أَخِي إِنَّكَ لَسْتَ كَمِثْلِي!

إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أَصْدَعَ بِالحَقِّ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يَعْصِمُنِي مِنَ النَّاسِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُجَاهِدَ وَلَوْ بِنَفْسِي، فَقَالَ: ﴿جَاهِدْ فِي سَبِيلِ الله لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾.. وَقَدْ مَكَثْتُ بِمَكَّةَ مَا مَكَثْتُ لَمْ أُومَرْ بِقِتَالٍ، ثُمَّ أَمَرَنِي الله بِالقِتَالِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الدِّينُ إِلَّا بِي، وَلَا الشَّرَائِعُ وَلَا السُّنَنُ وَالأَحْكَامُ وَالحُدُودُ وَالحَلَالُ وَالحَرَامُ(89).

لقد بيَّن (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا النصِّ أنَّ الله تعالى لم يأمره في أوَّلِ أمره بالقتال، وفي هذا إشارةٌ إلى أن القتال ليس شرطاً في النبوّة ولا في الإمامة، بل إنَّ الدين لا يؤخذُ القتال فيه شرطاً دائماً، إنما يوكل ذلك إلى الظَّرف بحيث قد يجب عندما تتوقَّف إزالة الموانع أمام انتشار الدين على القتال.

وقد أمر الله تعالى نبيَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمرين مختلفين في ظرفين مختلفين:

1. فتارة أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسِّتر والكتمان، ولم يؤمر فيها بالقتال وحمل السلاح، وقد تشابه حاله فيها مع بعض حالات الإمام (عليه السلام).

2. وأخرى أمره تعالى بالبلاغ والقتال ولو كان منفرداً، ولكن مع العصمة والضمانة منه تعالى.

ولم يكن قتالُه (صلى الله عليه وآله وسلم) موقوفاً على وجود النّاصر، لأنَّ معرفة الدين كانت موقوفةً على قتاله في ظَرفٍ، وهو ما لا بدَّ منه.

ولكن، بعد أن انتشر الدين وعَمَّ، وعُرِفَت الشريعة وظَهَرَت أركانُها، وبلَّغَ النبيُّ أمرَ الولاية، ثم انتقلَ إلى ربِّه.. فما هو حال الإمام؟

هل يجبُ على الإمام القتالُ كما وجبَ على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أُمِر؟

أم أن اختلاف الظرف يوجب سقوط القتال عن الإمام؟

لقد بيَّنَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الفرق بين الأمرين، فقال لعليٍّ (عليه السلام):

وَإِنَّ النَّاسَ يَدَعُونَ بَعْدِي مَا أَمَرَهُمُ الله بِهِ، وَمَا أَمَرْتُهُمْ فِيكَ مِنْ وَلَايَتِكَ.. مُتَعَمِّدِينَ غَيْرَ جَاهِلِينَ.. فَإِنْ وَجَدْتَ أَعْوَاناً عَلَيْهِمْ فَجَاهِدْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَاكْفُفْ يَدَكَ وَاحْقُنْ دَمَكَ(90).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنَّكَ يَا أَخِي لَسْتَ مِثْلِي، إِنِّي قَدْ أَقَمْتُ حُجَّتَكَ، وَأَظْهَرْتُ لهُمْ مَا أَنْزَلَ الله فِيكَ.. وَقُمْتُ بِأَمْرِكَ، فَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُمْ لَمْ تَأْثَمْ.. وَالتَّقِيَّةُ مِنْ دِينِ الله وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَه(91).

لقد صارَ أمرُ الإمامة أوضح من الشَّمس في رابعة النَّهار، ولم يَعُد الإستدلالُ عليها وبيانُها لازماً على الإمام، لأنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أبانَها وجَلّاهَا، وأظهَرَها وحثَّ عليها، وأخذ البيعة لعليٍّ بها.

فلا يجب على الوليِّ بعدَ ذلك أن يُقاتلَ الأمَّة إن خالفَت أمر النبيّ في ذلك، لأنَّ معرفة أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا توقف على قِتاله (عليه السلام)، بل يَعلَمُ ذلك كلُّ الأمة.

وإن لزم على الإمام البيان، اكتفى باللِّسان، فصارَ حالُ الإمام حينها كحال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوَّل الدعوة لا آخرها.

هكذا، لم يكن عليٌّ (عليه السلام) كمحمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسألة تبليغ الإمامة، فالنبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أُمِرَ بتبليغها مهما حصل، ولم يكن له أن يتَّقي في ذلك لانحصار بيانها به (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا عَصَمَهُ الله تعالى من كَيد الكائدين كي يصدح بذلك: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(92).

لقد روي عن الصادق (عليه السلام): وَالله مَا بَايَعَ عَلِيٌّ حَتَّى رَأَى الدُّخَانَ قَدْ دَخَلَ بَيْتَهُ(93).

إنَّها التقيَّة، نَعَم.. ومِثلُ عليٍّ يتَّقي، مع بطولته وبأسه، فالتقية (مِنْ دِينِ الله)، والبطولة إنما تكون بطاعة الله تعالى، لا بمخالفة أمره.

وقد ورد في الحديث: إِنَّهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ تَقِيَّةٌ رَفَعَهُ الله(94).

لقد رفَعَ اللهُ أمرَ عليٍّ (عليه السلام) لمّا أطاعه وأطاعَ رسولَه، وسيأتي (عليه السلام) ربَّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة مظلوماً لا ظالماً، فيكون الله تعالى هو المنتقمُ له.

عليٌّ إذاً.. نَفسُ محمدٍ.. في كلِّ كَمَالٍ ورِفعةٍ وشَرَف.

لكنَّ ظرفَ عليٍّ (عليه السلام) ليس كظرف الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكلَّما تغيَّرَ الظرف تَبِعَهُ الحُكم، لذا كان ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصدر ما صدر من عليٍّ (عليه السلام)، وكلاهما في ذروة المجد والشرف الأصيل، أئمة وسادة وقادة، أنوار الله في سمائه، وحججه وخلفاءه في أرضه.

ثبَّتَنا الله على ولايتهم في الدُّنيا، وحشرنا معهم في الآخرة، إنه سميع مجيب.

والحمد لله رب العالمين(95).

 

 

35. ابن السوداء.. يُخرِجُ الزَّهراء!

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد كان لأنبياء الله ورسله وأوليائه وملائكته أساليب في تعليم الخَلق، ومِنها طَرحُ السؤال مع عِلمِهِم بجوابه، تعليماً للجاهل، وإرشاداً للغافل.

ومِن ذلك أنَّ جبرائيل (عليه السلام) أتى رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صورة آدَميٍّ، وصار يسأله عن حقيقة الإسلام والإيمان، والرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يجيبه، ولمّا خرَجَ (عليه السلام) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): هَذَا جَبْرَئِيلُ جَاءَكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ!(96).

وكان هذا ديدّن الكُمَّل حيث يسعون لنشر العلوم والمعارف والحقائق والعقائد والأحكام بأنجع السُّبُل، وهو ما يُفسِّرُ كثيراً من الأسئلة التي كان يطرحها الإمام (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عالمٌ بها، أو الأحداث التي تقع بين أمير المؤمنين والزهراء (عليهما السلام).

ومِن ذلك ما يُروى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه:

تَقَاضَى عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي الخِدْمَةِ: أي أنَّ أمير المؤمنين والزهراء (عليهما السلام) رَفَعا أمرَهُما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كي يُحَدِّد تكليف كلٍّ منهما.

فَقَضَى عَلَى فَاطِمَةَ بِخِدْمَةِ مَا دُونَ البَابِ، وَقَضَى عَلَى عَلِيٍّ مَا خَلْفَهُ: فما كان داخلَ الدّار كان من نَصيب الزَّهراء (عليها السلام)، وما كان خارجَهُ كان من نصيب عليٍّ (عليه السلام).

فبابُ فاطمةَ (عليها السلام) هو الحَدُّ الفاصل بين ما أوجبه الله تعالى عليها وما أسقَطَهُ عنها، وكذا بابُ كلِّ بَيتٍ في هذه الأيام، حيثُ حكَمَت الشريعةُ على الرَّجُل أن يقوم بكلِّ ما تحتاجُهُ المرأة خلفَ الباب، لتتمكن من البقاء دونَه مُعَزَّزَةً مُكَرَّمة، إلا أن تحوجها الظروفُ للخروج، فتَخرُج ملازِمةً للعفَّةِ والحياء.

قَالَ: فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: فَلَا يَعْلَمُ مَا دَاخَلَنِي مِنَ السُّرُورِ إِلَّا الله بِإِكْفَائِي رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تَحَمُّلَ رِقَابِ الرِّجَالِ(97).

عبارةٌ في غاية العظمة، لقد دخلَ سرورٌ على الزَّهراء لا يمكن لنا تصوُّره مِن مثل هذا الحُكم، بحيثُ كفاها الرَّسولُ بأمرِ السَّماء الخروجَ بين الرِّجال، والاختلاط بهم، والقيام بأعمالهم.

شَتّانَ بينَ موقفٍ تراهُ بَعضُ النِّساء نِعمةً وحَبوةً إلهيةً عظيمةً تُدخِلُ السُّرورَ على القلب، وتستحقّ الشكرَ لله تعالى.

وترى فيه أُخرَياتٌ في عَصرِنا كَبتاً وقَهراً للمرأة وظُلماً لها وسَلباً لحقِّها!

الرؤية الأوَّلى توافقُ طبيعةَ المرأة، وتُراعي ضعفَها ورقَّتَها، لتؤمِّنَّ لها حياةً كريمةً تكون فيها مُصانةً عن تَحَمُّلِ رِقابِ الرِّجال، وتوجبُ على من لا يُريد غيرَ صلاحها، ومن لا مَطمعَ له فيها أن يقوم بأمرها وشأنها.

والرؤية الثانية توافقُ أهواء ومطامع الرِّجال الفاسدين، والنِّساء الجاهلات، فتُستغلُّ المرأةُ فيه أبشَعَ استغلال، ما لم تُحافظ على حِشمَتِها وحيائها وعفّتها وطهارتها.

ولكن، ما طالَ سُرورُ الزَّهراء كثيراً، فسُرعانَ ما تبدَّلَ الأمرُ الذي أدخلَ عليها عظيمَ السُّرور وتغيَّر!

رَسولُ الله يكفيها ما خَلفَ الباب، لكن.. في أمَّتِه مَن لا يقرُّ له قرارٌ بذلك! فيجمع الحطبَ على بابها!

الباب الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يقترب منه دون إذن الله ورسوله وأهل بيته.. يقتربون منه الآن بالحَطَب!

يروي الشيخ ابن شهر آشوب عن ابن عباس، وعن الزهري، وعن ابن العلاء، وعن زائدة بن قدامة أنّه:

(خرج عمر في نحوٍ من ستّين رجلاً، فاستأذن الدخول عليهم، فلم يؤذن له، فشغب وأجلب): لم يَعُد في هذا الباب سِترٌ للزَّهراء، لم تأذن له بالدُّخول فأثار الجلبة خارج الباب.

(وعاد إلى الباب واستأذن، فقالت فاطمة (عليها السلام): عليكَ بالله إن كنتَ تؤمنُ بالله أن تدخل عليّ بيتي فإنّي حاسرة، فلم يلتفت إلى مقالها وهَجَم.

فصاحت: يا أبة، ما لقينا بعدك من أبي بكر وعمر، وتبعه أعوانه).

لقد أرادوا علياً (عليه السلام)، وفعلاً خرجَ عليٌّ (عليه السلام)، تقول الرواية:

(وخَرَجَت الطاهرة في أثره، وهي تقول لزفر: يا بن السوداء! لأسرع ما أدخلت الذُّلَّ على بيت رسول الله)!

الآن صارَ لا بدَّ للزَّهراء من أن تخرُج، الله تعالى يكفيها أمرَ الخروج، لكن يضطرُّها الأرجاس لذلك، باعتدائهم على دارِها وإحراقهم بابها، وضربها بالسياط والسيوف، وعصرها خلف الباب، ثم بِقَودِهِم بعلها للقتل!

(فلمّا رآها أبو بكر مقبلةً هاب ذلك، فقام قائماً وقال: ما أخرجك يا بنت رسول الله؟)

عجيبٌ أمرُ هؤلاء القوم، يرتكبون أفظعَ الجرائم ثم يتساءلون عن الجاني! ما هابَ اللَّعينُ قدومَ الزَّهراء إلا لعلمه بأنَّ في قدومها إفشالاً لخطَّتهم بقتل عليٍّ (عليه السلام)، ذاك حيثُ ارتفعت حيطان المسجد وكادت المدينة أن تميد بأهلها.

ما تركت الزّهراء كلامه دون جواب فقالت (عليها السلام):

(أخرجتني أنت وهذا ابن السوداء معك)!

الآمِرُ والمخطّط والمنفِّذُ كلُّهُم في شَرع الله مُجرِمُون مُعتَدون على بيت الرَّسول.. وكلٌّ منهم يحشدُ لصاحبه ويدافع عنه!

لقد قال الأول لها: (يا بنت رسول الله، لا تقولي هذا، فإنّه كان لأبيك حبيباً!

قالت: لو كان حبيباً ما أدخل الذلّ بيته)(98).

إنَّها أساليبُ أهل النِّفاق، يهجمون على بيت الرَّسول، ويعتَدون على بضعته وصهره وأحب الناس إليه ثم يزعمون محبَّته!

ابن السوداء الثاني هذا، هو نفسُه الذي اغتاظ لمّا أجابته الزَّهراء من خلف الباب! ألجأها إلى أن تخاطبه بدلاً من عليٍّ لتمنعهم من إحراق الدار بمن فيه، فامتلأ حِنقاً وغضباً من خارج الباب وقال لها:

مَا بَالُ ابْنِ عَمِّكِ قَدْ أَوْرَدَكِ لِلْجَوَابِ وَجَلَسَ مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ؟

فقالت له:

طُغْيَانُكَ يَا شَقِيُّ أَخْرَجَنِي وَألزَمَكَ الحُجَّةَ، وَكُلَّ ضَالٍّ غَوِيٍّ!(99).

طُغيانٌ وتَجَبُّرٌ وظُلمٌ وبغضٌ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولآله الأطهار، غَيَّرَ الموازين، فتبدَّلَ سرورُ الزَّهراء حُزناً.

حُزنُها على رحيل أبيها ما كان يُفارقُها، إذ كانت تبكيه ليلَها ونَهارَها، وحَقَّ لمثلِها (عليها السلام) أن تبكي مثلَه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنَّ الحزنَ والبكاء تضاعفَ، حين اضطَّرَها ابنُ السّوداء وصاحبُه إلى الخروج من الدّار دفاعاً عن بَعلِها وإمامها وأحبِّ الناس إليها وإلى أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم).

إنَّ للمؤمن الذي يوالي علياً (عليه السلام) حُرمَةً عظيمةً عند الله تعالى، حتى خَصَّ تعالى لمن آذى وَليَّ عليٍّ عذاباً عظيماً يوم القيامة، ذاك حيث:

يُسَلِّطُ الله عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ سَكَاكِينَ النَّارِ وَسُيُوفَهَا، يُبْعَجُ بِهَا بَطْنُهُ، وَيُحْشَى نَاراً، ثُمَّ يُعَادُ خَلْقاً جَدِيداً أَبَدَ الآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِين(100).‏

هذا جزاءُ من آذى وليَّ عليٍّ! فما حالُ من آذى أعظمَ وليٍّ لعليٍّ وهي الزَّهراء (عليها السلام)؟! وأذاها أذى الرَّسول وأذى الله جلَّ جلاله! وما عقابُ من آذى عليّاً (عليه السلام) نفسه؟! هل ستنقلب النارُ التي أوروها على باب فاطمة ناراً أخرى تُحشى بها بطونهم؟! أم أنَّ لهم ما هو أعظمُ من ذلك وأدهى؟!

هذا ما ينتظرُه المؤمنون، إنَّهم يرتقبون ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبينٍ﴾(101)، إنَّهم ينتظرون بطشَ الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى‏ إِنَّا مُنْتَقِمُون‏﴾(102).

والحمد لله رب العالمين(103).

 


(1) إرشاد القلوب ج‏2 ص329.

(2) إرشاد القلوب ج‏2 ص335.

(3) الكافي ج‏8 ص238.

(4) الكافي ج‏8 ص238.

(5) الكافي ج‏8 ص238.

(6) الغيبة للنعماني ص243.

(7) الغيبة للنعماني ص308.

(8) المسترشد ص381.

(9) إعلام الورى بأعلام الهدى ص129.

(10) كامل الزيارات ص53.

(11) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) ج‏3 ص340.

(12) المسترشد ص382.

(13) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) ج‏3 ص340.

(14) الكافي ج‏8 ص238.

(15) الإختصاص ص186.

(16) إرشاد القلوب إلى الصواب للديلمي ج‏2 ص336.

(17) معجم مقائيس اللغة ج‌5 ص430‌.

(18) بحار الأنوار ج30 ص294.

(19) الكافي ج‏1 ص440.

(20) الكافي ج‏1 ص441.

(21) الثلاثاء 30 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق 4 - 1 - 2022 م.

(22) الهداية الكبرى ص163.

(23) الأمالي للمفيد ص50.

(24) بحار الأنوار ج‏30 ص348.

(25) الطرائف ج‏1 ص239.

(26) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص585.

(27) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص585.

(28) الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء ج١٠ ص١٦١.

(29) إرشاد القلوب ج‏2 ص335.

(30) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص863.

(31) الهداية الكبرى ص407.

(32) بحار الأنوار ج‏30 ص293.

(33) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص586.

(34) الشافي ج4 ص546 وفي بعض النسخ ص173.

(35) الهداية الكبرى ص163.

(36) دلائل الإمامة ص455.

(37) دلائل الإمامة ص401.

(38) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص600.

(39) الإختصاص ص108.

(40) ليلة الأربعاء 22 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 25 – 1 – 2022 م.

(41) للتوضيح: قد يقال بأن الجواب غير تام لأن الله تعالى غير مكلف بالدفاع عن أحد، فنقول: الغرض من الجواب هو التمهيد لبيان أنَّ الإمام يمكن أن لا يتحرك بناء لأمر الله، كما أن الله تعالى لا يتدخل دائماً، وسيأتي تفصيل ذلك.

(42) آل عمران181.

(43) الأنفال59.

(44) إبراهيم42.

(45) آل عمران178-179.

(46) آل عمران179.

(47) الأنبياء23.

(48) كمال الدين ج2 ص508.

(49) الأمالي للصدوق ص514.

(50) إعلام الورى ص48.

(51) رجال الكشي ص30.

(52) إرشاد القلوب ج‏2 ص332.

(53) إرشاد القلوب ج‏2 ص336.

(54) إثبات الوصية ص146.

(55) نهج البلاغة الخطبة الخامسة.

(56) الأنعام91.

(57) الأربعاء 22 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 26 – 1 – 2022 م.

(58) الخصال ج2 ص389، والرَّباعية: هي السنّ الذي يقع بين الثنية والناب من كلِّ جانب، وقد ورد في جملةٍ من الروايات والمصادر الأخرى أيضاً أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كُسِرَت رُباعيَّته، كتفسير العياشي وشرح الأخبار وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) والأمالي للصدوق وغيرها، ولكن يُقابلُها ما ينفي أن تكون رباعيَّتُه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كسرت، منها حديث زرارة مع الإمام الباقر (عليه السلام): وَرُوِيَ لَنَا أَنَّهُ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فَقَالَ: لَا، قَبَضَهُ الله سَلِيماً، وَلَكِنَّهُ شُجَّ فِي وَجْهِه‏ (معاني الأخبار ص406)، وقَد يُجمَعُ بينهما بنفي الكسر الذي يعني التهشيم والهَضم والشَّدخ، وإثبات ما يؤدي إلى الكسر عادةً وإن لم يؤدي فعلاً، بأن يقال أنَّه ضُرِبَ ضربةً تؤدي إلى ذلك ولو لَم تُكسَر رباعيَّته (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلاً، أي أنَّه أطلِقَ الكَسر وأريدَ به مقدَّمته وهي الضَّرب، كما قد تشير إليه إحدى الروايات المتقدِّمة حيث عبَّرَت بـ (ضُرِبَتْ رَبَاعِيَتُهُ) في الغيبة للنعماني ص243.

(59) الأنفال60.

(60) البقرة195.

(61) اليقين ص325.

(62) الغارات ج‏1 ص205.

(63) الكافي ج‏8 ص32.

(64) نهج البلاغة الخطبة الثالثة (الشقشقية).

(65) الإحتجاج ج1 ص83.

(66) كنوز الدقائق ص104 من النسخة المخطوطة - مكتبة الملك سعود رقم7624.

(67) طرف من الأنباء والمناقب ص162.

(68) الإحتجاج ج‏1 ص197.

(69) كتاب سليم بن قيس ج2 ص591.

(70) كتاب سليم بن قيس ج2 ص664.

(71) كتاب سليم بن قيس ج2 ص568.

(72) كتاب سليم بن قيس ج2 ص768.

(73) كتاب سليم بن قيس ج2 ص770.

(74) شرح النهج ج‏20 ص299.

(75) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج‏2 ص187.

(76) الأمالي للمفيدص155.

(77) الكافي ج‏8 ص296.

(78) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص666.

(79) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص588.

(80) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص586.

(81) تفسير العياشي ج‏2 ص307.

(82) الإحتجاج ج‏1 ص95.

(83) معاني الأخبار ص361.

(84) الكافي ج‏8 ص32.

(85) الاحتجاج ج‏1 ص96.

(86) بحار الأنوار ج‏30 ص294.

(87) الخميس 23 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 27 – 1 – 2022 م.

(88) الشافي ج4 ص107.

(89) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص767.

(90) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص767.

(91) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص768.

(92) المائدة67.

(93) تلخيص الشافي ج3 ص76.

(94) الكافي ج2 ص217.

(95) السبت 25 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 29 – 1 – 2022 م.

(96) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص614.

(97) قرب الإسناد ص52.

(98) مثالب النواصب ج1 ص228-231 والرسائل الاعتقادية ص532.

(99) بحار الأنوار ج30 ص293.

(100) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص84.

(101) الدخان10.

(102) الدخان16.

(103) الأحد 26 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 30 – 1 – 2022 م.


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=257
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 12 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5