بسم الله الرحمن الرحيم
كَانَ يُغَطِّي وَجْهَهُ إِذَا نَاوَلَ فَقِيراً لِئَلَّا يَعْرِفَهُ!
عبارةٌ يكشفُ بها المعصومُ بعضَ أفعال أبيه الإمام السجّاد عليهما السلام، تجعلُ العاقِلَ خَجِلاً مِن نفسه! ماقتاً لها.. مُزدَرِيَاً إياها.. مُستقِلاً لِعَمَلِه، مُحتَقِرَاً له.. مُكبِرَاً لإمامِ الإنسانيَّة والرَّحمة والشَّفقة، عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام.
ففي يوم شهادة مثل هذا الإمام تُغفِلُ البشريَّةُ ذِكرَه، لجَهلِها بقَدرِه وفَضلِه، وما ضرَّهُ ذلك شيئاً.
هو الإمامُ العَطوف على اليتامى والفقراء والمساكين والمحتاجين، وعامّة المؤمنين.
كَم مِن بَيتٍ بالمدينة كان يأتيهم رزقُهم على يديه، ولا يعرفونه حتى مات فعرفوا ذلك! يشهدُ لذلك ظَهرُهُ ولَيلُه، ظَهرُهُ الذي كان يحمِلُ عليه الجِراب، وفيها صُرَرَ الدَّنانير والدّراهم، وطعاماً وحَطَباً، ويدورُ بنفسه على البيوت، يُنَاوِلُ أصحابَها ما قَسَمَ الله لهم ووجهه مُغطى! مُستعيناً بليلٍ داجٍ يُعينُهُ على السِّتر!
حتى أنَّه كان يُعطي بعضَ أبناء عمومته ليلاً، فلا يَعرِفُه ابنُ عمِّه فيقولُ له:
لَكِنَّ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ لَا يُوَاصِلُنِي! لَا جَزَاهُ الله عَنِّي خَيْراً!
فَيَسْمَعُ ذَلِكَ وَيَتَحَمَّلُهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَرِّفُهُ بِنَفْسِهِ! (كشف الغمة ج2 ص107).
كَم مِن طعامٍ امتنع عن تناوُلهِ حتى يُطعِمَ مثلَه؟ ذاك كلُّ طعامٍ طَعِمَه! فلقد كان: لَا يَأْكُلُ طَعَاماً حَتَّى يَبْدَأَ فَيَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ (الخصال ج2 ص518).
كَم مِن مَدينٍ قضى دينه حيَّاً مِن فَوره، أو تكفَّلَ بقضاء دينه ساعة موته فقضاه!
هكذا يكونُ إمامُ الإنسانيَّة، الذي يستشعر ضَعفَ أضعف خلق الله، فيكون أنموذجاً يُعظِّمُهُ كلُّ مَن عرفه، ويخجل مِن نفسه كلُّ مَن سَمِعَ بأمره، فأين مَن يقدرُ على فِعاله؟! بل أين مَن يقدرُ على التشبُّه ببعضها؟!
والأعجَبُ مِن هذا حالُه لمّا اشتكى لهُ بعضُ أصحابه فاقَتَه، وعَجزَهُ عن سداد بضع مئاتٍ من الدنانير قد استقرضَها وما أدّاها، وافتقارَهُ لما يعودُ به على عياله: فَبَكَى عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ (ع) بُكَاءً شَدِيداً!
ولمّا سئل عن ذلك قال: وَهَلْ يُعَدُّ الْبُكَاءُ إِلَّا لِلْمَصَائِبِ وَالْمِحَنِ الْكِبَارِ؟!.. فَأَيَّةُ مِحْنَةٍ وَمُصِيبَةٍ أَعْظَمُ عَلَى حُرٍّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْ يَرَى بِأَخِيهِ المُؤْمِنِ خَلَّةً فَلَا يُمْكِنُهُ سَدُّهَا؟! وَيُشَاهِدُهُ عَلَى فَاقَةٍ فَلَا يُطِيقُ رَفْعَهَا؟! (الأمالي للصدوق ص453).
أين لهذا الرَّجلِ العظيم مِن نظيرٍ؟! وهو يرى أنَّ عَجزَهُ عن إعانة عَبدٍ مؤمنٍ مُصيبةٌ ومِحنَةٌ كبيرةٌ تستدعي (بكاءً شديداً)؟!
فما يفعلُ المؤمنُ اليوم عند عجزه عن رفع فاقة أخيه؟ وهو يرى خلَّةً بعد أخرى يعجزُ عن سدِّها له؟!
ولئن بَكَت عيناه الشريفتان أخاً مؤمناً في الله بكاءً شديداً، فما حالُ إمام زماننا المنتظر اليوم؟ وحالُ المؤمنين كما ترى!
لقد كان يسعى السّجادُ عليه السلام جُهدَه في معونة المؤمنين، حتّى إذا أَذِنَ الله تعالى له في تَوَسُّلِ سُبُل الإعجاز كعيسى عليه السلام بادَرَ إلى ذلك:
وَقَدْ أُوتِيَ بِطِفْلٍ مَكْفُوفٍ، فَمَسَحَ عَيْنَيْهِ فَاسْتَوَى بَصَرُهُ، وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَبْكَمَ فَكَلَّمَهُ فَأَجَابَهُ، وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِمُقْعَدٍ فَمَسَحَ عَلَيْهِ فَسَعَى وَمَشَى (دلائل الإمامة ص200).
والمؤمنُ لا يعَجبُ مِن ذلك، فليس عيسى عليه السلام أكرمَ عند الله تعالى من زين العِباد عليه السلام، ولا هو بأعظم منه مكانةً ولا أعلى رُتبة.
ولقد حَدَّثَ أنَس بن مالكٍ أنَّه رآه يوماً ماشياً فقال له: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، لَوْ رَكِبْتَ.
فَقَالَ: هَاهُنَا مَا هُوَ أَيْسَرُ، فَانْظُرْ.
فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ، وَحَفَّتْ بِهِ الطَّيْرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمَا رَأَيْتُ مَرْأًى أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ، كَانَتِ الطَّيْرُ لَتُنَاغِيهِ، وَالرِّيحُ تُكَلِّمُهُ (دلائل الإمامة ص202).
لا يعجَب المؤمنُ مِن ذلك، ومَن تعجَّب.. فليسَل هُدهُد سُليمان ونملَتَه! وريحاً أمَرَها الله تعالى بالامتثال لأمره.. تُنبيه عن ريح السجّاد وطيوره!
وهو القائل عليه السلام: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (الاختصاص ص293).
هذا إمامُ الإنسِ والجان، والطير في الهواء، والحيتان في الماء، وما يُرى وما لا يُرى من خَلقِ رَبِّنا.
هذا إمامُ الرَّحمَة والشَّفَقة والإنسانية..
هذا الذي: لَمَّا دُفِنَ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ عَلَى قَبْرِهِ فُسْطَاطاً (الاختصاص ص193).
لماذا فَعَلَت ذلك؟ لأنَّها زوجَتُه؟ فكَم مِن زوجةٍ تتمنى موت زوجِها لظُلمه! وكَم مِن زوجَةٍ تَسُمُّ زوجَها وتقتُلُه لعدله واستقامته!
لكنَّها زوجةٌ رأت من السجّاد عطفاً وحُنوّاً لا نظير له.. وهو القائل: لَأَنْ أَدْخُلَ السُّوقَ وَمَعِي دَرَاهِمُ أَبْتَاعُ بِهِ لِعِيَالِي لَحماً وَقَدْ قَرِمُوا (اشتهوا) أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ نَسَمَةً (الكافي ج4 ص12).
فما كان يَدَعُ عيالَه يشتهون لحماً أو غيره إلا وأتاهم به عند قُدرَته، أيُطعِمُ الغَريب ويحرِمُ أهلَه؟! حاشاه..
نعم كان يُطعِمُ الطَّعام قدوراً ثم يأكل من طعام أضعفِ الناس، بل مِن طعامٍ لا يقدر أحدٌ عليه سواه!
ولَقَد كان من أعجَب أحواله: أنَّه دَعَا مَمْلُوكَهُ مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ أَجَابَهُ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، أَ مَا سَمِعْتَ صَوْتِي؟
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: فَمَا بَالُكَ لَمْ تُجِبْنِي؟
قَالَ: أَمِنْتُكَ!
قَالَ: الحَمْدُ لله الَّذِي جَعَلَ مَمْلُوكِي يَأْمَنِّي (الإرشاد ج2 ص147).
أيُّ معنى هو هذا؟! وأين يوجَد مِثله في غَير آل الرَّسول؟!
إمامٌ مَعصومٌ أوجب الله تعالى على كلِّ الخَلقِ طاعَتَه، وسيِّدٌ لمملوكٍ تجبُ عليه إجابَتُه، لا يصدُرُ منه شيء يخافُه المملوك! يأمنُ مِنه عَبدُهُ سواءٌ أَطَاعَهُ أم عصاه! ثمَّ يجعل عليه السلام أمنَ المملوك منه نِعمةً من الله تعالى تستحقُّ حَمداً!
فواخجلتاه..
إنَّ رَبَّ البيت مِنَّا لا تأمَن زوجتُه وأبناؤُه مِنه! وكبيرُ العشيرة والأُسرَة لا يأمنُ قومُه منه! والحاكمُ اليوم لا يأمن أحدٌ مِنه! سواءٌ كان مُحقّاً أو مُبطِلاً!
وهذا السجّادُ يأمَنهُ عَبدُه وهو مُتَخَلِّفٌ عن طاعته!
أليس هو الوارث لِمَن قال يوماً في نهجه الشريف:
وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي! (نهج البلاغة ص141).
مَن يقولُها صادقاً غيرك يا عليُّ.. وغير بَنيك؟!
مَن يقولُها غيرَكم يا آل الله؟! وقَد وقعَ عليكم مِن الظُّلم والقَهر والأذى ما يُفَتِّتُ القلوب، مِن رَعيَّتكُم! والخلقُ كلُّهم عيالُ الله المأمورون باتِّباعكم!
ولكن..
بأيِّ شيء بَلَغَ الإمامُ بما بَلَغ من الشفقة على عيال الله؟!
بمعرفته ربَّه تعالى، وامتثاله لأمره، فإنَّه لم يكن يتوجَّهُ لشيء كتوجُّهه إلى خالقه وبارئه وصاحب النِّعمة عليه، وهو القائل:
وَالله لَوْ تَقَطَّعَتْ أَعْضَائِي، وَسَالَتْ مُقْلَتَايَ عَلَى صَدْرِي، لَنْ أَقُومَ لله عَزَّ وَجَلَّ بِشُكْرِ عُشْرِ الْعَشِيرِ مِنْ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَمِيعِ نِعَمِهِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا الْعَادُّونَ!
ولمّا كان الله تعالى قد جَعَلَ للعبادِ على بعضٍ حقوقاً، كان أعظم النّاس امتثالاً لها أعظَمُهم معرفةً به وقُرباً منه، فقال عليه السلام:
وَلَوْ لَا أَنَّ لِأَهْلِي عَلَيَّ حَقّاً، وَلِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ خَاصِّهِمْ وَعَامِّهِمْ عَلَيَّ حُقُوقاً، لَا يَسَعُنِي إِلَّا الْقِيَامُ بِهَا حَسَبَ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ، حَتَّى أُؤَدِّيَهَا إِلَيْهِمْ، لَرَمَيْتُ بِطَرْفِي إِلَى السَّمَاءِ، وَبِقَلْبِي إِلَى الله، ثُمَّ لَمْ أَرُدَّهُمَا حَتَّى يَقْضِيَ الله عَلَى نَفْسِي، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ! وَبَكَى (ع)! (فتح الأبواب ص171).
أيُّ كلامٍ هذا؟! ومَن ذا الذي يُدركُ مراميه وأبعاده، وظاهرَه وباطنَه؟!
إمامٌ تظلُّ روحُهُ في بَدَنِه لا لشيء إلا لأنَّ الله تعالى قد أحبَّ بقاءه في الدُّنيا، فإذا بقي امتثلَ أمرَه تعالى في حقوق الناس جميعاً، مِن قريبٍ أو بَعيد، ولولا ذلك لم تستقرَّ روحُه في جسده طرفة عين!
أيطمَحُ الإمامُ بحياةٍ لا تساوي عند الله جناحَ بعوضةٍ؟! حاشاه.. لكنَّ الله تعالى اختارَ له هذه الدُّنيا فرضيَ باختيار الله، وامتثلَ أمرَه فيها، فجسَّدَ لنا صورة الكمال والفضيلة، والإنسانيَّة الحقّة.
تتغنى البشريَّة اليوم بما تُسمِّيه (حقوق الإنسان)! وفيه يُمزَجُ الحقُّ بالباطل، ويُقرَنُ بين الشيء ونقيضه، وتُغمِضُ الأمَّةُ عن أئمة الإنسانية قاطبةً!
ولكن..
ما حالُنا نَحنُ الذين عَرَفنا آل محمد عليهم السلام؟
أينَ حُنوُّ كبيرنا على صغيرنا؟!
أين رحمةُ قويِّنا لضعيفنا؟!
أين حِلمُ عالِمِنا عن جاهلنا؟!
أين مَعونةُ غَنيِّنا لفقيرنا؟!
أين رِفقُنا ورحمتنا؟
أين أُنسُنا ببعضنا؟!
أين حُسنُ ظنِّنا؟
أين غيرَتنا على ديننا؟!
نَعَم، لدينا دونَ سوانا بَعضُ ذلك..
وهو مِن أعظم نِعَمِ الله علينا، لكنَّ العاقل ينظرُ في أفعال الخَير إلى مَن هو فوقَه، فلا يرى لنفسه حظاً مِنه إلا يسيراً.
اللهم إنّا نسألك في يوم شهادة وليِّك السجّاد أن تُحَنِّنَ علينا قلبَ ولينا الأعظم، وتَرحَمَنا به، وتُفَرِّجَ عنا فَرَجاً عاجلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وعظم الله اجورنا واجوركم.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
الأربعاء 25 محرم 1444 هـ، الموافق 24 – 8 – 2022 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|