بسم الله الرحمن الرحيم
ما أكثَرَ البيوت في تاريخ البشر وأقدَمَها، لكنَّ الله تعالى مَيَّزَ بيتاً منها، بناهُ خليلُهُ إبراهيم عليه السلام في بَكَّة، فكان ﴿مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمينَ﴾، مِن ثمَّ صارَ فيه للخليل عليه السلام مقامٌ عظيمٌ.
وقد أمرَ الله تعالى المستطيع من النّاس بالحجِّ إلى بيته هذا، وجَعَلَ الإعراض عن ذلك بمثابة الكفر فقال تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمينَ﴾.
لقد كان الحجُّ واحداً من أمورٍ خمسةٍ بُني عليها الإسلام، أحدُها الولاية لِمَن وُلِدَ في البيت العتيق، ورغم عظمة الحجّ، فإنَّهُ: لَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْولَايَة (الكافي ج2 ص18).
وهكذا صارَت الولايةُ للإمام المعصومِ أُسَّ الإسلام، وشرطاً في قبول الحجّ وسائر الأعمال.
وكان لآيات الحجِّ باطنٌ يُفسَّرُ بالإمام، فكأنَّ الحجَّ صار في الظاهر إلى البيت، وفي الباطن إلى إمامِ البيت المولود فيه، وذُرَيَّته المطهَّرين عليهم السلام. ولم يكن جحودُ الحجِّ أهونَ مِن جحود الولاية.
وبذلك تَجَلَّت جملةٌ من المراتب السامية لهم عليهم السلام في الحجِّ منها:
1. الأمانٌ في الدُّنيا والآخرة
قال الله تعالى عن بيته المُبَارَك: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً﴾، لكنَّه قَرَنَ الأمنَ المُطلقَ في الدُّنيا والآخرة بموالاة أوليائه، فقد روى المحمَّدون الثلاثة (الكليني والصدوق والطوسي) رحمهم الله في الكافي والفقيه والتهذيب عن الإمام الصادق عليه السلام قوله لمّا سئل عن الآية:
مَنْ أَمَّ هَذَا الْبَيْتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ الْبَيْتُ الَّذِي أَمَرَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَعَرَفَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ حَقَّ مَعْرِفَتِنَا، كَانَ آمِناً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (الكافي ج4 ص545).
ليسَ دخولُ البيتِ مُختصّاً بأهل الإيمان، لكنَّ معرفة حقِّهم عليهم السلام أمرٌ مختصٌّ بشيعتهم وأوليائهم، فَكَفَاهُمُ الله (هَمَّ الدُّنيا والآخرة)، رغم كلِّ ما يقعُ عليهم مِن ظُلاماتٍ.
فالمؤمنُ وإن ابتُليَ وظُلِمَ يظلُّ غيرَ مهمومٍ للدُّنيا وهو فيها، ولا للآخرة عند بلوغها، ففي الدُّنيا يكفيه الله ما أهمَّهُ، وفي الآخرة تَقَرُّ عينُه بلُقيا إمامه وجواره، ورضوان من ربّه.
وهكذا يظلُّ الحاجُّ لبيت الله الحرام في أيامنا، ممَّن عرف حقَّهم عليهم السلام، منتظراً ظهور الإمام المذخورُ مِنهم عليهم السلام، فيدخُل المؤمنُ حينها في أمنٍ وأمانٍ من طَرزٍ آخر يرعاه الحجُّة منهم، فعن الصادق عليه السلام في القائم عجل الله فرجه:
أَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً﴾ فَمَنْ بَايَعَهُ وَدَخَلَ مَعَهُ، وَمَسَحَ عَلَى يَدِهِ، وَدَخَلَ فِي عَقْدِ أَصْحَابِهِ كَانَ آمِناً (علل الشرائع ج1 ص91).
هذا حالُ المؤمنين بآل محمد عليهم السلام، أمّا أعداؤهم فهم مصداق الذين يلحدون في البيت بظلمِ العترة الطاهرة، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَليمٍ﴾ (الحج 25)، وقال الصادق عليه السلام:
نَزَلَتْ فِيهِمْ حَيْثُ دَخَلُوا الْكَعْبَةَ فَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ بِمَا نُزِّلَ فِي أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (ع)، فَأَلْحَدُوا فِي الْبَيْتِ بِظُلْمِهِمُ الرَّسُولَ وَوَلِيَّهُ، فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (الكافي ج1 ص421).
وهكذا صارَ البيتُ ميزاناً لأولياء آل محمدٍ وأعدائهم، فأولياؤهم يأتونَه عارفين بحقِّهم فينالون ثواب الحجيج الداخلين بيتَه، وأعداؤهم يدخلونَ البيتَ فيخرجونَ مِنهُ أعداءً لله مُبعَدين عن رحمته تعالى لجحودهم وظلمهم.
وبهذا يظهر أنَّ ثمرة الحجِّ إنما تتمُّ بموالاة الإمام، فكأنَّ الحجَّ كان إليه، ألم يأمر الله تعالى خليله إبراهيم بتطهير البيت لآل محمدٍ عليهم السلام؟!
قال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفينَ وَالْقائِمينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (الحج 26).
وفسَّرَها الإمامُ الكاظم عليه السلام بقوله: يَعْنِي بِهِمْ آلُ مُحَمَّدٍ (ص) (تأويل الآيات الظاهرة ص331).
لَقَد خصَّ الله تعالى بِبَيتِهِ فئةً من النَّاس تتَّصِفُ بكلِّ صفات الكمال، وطهَّرَهُ لأجلهم، فصارَ وَليدُهم في الكعبة إماماً في الدُّنيا والآخرة!
فلأيِّ شيءٍ طَهَّرَ الله تعالى بيتَه؟ لأجل طوافهم وقيامهم وركوعهم وسجودهم فقط؟ أم لكي يستقبل فيه أيضاً مولوداً لا يكتملُ طوافُ البيت والحجُّ إليه إلا بولايته؟!
هل يؤجَرُ العبدُ على الحجِّ الذي لا يقترنُ بموالاة الإمام؟! أم يظلُّ قبولُهُ معلَّقاً حتى يتوجَّهَ إلى مَن أمرَ بالتوجُّه إليه فصار من معاني الحجّ الباطنة؟
لقد اختبر الله تعالى الناس: بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ.. لكي يمتازَ الصادقون المنقادونَ لأمره تعالى عمَّن سواهم، وليس مِن هؤلاء مَن جَحَدَ إمامة الأطهار، فإنَّه رأس الكذب والشقاق.
2. الحجُّ.. ولقاء الإمام
إنَّ الطوافَ بالبيت ليس أمراً مُختصاً بالمؤمنين، ولا الإيفاء بالنذور، فلماذا أمرَهم الله تعالى بذلك؟ فقال: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتيقِ﴾ (الحج29).
لقد أرادَ الله تعالى مِن عبادِه أن يأتمروا بأمر وليِّه، فألزَمَهَم بالرجوع إليه والأخذ عنه بعد الطَّواف ببيت الله، فقَرَنَ الله تعالى بين الحجِّ وهو مَنسَكٌ عامٌ وشعيرةٌ يجتمعُ فيها الحجيجُ مِن كلِّ مكان، وبين نُصرَةِ الإمام الذي افترَضَ طاعته، فأمَرَهم بالامتثال لأمره.
ولقد نظَرَ الإمام الباقر عليه السلام إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال:
هَكَذَا كَانُوا يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهَا ثُمَّ يَنْفِرُوا إِلَيْنَا فَيُعْلِمُونَا وَلَايَتَهُمْ وَمَوَدَّتَهُمْ، وَيَعْرِضُوا عَلَيْنَا نُصْرَتَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ (الكافي ج1 ص392).
لقد استجابَ الله تعالى دعاء إبراهيم عليه السلام، وجعلَ أفئدةً مِنَ الناس تهوي إليهم عليهم السلام، وتعرضُ عليهم النُّصرة، فلو أنَّ الإمام استُضعفَ في وقتٍ من الأوقات ولَم تكُن أمة المسلمين بأطرافها المتقاربة والمتباعدة شريكةً في الحَدَث، أو كانت غافلةً عن معرفة ما جرى عليه ونُصرَته، فإنَّ الله تعالى قد أوجب عليها عند اجتماع حجيجها أن يهبُّوا لعَرض النُّصرة على الإمام بمبادرةٍ منهم، وهذا حقٌّ للإمام على الأمّة، فإن وجدَ كلمتهم مجتمعةً على نُصرَته، ورأى الصلاح في استنصارهم استثمر ذلك بأمر الله.
وهكذا كانت ثمرةُ النَّذر أيضاً، فعنهم عليهم السلام: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ فَيَمُرُّوا بِنَا فَيُخْبِرُونَا بِوَلَايَتِهِمْ، وَيَعْرِضُوا عَلَيْنَا نُصْرَتَهُمْ (الكافي ج1 ص392).
وفي حديثٍ آخر: ﴿لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ قَالَ: هُوَ لِقَاءُ الْإِمَامِ (ع) (تأويل الآيات الظاهرة ص331).
وهكذا صارَ المؤمنُ يعرضُ النُّصرةَ على إمامه في حضوره شخصه، ويخاطبُهُ بقلبه عند غيابه، مُبدياً له الاستعداد صِدقاً وحقّاً لنُصرته.
لكنَّ الأمَّة منذ أوَّل أيامها أعرضَت عن إمامها، حتى آل الأمر بها أن سَعَت لقَتلِ حُسينِها! في البيت الحرام نفسه!
فخَرَجَ الإمام من بيت الله وحَفِظَ حُرمَتَه، فنظَرَ الله تعالى إلى زوّار قبره قبل أن ينظر إلى حجاج البيت الحرام! وأهل الموقف في عرفات! ففي هؤلاء مَن تَوَلَّدَ من نُطفةٍ طاهرةٍ وأخرى نجسة، أما زوّار الحسين عليه السلام فقد خلقوا من فاضل الطينة الطاهرة.
وقد قال الإمام الصادق عليه السلام لبعض أصحابه:
لَوْ لَا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَدَعَ النَّاسُ الحَجَّ لَحَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ لَا تَدَعُ زِيَارَةَ قَبْرِ الحُسَيْنِ (ع) أَبَداً (مصباح المتهجد ج2 ص716).
وهكذا صارَ وفاءُ نَذرِ الحجيج بلقائهم إمامَهم، وإبراز نُصرَتهم له إن قدروا، وإلا فالعَزم على ذلك، وهو حالُ الشيعة كلَّ يوم.
وصارَ الحجُّ حَجّاً إلى الإمام بعد الحج إلى بيت الله، ومَن لَم يُوَفَّق لذلك سعى لزيارة الحسين عليه السلام، لينال نظرةً مِنَ الله تعالى قبل الحجيج في عرفات.
3. حُرمة البيت.. والإمام
لقد أوجَبَ الله تعالى تعظيم حُرُمَاته، وقال بعد بيان أحكام الحج: ﴿ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ (الحج30)، وصارَ انتهاكُ هذه الحُرُمات أو قطعها بمثابة الشِّرك بالله تعالى، وكانت الحُرُمات ثلاث، وكان من مصاديق انتهاكها ما بيَّنهُ الإمامُ الباقر عليه السلام:
1. انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الله فِي بَيْتِهِ الحَرَامِ: ومِن ذلك ما فعله قومٌ دخلوا الكعبة وهتكوا حرمتها بجحودِ حقِّ الإمام المولود فيها! ثمَّ بلغَ الحال بآخرين أن أرادوا قتلَ الإمام فيها! وغيرِهم هدموا حجارَتَها! ولا يزال بعضُهم ينتهكُ حرمَتَها بالتسلُّط عليها بغير حقٍّ، ومنع المؤمنين من إقامة شعائرهم كما أمرهم الله تعالى فيها وفي غيرها!
2. تَعْطِيلُ الْكِتَابِ وَالْعَمَلُ بِغَيْرِهِ: فالكتابُ يُتلى على منابر المسلمين آناء الليل وأطراف النهار، لكن حدوده مُضيَّعةٌ، والعملُ به صارَ تَرَفاً عند المنتهكين لحرمته!
3. وَالثَّالِثَةُ: قَطِيعَةُ مَا أَوْجَبَ الله مِنْ فَرْضِ مَوَدَّتِنَا وَطَاعَتِنَا (تأويل الآيات الظاهرة ص332).
وبهذه القطيعة خَرَجَت الأمة عن ولاية الله ودخلت في ولاية الشيطان، فنُقِضَ عهدُ الله تعالى، وَعَمَّ الفسادُ الأرض ولا يزال! فجَنَت الأمّةُ ثمارَ جحودها للإمام.
لقد أدركَ المؤمنون أنَّ الحجَّ بابٌ من أبواب الله لإرشاد العباد إلى الإمام إن جهلوه، وإلزامهم باتِّباعه ونُصرته إن غفلوا عن ذلك، لكنَّ الأمَّة ابتُليَت بقومٍ صَدُّوها عن دينِ الله في بيت الله وغيره فاتَّبَعَتهم!
لقد نظر الباقر عليه السلام بعدما استقبل القبلة يوماً إلى حلقاتٍ في المسجد الحرام، فيها أبو حنيفة وسفيان الثوري، ثم قال عليه السلام:
هَؤُلَاءِ الصَّادُّونَ عَنْ دِينِ الله بِلَا هُدًى مِنَ الله وَلَا كِتَابٍ مُبِينٍ!
إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَخَابِثَ لَوْ جَلَسُوا فِي بُيُوتِهِمْ فَجَالَ النَّاسُ فَلَمْ يَجِدُوا أَحَداً يُخْبِرُهُمْ عَنِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ (ص) حَتَّى يَأْتُونَا فَنُخْبِرَهُمْ عَنِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ (ص) (الكافي ج1 ص393).
لقد سعى هؤلاء الخُبثاء إلى منع الناس من التوجُّه إلى الإمام ولقائه، فاستجابوا لهم.
ولقد كان وفاء النذر هو (لِقَاءُ الْإِمَامِ)، وهؤلاء يصدُّون الناس عنه عليه السلام، حاضراً كان أو غائباً.
فعند حضوره يمنعون الناس من الرجوع إليه والتعلُّم منه، وعند غيابِه يمنعون أتباعه مِن ذكره في البيت الذي طَهَّرَهُ الله لأجله! ووُلد جدُّهُ فيه! وأمرَ الله تعالى الناس بالطواف إليه! ومبايعته عليه السلام فيه!
يستوي في الصدِّ عن دين الله كلُّ مَن نَسَبَ الإمامة لغير أهلها، وزعمَ أنَّها صارَت أو تصيرُ في غير الإثني عشر المعصومين.
لقد استحقَّ هؤلاء أن يحملوا أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم، وانفردَ المؤمنون بِنَيلِ ثواب حج البيت، لأنَّهم أدوا ما ظهر من المناسك وما بطَن، وأطاعوا الله في أحبِّ الأشياء إليه، وامتثلوا أمره على النحو الذي شَرَطَهُ تعالى عليهم.
جعلنا الله منهم، وعجَّلَ لنا في فَرَج ولينا، وجَعَلَنا ممن يحجُّ إليه غائباً، ويَعرُضُ عليه النُّصرة في بيت الله حاضراً فيقبلها، ورزقنا الشهادة بين يديه، أو التمكين في دولته، إنه سميعٌ مجيب.
والحمد لله رب العالمين
الجمعة 8 ذو الحجة 1443 هـ، الموافق 8 – 7 – 2022 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|