كتابُ نهجِ البلاغة واحدٌ من أروع الكتب التي خلّدها التاريخ كما خلّد صاحب كلماته أمير البيان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ولعلّنا لا نعثر على كتابٍ يدانيه في الجلالة بعد كتاب الله عزّ وجل.
في مطلع هذا الكتاب الشريف خطبة جليلة القدر لأمير المؤمنين (عليه السلام) يذكرُ فيها عبارةً لطالما سمعها الصغير والكبير حول صفات الله تعالى وهي أنّ كمال الإخلاص لله تعالى نفي الصفات عنه!
وهنا يحارُ القارئ في عليٍّ المعصومِ المنزَّهِ عن العيوب والأرجاس، كيف ينفي صفات الله تعالى ويجعل هذا النفي كمال الإخلاص له عزّ وجل؟!
يقول (عليه السلام): أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الموْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ الله سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّه(1)..
نعم هيَ كلماتٌ من نورٍ.. يتّضح الوجه فيها بمعرفة أمرٍ غاية في الأهمية، وهو أن صفات الله تعالى على قسمين: صفات الذات، وصفات الفعل.
صفات الذات الثبوتية: كالعلم والقدرة والحياة ونحوها، وهي عين ذاته تعالى.
وصفات الفعل: كالخلق والرزق والإحياء والإماتة.. وهي حادثة انتزعت باعتبار المخلوق والمرزوق، وليست هذه الصفات قديمة وإلا لزم قدم العالم، فقد كان الله ولم يخلق ولم يرزق، ثم خلق ورزق.
والضابط في الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل أن صفات الذات هي ما اتصف الله تعالى بها وامتنع اتصافه بضدها: كالعلم والقدرة والحياة ونحوها، فلا يجوز أن يقال إن الله عالم بكذا غير عالمٍ بكذا.. وصفات الفعل ما يتصف تعالى بها وبضدها، فيقال إنه خلق زيداً ولم يخلق له ابناً وأفقر فلاناً وأغنى الآخر(2).
وإذا عدنا لصفات الذات: فإن كونها عين ذاته يعني أنها ليست مغايرة لذاته كصفاتنا، فإن علمنا زائد عن ذواتنا حيث كنا جاهلين فعلمنا، وقدرتنا زائدة عن ذاتنا حيث لم نكن قادرين فقدرنا، وهكذا سائر الصفات تكون عارضة على ذواتنا..
أما ربنا عز وجل فهو منزّه عن أن تكون له صفة كصفاتنا زائدة عن ذاته، إذ لو لم تكن صفاته هذه عين ذاته: لَشَهِدَ كلّ موصوفٍ أنه غير الصفة كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيلزم من ذلك سلسلة اللوازم التي منها تثنيته تعالى والقول بتجزئته إلى أن يصل إلى عدّه وهو خلاف الوحدانية، فيلزم من القول بأن له صفاتٍ طارئة على ذاته إبطال التوحيد الذي هو كمال التصديق بالله تعالى.
لذا كان: كَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الموْصُوفِ.
أما مع كون الصفة عين الموصوف وذاته، فلا يلزم شيء من تلك اللوازم الفاسدة، ولا بدّ من إثبات هذه الصفات على أنها ذاته وليست صفة عارضة عليه.
وهو ما روي عن أبي عَبْدِ الله (عليه السلام) أنه قال: لَمْ يَزَلِ الله عَزَّ وَجَلَّ رَبَّنَا وَالْعِلْمُ ذَاتُهُ وَلَا مَعْلُومَ، وَالسَّمْعُ ذَاتُهُ وَلَا مَسْمُوعَ، وَالْبَصَرُ ذَاتُهُ وَلَا مُبْصَرَ، وَالْقُدْرَةُ ذَاتُهُ وَلَا مَقْدُورَ، فَلَمَّا أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ وَكَانَ المعْلُومُ وَقَعَ الْعِلْمُ مِنْهُ عَلَى المعْلُومِ، وَالسَّمْعُ عَلَى المسْمُوعِ، وَالْبَصَرُ عَلَى المبْصَرِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى المقْدُورِ(3)..
ولمّا كانت صفاته عين ذاته، وذاته غير قابلة للإحاطة، كانت صفاته كذاته، وكلّ نهي عن التفكر في الذات ينسحب إلى التفكّر في الصفات التي هي عين الذات.
وإنّما نصفه بما وصف به نفسه، وهو وصفٌ أباحه لنا بما تطيقه عقولنا، وقد أشار إلى ذلك إمامنا الصادق (عليه السلام) حينما قال للزنديق أن ما قاله إنما كان لمقام السؤال والجواب والإفهام والتفهيم بعيداً عن الإحاطة والإدراك.. فعنه (عليه السلام) أنه قال للزنديق حين سأله: ما هو؟
قَالَ: هُوَ شَيْءٌ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ.
ارْجِعْ بِقَوْلِي إِلَى إِثْبَاتِ مَعْنًى وَأَنَّهُ شَيْءٌ بِحَقِيقَةِ الشَّيْئِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا جِسْمٌ وَلَا صُورَةٌ وَلَا يُحَسُّ وَلَا يُجَسُّ وَلَا يُدْرَكُ بِالحوَاسِّ الْخَمْسِ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَوْهَامُ وَلَا تَنْقُصُهُ الدُّهُورُ وَلَا تُغَيِّرُهُ الْأَزْمَانُ.
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَتَقُولُ إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؟
قَالَ: هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، سَمِيعٌ بِغَيْرِ جَارِحَةٍ، وَبَصِيرٌ بِغَيْرِ آلَةٍ، بَلْ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ وَيُبْصِرُ بِنَفْسِهِ.
لَيْسَ قَوْلِي إِنَّهُ سَمِيعٌ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ وَبَصِيرٌ يُبْصِرُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْءٌ وَالنَّفْسُ شَيْءٌ آخَرُ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِي إِذْ كُنْتُ مَسْئُولًا وَإِفْهَاماً لَكَ إِذْ كُنْتَ سَائِلًا، فَأَقُولُ: إِنَّهُ سَمِيعٌ بِكُلِّهِ لَا أَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ لَهُ بَعْضٌ.
وَلَكِنِّي أَرَدْتُ إِفْهَامَكَ وَالتَّعْبِيرُ عَنْ نَفْسِي، وَلَيْسَ مَرْجِعِي فِي ذَلِكَ إِلَّا إِلَى أَنَّهُ السَّمِيع الْبَصِيرُ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ بِلَا اخْتِلَافِ الذَّاتِ وَلَا اخْتِلَافِ المعْنَى(4)..
فهو السميع البصير العليم الخبير الذي لا بآلة يسمع ويبصر ويعلم.
وكلّ ما نطلقه عليه تعالى إنما هو لتقريب معرفة توحيده إلى عقولنا القاصرة وأوهامنا المنكسرة أمام عظمته عز وجل، فإنه أعز وأجل من أن تدركه العقول والأوهام، تبارك ربّنا عز وجل.
ثمّ إنّ وصفه تعالى بغير ما وصف به نفسه تجاوُزٌ لحقّه عز وجل، كما نصّ عليه إمامنا الصادق (عليه السلام)، حينما سأله أحدهم: إِنْ رَأَيْتَ جَعَلَنِيَ الله فِدَاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ بِالمذْهَبِ الصَّحِيحِ مِنَ التَّوْحِيدِ.
وكان مما ورد في جواب الإمام (عليه السلام):
اعْلَمْ رَحِمَكَ الله أَنَّ المذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي التَّوْحِيدِ مَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ صِفَاتِ الله جَلَّ وَعَزَّ، فَانْفِ عَنِ الله تَعَالَى الْبُطْلَانَ وَالتَّشْبِيهَ، فَلَا نَفْيَ وَلَا تَشْبِيهَ، هُوَ الله الثَّابِتُ الموْجُودُ، تَعَالَى الله عَمَّا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَلَا تَعْدُوا الْقُرْآنَ فَتَضِلُّوا بَعْدَ الْبَيَانِ(5).
وأما أسماؤه عزّ وجل فهي حروفٌ حادثةٌ مخلوقةٌ تدل على ذاته وهي غيره لحدوثها، فلا تكون عين الذات.
وعن إمامنا الصادق (عليه السلام): الِاسْمُ غَيْرُ المسَمَّى، فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ المعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً، وَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ وَالمعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ، وَمَنْ عَبَدَ المعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيد.. وَلَكِنَّ الله مَعْنًى يُدَلُّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَكُلُّهَا غَيْرُه(6).
وعنه (عليه السلام) قال: اسْمُ الله غَيْرُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَا خَلَا الله(7).
وخلاصة الأمر، أنّ حال الصفات كحال الذات، ممتنعٌ إدراك كنهها لأنّها عين الذات، ولذا تقدّم في كثيرٍ من الأحاديث ما يدلّ على هذا المعنى، كقوله (عليه السلام): لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَى صِفَتِهِ، وقوله (عليه السلام): انَّ الله أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْلَغَ كُنْهُ صِفَتِهِ، وقوله (عليه السلام): لَا تَقَعُ الْأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ.
فتبارك الله سبحانه وتعالى ما أعظمه.