• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : السيدة الزهراء عليها السلام .
                    • الموضوع : 154. فاطمة.. وديعةُ الله ! .

154. فاطمة.. وديعةُ الله !

بسم الله الرحمن الرحيم

جَمَعَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهلَ بيته قُبيل شهادته ليُكَلِّمَهم، ولكن: غَلَبَتْهُ عَبْرَتُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الكَلَام‏!

حينها بكت فاطمة بكاءً شديداً.. وقالت له:

 يَا رَسُولَ الله، قَدْ قَطَعْتَ قَلْبِي! وَأَحْرَقْتَ كَبِدِي لِبُكَائِكَ يَا سَيِّدَ النَّبِيِّين!

سلامُ الله على قلبك يا زهراء.. يتقطع اليوم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل وفاته، ويَحتَرِقُ كبدُكِ عليه..

أما غداً.. فيُجرَحُ كَبِدُه في ظُلمِك! (وَجَرَحُوا كَبِدَ خَيْرِ الوَرَى، فِي ظُلْمِ ابْنَتِهِ).

استجمع النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قواه، ووضع يدها (عليها السلام) في يد عَليٍّ (عليه السلام)، وقال له كلمةً عجيبة: ‏يَا أَبَا الحَسَنِ، هَذِهِ وَدِيعَةُ الله، وَوَدِيعَةُ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ عِنْدَكَ، فَاحْفَظِ الله، وَاحْفَظْنِي فِيهَا، وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ(1).

فماذا تعني هذه الكلمة؟!

لقد صارت (فاطمة) عليها السلام بنفسها وديعةً مشتركةً:

أولاً: من الله تعالى لعليٍّ (عليه السلام).

ثانياً: من النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام).

وتُعرَفُ عَظَمَةُ الوديعة مِن عَظَمَة المُودِع، فالعَظيمُ يستودِعُ أمراً عظيماً بلا شكّ، وهو هنا الإله العظيم الغَنيُّ الجبَّار القادر، ثم معه خَيرُ خلقِه وأفضلُ بريَّته (صلى الله عليه وآله وسلم)، فماذا تكون هذه الوديعةُ العظيمة حتى يستودعاها معاً خيرَ الأوصياء والأولياء؟!

ثم إنَّ في الحديث إشارة مهمَّة، فالوَدِيعة هي: ما تَسْتَوْدِعُهُ غيرك ليحفظه(2).

أي أنَّ (الحِفظ) مأخوذٌ في معنى الوديعة، فمن استُودِعَ شيئاً وَجَبَ عليه أن يحفظه ويصونه ولا يقصِّر في شؤونه، ويرعاه ويحتاط في أمره.. ورغم ذلك أكَّدَ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجوب حفظها (عليها السلام)، مع استبطان الحِفظ في معنى الوديعة، وذلك لأهميَّة حفظها (عليها السلام) عنده، فقال لعليٍّ (عليه السلام):

فَاحْفَظِ الله، وَاحْفَظْنِي فِيهَا: فصارَ حِفظُ فاطمة حِفظاً لله تعالى، وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنَّها (عليها السلام) وديعتهما.

ثمَّ قال له عليه السلام: وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ.

وليس يُنتَظَرُ من أمير المؤمنين (عليه السلام) شيءٌ سوى حفظ الوديعة..

ولكن.. كيف حُفِظَت الوديعةُ وقَد جرى عليها ما جرى؟! ومَن ذا الذي ضَيَّعَ وديعة الله ورسوله ما دام عليٌّ لها حافظاً؟!

أولاً: آل محمد وديعة الله عند العباد

لقد أودَعَ الله تعالى ورسولُه فاطمة (عليها السلام) عند عليٍّ (عليه السلام)، وكانت هذه وديعة خاصة، من بَعدِ الوديعةِ العامة، فإنَّ آل محمد (عليهم السلام) جميعاً هُم وديعةُ الله تعالى ورسوله عند الأمّة، بل عند عباد الله جميعاً.

وكلَّ عبادِ الله مأمورون بحفظ وديعة الله تعالى، ورِعايتها، وصيانتها، والقيام بشؤونها، واجتناب التفريط فيها.

وقد روي عن الباقر (عليه السلام) في (شجرة النبوة وبيت الرحمة): نَحْنُ وَدِيعَةُ الله فِي عِبَادِهِ(3).

وقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحسن والحسين ‘: هُمَا وَدِيعَتِي فِي أُمَّتِي(4).

فصار آلُ محمدٍ وديعة الله ورسوله عند العباد، والزَّهراء (عليها السلام) منهم، فوجبَ على الأمّة كلها بل على العباد جميعاً أن يحفظوا هذه الوديعة، وإن كان عليٌّ (عليه السلام) أولى بحفظها.

ثانياً: آل محمد وصيَّة الرِّسول

لم يكتفِ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن استودعَ أهل بيته عبادَ الله، فأوصى بهم بعد (الوديعة)، فاجتمعت (الوديعة) و(الوصية) بهم.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أُوصِيكُمْ بِكِتَابِ الله وَأَهْلِ بَيْتِي‏.. عَلِيٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ وَفَاطِمَةُ (عليهم السلام) (5).

لَم يُشهد النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيَّته هذه ﴿ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُم﴾(6)، بل أشهدَ كلَّ مَن سمعَ مقاله ووعى كلامه ورآه وأخذ عنه، وكرَّرَ الوصيَّة بحفظ أهل بيته مراراً في كلِّ حين وظَرف.. وأمر الشاهد أن يُبلغ الغائب.

لكنَّ الأمَّةَ لَم تحفظ وصيَّةَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم، ولا في فاطمة، حتى قال عليٌّ (عليه السلام) بعد شهادتها:

إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لَمْ تَزَلْ مَظْلُومَةً، مِنْ حَقِّهَا مَمْنُوعَةً، وَعَنْ مِيرَاثِهَا مَدْفُوعَةً، لَمْ تُحْفَظْ فِيهَا وَصِيَّةُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَلَا رُعِيَ فِيهَا حَقُّهُ، وَلَا حَقُّ الله (عَزَّ وَجَلَّ)، وَكَفَى بِالله حَاكِماً، وَمِنَ الظَّالِمِينَ مُنْتَقِماً(7).

ثالثاً: الأمة الخائنة

لقد انقسَمَت الأمَّةُ بعدَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فرقتين:

الفرقة الأولى: فرقة الحقّ

وإمامُها عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الحافظ لوديعة الله فاطمة (عليها السلام) بنصِّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ.

ثم أفرادُها المؤمنون المحبّون لآل محمد (عليهم السلام)، الذين قال عنهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فَاسْتَوْدَعَ الله عَزَّ وَجَلَّ حُبِّي وَحُبَّ أَهْلِ بَيْتِي وَشِيعَتِهِمْ فِي قُلُوبِ مُؤْمِنِي أُمَّتِي، فَمُؤْمِنُو أُمَّتِي يَحْفَظُونَ وَدِيعَتِي فِي أَهْلِ بَيْتِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(8).

كشفَ هذا الحديثُ عن أنَّ حبَّ آل الرسول وديعةٌ باقيةٌ حتى بعدَ وفاتهم، فإنَّ العبادَ ينقسمون اليوم أيضاً إلى فرقةٍ تُحبُّهم قولاً وفعلاً فتحفظ الوديعة، وأخرى تُخالفهم قولاً أو فعلاً فتُضَيِّع الوديعة.

وبعدما بذلَ عليٌّ الأمينُ ومَن معَه غاية الوسع، لم يكن مؤاخَذاً بما فعلته الفرقة الثانية، وقد ورد في الحديث عن الأمين: لَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمٌ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَمِيناً(9).

الفرقة الثانية: الفرقة الخائنة

هي التي اشتركَت في ظُلمِ الزَّهراء، وغَصبِ حقِّها، ودَفعِها عن إرثها، وضربِها وقَهرِها حتى ماتت مقتولةً مظلومة شهيدة!

ولقد أشار الشيخ عماد الدين الطبري رحمه الله إلى معنىً عجيب قارَنَ فيه بين بني إسرائيل وبين هذه الأمة المنحوسة.. فقال:

ولقد اختصَمَ اليهودُ أيُّهم يكفل ابنة عِمران إمامهم، واختصمَت أمّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على قتل ابنة امامهم، فكانوا هناك ﴿يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾(10)، وكانوا هنا يلقون: (أيُّهم يقتل فاطمة وعلياً والحسن والحسين عليهم السلام)! (11).

هناكَ أمَّةٌ قَتَلَت الأنبياء، رغم ذلك كان أبناؤها يتسابقون على رعاية وكفالة مريم (عليها السلام)، وهنا أمَّةٌ تتسابقُ على قَتلِ ابنة نبيِّها، وديعته ووديعة ربِّه عندها!

وقَد اشتركوا في قَتلِها فِعلاً، بين آمرٍ ومُهاجِمٍ وشاهدٍ وساكِتٍ راضٍ، حتى خَرَجت من الدُّنيا ساخطَةً على هذه الأمَّة الخائنة.

قال الإمام الهادي (عليه السلام): اللهمَّ وَصَلِّ عَلَى الطَّاهِرَةِ البَتُولِ، الزَّهْرَاءِ ابْنَةِ الرَّسُولِ.. القَادِمَةِ عَلَيْكَ مُتَأَلِّمَةً مِنْ مُصَابِهَا بِأَبِيهَا، مُتَظَلِّمَةً مِمَّا حَلَّ بِهَا مِنْ غَاصِبِيهَا، سَاخِطَةً عَلَى أُمَّةٍ لَمْ تَرْعَ حَقَّكَ فِي نُصْرَتِهَا، بِدَلِيلِ دَفْنِهَا لَيْلًا فِي حُفْرَتِهَا(12).

فما حالُ أمَّة الخذلان هذه بعد أن لم ترعَ حقَّ الله تعالى، فضيَّعَت وديعته، ولم تحفظ وصيَّة الرّسول فيها، فغصبتها حقَّها، بل جرَّعتها من الغصص ما لا يكادُ يُدرَك، حتى وصفها الإمام الهادي عليه السلام بأنها: المُغَصَّصَةِ بِرِيقِهَا!

رابعاً: آثار الخيانة

لقد أكَّدَت الشريعة على أهميَّة الأمانة، ولزوم أدائها، ولم تجعل لأحدٍ عُذراً في تَركها، حتى لو كان المؤتَمِنُ فاجراً!

بَل عدَّت ميزان القُرب من الله تعالى ورسوله أداء الأمانات، حتى ورد في الحديث: إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) إِنَّمَا بَلَغَ مَا بَلَغَ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بِصِدْقِ الحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ(13).

وقد ورد النَّهي عن الاغترار بعبادة العابد وصلاته في الليل وصومه في النَّهار مع تضييعه للأمانة، وأنَّ الخائن لا ينفعه مع خيانته عَمَل!

وأنّه يموت على غير ملّة النبيّ: وَيَلْقَى الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان(14).‏

وأنّه:تَكَفَّأَ بِهِ الصِّرَاطُ فِي النَّارِ!(15).

وأنّ من خان أمانته: يُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ فَيُهْوَى بِهِ فِي شَفِيرِ جَهَنَّمَ أَبَدَ الآبِدِين(16).

لقد اقترن العقاب في الآخرة مع التقصير والتفريط والتضييع للأمانة، فما حالُ الأمّة التي انقسَمَت بين مقصِّرٍ ومُضيِّعٍ وقاتل لأمانة الله ورسوله؟!

ولئن كان يُكفأ بمَن ضيَّع أمانة الناس في النار، فكيف بمَن ضيَّع أمانة الله!

نعم.. قَدِ اسْتُرْجِعَتِ الوَدِيعَة.. وعادَت الزَّهراء إلى ربِّها.. لكنَّ الأمَّةَ لا تزال مكلَّفةً بولايتها والبراءة من أعدائها، وحِفظِ أمرِها وعدم التفريط به، كما أرادت (عليها السلام) أن تبقى ظلامَتها حيَّة إلى يوم القيامة.

الأمَّةُ اليوم لا تزال منقسمةً، بين:

1. فرقةٍ ترعى حقَّ الزَّهراء (عليها السلام): فَمُؤْمِنُو أُمَّتِي يَحْفَظُونَ وَدِيعَتِي فِي أَهْلِ بَيْتِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(17).

2. وفرقَةٍ توالي أعداءها وقاتليها وظالميها، فيُهوى بها في شَفير جهنم.

لم ينقضِ تكليف الأمّة بعد، فآل محمد هم البابُ المبتلى به النّاس، قديماً وحديثاً.. ولا يزال الأمر كذلك.

وفاطمة: وديعةُ الله تعالى ورسوله، فمَن حَفِظَ الوديعة بمعرِفَتِها وحُبِّها وولايتها والبراءة من أعدائها وطاعتِها وتَعظيم شأنِها وإحياء أمرِها كان من الأبرار.

ومَن ضَيَّعها بِجَهلِ قَدرِها وموالاة أعدائها وظُلمِ أوليائها وتَجاهُلِ أمرِها وحقِّها كان حريّاً به أن يعدَّ جواباً لصاحب الوديعة والأمانة، إله السماوات والأرض، العزيز الجبّار المنتقم، الذي سيأخذ: لَهَا الحَقَّ مِنْ ظَالِمِيهَا.

فليختر عاقلٌ لآخرته، بعدما قال تعالى ﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(18).

والحمد لله رب العالمين(19).

 

(1) طرف من الأنباء والمناقب ص168.

(2) العين ج2 ص224.

(3) بصائر الدرجات ج‏1 ص57.

(4) مناقب آل أبي طالب ع ج‏2 ص387.

(5) الكافي ج‏1 ص287.

(6) المائدة106.

(7) الأمالي للطوسي ص156.

(8) الكافي ج‏2 ص46.

(9) الكافي ج‏5 ص239.

(10) آل عمران44.

(11) تحفة الأبرار ص171.

(12) مصباح الزائر ص٤٧٨.

(13) الكافي ج2 ص104.

(14) من لا يحضره الفقيه ج‏4 ص15.

(15) الكافي ج2 ص152.

(16) ثواب الأعمال ص285.

(17) الكافي ج‏2 ص46.

(18) الإنسان3.

(19) الثلاثاء 6 رجب 1443 هـ الموافق 8 2 2022 م.


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=212
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5