الله في كلّ مكان..
كلمةٌ يرويها الكبارُ قصصاً للصغار، يحثونهم بها على مراقبة أفعالهم لأن الله تعالى في كلّ مكان. وقد يترسّخ المعنى بمعونة قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الله فِي السَّماواتِ وفِي الْأَرْضِ﴾(1).
لكن.. هل الله في كلّ مكانٍ فعلاً؟ وكيف يكون ذلك؟
أليس وجوده في مكان محدّد يعني خلو سائر الأمكنة منه؟
ألا يعني وجوده في مكان احتياجه لهذا المكان؟ واحتواء المكان له؟ ومحدوديته بالمكان؟
من هنا تنطلق شبهة كون الله في مكان، وتتعمّق عند قراءة بعض الأحاديث، كجواب أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما سئل: يَا أَمِيرَ المؤْمِنِينَ أَ لَيْسَ الله فِي كُلِّ مَكَانٍ؟
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: فَلِمَ يَرْفَعُ الْعَبْدُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء؟
قَالَ: أَمَا تَقْرَأُ ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وما تُوعَدُونَ﴾ فَمِنْ أَيْنَ يُطْلَبُ الرِّزْقُ إِلَّا مِنْ مَوْضِعِهِ؟ ومَوْضِعُ الرِّزْقِ ومَا وَعَدَ الله عَزَّ وجَلَّ السَّمَاء(2).
لكن سرعان ما يأتي الجواب الأول لرفع الشبهة أو دفعها: الله موجودٌ في كلّ مكان بآياته، لا بذاته، ففي كلّ مكان آيةٌ من آيات الله ترشد إليه تعالى، والآية هي العلامة(3)، وكلُّ ما في الوجود يدلّ على الموجد وهو الله تعالى، فيكون قولنا أن الله تعالى في كلّ مكانٍ يعني أن مخلوقات الله موجودة في كلّ مكان وفي كلّ واحدة منها آية وعلامة ترشد إليه عزّ وجل.
ولو فرضنا مكاناً خالياً من كلّ شيء، كان المكان نفسه علامة، فكانت علامات الله هي نفس المكان، فصحّ أن يكون الله في كلّ مكان بآياته بلا ريب.
وإلى هذا المعنى أشار الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله) عندما سئل: أَيْنَ الله يَا مُحَمَّدُ؟
قَالَ: هُوَ فِي كُلِّ مَكَانِ مَوْجُودٌ بِآيَاتِهِ(4).
ولا يصحّ نسبته للمكان عزّ وجل وهو خالق المكان، لذا قال (صلى الله عليه وآله) في نفس الحديث: لَا كَيْفَ لَهُ ولَا أَيْنَ، لِأَنَّهُ عَزَّ وجَلَّ كَيَّفَ الْكَيْفَ وأَيَّنَ الْأَيْنَ.. لَا يُقَالُ لَهُ جَاءَ وإِنَّمَا يُقَالُ جَاءَ لِلزَّائِلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، ورَبُّنَا لَا يُوصَفُ بِمَكَانٍ ولَا بِزَوَالٍ بَلْ لَمْ يَزَلْ بِلَا مَكَانٍ ولَا يَزَالُ.
يتبعه الجواب الثاني: أنّ كونه تعالى (فِي كُلِّ مَكَانٍ) يعني الإحاطة بكلّ مكان، وهو الخالق له، فـ(رَبُّنَا لَا يُوصَفُ بِمَكَانٍ) كما في الحديث المتقدّم وكما يجزم به العقل، و(لَمْ يَزَلْ بِلَا مَكَانٍ)، فيكون معنى كونه في (كُلِّ مَكَانٍ) هو إحاطته بالمكان بعد خلقه.
ولعلّه إلى هذا المعنى أشار أيضاً (صلى الله عليه وآله) عندما سئل: أَيْنَ رَبُّكَ؟
قَالَ: هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، ولَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ المكَانِ مَحْدُودٌ(5)..
فيقابل المحدودية المنفية الإحاطة التامة له عزّ وجل بكلّ مكان.
وفي جواب الإمام الصادق (عليه السلام) لابن ابي العوجاء ما يزيد الأمر وضوحاً، حيث ينفي اشتغال أي مكان فيه، وفي الوقت نفسه لا يخلو منه مكان فهو المحيط بكلّ مكان وهو الخالق لكلّ مكان، وبقاءُ كلّ مكان به عزّ وجل.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ: أَ هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟
أَ لَيْسَ إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ؟
وإِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ كَيْفَ يَكُونُ فِي السَّمَاءِ؟
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنَّمَا وَصَفْتَ المخْلُوقَ الَّذِي إِذَا انْتَقَلَ عَنْ مَكَانٍ اشْتَغَلَ بِهِ مَكَانٌ وخَلَا مِنْهُ مَكَانٌ، فَلَا يَدْرِي فِي المكَانِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مَا يَحْدُثُ فِي المكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ.
فَأَمَّا الله الْعَظِيمُ الشَّأْنِ، الملِكُ الدَّيَّانُ، فَلَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، ولَا يَشْتَغِلُ بِهِ مَكَانٌ، ولَا يَكُونُ إِلَى مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى مَكَانٍ(6).
وأوضح من ذلك قوله (عليه السلام): وهُوَ ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ بِالْإِشْرَافِ والْإِحَاطَةِ والْقُدْرَةِ.
﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ ولا فِي الْأَرْضِ ولا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ ولا أَكْبَرُ﴾ بِالْإِحَاطَةِ والْعِلْمِ لَا بِالذَّاتِ، لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ مَحْدُودَةٌ تَحْوِيهَا حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ فَإِذَا كَانَ بِالذَّاتِ لَزِمَهَا الحوَايَةُ (7).
وأصرح من الجميع قول إمامنا الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وهُوَ الله فِي السَّماواتِ وفِي الْأَرْض﴾.
قَالَ: كَذَلِكَ هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
قُلْتُ: بِذَاتِهِ؟
قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ الْأَمَاكِنَ أَقْدَارٌ فَإِذَا قُلْتَ فِي مَكَانٍ بِذَاتِهِ لَزِمَكَ أَنْ تَقُولَ فِي أَقْدَارٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، ولَكِنْ هُوَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، مُحِيطٌ بِمَا خَلَقَ عِلْماً وقُدْرَةً وإِحَاطَةً وسُلْطَاناً ومُلْكاً، ولَيْسَ عِلْمُهُ بِمَا فِي الْأَرْضِ بِأَقَلَّ مِمَّا فِي السَّمَاءِ، لَا يَبْعُدُ مِنْهُ شَيْءٌ والْأَشْيَاءُ لَهُ سَوَاءٌ عِلْماً وقُدْرَةً وسُلْطَاناً ومُلْكاً وإِحَاطَةً (8).
إذا تبيّن ذلك عرفت معنى قول أبي عبد الله (عليه السلام): مَنْ زَعَمَ أَنَّ الله فِي شَيْءٍ أَوْ مِنْ شَيْءٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ أَشْرَكَ.
لَوْ كَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى شَيْءٍ لَكَانَ مَحْمُولًا، وَلَوْ كَانَ فِي شَيْءٍ لَكَانَ مَحْصُوراً، وَلَوْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ لَكَانَ مُحْدَثاً(9).
فالأحاديث صريحة في نفي دخول الله حقيقةً في أي شيء، لأن لازم ذلك أن يكون الله تعالى محصوراً في ذلك الشيء والعياذ بالله.
وأما دخوله في الأشياء أو وجوده فيها فليس على نحو الحقيقة إنما على نحو الإحاطة والقدرة والسلطان، فهو دخولٌ مجازيٌّ بانَ معناه.