بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كان لأنبياء الله ورسله وأوليائه وملائكته أساليب في تعليم الخَلق، ومِنها طَرحُ السؤال مع عِلمِهِم بجوابه، تعليماً للجاهل، وإرشاداً للغافل.
ومِن ذلك أنَّ جبرائيل (عليه السلام) أتى رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صورة آدَميٍّ، وصار يسأله عن حقيقة الإسلام والإيمان، والرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يجيبه، ولمّا خرَجَ (عليه السلام) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): هَذَا جَبْرَئِيلُ جَاءَكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ!(1).
وكان هذا ديدّن الكُمَّل حيث يسعون لنشر العلوم والمعارف والحقائق والعقائد والأحكام بأنجع السُّبُل، وهو ما يُفسِّرُ كثيراً من الأسئلة التي كان يطرحها الإمام (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عالمٌ بها، أو الأحداث التي تقع بين أمير المؤمنين والزهراء ‘.
ومِن ذلك ما يُروى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه:
تَقَاضَى عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي الخِدْمَةِ: أي أنَّ أمير المؤمنين والزهراء ‘ رَفَعا أمرَهُما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كي يُحَدِّد تكليف كلٍّ منهما.
فَقَضَى عَلَى فَاطِمَةَ بِخِدْمَةِ مَا دُونَ البَابِ، وَقَضَى عَلَى عَلِيٍّ مَا خَلْفَهُ: فما كان داخلَ الدّار كان من نَصيب الزَّهراء (عليها السلام)، وما كان خارجَهُ كان من نصيب عليٍّ (عليه السلام).
فبابُ فاطمةَ (عليها السلام) هو الحَدُّ الفاصل بين ما أوجبه الله تعالى عليها وما أسقَطَهُ عنها، وكذا بابُ كلِّ بَيتٍ في هذه الأيام، حيثُ حكَمَت الشريعةُ على الرَّجُل أن يقوم بكلِّ ما تحتاجُهُ المرأة خلفَ الباب، لتتمكن من البقاء دونَه مُعَزَّزَةً مُكَرَّمة، إلا أن تحوجها الظروفُ للخروج، فتَخرُج ملازِمةً للعفَّةِ والحياء.
قَالَ: فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: فَلَا يَعْلَمُ مَا دَاخَلَنِي مِنَ السُّرُورِ إِلَّا الله بِإِكْفَائِي رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تَحَمُّلَ رِقَابِ الرِّجَالِ(2).
عبارةٌ في غاية العظمة، لقد دخلَ سرورٌ على الزَّهراء لا يمكن لنا تصوُّره مِن مثل هذا الحُكم، بحيثُ كفاها الرَّسولُ بأمرِ السَّماء الخروجَ بين الرِّجال، والاختلاط بهم، والقيام بأعمالهم.
شَتّانَ بينَ موقفٍ تراهُ بَعضُ النِّساء نِعمةً وحَبوةً إلهيةً عظيمةً تُدخِلُ السُّرورَ على القلب، وتستحقّ الشكرَ لله تعالى.
وترى فيه أُخرَياتٌ في عَصرِنا كَبتاً وقَهراً للمرأة وظُلماً لها وسَلباً لحقِّها!
الرؤية الأوَّلى توافقُ طبيعةَ المرأة، وتُراعي ضعفَها ورقَّتَها، لتؤمِّنَّ لها حياةً كريمةً تكون فيها مُصانةً عن تَحَمُّلِ رِقابِ الرِّجال، وتوجبُ على من لا يُريد غيرَ صلاحها، ومن لا مَطمعَ له فيها أن يقوم بأمرها وشأنها.
والرؤية الثانية توافقُ أهواء ومطامع الرِّجال الفاسدين، والنِّساء الجاهلات، فتُستغلُّ المرأةُ فيه أبشَعَ استغلال، ما لم تُحافظ على حِشمَتِها وحيائها وعفّتها وطهارتها.
ولكن، ما طالَ سُرورُ الزَّهراء كثيراً، فسُرعانَ ما تبدَّلَ الأمرُ الذي أدخلَ عليها عظيمَ السُّرور وتغيَّر!
رَسولُ الله يكفيها ما خَلفَ الباب، لكن.. في أمَّتِه مَن لا يقرُّ له قرارٌ بذلك! فيجمع الحطبَ على بابها!
الباب الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يقترب منه دون إذن الله ورسوله وأهل بيته.. يقتربون منه الآن بالحَطَب!
يروي الشيخ ابن شهر آشوب عن ابن عباس، وعن الزهري، وعن ابن العلاء، وعن زائدة بن قدامة أنّه:
(خرج عمر في نحوٍ من ستّين رجلاً، فاستأذن الدخول عليهم، فلم يؤذن له، فشغب وأجلب): لم يَعُد في هذا الباب سِترٌ للزَّهراء، لم تأذن له بالدُّخول فأثار الجلبة خارج الباب.
(وعاد إلى الباب واستأذن، فقالت فاطمة (عليها السلام): عليكَ بالله إن كنتَ تؤمنُ بالله أن تدخل عليّ بيتي فإنّي حاسرة، فلم يلتفت إلى مقالها وهَجَم.
فصاحت: يا أبة، ما لقينا بعدك من أبي بكر وعمر، وتبعه أعوانه).
لقد أرادوا علياً (عليه السلام)، وفعلاً خرجَ عليٌّ (عليه السلام)، تقول الرواية:
(وخَرَجَت الطاهرة في أثره، وهي تقول لزفر: يا بن السوداء! لأسرع ما أدخلت الذُّلَّ على بيت رسول الله)!
الآن صارَ لا بدَّ للزَّهراء من أن تخرُج، الله تعالى يكفيها أمرَ الخروج، لكن يضطرُّها الأرجاس لذلك، باعتدائهم على دارِها وإحراقهم بابها، وضربها بالسياط والسيوف، وعصرها خلف الباب، ثم بِقَودِهِم بعلها للقتل!
(فلمّا رآها أبو بكر مقبلةً هاب ذلك، فقام قائماً وقال: ما أخرجك يا بنت رسول الله؟)
عجيبٌ أمرُ هؤلاء القوم، يرتكبون أفظعَ الجرائم ثم يتساءلون عن الجاني! ما هابَ اللَّعينُ قدومَ الزَّهراء إلا لعلمه بأنَّ في قدومها إفشالاً لخطَّتهم بقتل عليٍّ (عليه السلام)، ذاك حيثُ ارتفعت حيطان المسجد وكادت المدينة أن تميد بأهلها.
ما تركت الزّهراء كلامه دون جواب فقالت (عليها السلام):
(أخرجتني أنت وهذا ابن السوداء معك)!
الآمِرُ والمخطّط والمنفِّذُ كلُّهُم في شَرع الله مُجرِمُون مُعتَدون على بيت الرَّسول.. وكلٌّ منهم يحشدُ لصاحبه ويدافع عنه!
لقد قال الأول لها: (يا بنت رسول الله، لا تقولي هذا، فإنّه كان لأبيك حبيباً!
قالت: لو كان حبيباً ما أدخل الذلّ بيته)(3).
إنَّها أساليبُ أهل النِّفاق، يهجمون على بيت الرَّسول، ويعتَدون على بضعته وصهره وأحب الناس إليه ثم يزعمون محبَّته!
ابن السوداء الثاني هذا، هو نفسُه الذي اغتاظ لمّا أجابته الزَّهراء من خلف الباب! ألجأها إلى أن تخاطبه بدلاً من عليٍّ لتمنعهم من إحراق الدار بمن فيه، فامتلأ حِنقاً وغضباً من خارج الباب وقال لها:
مَا بَالُ ابْنِ عَمِّكِ قَدْ أَوْرَدَكِ لِلْجَوَابِ وَجَلَسَ مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ؟
فقالت له:
طُغْيَانُكَ يَا شَقِيُّ أَخْرَجَنِي وَألزَمَكَ الحُجَّةَ، وَكُلَّ ضَالٍّ غَوِيٍّ!(4).
طُغيانٌ وتَجَبُّرٌ وظُلمٌ وبغضٌ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولآله الأطهار، غَيَّرَ الموازين، فتبدَّلَ سرورُ الزَّهراء حُزناً.
حُزنُها على رحيل أبيها ما كان يُفارقُها، إذ كانت تبكيه ليلَها ونَهارَها، وحَقَّ لمثلِها (عليها السلام) أن تبكي مثلَه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنَّ الحزنَ والبكاء تضاعفَ، حين اضطَّرَها ابنُ السّوداء وصاحبُه إلى الخروج من الدّار دفاعاً عن بَعلِها وإمامها وأحبِّ الناس إليها وإلى أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم).
إنَّ للمؤمن الذي يوالي علياً (عليه السلام) حُرمَةً عظيمةً عند الله تعالى، حتى خَصَّ تعالى لمن آذى وَليَّ عليٍّ عذاباً عظيماً يوم القيامة، ذاك حيث:
يُسَلِّطُ الله عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ سَكَاكِينَ النَّارِ وَسُيُوفَهَا، يُبْعَجُ بِهَا بَطْنُهُ، وَيُحْشَى نَاراً، ثُمَّ يُعَادُ خَلْقاً جَدِيداً أَبَدَ الآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِين(5).
هذا جزاءُ من آذى وليَّ عليٍّ! فما حالُ من آذى أعظمَ وليٍّ لعليٍّ وهي الزَّهراء (عليها السلام)؟! وأذاها أذى الرَّسول وأذى الله جلَّ جلاله! وما عقابُ من آذى عليّاً (عليه السلام) نفسه؟! هل ستنقلب النارُ التي أوروها على باب فاطمة ناراً أخرى تُحشى بها بطونهم؟! أم أنَّ لهم ما هو أعظمُ من ذلك وأدهى؟!
هذا ما ينتظرُه المؤمنون، إنَّهم يرتقبون ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبينٍ﴾(6)، إنَّهم ينتظرون بطشَ الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُون﴾(7).
والحمد لله رب العالمين(8).
(1) كتاب سليم بن قيس ج2 ص614.
(3) مثالب النواصب ج1 ص228-231 والرسائل الاعتقادية ص532.
(4) بحار الأنوار ج30 ص293.
(5) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص84.
(8) الأحد 26 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 30 – 1 – 2022 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|