• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : السيدة الزهراء عليها السلام / أمير المؤمنين عليه السلام .
                    • الموضوع : 148. يوم لم يؤذن لعليٍّ.. بِحَصدِ الرؤوس ! .

148. يوم لم يؤذن لعليٍّ.. بِحَصدِ الرؤوس !

بسم الله الرحمن الرحيم

اتَّفَقَت كلمةُ الشيعة على وقوع الظُّلمِ على عليٍّ (عليه السلام): فسُلِبَ حقُّه، وانتُهِكَت دارُه، وظُلِمَت وضَرِبَت حَليلته، حتى رَحَلَت شهيدةً مقتولة!

ثم نُسِبَ لَهم اعتقادُهم بأنَّ عليَّاً عليه السلام كان (موصىً) و(مقيَّداً)، فلَم يدفَع عن نفسه وأسرته، ولم يطلب حقَّهُ بالسيف بسبب الوصيَّة.

فهَل يُعقَلُ ذلك؟!

إنَّ قيامَ عليٍّ (عليه السلام) بالسيف دفاعاً عن نفسه وأسرَته وحقوقه لا يخلو من صورتين:

الأولى: حَملُ السَّيفِ بالأسباب

الثانية: حَملُ السَّيف بالإعجاز

فما حالُ عليٍّ (عليه السلام) مع هذين الاحتمالين؟

الصورة الأولى: حَملُ السَّيفِ بالأسباب

ونُريدُ مِنها الإقدام على العمل المسلَّح وفق الأسباب الطبيعية، بعيداً عن المَدَد الغيبي، والإعجاز الإلهي.

فَعَليٌّ (عليه السلام) وإن كان أشجعَ مَن عليها، لا يسبقُه سابق، ولا يلحق به لاحق، إلا أنَّهُ بَشَرٌ كرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تجري عليه قوانينُ السَّماء، ففي أُحُدٍ: شُجَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُه(1)، وكان في معرض الموت والقتل.

والله تعالى ما أمرَ عبادَه بمخالفة السنن الكونية، بل حثَّهم على الإعداد لكل شيءٍ قبل الخَوض فيه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ﴾(2)، وقال تعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾(3).

ولقد كان لعليٍّ (عليه السلام) أسبابٌ جَمَّةٌ مَنَعَتهُ عن حَملِ السَّيف منها:

1. حفظ الأسرة الطاهرة

لقد تقدَّمَ أنَّ القومَ أرادوا إحراق عليٍّ وفاطمة والحسنين وسائر ذرية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أرادوا قَتلَ الأسرة المباركة، وكانوا يتحيَّنون الفرصة لذلك، وخَيرُ فرصَةٍ هي حَملُ عليٍّ (عليه السلام) للسلاح، ففوَّت عليهم الإمام ذلك، وأفشلت الزَّهراء خطَّتَهم بأن وقفَت من خلف الباب تُجيبُهم، وتحرِّجُ عليهم أن يدخلوا بابَها، فانتقلوا إلى خِطَّةٍ بديلةٍ أحرَقوا بها الباب وفعلوا ما فعلوا.

وقد صرَّح أميرُ المؤمنين (عليه السلام) أنَّه تجنَّبَ حمل السيف حفظاً للأسرة الطاهرة، ومن ذلك قوله لابن عباس:

وَلَوْ لَا اتِّقَائِي عَلَى الثَّقَلِ الأَصْغَرِ أَنْ يَبِيدَ، فَيَنْقَطِعَ شَجَرَةُ العِلْمِ وَزَهْرَةُ الدُّنْيَا وَحَبْلُ الله المَتِينُ وَحِصْنُهُ الأَمِينُ، وَلَدُ رَسُولِ الله رَبِّ العَالَمِينَ، لَكَانَ طَلَبُ المَوْتِ وَالخُرُوجُ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أَلَذَّ عِنْدِي مِنْ شَرْبَةِ ظَمْآنَ، وَنَوْمِ وَسْنَانَ(4).

وقال في موردٍ آخر: فَإِذَا لَيْسَ مَعِي رَافِدٌ وَلَا ذَابٌّ وَلَا مُسَاعِدٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الهَلَاكِ(5).

فإنَّ القيامَ إنَّما يُرادُ منه الذَّبُ عن نفسه الشريفة وأسرته الطاهرة، وسينتُجُ عن ذلك هلاكه وهلاك الثِّقلِ الأصغر، فيكون في قيامه تفويتٌ للغرض ونقضٌ له، وخلاف المصلحة في الإبقاء عليهم صلوات الله عليهم.

وإنَّ الرَّجُلَ العاقل يحسب العواقب، فإن وجد في الصبر ثماراً أعظم من سلّ السيف كان من الصابرين، وهذا حال عليٍّ (عليه السلام).

2. انتفاء القدرة الظاهرة

لم يكُن لعليٍّ (عليه السلام) مَن يستجيب له ممَّن تقوم به الكفاية، فإنَّ العمل المسلَّحَ يحتاج إلى أعوانٍ وأنصارٍ ويدٍ مبسوطةٍ وعدَّة وعدد.

ولكن لم يكن مع عليٍّ شيءٌ من ذلك، وكلماتُه في هذا المعنى أكثر من أن تُحصى، منها قوله (عليه السلام):

أَمَا وَالله لَوْ كَانَ لِي عِدَّةُ أَصْحَابِ طَالُوتَ أَوْ عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ وَهُمْ أَعْدَاؤُكُمْ لَضَرَبْتُكُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَئُولُوا إِلَى الحَقِّ، وَتُنِيبُوا لِلصِّدْقِ، فَكَانَ أَرْتَقَ لِلْفَتْقِ وَآخَذَ بِالرِّفْقِ(6).

ومَن لم يكن له عدَّةٌ يقاتل بها كانت يدُه مقطوعة جذّاء، وقد قال في شقشقيَّته الشهيرة: وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ(7).

وهو القائل: وَلَوْ كُنْتُ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا لَفَرَّقْتُ جَمَاعَتَكُمْ(8).

هذا هو معنى الوصية التي يتحدَّث عنها الشيعة، فليست الوصيَّةٌ شيئاً خلاف موازين العقل والشَّرع، بل هي موافقةٌ له بلا شكٍّ ورَيب، بل جزءٌ منه.

وقد أوصاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً، حين أمره بالصبر لعلمه بعدم وجود الناصر، وعَلَّقَ الأمر بالقيام على الأنصار، وهو العالم بانتفائهم.

وقد روت الأمة كلمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَمِنَ السنة روى المناوي في كتاب كنوز الدقائق قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام): يا علي إنك ستُبتَلى بعدي، فلا تقاتلن!(9)

وروى الشيعة أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له بالصبر لما يجري عليه وعلى البضعة الطاهرة (عليها السلام): وَعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ بِكَ وَبِهَا حَتَّى تَقْدَمُوا عَلَيَّ(10).

كلَّ هذا لعلم النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم الناصر، وقد قال له (صلى الله عليه وآله وسلم):

يَا عَلِيُّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ حَتَّى يَنْزِلَ الأَمْرُ..  فَإِذَا أَمْكَنَكَ الأَمْرُ فَالسَّيْفَ السَّيْفَ، القَتْلَ القَتْلَ، حَتَّى يَفِيئُوا إِلى‏ أَمْرِ الله وَأَمْرِ رَسُولِهِ(11).

وقد علَّلَ له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، وبيَّن له أن في قيامه دون أعوانٍ إلقاءٌ للنفس في التهلكة، ولا يجوز ذلك، بل يجب حقن الدِّماء، لذا قال له (صلى الله عليه وآله وسلم) تارة: وَإِنْ أَنْتَ‏ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَبَايِعْ وَاحْقِنْ دَمَكَ(12).

وتارة أخرى: وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَاكْفُفْ يَدَكَ وَاحْقِنْ دَمَكَ(13).

وقال له ثالثةً: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَاصْبِرْ، وَكُفَّ يَدَكَ، وَلَا تُلْقِ بِيَدِكَ إِلَى التَّهْلُكَةِ(14).

وإنَّ في قتله (عليه السلام) إطفاء لنور الله، فلا سبيل لثبات الحقِّ على وجه البسيطة إلا بعليٍّ (عليه السلام)، ولو قُتِلَ لم يبق لعبادة الله بعده على الأرض عينٌ ولا أثر، فينتقض الغرضُ من بعثة الأنبياء وخلقة الخَلق، وقد قال له (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يدلُّ على هذا المعنى:

إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ إِنْ نَاهَضْتَ القَوْمَ وَنَابَذْتَهُمْ وَجَاهَدْتَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ فِئَةٌ أَعْوَانٌ‏ تَقْوَى بِهِمْ أَنْ يَقْتُلُوكَ فَيُطْفَأَ نُورُ الله وَلَا يُعْبَدَ الله فِي الأَرْضِ(15).‏

وقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ إِلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَالجُحُودِ بِأَنِّي رَسُولُ الله(16).

3. المصلحة العامة

إنَّ للأنبياء والأوصياء دورٌ عظيمٌ في صلاح الأمّة، وعندما يدورُ الأمرُ بين وقوع الجَور والظُّلمِ عليهم خاصة، أو فساد الأمة بأسرها، يُقَدِّمون النَّفعَ والصلاح العام، وإن كان فيه أذيَّةٌ لأشخاصهم.

ولقد علمَ الإمام (عليه السلام) أنَّ القوم إنما ظلّوا على ظاهر الإسلام لأنَّهم وجدوا أنها الطريقة الوحيدة لنيل المُلك والسُّلطان، فلو منعَهم إياه بقوّة السيف لارتدوا عن دين الله تعالى، ولذهبت جهود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سدى، ولمنعوا الأمم الآتية والأجيال القادمة مِنَ التعرُّف على الحق بنقضهم العهود في الظاهر والباطن معاً.

ولذا قال (عليه السلام): ولو لا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعةً إلى الرئاسة، وسلماً إلى العزّ والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً!(17).

وهو ما يفسِّرُ رجوع الناس كفاراً وارتدادهم عن الإسلام لو قام فيهم بالسيف، وقد قال: وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ كُفَّاراً(18).

وعنه (عليه السلام): وَايْمُ الله لَوْ لَا مَخَافَةُ الفُرْقَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَعُودُوا إِلَى الكُفْرِ، وَيُعَوَّرَ الدِّينُ، لَكُنَّا قَدْ غَيَّرْنَا ذَلِكَ مَا اسْتَطَعْنَا(19).

وعن الباقر (عليه السلام): لَمْ يُمْنَعْ أَمِير المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِنْ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ إِلَّا نَظَراً لِلنَّاسِ، وتَخَوُّفاً عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ فَيَعْبُدُوا الأَوْثَانَ، وَلَا يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَكَانَ الأَحَبَّ إِلَيْهِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنْ أَنْ يَرْتَدُّوا عَنْ جَمِيعِ الإِسْلَامِ(20).

ألا يجب الدفاع عن النفس؟

فإن قيل: هذا يُفَسِّرُ قعوده عن المطالبة بحقِّه، ولا يفسِّرُ قعوده في الدِّفاع عن نفسه، والدِّفاعُ عن النَّفس واجبٌ لا يحتاجُ إلى أنصار.

قلنا: لا بد من التمييز بين صورتين:

الصورة الأولى: أن يُفرضَ القتال على الولي المعصوم، فلا بدَّ من أن يقاتل ولو لم يكن معه أحدٌ من الأنصار.

الصورة الثانية: أن لا يُفرَضَ عليه القتال إلا تخييراً، أي أن يُخيَّر بين القتال وبين شيءٍ آخر، فإذا وجد المصلحة في ترك القتال تركه وأتى بالخيار الآخر.

وهو حالُ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد بَيَّنَ حالهم بعدما فشلت خطَّتهم الأولى بالقضاء على الأسرة المباركة، فقال (عليه السلام):

إِنَّ القَوْمَ حِينَ قَهَرُونِي وَاسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي، لَوْ قَالُوا لِي: (نَقْتُلُكَ البَتَّةَ) لَامْتَنَعْتُ مِنْ قَتْلِهِمْ إِيَّايَ وَلَوْ لَمْ أَجِدْ غَيْرَ نَفْسِي وَحْدِي.

وَلَكِنْ قَالُوا: إِنْ بَايَعْتَ كَفَفْنَا عَنْكَ وَأَكْرَمْنَاكَ وَقَرَّبْنَاكَ وَفَضَّلْنَاكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ قَتَلْنَاكَ، فَلمَّا لَمْ أَجِدْ أَحَداً بَايَعْتُهُمْ، وَبَيْعَتِي إِيَّاهُمْ لَا يُحِقُّ لَهُمْ بَاطِلًا، وَلَا يُوجِبُ لَهُمْ حَقّاً(21).

فلم يكن حملُ السيف واجباً لأن هناك طريقاً للتخلُّص من القتل ولو بالبيعة الظاهرة.

ألا يجب الدِّفاع عن الأسرة؟!

فإن قيل: هذا يبرِّر عدم دفاعه عن نفسه، ولكن ولا يشمل عدم دفاعه عن زوجته وأولاده.

قلنا: لقد كان أميرُ المؤمنين (عليه السلام) مُخَيَّراً بين أن يحمل السيف فيقتلون جميعاً، وبين أن يضع السيف وتتصدى الزَّهراء (عليها السلام) فتكون الدائرة عليها خاصةً، وتُحفظ الإمامة، وهو ما يبرِّرُ دفاع الزهراء (عليها السلام) عنه، وقد حالت بينهم وبينه (عليه السلام) لأجل ذلك.

وقد علم اللُّعناء أنها ستفعل ذلك من قبل، ذلك أن حفظ الإمام أوجب من كل شيء، وقد أرسل عُمَر لقنفذ يلفتُه إلى هذا المعنى قبل حدوثه فقال له:

إِنْ حَالَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فَاطِمَةُ فَاضْرِبْهَا!(22).

وهو ما جرى فعلاً: وَحَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) عِنْدَ بَابِ البَيْتِ فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ المَلْعُونُ بِالسَّوْطِ(23).

وقد روي هذا المعنى عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، متحدِّثاً عن قنفذ: هُوَ الَّذِي ضَرَبَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) بِالسَّوْطِ حِينَ جَاءَتْ لِتَحُولَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَمَاتَتْ (عليها السلام)(24).

الصورة الثانية: حَملُ السَّيف بالإعجاز

إذا كان عليٌّ عليه السلام لم يحمل السَّيف لأنَّ الموازين والأسباب لم تكن لصالحه ولا لصالح أسرته ولا لصالح الإسلام، فلماذا لم يحمل السيف ويستعين بالقدرات الغيبية التي أعطاه الله تعالى؟! ألم يكن عليٌّ قادراً على ذلك؟!

بلى.. كان (عليه السلام) قادراً على الاستعانة بالقوَّة الملكوتية والمدد الغيبي، ولو فعلَ ذلك لأفناهم عن بكرة أبيهم.

ولكنَّ هذه الاستعانة تخضَعُ للمصلحة والحكمة والأمر الإلهي، ولم يكن من الحكمة أن يقوم (عليه السلام) بذلك فيُفنِي أمَّة الإسلام، ولا يبقى له بعد ذلك من باقية! وقد أشار عليه السلام إلى هذا المعنى بقوله:

أَمَا وَالله لَوْ أُذِنَ لِي بِمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لَحَصَدْتُ رُءُوسَكُمْ عَنْ أَجْسَادِكُمْ كَحَبِّ الحَصِيدِ، بِقَوَاضِبَ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَقَلَعْتُ مِنْ جَمَاجِمِ شُجْعَانِكُمْ مَا أَقْرَحُ بِهِ آمَاقَكُمْ، وَأُوحِشُ بِهِ مَحَالَّكُمْ، فَإِنِّي مُذْ عُرِفْتُ مُرْدِيَ العَسَاكِرِ، وَمُفْنِيَ الجَحَافِلِ، وَمُبِيدَ خَضْرَائِكُمْ، وَمُخْمِدَ ضَوْضَائِكُمْ(25).

لن يعجزَ عليٌّ عليه السلام عن حَصد الرؤوس، بالإعجاز أو بغيره، لكنَّ في ذلك خلاف الحكمة والمصلحة، فإنَّ الواقعة لن تخلو من إحدى حالتين:

1. إمّا أن يغلبوه ويقهروه (عليه السلام)، ثم يقتلوه وأهل بيته، فينقطع نور الله في الأرض.

2. وإمّا أن يغلبهم ويفلج عليهم، فيفنيهم عن بكرة أبيهم، ولا يُبقي على الأرض من المسلمين دَيّاراً.

وكلتاهما نتيجتان لا يرتضيهما الله تعالى، ولا رسوله، ولا وليه المعصوم، لذا رأى (عليه السلام) أنَّ: الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى‏.. فصَبَر.

ولذا لم يورد (المُخَالِفِينَ خَلِيجَ المَنِيَّةِ)!

ولم يرسل عليهم: (شَآبِيبَ صَوَاعِقِ المَوْتِ)(26).

والقوم يعرفون ذلك، وقد قال أوَّلُهُم لثانيهم: فَوَ الله، لَوْ هَمَّ ابن أبي طالب‏ بِقَتْلِي وَقَتْلِكَ لَقَتَلَنَا بِشِمَالِهِ دُونَ يَمِينِه!(27).‏

وقد فرَّ الثاني لما ضرب سيدة النساء من ظاهر الخمار سريعاً إلى خارج الدار ثم قال لأصحابه:

قَدْ جَنَيْتُ جِنَايَةً عَظِيمَةً لَا آمَنُ عَلَى نَفْسِي. وَهَذَا عَلِيٌّ قَدْ بَرَزَ مِنَ البَيْتِ وَمَا لِي وَلَكُمْ جَمِيعاً بِهِ طَاقَةٌ. فَخَرَجَ عَلِيٌّ وَقَدْ ضَرَبَتْ يَدَيْهَا إِلَى نَاصِيَتِهَا لِتَكْشِفَ عَنْهَا وَتَسْتَغِيثَ بِالله العَظِيمِ مَا نَزَلَ بِهَا، فَأَسْبَلَ عَلِيٌّ عَلَيْهَا مُلَاءَتَهَا وَقَالَ لَهَا:

يَا بِنْتَ رَسُولِ الله! إِنَّ الله بَعَثَ أَبَاكِ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، وَايْمُ الله لَئِنْ كَشَفْتِ عَنْ نَاصِيَتِكِ سَائِلَةً إِلَى رَبِّكِ لِيُهْلِكَ هَذَا الخَلْقَ لَأَجَابَكِ حَتَّى لَا يُبْقِيَ عَلَى الأَرْضِ مِنْهُمْ بَشَراً.

.. فَكُونِي يَا سَيِّدَةَ النِّسَاءِ رَحْمَةً عَلَى هَذَا الخَلْقِ المَنْكُوسِ وَلَا تَكُونِي عَذَاباً(28).

لقد علمَ القومُ أنَّهم لو اجتمعوا جميعاً، بل لو اجتمع من في الأرض جميعاً على قَهرِ عليٍّ ما قهروه يقيناً، وصرَّحوا بذلك، فإنَّ من يعتصم بالله تعالى لو كادته السماوات والأرض لجعل الله له من بينهنّ مخرجاً.

وهذا عليٌّ إمامُ المعتصمين بالله، وسيِّدُهم وأفضلهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن لم يكن لعليٍّ أن يفعل غير ما فَعَل، كما لم يكن للزَّهراء أن تفعل غير ما فعلَت.

لقد بعثَ الله تعالى حبيبَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمةً، فلم يكن لعليٍّ ولا لفاطمة ‘ أن يُنزلا العذاب على هذا الخلق المنكوس، بل كانا رحمةً كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

لهذا ما كَشَفَت الزَّهراء شعرَها ولا دَعَت على القوم، وما أوردهم عليٌّ خليجَ المنيّة، ولا حَصَدَ رؤوسهم.. إمتثالاً لأمر الله تعالى، وإكمالاً للامتحان الإلهي: ﴿حَتَّى يَميزَ الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾.

والحمد لله رب العالمين(29).

 

(1) الخصال ج2 ص389.

(2) الأنفال60.

(3) البقرة195.

(4) اليقين ص325.

(5) الغارات ج‏1 ص205.

(6) الكافي ج‏8 ص32.

(7) نهج البلاغة الخطبة الثالثة (الشقشقية).

(8) الإحتجاج ج1 ص83.

(9) كنوز الدقائق ص104 من النسخة المخطوطة - مكتبة الملك سعود رقم7624.

(10) طرف من الأنباء والمناقب ص162.

(11) الإحتجاج ج‏1 ص197.

(12) كتاب سليم بن قيس ج2 ص591.

(13) كتاب سليم بن قيس ج2 ص664.

(14) كتاب سليم بن قيس ج2 ص568.

(15) كتاب سليم بن قيس ج2 ص768.

(16) كتاب سليم بن قيس ج2 ص770.

(17) شرح النهج ج‏20 ص299.

(18) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج‏2 ص187.

(19) الأمالي للمفيدص155.

(20) الكافي ج‏8 ص296.

(21) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص666.

(22) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص588.

(23) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص586.

(24) تفسير العياشي ج‏2 ص307.

(25) الإحتجاج ج‏1 ص95

(26) الكافي ج‏8 ص32.

(27) الاحتجاج ج‏1 ص96.

(28) بحار الأنوار ج‏30 ص294.

(29) الخميس 23 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 27 1 2022 م.


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=206
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5