• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : السيدة الزهراء عليها السلام / أمير المؤمنين عليه السلام .
                    • الموضوع : 144. فاطمة.. رُكنُ عَليٍّ.. المهدود ! .

144. فاطمة.. رُكنُ عَليٍّ.. المهدود !

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد روى الشيعة والسنة وصيةً غريبةً من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام)، حيث قال له قبل وفاته بأيامٍ ثلاثة:

سَلَامُ الله عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّيْحَانَتَيْنِ، أُوصِيكَ بِرَيْحَانَتَيَّ مِنَ الدُّنْيَا، فَعَنْ قَلِيلٍ يَنْهَدُّ رُكْنَاكَ، وَالله خَلِيفَتِي عَلَيْكَ.

فمَن هما رُكنا عليٍّ (عليه السلام)؟ ولماذا يوصي النبيُّ علياً بابنيه؟! وما الصلةُ بين الركنين والوصية بالريحانتين؟!

أولاً: محمدٌ وفاطمة ركنا عليّ!

يقول جابر: فَلمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): هَذَا أَحَدُ رُكْنَيَّ الَّذِي قَالَ لِي رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فَلمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): هَذَا الرُّكْنُ الثَّانِي الَّذِي قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

فما المراد بالركن هنا؟

لقد ذُكِرَ في كتب اللغة: رُكْنُ الشيء: جانِبُه الأقوى. وهو يأوِي إلى رُكْنٍ شديدٍ، أي عزّ ومنعَةٍ(2). ورُكْنُ الرجل: قومه وعدده الذين يعتزُّ بهم(3).

لِعَلِيٍّ، وهو البطل المِغوار، الكرار غير الفرار، الفتى الذي يهتف باسمه جبرائيل في السَّماء، صاحب سيف ذي الفقار.. لِعَلِيٍّ رُكنان يستندُ إليهما، ويقوى بهما، ويعتزُّ بهما، هُما خَيرُ خلق الله تعالى، وسيِّدة نساء العالمين أجمعين.

لقد فقدَ أميرُ المؤمنين الركنَ الأول عند شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنَّه كان يتعزّى بالثاني: بفاطمة الزَّهراء.

ولكن، ما ظلَّ له من يتعزّى به بعد وفاتها، فإنَّه لما سمع بشهادتها:

وَقَعَ عَلِيٌّ عَلَى وَجْهِهِ! يَقُولُ: بِمَنِ العَزَاءُ يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ؟

كُنْتُ بِكِ أَتَعَزَّى، فَفِيمَ العَزَاءُ مِنْ بَعْدِكِ(4).

لَم يكُن خبرُ شهادتها مفاجئاً، بل كان مُتوَقَّعاً، رغمَ ذلك وقع (عليه السلام) على وجهه لِهَول الخبر وعَظَمَتِهِ وشِدَّته.

لقد أخبرَتهُ الزهراء قبل ذلك أنَّها لاحقةٌ بأبيها، هيَ تُريدُ اللَّحاق به، بعدما سئمت الحياة بين ظهراني هذه الأمة المنكوسة.

لكِن.. مَن لِعليِّ بعدكِ يا زهراء؟! لقد قال لها قبيل وفاتها:

عَزَّ عَلَيَّ بِمُفَارَقَتِكِ وَبِفَقْدِكِ(5)، إِلَّا أَنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ.

وَالله، جَدَّدَ عَلَيَّ مُصِيبَةَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَقَدْ عَظُمَتْ وَفَاتُكِ وَفَقْدُكِ، فَإِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أَفْجَعَهَا وَآلَمَهَا وَأَمَضَّهَا وَأَحْزَنَهَا، هَذِهِ وَالله مُصِيبَةٌ لَا عَزَاءَ عَنْهَا، وَرَزِيَّةٌ لَا خَلَفَ لَهَا!(6).

آهٍ يا أمير المؤمنين، إلى مَن تَرجعُ بعد فاطمة؟!

سيِّدي.. لم نَفهَم كيف تكون الزَّهراء وأبوها ركناك، وجانبك الأقوى! وعزَّتك ومنعتك! وأنتَ صاحبُ السوابق، ومُبيد الكتائب، الشديد البأس، العظيم المِراس، ليثُ الموحّدين، وقاتل المشركين.

وأنَّى لنا أن نُدركَ العُلقة بينكم وقد كُنتم أنواراً قبل خلق الخلق! وقد أجرى الله تعالى طاعتكم على الخلائق أجمع.

ما الصلة العظمى بينك وبين مَن (عَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ القُرُونُ الأُوَلُ) حتى صارَت رُكناً لك؟!

ذاك ما لا نطمحُ لمعرفته، لتسليمنا بالعجز عن إدراكه، لكنّنا نُدرك أنَّ لكم جميعاً عند الله منزلةً عظيمة، لا يسبقكم إليها سابقٌ ولا يلحق بكم لاحق، وأنَّكم أنوار الله جلَّ جلاله، وأنَّ بينكم علقةً إلهيَّةً نورانيةً ساميةً تفوقُ الوصف.

ثانياً: الوصيّة بالحسنين

لماذا أوصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً بالحسنين ‘ بعد فَقد ركنيه: (أوصِيكَ بِرَيْحَانَتَيَّ مِنَ الدُّنْيَا، فَعَنْ قَلِيلٍ يَنْهَدُّ رُكْنَاكَ)، وما الصلةُ بين الأمرين؟!

إن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم مِقدار الألم الذي سيعانيه الحسنان بعد فقدهما، فهذا الحسن يقول بعد وفاتها: يَا أُمَّاهْ، كَلِّمِينِي قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَ رُوحِي بَدَنِي!

والحسين يقول: يَا أُمَّاهْ، أَنَا ابْنُكِ الحُسَيْنُ، كَلِّمِينِي قَبْلَ أَنْ يَنْصَدِعَ قَلْبِي فَأَمُوتَ!(7).

أيُّ نفوسٍ عظيمةٍ طاهرةٍ تمتلك هذه الأسرة، وأيٌّ قلوب رقيقةٍ تحويها أجسامُهم الشريفة،وأيُّ معرفةٍ بمنزلة بعضهم يملكونها.

ولأنَّ النبيَّ يعرفُ ما سيُعاني الحسنان بعد فَقد أمِّهما، أوصى علياً بهما بعد فقدها.

وقد سبقَت هذه الوصية بالحسنين وصيَّةٌ أخرى بهما يقول فيها (صلى الله عليه وآله وسلم): وَأَمَّا الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ فَهُمَا ابْنَايَ وَرَيْحَانَتَايَ، وَهُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيُكْرَمَا عَلَيْكَ كَسَمْعِكَ وَبَصَرِكَ!(8).

لقد أكرَمَهُما عليٌّ كما أوصاه الرَّسول، لكنَّ هذه الأمَّة المنكوسة المتعوسة مالَت عليهما ميلاً عَظيماً، كما فعلَت من قبلُ بأبيهما وأمِّهما.

فمِن أين يأتي عليٌّ بالصَّبر على ذلك؟!

ثالثاً: أيوصى عليٌّ بالإحسان.. لفاطمة؟!

يتعجَّبُ المرءُ عندما يسمع وصيَّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالحسنين، لكنَّه يزداد تعجُّباً لمّا يسمع وصيَّتَه له بفاطمة (عليها السلام)!

لقد تكرَّرَ منه الإيصاءُ بها مراراً، فعند زواجهما قال لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لَا تَعْصِي لَهُ أَمْراً).

وقال له (عليه السلام): ادْخُلْ بَيْتَك، وَالطُفْ بِزَوْجَتِك، وَارْفُقْ بِهَا، فَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، يُؤْلِمُنِي مَا يُؤْلِمُهَا، وَيَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا(9).

ثمَّ تكرَّر الأمرُ في أيامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ذلك قوله له (عليه السلام): وَإِنَّهَا أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَأَحْسِنْ إِلَيْهَا بَعْدِي!(10).

وثالثةً قُبيل شهادته (ص)، وهو على فراشه:

فَرَفَعَ رَأْسَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلَيْهِمْ، وَيَدُهَا فِي يَدِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ لَهُ:

يَا أَبَا الحَسَنِ، هَذِهِ وَدِيعَةُ الله، وَوَدِيعَةُ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ عِنْدَكَ، فَاحْفَظِ الله، وَاحْفَظْنِي فِيهَا، وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ(11).

ههنا يزولُ العَجَب، فإيصاءُ النبيِّ علياً طريقٌ لتعرفَ الأمَّةُ قدرَها (عليها السلام)، وتمتنع عن ظُلمها.

إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي كلَّ زوجٍ باللطف والرِّفق مع زوجته، لكنَّ لفاطمة خصوصيتها، فهي (بَضْعَةٌ مِنِّي)، وينبغي أن يكون اللطف والرِّفقُ بها خاصاً متناسباً مع تلك المكانة.

ثم يشير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى لزوم الإحسان إليها بعد وفاته: فَأَحْسِنْ إِلَيْهَا بَعْدِي! وهو العالمُ بنَوعِ إحسان الأمة إليها! حين اقتحمت دارَها! وأسقطت جنينها! وقادَت بعلَها!

أهكذا يكونُ الرِّفقُ ببضعة الرسول يا أمّة الإسلام؟ أهكذا يكون الإحسان إليها؟!

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع التَعَجُّبَ بقوله: (وَاحْفَظْنِي فِيهَا، وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ)!

فليس المُخاطب حقاً هو عليّ (عليه السلام)، المخاطب هو الأمّة المرتدة التي لم تحفظ (حقَّ الله فيها)!

هَذِهِ وَدِيعَةُ الله: وهذه كلمةٌ عجيبةٌ، فالله تعالى استودَعَ الزَّهراء عندَ عليٍّ (عليه السلام) فحَفِظَها، لكنَّ الأمَّة تدخَّلَّت وأصرَّت على تضييع الوديعة، ذاك يوم الهجوم على دارِها.

أمّا عليٌّ.. فهو القائل مع عظيم الغَصَّة: فَوَ الله مَا أَغْضَبْتُهَا! وَلَا أَكْرَهْتُهَا عَلَى أَمْرٍ! حَتَّى قَبَضَهَا الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ. وَلَا أَغْضَبَتْنِي، وَلَا عَصَتْ لِي أَمْراً.

وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَنْكَشِفُ عَنِّي الهُمُومُ وَالأَحْزَان(12).

هذا كانُ حالُ عليٍّ (عليه السلام) طيلة حياته مع وديعة الله ورسوله، إلى أن فَقَدَ ركنَه الأول، فظلَّ يتعزى بالزَّهراء (عليها السلام).

وبفقدها أبرَكَت الهمومُ لديه، وحَطَّت رحالها بين يديه، فحَمَلَ همَّاً لا يبرَحُ من قلبه، وهاجَت أحزانُه، وصارَ مترقِّباً لقاء الله تعالى.

لقد أوصته الزَّهراء بوصيّةٍ عجيبة، قالت له (عليه السلام):

1. أَنْزِلْنِي قَبْرِي

2. وَالحِدْنِي

3. وَسَوِّ التُّرَابَ عَلَيَّ

4. وَاجْلِسْ عِنْدَ رَأْسِي قُبَالَةَ وَجْهِي، فَأَكْثِرْ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ وَالدُّعَاءِ

فَإِنَّهَا سَاعَةٌ يَحْتَاجُ المَيِّتُ فِيهَا إِلَى أُنْسِ الأَحْيَاءِ(13).

آهٍ يا علي.. كيفَ أنزَلتَها القبر؟! بأيِّ حالٍ يا أبا الحسن؟ وكيف سَوَّيتَ عليها التُّراب؟ لقد كانت همومُك تنكشفُ بالنظر إليها في الدّنيا، وهي تأنسُ بكَ اليوم مِن تحت التُّراب!

أيُّ عُلقَةٍ عظيمة هذه؟ توصيك بأن تجلس عند قبرِها بعدَ موتها لتأنَسَ بكَ حياً، رغم أنَّها قد رأت أباها رسول الله وجبرئيل ومواكب أهل السماوات! رغم ذلك تأنسُ بك أنت يا علي.

ألست أنت يا علي القائل: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمَّا احْتُضِرَتْ نَظَرَتْ نَظَراً حَادّاً ثُمَّ قَالَتْ:

السَّلَامُ عَلَى جَبْرَئِيلَ، السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ الله، اللهمَّ مَعَ رَسُولِكَ، اللهمَّ فِي رِضْوَانِكَ وَجِوَارِكَ، وَدَارِكَ دَارِ السَّلَامِ(14).

آه لفاطمة.. تعيشُ بين الأُنس بعليٍّ في دار الدُّنيا، وبين الشوق للحبيب المصطفى في دار السَّلام، وهي العزيزة في أيامه، فتطلبُ من الله تعالى أن يُسرِعَ بها إلى أبيها، وتظلُّ تأنسُ بعليٍّ قُربَ قَبرِها!

إنَّها فاطمة.. ركن عليٍّ.. المهدود!

فلعنَ الله مَن هدَّ ركنَه الأول بالسمّ، وركنه الثاني بالقتل.

وإنا لله وإنا إليه راجعون(15).

 

(1) الأمالي للصدوق ص135، والفائق للزمخشري ج1 ص162.

(2) الصحاح ج5 ص2126.

(3) العين ج5 ص354.

(4) كشف الغمة ج‏1 ص501.

(5) في البحار عنه وردت بلفظ: قَدْ عَزَّ عَلَيَّ مُفَارَقَتُكِ وَتَفَقُّدُك‏.

(6) روضة الواعظين ج‏1 ص151.

(7) كشف الغمة ج‏1 ص500.

(8) الأمالي للصدوق ص487.

(9) كشف الغمة ج‏1 ص363.

(10) الأمالي للصدوق ص487.

(11) طرف من الأنباء والمناقب ص168.

(12) كشف الغمة ج‏1 ص363.

(13) بحار الأنوار ج‏79 ص27.

(14) بحار الأنوار ج‏43 ص200.

(15) الجمعة 3 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 7 1 2022 م.


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=202
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5