بسم الله الرحمن الرحيم
يخالُ كثيرٌ من الخَلقِ أنَّ قتلَ الزَّهراء (عليها السلام) كان أمراً غَيرَ مُدَبَّرٍ! ويزعم من أُشرِبوا في قلوبهم العجل بأنَّ غِيرَةَ ابن الخطّاب على دين الله تعالى دفعته ليقتحم بابَ فاطمة! وهو باب الرسول، حفظاً للأمة عن التفرُّق والاختلاف!
فصارَ اقتحامُ دار الزَّهراء وقَتلها باباً لتوحيد أمَّة الإسلام!
قال الكاتب اللبناني عمر أبو النصر (المتوفى سنة 1960م) في كتابه (فاطمة بنت محمد):
خشي الفاروق الفتنة، ورأى في اختلاف العرب.. ما يحمل المسلمين جميعهم على الاتفاق.. فكان لذلك من أشد الناس رغبة في توحيد كلمة المسلمين.. وقد حاول فعلاً اقتحام بيت فاطمة، يحاول بذلك أن يحمل علياً على البيعة!! (1).
هل من آيةٍ أبلَغُ في وَصفِ هؤلاء من قول الله تعالى: ﴿فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي فِي الصُّدُورِ﴾(2).
هكذا تَصيرُ الرذيلةُ مَنقبةً! وتَصيرُ القبائحُ عِزَّاً وفَخراً ومَجداً! ويُبرَّرُ للقَتَلَةِ المجرمين أسوأ فِعالهم!
لقد غفلَ هؤلاء أنَّ المؤامرة لا تستهدفُ الزَّهراء وحدَها، إنَّها مؤامرةٌ على الإسلام بأكمله، يُمَثِّلُه رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبضعته الزهراء (عليها السلام)، وبَعلُها أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، وابناها الحسن والحسين ‘.
فإن قيل: ما حجَّتُكم على هذا أيُّها الشيعة؟!
قلنا: روى ابنُ سَعدٍ (230 هـ) في طبقاته الكبرى عن أنس بن مالك أنَّه قال: خرج عمر متقلد السيف، فلقيه رجل من بني زهرة، قال: أين تعمد يا عمر؟
فقال: أريد أن أقتل محمداً!
.. فانطلق عمر حتى أتى الدار.. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال:
أما أنت منتهياً يا عمر؟(3).
يستغربُ المَرءُ كثيراً عندما يقرأ سيرة هذا الرَّجل، فإنَّه قَد حَمَلَ السَّيفَ مرَّةً عندما أراد قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يُسلِم، ومرَّةً عندما اقتَحَمَ دارَ فاطمة (عليها السلام): فَرَفَعَ عُمَرُ السَّيْفَ وَهُوَ فِي غِمْدِهِ فَوَجَأَ بِهِ جَنْبَهَا(4).
ولكن، بين هذا الحَدَثِ وذاك، ما عُهِدَ عَنهُ أنَّهُ رَفَعَ سيفاً في سبيل نُصرَة الإسلام! ولا أظهَرَ شجاعَةً إلا في وجه الرَّسول وآله!
فلطالما عُرِفَ عنه الجُبنُ والخوفُ، وكان فرّاراً غير كرّار، أليس قد: رَجَعَ عُمَرُ يُجَبِّنُ أَصْحَابَهُ وَيُجَبِّنُونَهُ! قَدْ رَدَّ رَايَةَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مُنْهَزِماً(5).
أما كان يتغنَّى بفراره يوم أحد: ففررتُ حتى صعدت الجبل(6).
فما الذي جرى حتى اكتَسَبَ قوَّةً يُريدُ بها قَتلَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أوَّلَ البعثة، وقتل ابنته بعد وفاته؟!
ولماذا حَطَّ الجُبنُ رحالَه عنده فيما سوى ذلك من حروب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
لقد روي أنّ الأول والثاني: أَسْلَمَا طَمَعاً، وَذَلِكَ بِأَنَّهُمَا كَانَا يُجَالِسَانِ اليَهُودَ وَيَسْتَخْبِرَانِهِمْ عَمَّا كَانُوا يَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي سَائِرِ الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ النَّاطِقَةِ بِالمَلَاحِمِ.. فَكَانَتِ اليَهُودُ تَذْكُرُ أَنَّ مُحَمَّداً يُسَلَّطُ عَلَى العَرَبِ.. فَأَتَيَا مُحَمَّداً.. وَبَايَعَاهُ طَمَعاً فِي أَنْ يَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتِهِ وَلَايَةَ بَلَدٍ إِذَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ(7).
أرادا قتلَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بداية الأمر، فلما فشلا في ذلك، وأيقنا العجز عنه، آمنا طَمَعاً في أن ينالا شيئاً من حُطام الدّنيا بعدَه، ولما وجدا أن الأمر لا يؤول إليهما، اجتمعا مع الطلقاء والمنافقين، فقالوا:
إِنَّ مُحَمَّداً يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الأَمْرَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ كَسُنَّةِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَلَا وَالله مَا لَكُمْ فِي الحَيَاةِ مِنْ حَظٍّ إِنْ أَفْضَى هَذَا الأَمْرُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ(8).
حينها عادوا إلى سابق عهدهم، واسترجعوا مؤامرات بدء البعثة، وأُثيرَت فيهم كوامنُ النفوس ورغباتها بقتل نبيِّ الإسلام، وهم لم يؤمنوا به ولا بِرَبِّه طرفة عينٍ أبداً:
فَاجْتَمَعُوا فِي أَمْرِ رَسُولِ الله مِنَ القَتْلِ وَالِاغْتِيَالِ وَاسْتِقَاءِ السَّمِّ عَلَى غَيْرِ وَجْهٍ!
أفشلَ الله تعالى خطَّتهم في اغتياله، حتى أكملَ النبيُّ التبليغ، وأوصى في الغدير لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخَذَ له العهود والمواثيق منهم ومن جميع الأمّة، فدسّوا له السمّ! واتفقوا على قتل ذريَّته من بعده!
لقد قال الثاني للأول بعدما رفض عليٌّ أن يبايعهم: وَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ لَنَا أَمْرٌ حَتَّى نَقْتُلَه!(9).
ما أرادوا قتلَه وَحدَهُ ليستقيم لهم الأمر، إنَّها أحقادٌ ومؤامراتٌ أرادوا بها استئصال هذا البيت الطاهر.
أما قال عمر للزهراء (عليها السلام): أَخْرِجِي مَنْ فِي البَيْتِ وَإِلَّا أَحْرَقْتُهُ وَمَنْ فِيه.. وَفِي البَيْتِ عَلِيٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْن.. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: أَ فَتُحْرِقُ عَلى ولدِي؟
فَقَالَ: إِي وَالله أَوْ لَيَخْرُجُنَّ وَلَيُبَايِعُن(10).
أما احتجَّت عليه الزهراء فقالت:
وَيْحَكَ يَا عُمَرُ، مَا هَذِهِ الجُرْأَةُ عَلَى الله وَرَسُولِهِ؟!
تُرِيدُ أَنْ تَقْطَعَ نَسْلَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَتُفْنِيَهُ وَتُطْفِئَ نُورَ الله ﴿وَالله مُتِمُّ نُورِهِ﴾(11).
فما كان جوابه إلا أن قال:
كُفِّي يَا فَاطِمَةُ، فَلَيْسَ مُحَمَّدٌ حَاضِراً، وَلَا المَلَائِكَةُ آتِيَةً بِالأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالزَّجْرِ مِنْ عِنْدِ الله، وَمَا عَلِيٌّ إِلَّا كَأَحَدِ المُسْلِمِينَ، فَاخْتَارِي إِنْ شِئْتِ خُرُوجَهُ لِبَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ إِحْرَاقَكُمْ جَمِيعاً!(12).
مَحمدُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صار شهيداً عند ربِّه، قتلوه سمَّاً، والآن أرادوا قَطعَ نَسلِه من المباركة الزكية، بإحراقها وإحراق بعلها وبَنيها!
أيُّ حِقدٍ وغِلٍّ هذا؟! كان الطَّمَعُ مُحَرِّكاً ثم صار الحِقد والحسدُ طبعاً قبيحاً كريهاً اعتادت عليه النفوس الحقيرة.
إنَّه الحِقدُ والكُفرُ بالله ورسوله يُحرِّكُ القومَ لقتل الزَّهراء، وأتباعُهُم يرون في ذلك حِرصاً على الإسلام ودَرءاً للفتنة!
لقد قدَّمَ هؤلاء أمرَهم على أمر الله، أراد الله تعالى لهم الكرامة والعزَّة، وأرادوا لأنفسهم البهيمية والرذيلة!
قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): انِّي قَدْ أَوْصَيْتُ وَصِيِّي وَلَمْ أَهْمِلْكُمْ إِهْمَالَ البَهَائِمِ!(13).
فاللهُ تعالى يُفَضِّلُ الإنسان على البهائم، ولا يرضى لهم أن يكونوا مثلَها بلا راعٍ ولا مُرشدٍ يدلُّهم على طريق الحقّ ويَحمِلُهُم عليه، لكن: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلاً﴾(14).
كيف صاروا أضلَّ من الأنعام؟!
صاروا كذلك بإعراضهم عن اختيار الله تعالى، وإصرارهم على اختيارهم، مع قبح سريرتهم، وظلام نفوسهم، واسوداد قلوبهم.
كيف تُفلِحُ أمَّةٌ اتَّخذَت إماماً لنفسها مَن لم يسلَّ سيفاً إلا على رسولها وبضعته؟!
كيف تنجحُ أمَّةٌ لا تقرُّ بالفضل لأهله؟! تُقَدِّمُ من أخرَّ الله، وتؤخر من قدَّمَ الله؟! كيف سيوفق الله أمّةً تكافئ قاتلَ نبيِّها وبضعته؟!
لهذا صارَ أمرُ الأمَّة في سَفال، إلى أن تستقيم خلفَ إمامها المهديّ الموعود، عجَّلَ الله تعالى فرجه، وسهَّلَ مخرجه، وثبَّتنا على ولايته، والبراءة من أعدائه.
والحمد لله رب العالمين(15).
(1) كتاب (فاطمة بنت محمد) ص118.
(3) الطبقات الكبرى ج3 ص267، ونقله الحاكم في مستدركه ج4 ص٥٩ وغيرهما.
(4) كتاب سليم بن قيس ج2 ص585.
(8) إرشاد القلوب ج2 ص330.
(9) كتاب سليم بن قيس ج2 ص863.
(11) الهداية الكبرى ص407.
(12) بحار الأنوار ج53 ص18.
(13) طرف من الأنباء والمناقب ص147.
(15) الأربعاء 24 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق 29 - 12 - 2021 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|