بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغَرُورُ﴾(1).
لطالما أخلَفَ بنو آدم العهود والمواثيق والوعود، لكنَّ الله تعالى لا يخُلِفُ الميعاد، وقد وعدَ اللهُ الإنسانَ المؤمنَ بمغفرةٍ منه وجَنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، وَتَوَعَّدَ الإنسانَ الكافرَ بالعذاب خالداً في نار جهنم.
بل وَعَدَ اللهُ المؤمنين بالاستخلاف في هذه الدُّنيا قبل يوم القيامة حين قال عزَّ وجل: ﴿وَعَدَ الله الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ﴾(2).
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(3).
ومَن ينظُرِ فيما وَصَلَنَا من زَبور داوود (عليه السلام) من العهد القديم يجد ذلك بَيِّناً جلياً، ففيه: الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وفيه: أَمَّا الوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، ومن كلماته: لأَنَّ المُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وفيه: الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأَرْضَ(4).
لذا يعتقدُ المؤمنُ أنَّ الله تعالى سوف يمكِّنه في هذه الأرض قبل يوم القيامة، عندما يظهرُ الإمام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
ههنا يَطيب لبعض الناس أن يطرح سؤالاً فيقول:
ما دامَ مآل الأرض لكم أيها الشيعة كما تعتقدون، وقد وعدكم الله بها، وما دامت يدكم ستصيرُ العليا، فما بالكم قد سلكتم منهجاً عاديتُم به أقواماً وتبرَّأتم منهم؟ وقد أدى ذلك إلى المنافرة بينكم وبين أتباعهم.
لم لا تحكمنا المحبَّةُ والإلفة مع كلّ خلق الله؟ حتى تأتي الساعة الموعودة.
أليس هذا أكمل وأجدى وأكثر نفعاً لكم ولغيركم؟ لماذا أيُّها الشيعة تكثرون في هذه الأيام من ذكر مثالب مخالفيكم؟! أين روح التسامح؟
فلتنظروا إلى مَن غزا العالم بكلمات المحبَّة، تلك هي الكنيسة التي نسبت لعيسى (عليه السلام) قوله في الإنجيل: لا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً(5).
وقوله: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ(6).
ههنا يتأمَّلُ المؤمن في كلام هؤلاء، فيقول:
هل غابَ عنهم يا ترى أنَّ الشيعة ما سببوا النِّفرَةَ بحال من الأحوال؟! فليسوا أهلَ الظُّلم والاعتداء، لقد اعتدى الظالمون على أئمتهم وقادتهم وسادتهم أشرف خلق الله، فتبرأوا من الظالم.
أفهل تحكُمُ العقول بلزوم مودَّة المظلوم للظالم؟!
أفي شِرعة العقل أن يُمنَعَ المظلوم من بيان ظُلامته؟!
ولئن كان في بيان مناقب آل محمدٍ (عليهم السلام)، ومثالب أعدائهم ما يسبب شرخاً في الأمَّة، فلأنَّها أمَّةُ الجهل والحماقة! تلك التي تُقدِّمُ أعداء الله على أوليائه!
ثمَّ إن الاحتجاج بما نُقِلَ عن المسيح (عليه السلام) منقوضٌ بما احتواه الإنجيل من لَعنِ الظالمين والبراءة منهم، ولعن من يدَّعي مرتبةً ليست له، ففيه: نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ الله(7)، وفيه: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ(8).
ثمَّ إن الإنجيل يثبتُ أن المسيح لا يتسامح مع من لا يستحقُّ التسامُح، وها هو يقول أنَّه: يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ الأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ(9).
فليس من مَنهجِ العقل التجاوزُ عن الظالم، ولا من سلوك عيسى فيما نُسِبَ إليه في الإنجيل، ولا هو منهج القرآن الكريم، وقد أمرَ بالعداوة!
نَعَم، العداوة واجبةٌ مع صنفٍ من الخلق، وهي لا تنافي السماحة والمحبة التي ينتهجها المؤمن، لأنَّ المحبة في غير محلِّها تأخذُ الإنسان إلى العمى والضلال!
ذاك قولُ الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعيرِ﴾(10).
فالعلاقة بين المؤمن من جهة، وبين الشيطان وحزبه من جهةٍ أخرى، لا يمكن أن تكون خاضعةً لقوانين المودة والمحبَّة، فهو عَدوٌّ ينبغي معاداته، مع شدَّة خطره، وعظيم سَعيه لإضلال الخلق، وسِعَةِ حيلته، ودهائه ومكره، وقدرته الفائقة على التلوُّن والخداع والتلبيس.
فكيف نركنُ له وهو الداعي إلى نارٍ لا تَبيدُ ولا تَنفَد!
﴿أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُوني وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلاً﴾(11).
فإن قالَ قائلٌ: لئن صدَّقنا أن إبليسَ يستحقُّ العداوة، لأنَّه يدعو إلى النار، فما بالُكم عاديتم فئاماً وفئاماً من الخلق؟!
قلنا: إنَّ الدّعوة إلى النار لا تنحصر بإبليس اللّعين، بل يشتركُ معه فيها أئمة الضلال، الذين وصفهم تعالى فقال: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ﴾(12).
فصارَ ميزانُ العداوة هو الدَّعوة إلى النار، يشترك فيها إبليس مع أئمة النفاق هؤلاء، ومِن صفاتهم مخالفة حكم الله تعالى، وهو ما ظهَرَ جليّاً في أيام الزَّهراء، بضعة المصطفى، وقرينة المرتضى، المطهَّرة الزكية، وقد قالت (عليها السلام) لأوَّل هؤلاء الأئمة:
أَ أُغْلَبُ عَلَى إِرْثِي يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَ فِي كِتَابِ الله تَرِثُ أَبَاكَ وَلَا أَرِثُ أَبِي؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيًّا. أَ فَعَلَى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ الله وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ إِذْ يَقُولُ ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ﴾(13).
لقَد اعتمدَ هؤلاء الغَلَبَةَ سلاحاً في وجه الحق، فأوقعوا المسلمين في فتنةٍ عمَّت منذ ذلك اليوم إلى آخر الدَّهر، وقد أسلَسَت هذه الأمة لهم قيادها، وهي قادرةٌ على منعهم من جَورِهم، والذَّب عن آل الرسول، لكنَّها آثرت الإنتساب إلى حزب الشيطان، فبئساً لها ولما فعلت.
ما أفلح أئمة الجور في ظلمهم إلا لأن َّالأمة أسلست لهم قيادها، وفيها أهل قوَّةٍ وعدَّةٍ وعَدَد.. لكنَّه التخاذُل، وليس المؤمن اليومَ مِن أهله، فلا يصحُّ التنازل عن عداوة هؤلاء الظلمة، بهذه التبريرات الواهية.
إنَّ حزب الشيطان عدوٌّ للمؤمنين، وقد آثر أكثرُ المسلمين الاستجابة لدعوته، فصار منهم أئمة الكفر والنفاق وأتباعهم وأشياعهم، وقد ترأسوا معسكر الضلالة، وقد قال تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾(14).
ولا زال الشيعةُ يتمثَّلون قول الإمام العظيم، عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، حيث يقول في صحيفته المباركة: اللهم.. وَفِّقْنَا.. أَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا، حَاشَى مَنْ عُودِيَ فِيكَ وَلَكَ، فَإِنَّهُ العَدُوُّ الَّذِي لَا نُوَالِيهِ، وَالحِزْبُ الَّذِي لَا نُصَافِيهِ(15).
هي العداوةُ في الله، لا يمكن أن يدعو للتخلي عنها إلا الشيطانُ وحزبه، وقد عَرَفَ الشيعةُ ذلك، فوسموا كلَّ من دعاهم إلى موالاة أعداء الله بأنه عدوٌّ لله تعالى، فصار عدواً لا نواليه، ومنتسباً لحزبٍ لا نصافيه.
اللهم إنا نبرأ إليك منهم أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
والحمد لله رب العالمين(16).
(4) المزامير37: 9و11و22و29.
(9) كورنثوس الأولى15: 25.
(15) الصحيفة السجادية الدعاء44.
(16) الإثنين 15 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق 20 – 12 – 2021 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|