بعد معرفة وجود الله تعالى، يأتي الإيمان به، بمعنى الإقرار والتصديق، وهو مرحلة متأخرة عن المعرفة غير ملازمة لها، فليس كلُّ من عرف الله عزّ وجل آمن به وأقرّ بوجوده.
لقد ذهبت بعض الفرق كالجهمية إلى أن الإيمان هو المعرفة فقط دون الإقرار ودون سائر الطاعات(1).
لكنّ القرآن الكريم أبطل قولهم إذ يمكن أن يوقن الإنسان بوجود شيء كآيات الله لكنه يكون جاحداً بها، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المفْسِدينَ﴾(2).
ولكن هل أن الإيمان هو الإقرار القلبي فحسب؟ أم يشمل مختلف الطاعات والفروض؟
لقد وقع الكلام بين العلماء كثيراً في تحديد حقيقة الإيمان، ولا يهمنا الإطالة فيما لا ضرورة له هنا، وإنما الغرض بيان الجهتين: الإقرار القلبي، والإتيان بالفرائض.
كما ورد في الحديث الشريف عنهم (عليهم السلام): مَعْنَى صِفَةِ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ وَالخضُوعُ لله بِذُلِّ الْإِقْرَارِ وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِهِ، وَالْأَدَاءُ لَهُ بِعِلْمِ كُلِّ مَفْرُوضٍ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مِنْ حَدِّ التَّوْحِيدِ فَمَا دُونَهُ إِلَى آخِرِ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الطَّاعَةِ أَوَّلًا فَأَوَّلا(3).
فيشملَ الإيمانُ الإقرار أولاً، ثم إتيان الفرائض كلّها كبيرها وصغيرها، وهذان هما غاية بعثة الأنبياء بعد معرفة الله: الإقرار والخضوع له، وامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه.
وعندما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) أن الإيمان قولٌ وعملٌ أم قول بلا عمل؟ أجاب:
الْإِيمَانُ عَمَلٌ كُلُّهُ، وَالْقَوْلُ بَعْضُ ذَلِكَ الْعَمَلِ..
الْإِيمَانُ حَالاتٌ وَدَرَجَاتٌ وَطَبَقَاتٌ وَمَنَازِلُ، فَمِنْهُ التَّامُّ المنْتَهَى تَمَامُهُ، وَمِنْهُ النَّاقِصُ الْبَيِّنُ نُقْصَانُهُ، وَمِنْهُ الرَّاجِحُ الزَّائِدُ رُجْحَانُهُ..
لِأَنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ الْإِيمَانَ عَلَى جَوَارِحِ ابْنِ آدَمَ وَقَسَّمَهُ عَلَيْهَا وَفَرَّقَهُ فِيهَا، فَلَيْسَ مِنْ جَوَارِحِهِ جَارِحَةٌ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَتْ مِنَ الْإِيمَانِ بِغَيْرِ مَا وُكِّلَتْ بِهِ أُخْتُهَا:
فَمِنْهَا قَلْبُهُ الَّذِي بِهِ يَعْقِلُ وَيَفْقَهُ وَيَفْهَمُ، وَهُوَ أَمِيرُ بَدَنِهِ الَّذِي لَا تَرِدُ الْجَوَارِحُ وَلَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ وَأَمْرِهِ.
ومِنْهَا عَيْنَاهُ اللَّتَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَأُذُنَاهُ اللَّتَانِ يَسْمَعُ بِهِمَا وَيَدَاهُ اللَّتَانِ يَبْطِشُ بِهِمَا وَرِجْلَاهُ اللَّتَانِ يَمْشِي بِهِمَا...
فَفَرَضَ عَلَى الْقَلْبِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى السَّمْعِ وَفَرَضَ عَلَى السَّمْعِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى الْعَيْنَيْنِ وَفَرَضَ عَلَى الْعَيْنَيْنِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى اللِّسَانِ..
فَأَمَّا مَا فَرَضَ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْإِيمَانِ فَالْإِقْرَارُ وَالمعْرِفَةُ وَالْعَقْدُ وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إِلَهاً وَاحِداً لَمْ يَتَّخِذْ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (صلى الله عليه وآله) وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله مِنْ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ.. فَذَلِكَ مَا فَرَضَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالمعْرِفَةِ وَهُوَ عَمَلُهُ وَهُوَ رَأْسُ الْإِيمَانِ.
وفَرَضَ الله عَلَى اللِّسَانِ الْقَوْلَ وَالتَّعْبِيرَ عَنِ الْقَلْبِ بِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ..
ثم ذكر (عليه السلام) الفرائض على سائر الجوارح إلى أن قال:
فَمَنْ لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ حَافِظاً لِجَوَارِحِهِ مُوفِياً كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ مَا فَرَضَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَكْمِلًا لِإِيمَانِهِ.
وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ وَاحِداً لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ، وَلَاسْتَوَتِ النِّعَمُ فِيهِ، وَلَاسْتَوَى النَّاسُ وَبَطَلَ التَّفْضِيلُ، وَلَكِنْ بِتَمَامِ الْإِيمَانِ دَخَلَ المؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ، وَبِالزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ تَفَاضَلَ المؤْمِنُونَ بِالدَّرَجَاتِ عِنْدَ الله، وَبِالنُّقْصَانِ دَخَلَ المفَرِّطُونَ النَّارَ(4).
إذاً كُلَّما ارتقت مرتبة الإقرار في القلب ورسخ التصديق القلبي، وتفاضلت الأعمال، كلّما رقى المؤمن في درجته.
هذا هو ما يريده الله عزّ وجلّ من العباد ولا شيء سواه، أن يسلكوا سبيله مقتدين بالصالحين من عباده، خاضعين لأنبيائه ورسله، آخذين عنهم تعاليم السماء، مقرّين لهم بالفضل غير جاحدين.
وقد ورد عن زين العابدين (عليه السلام) قوله: مَنْ عَمِلَ بِمَا افْتَرَضَ الله عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ(5).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): يَا عَلِيُّ: ثَلَاثٌ مَنْ لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ بِهِنَّ فَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ:
1. مَنْ أَتَى الله بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ.
2. وَمَنْ وَرِعَ عَنْ مَحَارِمِ الله عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ مِنْ أَوْرَعِ النَّاسِ.
3. وَمَنْ قَنِعَ بِمَا رَزَقَهُ الله فَهُوَ مِنْ أَغْنَى النَّاس(6).
ومن هذا يُعرَفُ حالُ من سَلَكَ يميناً وشمالاً، فاخترعَ سبيلاً يخالف القرآن الكريم والسنة الشريفة ونهج منهاجاً مغايراً للعترة الطاهرة، فضلَّ وأضلّ خلق الله تعالى، وكلَّفهم ما لم يكلّفهم الله تعالى به، فليست طُرُق التصوف وربيبه العرفان هي الصراط المستقيم.. ولا الكشف هو سبيل الله..
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ المؤْمِنِينَ (عليه السلام): مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جُنَّةً حَتَّى يَعْمَلَ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً، فَإِذَا عَمِلَ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً انْكَشَفَتْ عَنْهُ الْجُنَنُ، فَيُوحِي الله إِلَيْهِمْ أَنِ اسْتُرُوا عَبْدِي بِأَجْنِحَتِكُمْ فَتَسْتُرُهُ الملَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا.
قَالَ: فَمَا يَدَعُ شَيْئاً مِنَ الْقَبِيحِ إِلَّا قَارَفَهُ حَتَّى يَمْتَدِحَ إِلَى النَّاسِ بِفِعْلِهِ الْقَبِيحِ، فَيَقُولُ الملَائِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا عَبْدُكَ مَا يَدَعُ شَيْئاً إِلَّا رَكِبَهُ وَإِنَّا لَنَسْتَحْيِي مِمَّا يَصْنَعُ.
فَيُوحِي الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ أَنِ ارْفَعُوا أَجْنِحَتَكُمْ عَنْهُ فَإِذَا فُعِلَ ذَلِكَ أَخَذَ فِي بُغْضِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْهَتِكُ سِتْرُهُ فِي السَّمَاءِ وَسِتْرُهُ فِي الْأَرْض(7)..
ومن هنا يُعرف حال بعض المتصوفة الذين قالوا بسقوط الأعمال وبإباحة كلّ شيء ولو في حالات خاصة(8).. ومن سلك مسلكهم ممّن تسمى بالعرفاء في بيتنا الشيعي.