بسم الله الرحمن الرحيم
وصفَ اللهُ تعالى نفسَهُ في سورة الحشر فقال: (الْعَزيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) (23).
إنَّ الإلهَ العظيمَ الجبّارَ قاهرٌ لعباده، لا يملكون منه أمراً..
والتجبُّرُ كالتكبُّر، من مُختَصّاته تعالى، حيثُ وَصَفَ به نفسه، ونفاه عن أنبيائه ورسله، أقرب الخلق إليه، فذكرَ منهم:
1. يحيى عليه السلام: (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) (مريم14).
2. وعيسى عليه السلام: (وَبَرًّا بِوالِدَتي وَلَمْ يَجْعَلْني جَبَّاراً شَقِيًّا) (مريم32).
3. وخير الخلق محمد صلى الله عليه وآله: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (ق45).
وهكذا صار التَجَبُّرُ تُهمةً اتُّهِمَ بها بعض أنبياء الله، منهم كليمه موسى عليه السلام حين قيل له: (إِنْ تُريدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) (القصص19).
ولكنَّ الأنبياء منزَّهون عن ذلك حقّاً، فإن جزاء المتجبِّر ما قاله تعالى: (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر35).
والتجبُّرُ قد يكون على صُوَرٍ، منها ما ذكره الفراهيدي:
1. والجَبَّار: العاتي على ربه، القتّال لرعيته..
2. والجَبَّار من الناس: العظيم في نفسه الذي لا يقبل موعظةَ أحد.. (العين ج6 ص117).
أما المعنى الأوَّل، فهو ما اعتادَ النّاسُ وصفَ الملوك الظالمين به، المتسلِّطين على رقاب النّاس، الذين يقهرونهم بالباطل ظُلماً وعدواناً.
لكن في ثاني المعنيين نوعٌ من الغرابة، إذ كيف يكون (العظيمُ في نفسه) جبّاراً ؟!
نُقَلِّبُ صفحات كتب اللغة، فنرى من كلماتهم في التَجَبُّر واستعمالاته أنَّهُ:
- جِنْسٌ من العظَمة والعُلوّ (معجم مقائيس اللغة ج1 ص501).
- وأنّه: يقال لمن يجبر نقيصته بادّعاء منزلة من التعالي لا يستحقها (مفردات ألفاظ القرآن ص184).
- والجَبَّارُ: المتكبر الذي لا يرى لأَحد عليه حقّاً (لسان العرب ج4 ص113).
- وقَلْبٌ جَبَّارٌ: ذو كبر لا يقبل موعظة (لسان العرب ج4 ص113).
بهذا يتَّضح أن الجبّارَ ليس هو الملك العاتي وحده، ولا المتسلِّطُ الظالم فقط، فإنَّ مِنَ النّاس من يعيشُ التَجَبُّرَ ولو كان وضيعاً بين النّاس، يعيشُ التجبُّر بينه وبين نفسه، يستشعرُ العظمَةَ في ذاته بدلاً من التذلُّل أمام الله تعالى، يرى لنفسه رِفعةً أمام الله عزَّ وجل أو أمام عياله.. ولا يرى لأحدٍ عليه حقاً، ولا يرى أحداً خيراً منه، ولا يقبلُ نصيحةً من أحد، ولا يستمع لمتكلِّمٍ مهما كان.
إنَّهُ يُنازعُ الله تعالى في علوّه وعظمته، فيصيرُ جبّاراً !
وعلامات التَجَبُّر قد تكون جليَّةً بيِّنة، وقد تكون خفية..
وقد يتَّصفُ بها الملوك، وقد تعثُرُ عليها في من لا يُحتمل التجبُّر في حقِّه، حتى في النِّساء الضعاف، كالمرأة التي: (قِيلَ لَهَا تَنَحَّيْ عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ الله)، فامتنعت بحجّة كون الطريق عريضاً، فهمَّ بها بعضُهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ ! (الكافي ج2 ص309).
هكذا يكونُ مَن نراهُ مخلوقاً ضعيفاً مستحقَّاً للشفقة والرَّحمة (جبّاراً): (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) !
وهذا نوعُ امتحانٍ يخضعُ له عبادُ الله، فمَن خلع جلباب التواضع ابتلي بالتجبُّر، وكان أبعدَ الناس عن الله تعالى، كما عن الصادق عليه السلام: الْجَبَّارُونَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (ثواب الأعمال ص222).
لكنَّ أكثرَ النّاس امتحاناً بهذا الأمر هم (أهلُ العلم)، حَمَلَةُ رسالة السَّماء، الذين يلزمهم التواضع في كل حالاتهم، فإن لم يكونوا كذلك، كانوا (علماء جبابرة)!
فعن الصادق عليه السلام:
1. اطْلُبُوا الْعِلْمَ.
2. وَتَزَيَّنُوا مَعَهُ بِالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ.
3. وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَهُ الْعِلْمَ.
4. وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ طَلَبْتُمْ مِنْهُ الْعِلْمَ.
5. وَلَا تَكُونُوا عُلَمَاءَ جَبَّارِينَ ! فَيَذْهَبَ بَاطِلُكُمْ بِحَقِّكُمْ (الكافي ج1 ص36).
لَقَد اقترَنَ التواضُعُ بالعلم، فكان خيرُ خلق الله وأعلمهم على الأطلق أكثرهم تواضعاً، وهو الذي خاطبه الله تعالى: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنينَ) (الحجر88).
وأما مَن لم يكن متواضعاً في تعلُّمه من العلماء، وتعليمه لعباد الله، كان (جبّاراً) ! وصار عِلمُهُ وبالاً عليه !
نعم.. إنَّ ممَّن يتزيا بزيّ أهل العلم مَن يكون (جبّاراً) في نفسه ! وقَد بيّن الصادق عليه السلام بعضاً من علاماته، فعنه عليه السلام:
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَذْهَبُ فِي عِلْمِهِ مَذْهَبَ الْجَبَابِرَةِ وَالسَّلَاطِينِ:
1. فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ
2. أَوْ قُصِّرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ
غَضِبَ ! فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الرَّابِعِ مِنَ النَّارِ (أعلام الدين ص97).
لقد أصيبَ هؤلاء بالتجبُّر (في عِلمهم)، فكانوا على مذهب السلاطين الظلمة، أولئك يظلمون عباد الله بالقهر والبطش لتجبُّرهم، وهؤلاء يملكون قلوباً متجبِّرة ! وقد يجتمعُ الوصفان عند بعضهم !
وهؤلاء العلماء الجبابرة لا يرون لأحدٍ حقّاً في مناقشتهم حتى وإن كان محقاً !
ولا يقبلون الردَّ عليهم ولو كلمةً مقابل الكلمة..
يُعامِلُ أحدُهُم عبادَ الله كأنَّه صاحب الفضل والفضيلة عليهم جميعاً، وكأنّه أعلى وأسمى وأرفع من كل مَن سواه، ولا يقبلُ من أحدٍ موعظةً ولو كانت حقاً وصدقاً !
ثمَّ يرى لنفسه حقاً على الناس، يغضبُ إذا ما قصَّروا في أدائه، أو خالفوه في شيء من قوله!
ولكن.. لماذا صار هذا في الدّرك الرابع من النار ؟!
إنّ المتكبّر ينازعُ الله رداء الكبرياء، وهذا المتجبِّر ينازع الله رداء العظمة والعلوّ.
ومنشأ هاتين الخصلتين الذميمتين شيءٌ واحد: الذلّة !
فعن الصادق عليه السلام: مَا مِنْ رَجُلٍ تَكَبَّرَ أَوْ تَجَبَّرَ إِلَّا لِذِلَّةٍ وَجَدَهَا فِي نَفْسِهِ (الكافي ج2 ص312).
هي نفوسٌ ذليلةٌ حقيرةٌ، يسعى أصحابُها للتخلُّص من هذا الذلّ بالتجبُّر !
تُقابِلُها نفوسُ المؤمنين التي تتواضع لله ولعباده المؤمنين، فيرفعها الله تعالى في الدُّنيا والآخرة.
ثمَّ يخفض المتكبر المتجبر، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: إِنَّ فِي السَّمَاءِ مَلَكَيْنِ مُوَكَّلَيْنِ بِالْعِبَادِ فَمَنْ تَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ وَضَعَاهُ (المحاسن ج1 ص123).
ثم يجزيهم (مَنَازِلُ الْجَبَّارِينَ)، حيث (سَقَر)، فيستقرّون في جُبٍّ يُدعى (هَبْهَبُ): كُلَّمَا كُشِفَ غِطَاءُ ذَلِكَ الْجُبِّ ضَجَّ أَهْلُ النَّارِ مِنْ حَرِّهِ ! (المحاسن ج1 ص123).
هكذا يصيرُ الامتحانُ عظيماً لأهل العلم، وقد هوَّنَهُ عليهم أنبياء الله ورسله، حينما كانوا قمَّة في التواضع، فهذا روح الله عيسى بن مريم عليه السلام يغسل أقدام الحواريين ! ثم يقول لهم: إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْخِدْمَةِ الْعَالِمُ، إِنَّمَا تَوَاضَعْتُ هَكَذَا لِكَيْمَا تَتَوَاضَعُوا بَعْدِي فِي النَّاسِ كَتَوَاضُعِي لَكُمْ ! (الكافي ج1 ص37).
نعم للعالِمِ حقٌّ على الجاهل، لكنَّه يغضُّ النظر عن حقه ويتواضع في تعلُّمه وتعليمه..
هذه سنَّةُ الله في شريعة عيسى عليه السلام كما في شريعة محمد صلى الله عليه وآله، بل سنَّته في كل العصور والدُّهور.. فمن تواضع لله رفعه، ومَن تكبَّر أو تجبَّر كان ذليلاً في نفسه، وعندَ ربه..
اللهمَّ إنّا لا نرى لأنفسنا خطراً وعزّاً أمامك.. ولا فضلاً على عبادك.. فآمنّا من هذا البلاء، وادفعه عنا، وارحمنا برحمتك، وأعنّا على حمل أمانتك.. إنك مجيب الدّعاء.
والحمد لله رب العالمين
الجمعة 22 ربيع الأول 1443 هـ
29 - 10 - 2021 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|