• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
              • القسم الفرعي : عرفان آل محمد (ع) .
                    • الموضوع : فصل10. معرفة الله في نهج البلاغة .

فصل10. معرفة الله في نهج البلاغة

فصل10. معرفة الله في نهج البلاغة

بعد هذه الأبحاث المختصرة، نستعرض بعض كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) من خطبه الغراء في نهج البلاغة، وهي على إيجازها فإنّها أروع ما يبيّن حقيقة التوحيد، ويعطي صورة عامة عن ملامح المعرفة بالله تعالى عند آل محمد (عليهم السلام).

فقرة1

الحمْدُ لله الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ وَلَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ وَلَا يُؤَدِّي حَقَّهُ المجْتَهِدُونَ الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَلَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَلَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَلَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَلَا أَجَلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَنَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَوَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ.

أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ وَكَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الموْصُوفِ وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ الله سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَمَنْ‏ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَمَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ وَمَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ: كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ، مَعَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ وَغَيْرُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ، فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الحرَكَاتِ وَالْآلَةِ، بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَلَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِه‏(1).

فقرة2

الحمْدُ لله الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الْأَمُوُرِ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الظُّهُورِ وَامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ فَلَا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ وَلَا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلَا شَيْ‏ءَ أَعْلَى مِنْهُ وَقَرُبَ فِي‏ الدُّنُوِّ فَلَا شَيْ‏ءَ أَقْرَبُ مِنْهُ، فَلَا اسْتِعْلَاؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي المكَانِ بِهِ.

لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ وَلَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلَامُ الْوُجُودِ عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُهُ المشَبِّهُونَ بِهِ وَالْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّاً كَبِيرا(2).

فقرة3

الحمْدُ لله الَّذِي لَا يَفِرُهُ المنْعُ وَالْجُمُودُ وَلَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَالْجُودُ.. الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ قَبْلَهُ وَالْآخِرُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ‏ لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ بَعْدَهُ وَالرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الحالُ وَلَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ..

فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ وَلَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى الله سُبْحَانَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ الله عَلَيْكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ المضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ المحْجُوبِ فَمَدَحَ الله  تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ الله سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.

هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ وَحَاوَلَ الْفِكْرُ المبَرَّأُ مِنْ خَطْرِ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ وَغَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا وَهِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.

فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ وَلَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه..

الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ وَلَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ وَاعْتِرَافِ الحاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ وَأَعْلَامُ حِكْمَتِهِ فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ وَدَلَالَتُهُ عَلَى المبْدِعِ قَائِمَةٌ.

فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ وَتَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ المحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ المتْبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ ﴿تَالله إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾.

كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ المخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ وَجَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ المجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ وَقَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ المخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ وَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ وَالْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ وَنَطَقَتْ عَنْهُ‏ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ.

وَإِنَّكَ أَنْتَ الله الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً وَلَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفا(3).

فقرة4

الحمْدُ لله الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ وَبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ‏ وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ.

لَا تَسْتَلِمُهُ المشَاعِرُ وَلَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ لِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَالمصْنُوعِ وَالحادِّ وَالمحْدُودِ وَالرَّبِّ وَالمرْبُوبِ.

الْأَحَدِ بِلَا تَأْوِيلِ عَدَدٍ وَالْخَالِقِ لَا بِمَعْنَى حَرَكَةٍ وَنَصَبٍ، وَالسَّمِيعِ لَا بِأَدَاةٍ، وَالْبَصِيرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ، وَالشَّاهِدِ لَا بِمُمَاسَّةٍ وَالْبَائِنِ لَا بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ وَالظَّاهِرِ لَا بِرُؤْيَةٍ وَالْبَاطِنِ لَا بِلَطَافَةٍ.

بَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَبَانَتِ الْأَشْيَاءُ مِنْهُ بِالخضُوعِ لَهُ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ وَمَنْ قَالَ كَيْفَ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ وَمَنْ قَالَ أَيْنَ فَقَدْ حَيَّزَهُ عَالِمٌ إِذْ لَا مَعْلُومٌ وَرَبٌّ إِذْ لَا مَرْبُوبٌ وَقَادِرٌ إِذْ لَا مَقْدُور(4).

فقرة5

الحمْدُ لله خَالِقِ الْعِبَادِ وَسَاطِحِ الْمِهَادِ وَمُسِيلِ الْوِهَادِ وَمُخْصِبِ النِّجَادِ لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَلَا لِأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَزَلْ وَالْبَاقِي بِلَا أَجَلٍ خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ وَوَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ، حَدَّ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا، لَا تُقَدِّرُهُ الْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَالحرَكَاتِ وَلَا بِالْجَوَارِحِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا يُقَالُ لَهُ مَتَى وَلَا يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِحَتَّى، الظَّاهِرُ لَا يُقَالُ مِمَّ وَالْبَاطِنُ لَا يُقَالُ فِيمَ لَا شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى وَلَا مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى لَمْ يَقْرُبْ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ وَلَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ وَلَا كُرُورُ لَفْظَةٍ وَلَا ازْدِلَافُ رَبْوَةٍ وَلَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ فِي لَيْلٍ دَاجٍ وَلَا غَسَقٍ‏ سَاجٍ‏(5)..

فقرة6

لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً وَلَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَلَا زَمَانٌ وَلَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِيرِ المتْقَنِ وَالْقَضَاءِ المبْرَمِ.

فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلَا عَمَدٍ قَائِمَاتٍ بِلَا سَنَدٍ دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَلَا مُبْطِئَاتٍ..

وَ الحمْدُ لله الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ، لَا يُدْرَكُ بِوَهْمٍ وَلَا يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ وَلَا يَشْغَلُهُ سَائِلٌ وَلَا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ وَلَا يَنْظُرُ بِعَيْنٍ وَلَا يُحَدُّ بِأَيْنٍ وَلَا يُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ وَلَا يَخْلُقُ بِعِلَاجٍ وَلَا يُدْرَكُ بِالحوَاسِّ وَلَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ.

الَّذِي كَلَّمَ مُوسى‏ تَكْلِيماً وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً بِلَا جَوَارِحَ وَلَا أَدَوَاتٍ وَلَا نُطْقٍ وَلَا لَهَوَاتٍ.

بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا المتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ فَصِفْ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَجُنُودَ الملَائِكَةِ المقَرَّبِينَ فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَمَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ وَأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُور(6).

فقرة7

مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ وَلَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ وَلَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ.

فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَلَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ وَالِابْتِدَاءَ أَزَلُهُ أَوَّلُهُ‏ بِتَشْعِيرِهِ المشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ..

لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَلَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ وَإِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا وَتُشِيرُ الْآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا..

 لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ وَطَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَلَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ وَلَا تُدْرِكُهُ الحوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَلَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَلَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ وَلَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ وَلَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَالظَّلَامُ.

وَلَا يُوصَفُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَلَا بِالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ وَلَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَلَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَالْأَبْعَاضِ وَلَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَلَا نِهَايَةٌ وَلَا انْقِطَاعٌ وَلَا غَايَةٌ وَلَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ يَعْدِلَهُ‏ لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَلَا عَنْهَا بِخَارِجٍ يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَلَهَوَاتٍ وَيَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَأَدَوَاتٍ يَقُولُ وَلَا يَلْفِظُ وَيَحْفَظُ وَلَا يَتَحَفَّظُ وَيُرِيدُ وَلَا يُضْمِرُ.

يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَلَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً.

لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ المحْدَثَاتُ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ وَلَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَالمصْنُوعُ وَيَتَكَافَأَ المبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ..

خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَضَرِّهِ وَلَا كُفْ‏ءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ هُوَ المفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا وَلَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَاخْتِرَاعِهَا

وَكَيْفَ وَلَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَبَهَائِمِهَا وَمَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَسَائِمِهَا وَأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَأَجْنَاسِهَا وَمُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَأَكْيَاسِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا وَلَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا وَلَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَتَاهَتْ وَعَجَزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ وَرَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا

وَإِنَّهُ‏ إِنَّ الله سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْ‏ءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلَا وَقْتٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَا حِينٍ وَلَا زَمَانٍ عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْآجَالُ وَالْأَوْقَاتُ وَزَالَتِ السِّنُونَ وَالسَّاعَاتُ فَلَا شَيْ‏ءَ إِلَّا الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا وَبِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا..

ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا وَلَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا وَلَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ وَلَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَعَمًى إِلَى حَالِ‏ عِلْمٍ وَالْتِمَاسٍ وَلَا مِنْ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَكَثْرَةٍ وَلَا مِنْ ذُلٍّ وَضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَقُدْرَة(7).

فقرة8

الحمْدُ لله الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ المخْلُوقِينَ الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرِينَ وَالْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ المتَوَهِّمِينَ الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ وَلَا ازْدِيَادٍ وَلَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ المقَدِّرِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ وَلَا ضَمِيرٍ الَّذِي لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ وَلَا يَسْتَضِي‏ءُ بِالْأَنْوَارِ وَلَا يَرْهَقُهُ لَيْلٌ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالْإِبْصَارِ وَلَا عِلْمُهُ بِالْإِخْبَار(8).

كانت هذه فقراتٌ من كلمات النور، تظهر فيها قِمَمُ التنزيه لله تعالى وإظهار عظمته عزّ وجل، وهي وحدها تفتحُ أبواباً عميقة للتدبُّر والتفكّر، وتحتاج إلى بسط الحديث فيها، علّنا نُوفّق لذلك في فرصة أخرى إن شاء الله.

 


(1) نهج البلاغة (للصبحي صالح) ص39.

(2) نهج البلاغة (للصبحي صالح) ص87.

(3) نهج البلاغة (للصبحي صالح) ص124.

(4) نهج البلاغة (للصبحي صالح) ص211.

(5) نهج البلاغة (للصبحي صالح) ص232.

(6) نهج البلاغة (للصبحي صالح) ص260.

(7) نهج البلاغة (للصبحي صالح) ص272.

(8) نهج البلاغة (للصبحي صالح) ص329.


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=17
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5