• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : سيد الشهداء عليه السلام .
                    • الموضوع : 106. لماذا يبكي الشيعةُ الحسين ؟! .

106. لماذا يبكي الشيعةُ الحسين ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

قَال أَبُو عَبْدِ الله الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (ع):

أَنَا قَتِيلُ العَبْرَةِ، لَا يَذْكُرُنِي مُؤْمِنٌ الا اسْتَعْبَرَ (الأمالي للصدوق ص137).

الإمامُ المعصوم، سَيِّدُ شباب أهل الجنة، يُحَدِّثُ عن نفسِه قَبلَ أن يُستشهَد..

هو مظلومٌ.. ولكنَّهُ ما قال أنَّه قتيل الظُّلامة..

هو شهيدُ الهدُى.. ولكنَّهُ ما قال أنَّهُ قتيلُ الهُدى..

بل قال: أَنَا قَتِيلُ العَبْرَةِ !

(العَبْرَةُ) هي (الدَّمْعَةُ)، وعَبْرَةُ الدَّمْعِ: جَرْيُه، واسْتَعْبَرَ: جَرَت عَبْرَتُهُ.

هُوَ قتيلُ الدُّمعة إذاً !

فمَن ذا الذي بَكاهُ حتى صار قتيلَ العَبرة ؟!

لقد ورد عنهم عليهم السلام أنَّه قد: بَكَتْهُ السَّمَاءُ وَمَنْ فِيهَا !

وَالأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا ! وَلَمَّا يَطَأْ لَابَتَيْهَا ! (مصباح المتهجد ج‏2 ص826).

لكنَّ الحديثَ خصَّ المؤمنين بالبكاء فقال: لَا يَذْكُرُنِي مُؤْمِنٌ الا اسْتَعْبَرَ !

فلماذا يبكي المؤمنون الحسين عليه السلام ؟ ولماذا تجري عَبرَتُهم عليه ؟

هل يبكونه لنَيلِ الثواب ؟! وغفران الذُّنوب ؟! والنَّفع وجَني الثِّمار ؟!

أم يبكونَه حُبَّاً له ورحمةً به وشفقةً عليه ؟!

يعلم المؤمنون أنَّ للبكاء آثاراً عجيبة، لكنَّهم لا يبكون لأجلها.

فمَن قال أنّهم يبكون لغَرَضٍ يطلبونه ؟!

إن البكاء أثَرٌ لعاطِفَةٍ جيّاشةٍ، بحيث تدمع عينُ المحبِّ بعدما يعتصرُ قلبُه الماً.. وقلوبُ المؤمنين تنكسرُ عند ذكر الحسين عليه السلام، والله تعالى عند المنكسِرَةِ قلوبهم.

ههنا يقول قائل:

لماذا تبكون وتعصون ؟!

لماذا تبكون ومجتمعكم متخلِّف جاهلٌ ؟!

 فيُجيبُ مؤمنٌ:

نعصي لأنّنا لا نعرفُ الحسين حقاً، ونجهلُ ولا تستقيمُ أمورنا لأنّا لم نعطي ال محمد حقَّهم.

ظننتُم أنّنا نبكي الحسين لنتعلّم منه؟

لا والله.. إنّا وإن كنا نتعلم منه كل يومٍ وليلةٍ كيف نحيا بعِزَّةٍ وكرامة.. لكننا نبكيه لأن الله تعالى زَرَعَ في قلوبنا حبَّه ولَيَّنَها له.

هل يُفَكِّرُ العاقلُ بفائدة البكاء عند فقد الأحبة؟! أم تسيلُ عيناهُ عَطفاً وشفقةً ورحمةً لهم ؟!

ومَن أحبُّ الى قَلب المؤمن من الحسين عليه السلام وال الحسين ؟!

وهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يتحدَّثُ عن حال الإمام الحسين عليه السلام لما برز ابنه عليّ للميدان:

فَلَمَّا بَرَزَ اليْهِمْ دَمَعَتْ عَيْنُ الحُسَيْنِ (ع)، فَقَال: اللهمَّ كُنْ أَنْتَ الشَّهِيدَ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ بَرَزَ اليْهِمُ ابْنُ رَسُولِكَ، وَأَشْبَهُ النَّاسِ وَجْهاً وَسَمْتاً بِه‏ (الأمالي  للصدوق ص162).

فسالت دموعُ الحسين عليه السلام رحمةً بولده وحُبَّاً له، وسالت دموعُ الشيعة حُبَّاً للحسين عليه السلام ورحمةً له.

يوم الحسين أقرح جفوننا.. وأسبل دموعنا !

يقول الإمام الرضا عليه السلام:

إِنَّ يَوْمَ الحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا ! وَأَسْبَلَ دُمُوعَنَا ! (الأمالي للصدوق 127).

ههنا تحارُ العقول !

يعودُ الباحثُ الى كُتُبِ اللغة لينظر في هذه الكلمات ومعانيها، فيجد أن الجَفْنَ معروفٌ واضحٌ، وهو غطاءُ العين مِن أَعلى وأَسفل.

أمّا القَرحُ، فهو الجُرحُ من أثر السِّلَاحِ، أو المُ الجِراح، أو الأثرُ من الجرح أو مِن غيرِه، كما يُقال: ما زلت آكل الورق حتى أقرح شفتيَّ.

وأَسْبَلَ المطرُ والدمعُ، إذا هطل.

فما الذي جرى مع ال محمدٍ عليهم السلام ؟! والإمام لا يتحدث عن نفسه فقط، بل (عنهم) عليهم السلام.

لقد هَطَلَت دموعهم لأجل الحسين عليه السلام، فتتابعت قطراتُها وسالت، لكن الى أيِّ حدّ؟

الى حدِّ أنَّ أجفان ال محمدٍ قد تقرَّحَت !

فهَل أصابَ أجفانَ ال محمدٍ ما يُشبهُ الجراحَ من كثرة الدَّمع على الحسين؟! هل تشقَّقَت من الدموع كما يتشقَّقُ الجِلدُ من أثرِ السيف ؟!

أم كانت عيونُهم تتالمُ من أثَرِ البكاء كما تتالمُ قلوبُهم على الحسين ؟!

العبارةُ تحتمِلُ كلَّ ذلك، والله العالمُ بحال تلك الأسرة الشريفة وعيونِها الطاهرة، وما تحمَّلَت وعانت، مما جرى على الحسين عليه السلام.

البكاءُ رحمةً للحسين !

لا يبكي الشيعةُ الحسينَ إذاً لتُغفَرَ ذنوبُهم وإن كانت تُغفر بذلك، وهل بكاه الرَّسول لتُغفَرَ ذنوبُه وهو المعصوم المطهَّر ؟!

ولا يبكيه الشيعةُ ليتعلّموا من مدرسته ويتطوروا وإن تعلَّموا منها وارتقوا، وهل بكاه ملائكة الرحمان لأجل ذلك ؟!

لقد دعا الإمام الصادق عليه السلام للعيون التي جَرَت دموُعها على ال محمد (ص)، لكنَّ سبب جريان الدُّموع في دعائه ما كان شيئاً سوى الرَّحمة لال محمد عليهم السلام، فقال عليه السلام:

وَارْحَمْ تِلْكَ الأَعْيُنَ التِي جَرَتْ دُمُوعُهَا رَحْمَةً لَنَا ! وَارْحَمْ تِلْكَ القُلُوبَ التِي جَزِعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لَنَا ! (كامل الزيارات ص117).

هيَ قلوبٌ عُجِنَت على حبِّ محمدٍ واله، فجَزعَت واحترقت لهم، وأخَذَ هذا الجزع بيد أصحابها الى طريق الله.

كيف لا ونور الإمام في قلوب المؤمنين: أَنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ المُضِيئَةِ بِالنَّهَار.

لقد طلبَ الإمام العسكريُّ عليه السلام من الله تعالى أن يصلي على الباكين على الحسين، وما كان بكاؤهم الا (رحمةً وشفقةً) له عليه السلام، يقول الإمام:

الا وَصَلَّى الله عَلَى البَاكِينَ عَلَى الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) رَحْمَةً وَشَفَقَةً (تفسير الإمام ص369).

فأيُّ ثناءٍ استحقَّهُ هؤلاء لبكائهم رحمةً على الحسين ؟! وأيُّ رحمةٍ من الله تتنزل عليهم بذلك ؟!

دموع الباكين وماء الحياة !

عن الإمام عليه السلام:

الا إِنَّ الله لَيَأْمُرُ المَلَائِكَةَ المُقَرَّبِينَ أَنْ يَتَلَقَّوْا دُمُوعَهُمُ المَصْبُوبَةَ لِقَتْلِ الحُسَيْنِ (ع) الى الخُزَّانِ فِي الجِنَانِ، فَيَمْزِجُونَهَا بِمَاءِ الحَيَوَانِ، فَيَزِيدُ فِي عُذُوبَتِهَا وَطِيبِهَا الفَ ضِعْفِهَا !

لقد اختار الله تعالى ال محمد والنبيين والملائكة المقرَّبين وفضَّلهم على غيرهم لعلمه بأنّهم: لَا يُوَاقِعُونَ مَا يَخْرُجُونَ بِهِ عَنْ وَلَايَتِه‏ (عيون أخبار الرضا ج1 ص270).

وهؤلاء الملائكة هم الصفوة والنُّخبة، وهم الذين يتلقَّون دموع الشيعة التي تبكي الحسين !

الدَّمعُ في الظاهر يسقط على خدود الباكين أوّلاً ثمّ يتناثر.. لكنَّ الملائكة المقربين يتلقَّون الدُّموع ويذهبون بها الى خزّان الجنان، فيمزجونها بماء الحياة، والله يعلَمُ ما هو..

فتصيرُ دموعُ الباكين عذبَةً طيِّبَةً بعدما كانت مالحة !

ماذا يفعلُ بها الملائكة بعد ذلك ؟! عِلمُ ذلك عند الله تعالى، لكنّ ما نعلمه هو أنّ هذه الدموع هي التي قال عنها الإمام عليه السلام:

وَمَا بَكَى أَحَدٌ رَحْمَةً لَنَا وَلِمَا لَقِينَا الا رَحِمَهُ الله قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ الدَّمْعَةُ مِنْ عَيْنِهِ، فَإِذَا سَالتْ دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّهِ، فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ دُمُوعِهِ سَقَطَتْ فِي جَهَنَّمَ لَأَطْفَأَتْ حَرَّهَا حَتَّى لَا يُوجَدَ لَهَا حَرٌّ! (كامل الزيارات ص102).

أيُّ معادلةٍ هذه لقطراتٍ سالت على الحسين الشَّهيد ؟! ومَن ذا يُدركُ أبعادَ ذلك وعظمته ؟!

لقد قال الإمام زينُ العابدين عليه السلام: أَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى تَسِيلَ عَلَى خَدِّهِ فِينَا لِأَذًى مَسَّنَا مِنْ عَدُوِّنَا فِي الدُّنْيَا بَوَّأَهُ الله بِهَا فِي الجَنَّةِ مُبَوَّأَ صِدْقٍ (كامل الزيارات ص100).

هكذا صارَ الحُسينُ قتيلَ العَبرة ! يبكيه المؤمنون أسىً ورحمةً وشفقةً عليه، وحبَّاً به عليه السلام.

فيجزيهم ربُّهم ثواباً عظيماً، ويجعل يومهم في القيامة يومَ فرحٍ وسرور، ويقرّ أعينهم بذلك.

اللهم اجعلنا منهم، وعظِّم أجورنا بمصابنا بسيِّد الشهداء، واحشرنا معه بحق دموع الباكين عليه.

وإنا لله وإنا اليه راجعون.

الأحد سادس محرم 1443 هـ

15 8 2021 م


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=164
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5