بسم الله الرحمن الرحيم
عندما تحينُ سَاعَةُ الكرامة، لسَيِّدَة النِّساء في يوم القيامة، ينادي مُنادٍ من بطنان العرش:
يَا مَعْشَرَ الخَلَائِقِ، غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ حَتَّى تَمُرَّ بِنْتُ حَبِيبِ الله الى قَصْرِهَا !
لا يتركُ النبيُّ صلى الله عليه واله الأمر مُبهَماً، فيُسَمِّيها بشَخصها ويقول (ص): فَاطِمَةُ (ع) ابْنَتِي.
حينَها تمرُّ ومعها سبعون الف حوراء، الى أن تبلُغ بابَ قَصرِها، وههنا يحصَلُ ما يُفاجئ المتأمِّل في أحداث يومِ القيامة، فهذه الزَّهراء التي أكرَمَها الله تعالى بأن أمر الخلائق بِغَضِّ الأبصار لأجلها، ترى ما يسوؤها عندما تبلغ باب قَصرها !
فعن النبي صلى الله عليه واله:
فَإِذَا بَلَغَتْ الى بَابِ قَصْرِهَا وَجَدَتِ الحَسَنَ قَائِماً، وَالحُسَيْنَ نَائِماً مَقْطُوعَ الرَّأْسِ !
أمرٌ يُثير الدّهشةَ والغرابة !
هذا محلُّ النَّعيم في الآخرة، فلماذا ترى الزَّهراءُ ابنَها الحسين مقطوعَ الرَّأس ؟!
كيف تتهنَّأُ ذلك اليوم في قصرها إذا كان الحسينُ بلا رأس على بابها ؟!
وأين الكرامةُ من الله تعالى في ذلك إذاً ؟! الا يَحجِبُ المُحبُّ كلَّ سوءٍ عمّن يحبُّه ؟! فلماذا لم يحجب الله تعالى ذلك عنها ؟!
ما يلبَثُ أن يأتيها النداءُ من عند الله تعالى، فيَدفَع لنا استغرابنا: إِنِّي إِنَّمَا أَرَيْتُكِ مَا فَعَلَتْ بِهِ أُمَّةُ أَبِيكِ، إِنِّي ادَّخَرْتُ لَكِ عِنْدِي تَعْزِيَةً بِمُصِيبَتِكِ فِيهِ.
التعزية هي ما يفعله أحدٌ ليُصَبِّر أحداً على ما رُزِئَ به وفَقَدَه، والله تعالى ينادي الزهراء عليها السلام في ذلك اليوم ليبيِّنَ أنَّهُ ما أراد لها الأذى، وهو الذي يرضى لرضاها ويغضب لغضبها، بل إنّ رؤيتها للحسين عليه السلام مقطوعَ الرأس في ذلك اليوم مُقدِّمَةٌ لمزيدِ كرامةٍ من الله تعالى لها، وهذا صوتُ النداء من الله تعالى يكشف ذلك:
وَإِنِّي جَعَلْتُ تَعْزِيَتَكِ اليَوْمَ أَنِّي لَا أَنْظُرُ فِي مُحَاسَبَةِ العِبَادِ حَتَّى:
1. تَدْخُلِي الجَنَّةَ أَنْتِ
2. وَذُرِّيَّتُكِ
3. وَشِيعَتُكِ
4. وَمَنْ وَالاكُمْ أَوْلَاكُمْ مَعْرُوفاً مِمَّنْ بمن لَيْسَ هُوَ مِنْ شِيعَتِكِ
قَبْلَ أَنْ أَنْظُرَ فِي مُحَاسَبَةِ العِبَادِ ! (تفسير فرات ص269)
ليست تَعزيةُ الاله الغنيِّ العظيم القدير كتعزية مَن دونَه من خَلقه !
لن تُنصَبَ الموازين التي قال عنها تعالى: ﴿وَنَضَعُ المَوازينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيامَة﴾، ولن ينظر الله في أعمال العِباد ليحاسبهم شديداً أو يسيراً، حتى يكتملَ دخولُ أفواجٍ من الناس للجنة.
الزّهراءُ سيِّدةُ النِّساء، يتبعها ذريّتها وشيعتها الذين اتّبعوا أباها وبعلها وابناها والأئمة المعصومين جميعاً.
ثم يلحقُ بهؤلاء مَن أولاهم مَعروفاً ولم يكن منهم !
أيّة كرامةٍ وتعزيةٍ هذه ؟!
ذاك يومٌ ﴿يَجْعَلُ الوِلْدانَ شيباً﴾، يفرُّ المرء فيه من أخيه، وأمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكنَّ مَن كان للزهراء مُوالياً، ولها مُحباً، كان من الآمنين الذين ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَر﴾.
أيُكتفى في يومِ الجزاء وفي عزاءِ الله لها بذلك ؟! وهل تنسى الزَّهراء من قَتَلَ وَلَدَها الشهيد ؟!
أتدخُلُ الجنّة قبل أن يُعاقَبَ هؤلاء ؟!
يكشفُ لنا الصادق جعفر بن محمد عليه السلام حَدَثاً آخر يسبقُ هذه الواقعة، قبل أن تصل الزهراء الى باب قصرها، وقبل أن تُقبِل الى الجنة، وبعد أن يغضّ الخلقُ أبصارَهم وينكسوا رؤوسَهم:
تَقِفُ مَوْقِفاً شَرِيفاً مِنْ مَوَاقِفِ القِيَامَةِ، ثُمَّ تَنْزِلُ عَنْ نَجِيبِهَا، فَتَأْخُذُ قَمِيصَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) بِيَدِهَا مُضَمَّخاً بِدَمِهِ، وَتَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا قَمِيصُ وَلَدِي، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا صُنِعَ بِهِ !
الزَّهراء التي يرضى الله لرضاها، عندما تقفُ في موقفٍ (شريفٍ) تحملُ هذا القميص، ولا تطلُب عقاباً محدَّداً لهؤلاء، بل تشتكي الى الله تعالى..
لا تذكر ما جرى عليه.. يا رَبّ.. قَدْ عَلِمْتَ مَا صُنِعَ بِهِ !
ماذا صُنِعَ به يا زهراء ؟! هل ستقيمين حينها مأتماً يُذكَرُ فيه ما صُنِعَ به ؟! أم أنّ الخلائق كلُّهم سيرون ذلك رأي العين ﴿فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَديد﴾ ؟! أم أنّ الموقف الشريف هذا لا يُناسب ذكر مصيبته فتُذكر في محلٍّ آخر ؟!
هذا ما لا سبيل لنا لمعرفته.. لكنّ ما نعرفه هو أنّ الله تعالى يناديها: يَا فَاطِمَةُ لَكِ عِنْدِي الرِّضَا !
هناك التعزية، وهنا الرضا.. وهل رضاهُ أمرٌ جديد مع هذه الأسرة الطاهرة ؟!
لقد سبق أن قال الحسين عليه السلام لما عزم على الخروج الى العراق: رِضَى الله رِضَانَا أَهْلَ البَيْتِ، نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ وَيُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ (نزهة الناظر ص85).
الله تعالى يَعِدُ فاطمة بالرضا، فتقول عليها السلام: يَا رَبِّ انْتَصِرْ لِي مِنْ قَاتِلِهِ.
فما حال من ينتصرُ الله تعالى له ؟! وما حال من ينتصر الله تعالى منه ؟!
فَيَأْمُرُ الله تَعَالى عُنُقاً مِنَ النَّارِ، فَتَخْرُجُ مِنْ جَهَنَّمَ، فَتَلْتَقِطُ قَتَلَةَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) كَمَا يَلْتَقِطُ الطَّيْرُ الحَبَّ، ثُمَّ يَعُودُ العُنُقُ بِهِمْ الى النَّارِ فَيُعَذَّبُونَ فِيهَا بِأَنْوَاعِ العَذَابِ.
لكلِّ معصيةٍ نوعٌ من أنواع العذاب، لكنّ هؤلاء يعذّبون (بأنواع العذاب) المختلفة، ولا تنتظِرُهُم النّار أن يدخلوها، بل يخرج عُنُقٌ منها الى خارجها ويلتقطهم ويأتي بهم اليها !
فهؤلاء ممّن اشتدّ غضب الله عليهم لقتلهم ابن بنتِ نبيِّهم، والله شديد العقاب.
بعدَ هذا الموقف الشريف، تَرْكَبُ فَاطِمَةُ (ع) نَجِيبَهَا حَتَّى تَدْخُلَ الجَنَّةَ، وَمَعَهَا المَلَائِكَةُ المُشَيِّعُونَ لَهَا، وَذُرِّيَّتُهَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ النَّاسِ عَنْ يَمِينِهَا وَشِمَالهَا (الأمالي للمفيد ص130).
يجتَمِعُ بهذا أمران: العقاب على الأعداء، والإكرام للأولياء.
الحديث الثاني يُبَيِّن انتصار الله تعالى للزهراء وعذاب قاتلي ولدها الحسين، والحديث الأول يُبَيِّن تعزية الله تعالى لها، حين يُدخل الى الجنة ذريّتها ومحبيها ومَن أحسن اليهم.
ولا يزال البابُ مفتوحاً في هذه الأيام للانضمام الى كلا الصنفين:
فمؤمنٌ ينضمُّ الى شيعتها، ويحي أمرَها وأمرَ قرة عينها الحسين عليه السلام.
ومنافقٌ يرضى بأفعال قتلة الحسين عليه السلام فيكون معهم..
ومُذَبذَبٌ بينَ هؤلاء وهؤلاء.. لا يُدرى كيف تُختم حياته !
اللهم اجعلنا من شيعتهم.. وادفع عنّا أذى أعدائهم.. وعظِّم لنا أجورنا بمصابهم.. واحشرنا معهم قبل أن تنظر في محاسبة العِباد..
وإنا لله وإنا اليه راجعون.
الخميس 3 محرم 1443 هـ
12- 8 – 2021 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|