لهجت مدرسة الأنبياء العظام بالتوحيد، من آدم ونوح وإبراهيم، إلى عيسى وموسى.. فمحمدٍ (صلى الله عليه وآله) ومَن بينهم من المرسلين (عليهم السلام)، وأطبقوا على كونه تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء﴾(1) وعلى تنزيهه تعالى من أيّ مشابهةٍ بخلقه، وأيّ حلولٍ في المكان او احتياجٍ للمخلوق..
لكن تحريف الأديان السماوية أوصل إلى أقوال فاسدة تسرّبت من سائر الأديان، ومن ذلك ما ذهبت إليه فئات من النصارى وهو القول باتحاد الله بعيسى، وذلك حسب ما يتراءى من بعض نصوص الإنجيل، حيث ورد في إنجيل يوحنا: أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ(2).
وفي نصوص إنجيلية أخرى أن الأب في الإبن والإبن في الأب، فقد حل الأول في الثاني: أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبُ فِيَّ؟ الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الحالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ(3)..
وتابعتهم في ذلك جملةٌ من المدارس الصوفية فقالت بحلول الله تعالى في بعض أوليائه! أو باتحاد الخالق مع بعض مخلوقاته! وعبّرت عن ذلك بصريح الكلام تارة، وبكلامٍ حمّال أوجهٍ تارة أخرى..
فمن كلماتهم قول البسطامي: لا إله إلا أنا فاعبدون!(4). وقوله: سبحاني ما أعظم شأني!(5).
وقوله: كنت أطلب الله طيلة ثلاثين عاماً، وعندما نظرت، كان هو الطالب وأنا المطلوب!(6).
وقوله: أنّ الله- تعالى- اطلع على العالم فقال: يا ابا يزيد كلّهم عبيدي غيرك! فأَخْرَجَني من العبوديّة(7).
وزعم أنّ الله تعالى خاطبه قائلاً: يا أبا يزيد! إنهم كلّهم خلقي غيرك. فقلت: فأنا أنت، وأنت أنا!(8).
وزعم أن الله قال له: ما أنت إلا الحق. بالحق نطقت... فقلت أنا بك. قال: إذا كنت أنت بي، فأنا أنت، وأنت أنا!.. ووصفني بصفاته التي لا يشاركه فيها أحد. ثم قال لي: توحّد بوحدانيتي، وتفرّد بفردانيتي.. فنظر إليّ نظرة بعين القدرة. فأعدمني بكونه، وظهر فيّ بذاته.. فصارت الكلمة واحدة. وصار الكل بالكل واحداً.. فصارت صفاتي صفات الربوبية(9)..
وقول الجنيد: ليس في جبّتي سوى الله!(10).
ومثله قال أبو سعيد بن أبي الخير: ليس في الجبة غير الله!(11).
وقول الحلاج:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
نحن مُذ كنا على عهد الهوى يضرب الأمثال للنّاس بنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا(12)
وقوله:
أنا أنت بلا شكّ فسبحانك سبحاني
وتوحيدك توحيدي وعصيانك عصياني
وإسخاطك إسخاطي وغفرانك غفراني(13)
وكقول أبي بكر الشبليّ:
تباركت خطراتي في تعالائي فلا إله إذا فكرّت الّائي(14)
وكقوله: كاشفني الحقّ.. فقال: كلّ الخلائق عبيدي غيرك، فإنّك أنا!(15).
وعبّر بعضهم عن الاتحاد بالوحدة، كنجم الدين الرازي(16)، قال:
الوحدة: وهي المقام المحمود الذي اختص به محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: ﴿عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً﴾ الإسراء: 79 دون سائر الخلائق، اللهم إلا بعض خواص الأولياء من أمته... فيصير حينئذ الذاكرُ مذكوراً، والمذكور ذاكراً، ويتبدل الأين بالعين، والمباينة بالمعاينة، والاثنينية بالوحدة(17)..
وذهب ابن عربي (القائل بوحدة الوجود) إلى أن هذه العبائر تعني تصيير الذاتين ذاتاً واحدة، وذلك أثناء حديثه عن مقام حرف الباء، فإن للحروف عندهم مقامات عجيبة! قال عن أحد تلك المقامات:
وهذا هو المقام الذي يقال فيه: أنا من أهوى ومن أهوى أنا...
وقال الآخر فيه: أنا الحق.
وقال الله تعالى فيه: كنت سمعه وبصره.
وهو تصيير الذاتين ذاتاً واحدةً في العين، وأنها ذات واحدة في النطق، ولولا الشد ما عرف أحد ذاتين، ولكن في عالم الشهادة ذات واحدة كما نعلم- قطعاً- أن إحياء الموتى ليس إلا لله(18).
وتنوّعت كلمات جماعة من المتصوفة وتفنّنت في إطلاق مثل هذه الكلمات.
حتى العرفاء الشيعة لم تخلُ كلماتهم من استخدام عبارة الاتحاد!
يقول السيد محسن الطهراني عن اتحاد العارف بالذات الإلهية:
وصارت ذاته بمعيّة الذات الأحدية بل صارت متّحدة بها. وبعبارة أخرى: أن يكونوا قد خرجوا من أنفسهم وصاروا متّحدين به تعالى(19).
... لأنه لم يعد لهذا الشخص نفس حتى نتساءل هل أن كلامه ومطالبه صدرت عن هوى نفسه وهوسها أم لا؟(20).
... ولم يعد لديهم نفس أصلًا حتى يقاس عملهم ويزان من خلالها(21)..
ويقرّ غيرهم من العرفاء بهذه الأقوال على أنها من مراتب التوحيد، يقول (العارف أحمد الموسوي النجفي):
انظر الآن أيّها الأخ الروحاني كيف أنّ برقة واحدة من عالم التّوحيد عندما لمعت في قلب عارف، صار يقول: (سبحاني سبحاني ما أعظم شأني)، والحال أنّه لم يشرب غير قطرة واحدة من بحر التّوحيد في وادي الصّفات(22).
ويقول:
في كلّ وقت تحررتَ من هذا الوادي وصرت متصلاً بالمبدأ، فعند ذلك يمكن أنْ تدّعي قول لا إله إلاّ أنا، لا إله إلاّ أنت، لا إله إلا هو، لا إله إلاّ الله(23).
ويعتقد أن النبي صاحب المعجزة (يتوحّد) مع المبدأ (الخالق)! فتصدر عنه المعجزات، فلا يحترق إبراهيم (عليه السلام) بالنار مثلاً لأنه توحد مع الله تعالى! يقول:
إنّ المعجزة دلالة على أنّ فاعل المعجزة صار واحداً مع المبدأ، فكلّ ما يصدر عن المبدأ يصدر عن المتوحّد معه، وهذا هو نداء التوحيد.
إنّ الله وحده يمكنه أنْ يقوم بهذه الأفعال، ولا يوجد متصرف غيره في عالم الوجود، ولكن عندما نسمع أنّ عيسى بن مريم يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى، فهذا لا يعني وجود إلهين بل هذا يعني أنّ عيسى بن مريم (عليه السلام) صار واحداً مع المبدأ...
إنّ إبراهيم لم يحترق بنار نمرود لأنّ الله لا يحترق بنار نمرود ولا نار غيره، وحيث أنّه وصل إلى التّوحيد، فلمْ يحترق بالنار، محمد(24)..
فيما أطبق العلماء والفقهاء الشيعة على بطلان هذه العقيدة، وأنها كفرٌ بالله تعالى كما سيأتي في الفصل الخامس..
مع كلّ هذه الأقوال، أنكرَ جماعةٌ من أكابر المتصوّفة وجود القائل بالحلول بينهم، مُدَّعين إجماع الصوفية على نفيه، ومن هؤلاء أبو بكر محمد بن إسحاق البخاري الكلاباذي المتوفى سنة 380 هـ الذي قيل عن كتابه (التعرف): لولا التعرّف لما عرف التصوف(25).
قال في كتابه المذكور:
اجتمعت الصوفية على أن الله واحد أحد.. غير مشبه للخلق بوجه من الوجوه. لا تشبه ذاته الذوات ولا صفته الصفات.. لا يحويه مكان، ولا يجرى عليه زمان. لا تجوز عليه المماسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن. لا تحيط به الأفكار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الأبصار(26).
لكن يلاحظ أن دعوى الإجماع إنما تنفي الحلول في الأماكن دون الإتحاد ودون حلول الله تعالى في قلب العبد وهو ما نُسب إلى بعض المتصوفة.
أما أبو نصر السراج الطوسي المعاصر له (المتوفي سنة 378 هـ) فإنه ما نفى وجود القائل بالحلول، بل ذكر القائل وخطّأه وحكم بضلاله، قال:
بلغني أن جماعة من الحلولية زعموا ان الحقّ تعالى ذكره اصطفى اجساما حلّ فيها بمعاني الربوبيّة وأزال عنها معاني البشرية، فإن صحّ عن أحد انه قال هذه المقالة وظنّ أن التوحيد أبدى له صفحته بما اشار اليه فقد غلط في ذلك، وذهب عليه ان الشيء في الشيء مجانسٌ للشيء الذي حلّ فيه، والله تعالى باين من الاشياء والاشياء باينة منه بصفاتها.. وإنّما ضلّت الحلولية ان صحّ عنهم ذلك لأنّهم لم يميّزوا بين القدرة التي هى صفة القادر وبين الشواهد التى تدلّ على قدرة القادر وصنعة الصانع فتاهت عند ذلك.. والذي غلط في الحلول غلط لأنه لم يحسن أن يميّز بين أوصاف الحقّ وبين أوصاف الخلق لأن الله تعالى لا يحلّ في القلوب، وانّما يحلّ في القلوب الايمان به والتصديق له والتوحيد والمعرفة (27).
أما السهروردي فقد عدّ الحلولية ممن (انتمى إلى الصوفية وليس منهم)، قال:
ومن جملة أولئك قوم يقولون بالحلول، ويزعمون أن اللّه تعالى يحل فيهم ويحل في أجسام يصطفيها، ويسبق لأفهامهم معنى من قول النصارى في اللاهوت والناسوت(28)..
لم يُطبِق الصوفية فعلاً على القول بالحلول، فأغلب متأخريهم قد تبرؤوا منه، لكن الاتحاد عندهم كان أكثر انتشاراً كما تقدّمت كلماتهم، وقالت به فِرَقٌ منهم.
ولا تُقبلُ دعواهم إجماع الصوفية على إنكار الحلول، كيف وهم يُعظِّمون أربابَهم القائلين به كالحلاج وسواه، وهو القائل: نحن روحان حللنا بدنا!
ولئن سُمِعَ كلامهم في نفي القائل بالحلول تَنَزُّلاً، فإنه أجنبي عن الإتحاد رأساً، مع ظهور كلمات كبارهم في الإتحاد، وقد تقدّم بعضها..
لما كان القولُ بالحلول أو الاتحاد لا يستقيم مع الإيمان بالله تعالى، ولمّا كثرت كلمات أقطاب التصوف هاتفةً بأحد هذين المعتقدين، ولمّا كان أقطاب التصوُّف في أعلى منازل القرب من الله تعالى بحسب اعتقاد المتصوفة، لجأ أئمتهم إلى تأويل كلمات الحلول والاتحاد، بوجوه لا تستقيم مع حقيقة معتقدهم ولا مع كلماتهم.. يصح القول في أغلبها أنها تأويلٌ بما لا يرضى به صاحبه! أو حملٌ على خلاف الظاهر دون قرينة..
وها نحن نذكر اثني عشر وجهاً من وجوه التأويل (قد يقرب بعضها من بعض) مع المناقشة فيها:
قال أبو نصر السراج الطوسي(29) محاولاً تأويل كلمات البسطامي:
يحتمل ان يكون لهذا الكلام مقدّمات، فيقول يعقّبه سبحاني سبحاني: يحكي عن الله تعالى بقول سبحاني سبحاني! لأنّا لو سمعنا رجلا يقول ﴿لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ما كان يختلج في قلوبنا شيء غير أن نعلم أنّه هو ذا يقرأ القرآن، أو هو ذا يصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وكذلك لو سمعنا دايبا ابا يزيد رحمه الله او غيره وهو يقول: سبحاني سبحاني، لم نشكّ بأنّه يسبّح الله تعالى ويصفه بما وصف به نفسه (30).
وتبعه في ذلك الغزالي(31) حيث قال:
وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه، كما لو سمع وهو يقول: ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني﴾، فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية(32).
وتبعهما في ذلك السهروردي(33) بقوله:
مثل قول الحلاج: أنا الحق، وما يحكي عن أبي يزيد من قوله: سبحاني. حاشا أن نعتقد في أبي يزيد أنه يقول ذلك إلا على معنى الحكاية عن الله تعالى. وهكذا ينبغي أن يعتقد في قول الحلاج ذلك(34).
وكذلك فعل فريد الدين عطار النيشابوري(35) حينما روى حكايةً عن البسطامي وذهابه للحج، إلى أن قال:
وأدّى صلاة الصبح ثم نظر إليهم وقال: ﴿إِنِّي أَنَا الله لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾. قالوا: جُنَّ هذا الرجل، وتركوه، ومضوا وهنا كان الشيخ يتحدث بلسان الله، مثلما يقولون على المنبر «حكاية عن ربه»(36)..
ومثلهم فعل صدر المتألهين(37) وسواه.
تتمحور محاولات الدفاع هذه حول أمرين:
الدفاع الأول: (احتمال) أن يكون هذا الكلام مسبوقاً أو ملحوقاً بقرائن تدلّ على أنه يحكي عن الله تعالى.
ومثل هذا الاحتمال مردود بأصالة عدم وجود القرينة، فلا يمكن صرف اللفظ عن ظاهره لمجرد احتمال وجود القرينة دون وجودها فعلاً، فإنّ هذا يعني إلغاء العمل بظواهر الكلام مطلقاً، ومعظم المحاورات بين المتكلمين مبنية على حجية الظاهر.
بل إننا ندّعي قيام القرائن على أنّهم إنما يريدون نسبة الألوهية لأنفسهم لأن هذا قد فاح في كلماتهم ولاح في أقوالهم وعرفوا به واشتهروا حتى طبق الآفاق، وقد تقدّم بعضها وسيأتي المزيد.
الدفاع الثاني: أنّا (لا نشكّ بأنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه).
وعدم الشكّ هنا مختصّ بمن أخذ على نفسه تبرير كلماتهم وجزم بصحة ما هم عليه، ولا قاعدة عقلية أو شرعية أو عرفية تسيغ لنا ذلك، فإن تُركنا نحن والعبارة دلّت على قولهم بالحلول أو الاتحاد مع الله! وإن ضممنا إليها سائر تصريحاتهم لا يبقى مجال للشك في إرادتهم العقيدة الباطلة وفي أنهم لا يقصدون وصف الله تعالى بما وصف به نفسه.
ولئن كان هذا التبرير ممكناً مع بعض العبائر (لو تمت القرائن) فإنه غير ممكن أبداً مع بعضها الآخر، كقولهم المتقدم (ليس في جبتي سوى الله)، (نحن إثنان حللنا بدنا)، (كان الله هو الطالب وأنا المطلوب)، (أنا أنت بلا شكّ فسبحانك سبحاني)، (فيصير حينئذ الذاكرُ مذكوراً، والمذكور ذاكراً، ويتبدل الأين بالعين، والمباينة بالمعاينة، والاثنينية بالوحدة)، (تصيير الذاتين ذاتاً واحدةً).
فهذه الكلمات كلها مما يمتنع القول بأنها عباراتُ وصفٍ لله بما وصف به نفسه كما هو واضح.
وعليه فإن هذا التبرير غير موفق أبداً في الدفاع عنهم.
قال عطار النيشابوري عن البسطامي:
وكان في خلوةٍ ذات مرة، فجرى على لسانه «سبحاني ما أعظم شأني»(38).
وقال:
قالوا لأبي يزيد: سيكون الناس يوم القيامة تحت لواء محمد (صلّى الله عليه وسلم) فقال: بربوبية الله، إن لوائي سيعلو لواء محمد، وسيكون الأنبياء والخلائق تحت لوائي..
إن لهذا الشخص لسان الحق، وهو متحدث عن الحق أيضاً.. لا جرم أن الحق يتحدث على لسان أبي يزيد ويفسر ذلك: «لوائي أعظم من لواء محمد» بل لواء الحق أعظم من لواء محمد فطالما تجيز أن تنبعث «إِنِّي أَنَا الله» من شجرة، فأجز أن تصدر «لوائي أعظم من لواء محمد» «وسبحاني ما أعظم شاني» من شجرة سليقة أبي يزيد(39).
وتبعه في ذلك الوسطاني قائلاً:
وإنّي لأعجب ممّن يرضى بأن يخرج من شجرة (أنا الله) لماذا لا يرضى بشجرة نابتة في «لا» التي تصدر عن حسين (أنا الحقّ). والحسين في وسط (لا). وكما قال الحقّ تعالى عن لسان عمر: «إن الحقّ لينطق على لسان عمر»، وهنا لا وجود للحلول ولا للاتحاد..(40).
كذلك تبعهم نجم الدين الكُبْرَى (توفي سنة 618 هـ) فقال:
فتتجلّى حينئذ سبحات وجهه الكريم، ويجرى على لسان السيّار بحكم الاضطرار: «سبحاني سبحاني، ما أعظم شأني» هذا إذا كان السّيّار مستغرقا كل الاستغراق؛ أما إذا كان محفوظاً، فيقول حينئذ سبحانه سبحانه، ما أعظم شأنه!(41).
وعمدة هذا التبرير أن هذه الأقوال قد جرت على لسانهم! أي أن الله تعالى أجراها على لسان هذا العارف، وذلك (بحكم الاضطرار) كما يقول نجم الدين!
والوجه في ذلك مستوحى من الآية الشريفة والخطاب الإلهي لنبي الله موسى (عليه السلام): ﴿فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا الله رَبُّ الْعالَمينَ﴾(42).
فإنّهم جعلوا صدور هذه الكلمات من أقطابهم نوعاً من الخطاب الإلهي الذي يصدر على لسانهم دون أن يكون لهم دور في ذلك، تماماً كما الشجرة.
ويردّ هذا الوجه أمران:
الأمر الأول: أنه خالٍ عن أيّ دليل، فإن كلام الله سبحانه وتعالى لموسى ﴿وَكَلَّمَ الله مُوسى تَكْليماً﴾(43) هو أمرٌ إعجازي اختص الله تعالى به نبيّه موسى (عليه السلام)، ودلّ على وقوعه القرآن الكريم فآمنا به، أما ما يزعمه هؤلاء فمما لا دليل عليه.
ويُلاحظ أن القرآن الكريم كلّما ذكر لنا كلام الله عزّ وجل لموسى (عليه السلام) قرنه بدليل مُعجِز، ففي سورة طه بعد قوله تعالى ﴿إِنَّني أَنَا الله لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْني﴾ ألقى (عليه السلام) العصا ﴿فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى﴾.
ومثلها في سورتي النمل(44) والقصص(45) لما نودي: ﴿يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا الله الْعَزيزُ الحكيمُ﴾(46) اقترن ذلك بالإعجاز أيضاً ﴿أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ﴾(47).
لذا روينا عن الباقر (عليه السلام) أن موسى طلب الدليل على كون الخطاب خطاباً إلهياً، فعنه (عليه السلام): ﴿فَنَادَاهُ الله أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا الله رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ قَالَ مُوسَى: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟
قَالَ الله: مَا فِي يَمِينِكَ يا مُوسى؟
﴿قالَ هِيَ عَصاي﴾.. ﴿قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها﴾ فَصَارَتْ حَيَّةً تَسْعَى(48)..
فكلّ من يدّعي صدور خطابٍ إلهي على لسان أحد من هؤلاء يكون مطالباً بالدليل على ذلك، ولا دليل في البين.
على أن بعض الروايات وإن كانت ضعيفة السند فإنها تؤيد هذا المعنى، حيث ذكرت أنهم سمعوا الخطاب من كلّ الجهات، وهو أمر إعجازي كذلك، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): فَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَسْتَمِعَ كَلَامَهُ كَمَا سَمِعْت.. وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى الطُّورِ وَسَأَلَ الله تَعَالَى أَنْ يُكَلِّمَهُ وَيُسْمِعَهُمْ كَلَامَهُ، فَكَلَّمَهُ الله تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَسَمِعُوا كَلَامَهُ مِنْ فَوْقُ وَأَسْفَلُ وَيَمِينُ وَشِمَالُ وَوَرَاءُ وَأَمَامُ لِأَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَحْدَثَهُ فِي الشَّجَرَةِ وَجَعَلَهُ مُنْبَعِثاً مِنْهَا حَتَّى سَمِعُوهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوه(49)..
الأمر الثاني: أنّه خلاف الحكمة والعدل الإلهيين.
لأن إحداث الكلام في شيء من الجمادات هو أمرٌ إعجازي يظهر فيه إكرام الله لنبيه موسى (عليه السلام)، فتظهر الحكمة فيه واضحة جلية.
بينما صدور الكلام الإلهي بحكم الاضطرار على لسان بعض المكلفين يثبت الجبر لا الاختيار، فيكون الله تعالى قد أجرى عليهم ما دلّ على كفرهم عند الخلق، ويكون الخلق مكلفون بالتعامل معهم وفق ما يظهر منهم وبالتالي يحكم عليهم بالكفر والزندقة، وهم لا حول لهم في صدور هذه الكلمات، فيكون تغريراً من الله تعالى بهم، وتحميلاً لهم لآثار قولٍ لا دخل لهم في صدوره، وهو خلاف العدل الإلهي بلا شك، وخلاف الحكمة الإلهية ففيه نقض الغرض، بحيث يقتل هؤلاء بدلاً من أن يكرموا.
وأرباب التصوف يقرّون بجواز استحقاق قائل هذه الكلمات للعقاب في الشريعة، مع كونه (بحسب هذا التبرير غير مختار)، وقد صرّح بذلك الشبلي كما يروي عنه العطار النيشابوري رؤياه للحلاج في النوم بعد قتله فيقول:
وروي عن الشّبلي قوله: رأيت الحسين (أي الحلاج) في المنام، فقلت: ماذا فعل الله تعالى بأولئك القوم؟
فقال: رحم الفريقين، فمن أشفق عليّ فقد عرفني، ومن عاداني لم يعرفني، فعاداني لأجل الحقّ، فرحم الاثنين؛ لأن كليهما كان معذوراً(50).
واعترف باستحقاقه العقاب أيضا شيخهم الأكبر ابن عربي(51) وسواه.. فيكون إجراء الله لذلك على لسانهم إنزالاً للعقاب الدنيوي بهم في أمرٍ خارج عن اختيارهم، ومخالفاً للحكمة الإلهية.
وبهذا يتضح أن هذا الوجه أيضاً غير تام.
فضلاً عن كونه (لو تمّ) مختصاً ببعض العبائر ولا يشمل مثل قولهم: أنا من أهوى، أو قولهم: ليس في جبتي سوى الله، وأمثال ذلك.
ولجأ غيرهم إلى تأويلات أخرى، فقال السهروردي:
فيعود المحب بفوائد اكتساب الصفات من المحبوب، فيقول عند ذلك:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فــإذا أبصــرتني أبصـرته وإذا أبصـرته أبصــرتنا
وهذا الذي عبرنا عنه حقيقة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخلقوا بأخلاق الله)(52).
ثم يقول:
ومن ظن من الوصول غير ما ذكرناه أو تخايل له غير هذا القدر فهو متعرّض لمذهب النصارى في اللاهوت والناسوت. وإشارات الشيوخ في الاستغراق والفناء كلها عائدة إلى تحقيق مقام المحبة، باستيلاء نور اليقين وخلاصة الذكر على القلب..(53).
إن في هذا الكلام خلطاً عجيباً، بين محبة الله تعالى واليقين به وذكره تعالى من جهة، وبين (اكتساب الصفات من المحبوب) التي تعني عندهم (أنا من أهوى ومن أهوى أنا)!
فلا المعنى اللغوي ولا المعنى القرآني يساعد على إثبات صلة بين هذين الأمرين.
ففي كتب اللغة: حب: الحاء والباء أصول ثلاثة، أحدها اللزوم والثَّبات.. وأمّا اللزوم فالحبّ والمحَبّة، اشتقاقه من أحَبَّه إذا لزمه(54).
وفيها: أَحْبَبْتُه نقيض أبغضته(55).
وفي آيات الكتاب الكريم: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحيمٌ﴾(56).
إن طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وملازمته والثبات على الاعتقاد به علامة على حبّ الله تعالى، فكيف اخترع هؤلاء علاقة بين محبة الله تعالى وبين عبائر الحلول والاتحاد، فإنك إن قرأت كلمات أئمة التصوف وجدتها صريحة بعقيدة امتزاج الحقائق بين الخالق والمخلوق، فهذا ابن عربي يقول:
فانتهضنا عن الملكوتيات مرتحلين، وكنا نخاطب الحقيقة مرتجلين:
أنا الذي انت فمن ذا الذي قال أنا وانت اينيتي
قـال انـا قلت انا قال قل قلت انا قال بأنيتي
انت أنا لا انت غيري وقد كنت انا وانت عينيتي
قلت انا لا بل انا حاضر وغائب عني وعن حضرتي(57)
ويختم أبياته بقوله:
الله رب وانا عبده والكل في قهري وفي قبضتي
فلما امتزجت الحقائق، واتحد المعشوق والعاشق، برزت الألوهية فى سلطانها(58).
فلماذا لم يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) مثل هذا الكلام إن كان حقاً، طالما أن طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) هي علامة الحبّ لله تعالى؟
وما حقيقة أعلى مقامات الحبّ لله تعالى؟ وهي التي بلغها النبي (صلى الله عليه وآله) بل كانت محصورة به (صلى الله عليه وآله): وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ لَا حَبِيبَ إِلَّا هُوَ وَأَهْلُه(59).. حتى صار طريقاً لكل حبّ لله تعالى.
إن أول ما يسقط هذه المزاعم هو مخالفتها لأوامر الله تعالى بالخروج عن الموازين الشرعية في كلماتٍ صريحة في الكفر يزعمون أنها قمة المحبة لله تعالى!
يقول (شيخ مشايخ الإسلام وقدوة الصوفية) العز بن عبد السلام:
فكذلك القلب له وجهان: وجه مما يلي الجثمانية البشرية ووجه مما يلي عيان جمال الله عز وجل... وبالوجه المواجهة عيان جمال الله عز وجل وقد اكتسب منه نوراً غرق صاحبه فيه واستغرقه في مشاهدته حتى ظن أنه هو، حتى قال صاحبه: أنا هو...
فلا عجب أن يقول أنا هو... فما بالك بقلب قطعت مادته مما سوى الله تعالى، وجعل غذاؤه ذكر الله سبحانه وشرابه حب الله تعالى وحركته بالله سبحانه وقيامه لله تعالى، وفنى وجوده ببقاء الله تعالى عز وجل فاستحال تقدير البين في البين لأنه لم يبق له أثر ولا عين، وهذا كله مبنى على أصلين مخلصين من قوله تعالى (يحبهم ويحبونه)(60).
محبتهم لله إذاً ومحبة الله تعالى لهم (كما في الوجه السابق) أوصلت العارف منهم إلى حالٍ (ظَنَّ) معه أنه الله تعالى! فقال (أنا هو)! و(لا عجب أن يقول أنا هو) بزعمهم لكثرة محبته لله تعالى وطاعته له!
كلّ ذلك مع دعواهم نفي القول بالحلول والنزول والاتصال:
ثم اعلم وفقك الله أن الله تعالى لا يوصف بشيء مما أشرنا إليه في الأحاديث ولا في غيرها بحلول ولا نزول ولا اتصال ولا انفصال ولا ملامسة ولا مجانسة، فاحذر أن يختلج في فهمك أو وهمك شيء من ذلك فتهوى في المهالك(61).
والجواب عليه:
إن الظن هنا قد يراد منه واحداً من احتمالين:
الأول: العلم واليقين.
الثاني: ما دون اليقين من الشك، سواء ترجّح أحد الطرفين أم تساويا.
ذكرت كتب اللغة: الظن يكون بمعنى الشك وبمعنى اليقين كما في قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلٰاقُوا رَبِّهِمْ﴾ أي يتيقنون(62).
ومثله: الظاء والنون أُصَيْل صحيحٌ يدلُّ على معنيينِ مختلفين: يقين وشكّ(63).
وقد استعمل الظن بمعنى اليقين في آيات كثيرة وروايات عديدة ليس هذا محلّ بيانها.
فإن أريد المعنى الأول، وهو اليقين والعلم، كان في ذلك إقرار منهم وإثبات للاعتقاد اليقيني بأن الواحد منهم هو الله! وهو الكفر بعينه.
وإن أريد المعنى الثاني، وهو الشك، فإنّه اتباع لغير العلم في أهم مسألة من مسائل الاعتقاد وهي التوحيد، ولا يُعذر الإنسان في ذلك سواء بحكم العقل لأنه عملٌ بلا علم يستقبحه العقل، أو بحكم النقل: ﴿وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الحقِّ شَيْئاً إِنَّ الله عَليمٌ بِما يَفْعَلُونَ﴾(64).
فيكون هذا الوجه غير نافع كالوجوه التي سبقته.
قال العز بن عبد السلام:
وأما ما جاء في الأثر إما فتحاً وإما شطحاً كقول القائل. (أنا من أهوى ومن أهوى أنا). وكقول الآخر (أنا الله). وكقول الآخر (ما في الجبة إلا الله).
وكقول الآخر (سبحاني) وكقول الآخر (ما أعظم شأني).
فهذا كله وما شاكله وماثله القول فيه واحد لأنها وان اختلفت ثمارها وتنوعت أزهارها لكنها تسقى بماء واحد تشير إلى محو الاثنين وثبوت الواحد، فقوم تلقوه بالتسليم وقابلوه بالقلب السليم وحملوا ذلك على معنى قوله صلى الله عليه وسلم: إن من العلم كهيئة المخزون لا يعلمه إلا أهل العلم بالله، فإذا تكلموا به أنكره أهل العزة بالله(65).
فإذا كانت هذه الألفاظ دالة على مراتب الإيمان السامية التي لا يعرفها عموم المؤمنين وأهل العزة بالله، وإذا كانت علماً مخزوناً عند أهل العلم بالله، تُطرح تجاهها الإشكالات التالية:
أولاً: أن الأنبياء هم أكثر الناس معرفة بالله تعالى، وقد قال خاتمهم وسيدهم المصطفى (صلى الله عليه وآله): إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ(66)، فلو كانت هذه الأقوال من ثمار العلم بالله فعلاً، لنبتت أزهارها في حديقة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله)، ولصدر أمثالها عن أقرب الناس لله تعالى، لكنّا ما وجدنا لها عيناً ولا أثراً في سنته (صلى الله عليه وآله) ولا عند أهل بيته (عليهم السلام).
وعلى فرض كونها حقاً فلا يخلو حال هذه الكلمات من أحد أمرين:
إما أن يكون إظهارها حقاً أو باطلاً.
فإن كان إظهارها حقاً، فلم لم تظهر من النبي (صلى الله عليه وآله)؟ وظهرت منهم فقط؟
وإن كان إظهارها باطلاً، فكيف يطلب هؤلاء من سواهم اتباعهم والعمل بما يقرون بكون إظهاره باطلاً.
ثانياً: كيف تكون هذه الأمور سراً وقد صرّح المتكلم نفسه بدلالتها على (محو الاثنين وثبوت الواحد) وعلى ارتفاع الاثنينية بين الخالق والمخلوق! فلو ساغ مثل هذا التبرير لأمكن التصريح بأي عقيدة باطلة تحمل الكفر الصريح ثم الزعم أنها سرّ من سرّ الله لا يعلمه إلا أهل الله، ولما بقي حجر على حجر في الشريعة.
أما تصريحه بارتفاع الاثنينية، فكان في نفس الكتاب حيث يقول ابن عبد السلام فضلاً عما تقدم:
وليس شفاء القلب إلا فناؤه ** بأحبابه فاسلك به سنة الحب
فإذا تمكن منك السكر أدهشك، فإذا أدهشك حيرك... فهنالك ذهبت الإثنينية واستحالت البينية، فإذا رسخ قدمك وتمكن سرك وحار سكرك قلت هو، وإن غلب وجدك وتجاوز بك سكرك عن حد الثبوت قلت أنا، فأنت في الأول متمكن، وفى الثاني متلون، ومن ههنا أشكل على الأفهام حل رمز هذا الكلام، فقائل يقول زنديق فيقتل. وقائل يقول صديق فيحمل. وقائل يقول مغلوب عليه فيهمل(67).
والأعجب من كل ذلك هو إقرارهم بأن من حكم بقتل قائل هذه الكلمات مصيبٌ في حكمه، يقول العز بن عبد السلام:
الذي حكم في قتله مصيبٌ في حكمه إذ الشريعة لها حدود من تعداها أقيمت عليه الحدود.. فالقاتل في الحقيقة مجتهد مصيب بامضاء أمر الملك والوقوف عند حدوده، والمقتول شهيد مرحوم مقرب غير متعد في قتله.. فهذا شأن هذه الشريعة في إقامة الحدود ومحافظة العهود، وهذا شأن أهل الحقيقة في خصوصية الشهود ومشاهدة المعبود(68).
ولذا يكون هو معذوراً ويكون قاتله أيضا معذوراً! وإن أخطأ أحدهم ففي إظهار ما كان ينبغي كتمانه، يقول:
فأما أهل التمكين فإنهم علموا وكتموا ما علموا لما يعلمون من ضعف احتمال عقول أطفال العقول، فلهذا أن الحلاج لما علم شيئاً من هذا العلم وتفوه به فمه أبيح دمه وكان خطؤه من حيث إظهاره ما يكتم وإعلانه بما يسر، فكان حكم من باح أن دمه يباح.. فاجتمع عليه خلق كثير منهم محب ومنكر، فقال: اعلموا أن الله قد أباح لكم دمي فاقتلوني، فبكى القوم فتقدم إليه عبد الودود بن سعد الزاهد وقال: يا شيخ كيف نقتل رجلا يصلى ويصوم ويقرأ القرآن؟
فقال: يا شيخ المعنى الذي يحقن الدماء خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن فاقتلوني تؤجروا وأستريح فتكونوا أنتم مجاهدين وأنا شهيد(69).
إنّ الفقرة الأخيرة تبيّن بوضوح أن مرجع هذا الوجه في الدفاع عنهم هو إظهارهم أمراً كان ينبغي عليهم إخفاؤه، فهم إذاً يقرّون بهذا المعنى صريحاً وأن عقيدتهم هي صيرورتهم والخالق واحداً بارتفاع الاثنينية، لكنّهم يزعمون عدم قدرة عقول الناس على تحمُّل هذا المعنى (يعلمون من ضعف احتمال عقول أطفال العقول).
وليس من الغريب على المتصوفة الذين أسقط كثيرٌ منهم حكم العقل في المعرفة أن يؤمنوا بالاتحاد، وهذا الجواب في الحقيقة إقرارٌ بكون عقيدتهم هي ما نحكم عليه بالكفر، ولكن أضافوا لها زعماً أنا عاجزون عن إدراك هذا المعنى.
بعبارة أخرى: يقرّ هؤلاء بأنا مصيبون في الحكم عليهم بالزندقة! وأنّ من حكم بإباحة دمهم فهو معذور.. فيما لا نقرّ لهم نحن بما يزعمون.
فذمتنا بريئة بحسب عقيدتنا وعقيدتهم، وذمتهم ليست بريئة بحسب عقيدتنا على الأقل..
فتركوا الأمر السالم من أي إشكال، وذهبوا إلى الأمر المشتبه الملتبس الذي أقل ما يقال فيه أنه يتضمن شبهة الضلال والانحراف.
وبعبارة ثالثة: أن هذا الجواب إقرار بما نعتقد أنه عقيدة الكفر لا تهرّب منه، لكنه مشروط بإخفائها دون إظهارها، فلا يرتفع الإشكال بهذا التبرير.
يقول عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي (المتوفى سنة 768 هـ):
وذلك أن الشطحات الصادرات عنهم منها ما وقع منهم في حال السكر والغيبة بواردات الأحوال، والسكر بسبب مباح يسقط التكليف في الشرع بالشرط المعروف في كتب الفقه، وإلى هذا المسلك الذي هو الاعتذار بالسكر أشرت بقولي في القصيدة (به هام بعضٌ في البراري) إلى قولي (به جاوز الإسكار حدا فعربدا)(70).
وحقيقة هذا الجواب تثبت الإشكال عليهم، وهي أن كلامهم مجانب للصواب إذ هو كحال السكران الذي لا يعي ما يقول، سقط عنه التكليف لغياب العقل عنه، فهو باطلٌ إذاً بلا شك ولا شبهة، غاية الأمر أنه لم يكن يدري ما يقول، فهو اعتراف وإقرار ببطلان هذا القول، غاية الأمر أنه يتضمن دعوى براءة الذمة لأنّ ما أوصله لذلك هو سببٌ مباح أسقط لهم التكليف.
ونحن لا نقرّهم على وجود أي سبب مباح يؤدي بالإنسان إلى حالة السكر النفسي الذي يشبه الجنون، كيف وما يصدر عنهم فيه إبطال لحقيقة الاعتقاد بالإله، فنقول أن العقل يمنع من إباحة ما يؤدي إلى الكفر بلا شك.
فضلاً عن ذلك، فإنّ هذا التبرير مما لا يقبله أصحاب المقامات السامية من العرفاء، فإن مآله إلى تخطئتهم وبطلان ما هم عليه، والحال أنهم يعتقدون أنهم في أعلى مراتب القرب من الله تعالى، فيكون الجواب مردوداً منهم قبل غيرهم.
يقول عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي (المتوفى سنة 768 هـ):
الاعتذار (عنهم بالأمر): أعني أن من الشطح المذكور ما أمروا به، تصدر عنهم امتثالا للأمر، ويكون ذلك الأمر تنويها بفضلهم وبيانا لعلوّ شأنهم، وتعريفا للجاهل بكبر قدرهم، وإرشادا إلى التعليق بهم والتوسل برفيع جاههم وغير ذلك من المصالح(71).
إنّ هذا الوجه يتوقف على إثبات أمرين:
أولهما: صدور أمرٍ إلهي خاص بهم بإظهار الكفر، وهذا محالٌ على الله تعالى لأنه قبيح، والله لا يفعل القبيح.
ثانيهما: أن يكون في الإتيان بالمأمور به إظهاراً لفضلهم فعلاً، والحال أنه إظهار لكفرهم، فيكون فيه نقض للغرض الإلهي، وهذا محال فالله حكيمٌ لا يفعل إلا لحكمة.
فظهر أن هذا الوجه غير تامٍّ أيضاً.
يقول عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي (المتوفى سنة 768 هـ):
الاعتذار عنهم بإرادة النفع للخلق: أعني من الشطح ما يكون سبباً لمصالح العباد ونفعهم، وعرفوا ذلك بإعلام الله تعالى لهم بإلهام أو كشف أو سماع خطاب أو غير ذلك من وجود التعريفات(72).
وهو في حقيقته قريب من الوجه السابق من أنهم مأمورون بذلك، بالإلهام أو الكشف، لكن لمنفعة الخلق لا لمنفعة أنفسهم.
والجواب عليه من جهتين:
الأولى: أن الإلهام من الله تعالى وإن كان ممكناً، إلا أن ثبوته في الأنبياء متوقف على المعجزة، وفي الأولياء متوقف على تنصيص الأنبياء المعصومين على ذلك، ومع فقدان هذين الوجهين لا مجال لقبول هذه الدعوى لأنها تفتقر إلى الدليل.
الثانية: أن التصريح بها إن كان المراد منه نفع الخلق في أمور الدين، فقد تحقق خلافه تماماً، فأي نفع للخلق في صدور كلمات تدل على الكفر وفي إضلال الناس قرناً بعد قرن!!
وإن كان المراد منه نفع الخلق في أمور الدنيا، فإنّه لم يُسبب سوى الفتن والعداوة بين الناس.. فيكون في هذا الإلهام من الله نقضٌ للغرض الإلهي الذي من أجله أرسل الله الأنبياء والرسل، جلّ ربنا عن ذلك وتعالى. فلا يكون هذا الوجه تاماً كالوجوه السابقة.
يقول عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي (المتوفى سنة 768 هـ):
الاعتذار عنهم بالتخريب: وهو أن يفعل من يظن به الصلاح وعمارة الباطن شيئاً يوهم خراب باطنه وعدم صلاحه، وذلك بأشياء كثيرة، ويدل فعل كل واحد منها على تهاونه بالدين..
وأما التخريب بالشطح الذي هو المقصود هنا، فهو أن يتكلم بكلام عظيم يدعى فيه حالاً عظيماً فوق ما يظن به، بحيث يسقط من القلوب ويساء الظن به فيحصل مقصوده في نفي الصلاح عنه(73).
وهذا من أعجب الوجوه، ويتناقض مع ما تقدّم منها تماماً، ففيما سبق كانوا يزعمون أنهم مأمورون بذلك ليرفع الله شأنهم، والآن يزعمون أنهم يأتون به لنفي الصلاح عن أنفسهم!!
وهو في حقيقة الأمر إقرارٌ بأنهم يأتون المنكرات ويتلفظون بما يدل على الكفر، غاية الأمر أنهم يتظاهرون بذلك وليست هذه هي حقيقتهم!
وفتح هذا الباب يعني التبرير لكلّ كافر ومنافق وزنديق، فإن حدود التخريب السائغ عندهم واسعة وعجيبة جداً! يقول اليافعي:
فبعضهم يوهم الناس أنه لا يصلي ولا يصوم، وهو يصلي ويصوم في الباطن فيما بينه وبين الله (تعالى)... وبعضهم يكشف عورته بين الناس، وبعضهم يشتم الناس بالألفاظ القبيحة، وبعضهم يجعل قصبته بين رجليه ويعدو عليها كانها فرسه.. وبعضهم يأخذ شيئاً للناس حتى ينسبوه إلى اللصوصية ويزول عنه شهرة الصلاح(74).
وأعجب منها دليلها، يقول اليافعي:
أليس يجوز في ظاهر الفقه استعمال بعض المحرمات عند بعض الضرورات كاستعمال النجاسات في المداواة.. فكذلك في هذه المسألة داوى قلبه بهذا المحرم(75).
وهو في الحقيقة راجع إلى القياس الباطل، ومآله إلى محق الدين، كما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ السُّنَّةَ لَا تُقَاس.. إِنَّ السُّنَّةَ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ الدِّين(76).
فإن ما أباحته الشريعة كان مختصاً بحالات الضرورة كما اعترف اليافعي بقوله (ظاهر الفقه استعمال بعض المحرمات عند بعض الضرورات)، لكنّه جعل الضرورات هنا (نفي الصلاح عنه) كما يقول! وهو من أعجب العجائب، فكيف يكون إظهار الصلاح باطلاً، ونفي الصلاح ضرورة تبيح للمكلف أن يظهر نفسه مجنوناً ويكشف عورته أمام الناس وينطق بكلمات الكفر!!
على أن كل هذا يؤكد أن هذه الكلمات تدلّ على الكفر، فيثبت في حقهم، وزعمهم هذا أنهم يأتون بذلك تخريباً لا يُسقط عنهم التكليف ولا المحاكمة ولا العقوبة. فلا يكون هذا الوجه تاماً.
فسّر صدر الدين القونوي (المتوفى سنة 673) الاتحاد بالشهود قائلاً:
وعلم الانسان الكامل مرآة لعلم الحق، وعلم الحق متجلّ عليها ظاهر بها.. بل علمه علمه وذاته ذاته، بلا اتحاد معه ولا حلول فيه ولا صيرورته هو، فانه محال.
لان الاتحاد يحصل من الموجودين، وكذلك الحلول، وما ثم الا وجوداً واحداً، والأشياء موجودة به معدومة بنفسها، فكيف يتّحد به من هو موجود به معدوم بنفسه، ولو تسمع الاتحاد من اهل الله او تجد في مصنفاتهم، فلا تفهم منه ما فهمت من الاتحاد الذي قلنا فيه انه يحصل من الموجودين، اذ ليس مرادهم بالاتحاد الا شهود الوجود الحق الواحد المطلق الذي الكل به موجود، فيتحد به الكل من حيث كون كل شيء موجوداً به معدوماً بنفسه، لا من حيث أنّ وجوداً خاصاً اتحد به، فإنه محال(77).
وعبارته تحتمل وجهان:
الوجه الأول: أن يكون مراده من قوله (كل شيء موجوداً به معدوماً بنفسه) أن الله تعالى هو موجدُ كلِّ شيء، وأن الأشياء لولا إيجاده لها لم تكن موجودة، فهذا هو أبسط اعتقادات أهل القبلة قاطبة إلا المنحرفين منهم، إذ لا يُتصوَّر في المسلم بل في كلّ من آمن بوجود خالقٍ إلا أن يعتقد أنه لولا خلق الخالق له لما كان موجوداً، ولو كانت قمّة الكشف والشهود التي يزعمون وصول الأوحديّ إليها هي هذا القول لكان كلّ المسلمين من أهل الكشف والشهود!
وهل يعقل أن يكون الغرض من مسيرة العرفاء والغموض الذي يكتنفها والعبائر حمالة الأوجه التي تقدّمت كلها الإرشاد إلى معنى لا خلاف فيه بين المسلمين! إن في هذا تضييع للعقل والنقل!
الوجه الثاني: أن يكون مراده من شهود الحق هو شهود كون الخالق والمخلوق واحداً، فإنه بعدما نفى (الإتحاد) بقوله: (بلا اتحاد معه ولا حلول فيه ولا صيرورته هو) أثبت أن لا وجود حقيقة إلا لله تعالى، فإن الاتحاد ممكنٌ فيما لو كان هناك اثنان ولكن لا اثنينية في البين، فقد قال: (وما ثم الا وجوداً واحداً)، وعليه فإن كان مراده منها (وحدة الوجود والموجود)، فهو اعتقادٌ أسوأ من الاتحاد، وسيأتي الكلام فيه في الفصل الرابع إن شاء الله.
وإن كان المراد منها شهود الوحدة أي رؤية هذه الوحدة والاعتقاد بها، فهو متفرع على ثبوت هذه الوحدة، فيرجع الكلام إليها وهو ما ذكرنا أنه سيأتي الكلام فيه عمّا قريب إن شاء الله.
وما يرجّح أنّه يقصد الوجه الثاني هو عبارته الآتية:
وكما قلنا في حق الحق: أن علمه بذاته مستلزم لعلمه بجميع الاشياء، وانه يعلم جميع الاشياء من علمه بذاته، فكذلك نقول في حق الانسان الكامل: ان علمه بذاته مستلزم لعلمه بجميع الاشياء، وانه يعلم جميع الاشياء من علمه بذاته، لانه هو جميع الأشياء -اجمالا وتفصيلا- فمن عرف نفسه فقد عرف ربه وعرف جميع الاشياء.
ففكرك يا ولدي فيك يكفيك، فليس شيئاً خارجاً عنك!!(78).
لاحظ قوله: (فليس شيئاً خارجاً عنك)، وقوله عن الإنسان الكامل أنه (هو جميع الأشياء).
فليس إلا القول بوحدة الوجود، وهو باطل يأتي الكلام فيه.
يقول ابن عربي عند حديثه عن الاتحاد المحال والاتحاد الممكن:
واعلم أنه إذا كان الاتحاد يصيّر الذاتين ذاتا واحدة فهو محال.
..وقد يطلق الاتحاد في طريقنا على تداخل الأوصاف بين الحق تعالى وبين العبد.. فلما تداخلت الأوصاف بين الحق تعالى وبين العبد سمى ذلك اتحادا لظهوره بنا. وظهورنا به تعالى. فلهذا يصح قول من قال: «أنا من أهوى ومن أهوى أنا».
وفي معناه قيل:
الحق عين الخلق إن كنت ذا عين
والخلق عين الحق إن كنت ذا عقل
وإن كنت ذا عين وعقل فما ترى
سوى عين شيء واحد فيه بالكل(79)
إن مآل هذا الكلام إلى القول بأن المخلوقات هي ظهورات لله تعالى، أو أنها عين الله تعالى، وسيأتي النقاش في الثاني (أنها عين الله تعالى) عند البحث في وحدة الوجود.
أما الأول وهو كونها ظهوراتٌ لله تعالى، كما يقول في الفتوحات:
فعلمنا إن الحق قد ظهر في صورة كل ما يفتقر إليه فيه(80).
فإنه يوصل إلى الخلط بين مقام الربوبية ومقام العبودية، وهو الكفر المحض، يظهر ذلك من سائر كلماته حين تتبادل أدوار الحمد والعبادة بين الخالق والمخلوق! فالإنسان يحمد الله والله يحمد الإنسان! والإنسان يعبد الله والله يعبد الإنسان! يقول:
«وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»: وهو ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، هذا إِن ثبت أن لك وجوداً. فإِن ثبت أن الوجود للحق تعالى لا لك، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق. وإِن ثبت أنك الموجود فالحكم لك بلا شك. وإِن كان الحاكم الحق، فليس له إِلا إِفاضة الوجود عليك والحكم لك عليك. فلا تحمد إِلا نفسك ولا تذم إِلا نفسك، وما يبقى للحق إِلا حمد إِفاضة الوجود لأن ذلك له لا لك.
فأنت غذاؤه بالأحكام وهو غذاؤك بالوجود.
فتعين عليه ما تعين عليك. فالأمر منه إِليك ومنك إِليه. غير أنك تسمى مكلَّفاً وما كلَّفك إِلا بما قلت له كلفني بحالك وبما أنت عليه. ولا يسمَّى مكلَّفاً: اسم مفعول.
فيحمدني وأحمده ويعبدني وأعبده
ففي حال أقرُّ به وفي الأعيان أجحده
فيعرفني وأنكره وأعرفه فأشهده
فأنى بالغنى وأنا أُساعده فأسعده؟(81)
فإنّ قيل: لقد صرّح بأنه تعالى لا يسمى(مكلَّفاً)، ألا يدفع هذا الغائلة عنه؟!
نقول: لقد صرح بأنه يصبح تعالى (والعياذ بالله) عابداً في نفس الفقرة! بل صرّح بذلك في موارد عدة بقوله:
فوقتاً يكون العبد رباً بلا شك
ووقتاً يكون العبد عبداً بلا إِفك
فإِن كان عبداً كان بالحق واسعاً
وإِن كان رباً كان في عيشة ضنك
فمن كونه عبداً يرى عين نفسه
وتتسع الآمال منه بلا شك
ومن كونه رباً يرى الخلق كله
يطالبه من حضرة المُلك والمَلك
ويعجز عمَّا طالبوه بذاته
لذا تر بعض العارفين به يبكي
فكن عبد رب لا تكن ربَّ عبده
فتذهب بالتعليق في النار والسبك(82)
لاحظ البيت الاول من الشعر: فوقتا يكون العبد رباً بلا شك !! ووقتا يكون العبد عبداً بلا إفك!!
ومن البيت الرابع يظهر أن العبد عندما يكون رباً يرى أن الخلق يطالبونه من حضرة الملك فيتعاملون معه على أنه رب!
ثم إنه يزعم أن هذه المعاني هي يتيمة الدهر وفريدته، وأنه لا يعرف معناها إلا من كان قرآناً في نفسه(83) !
وهو وأمثاله وأتباعه لا يتصور منا نحن البسطاء أن ندرك عمق هذه المعاني بطبيعة الحال!
فلئن فسّر عبائرهم بتداخل الأوصاف وصيرورة العابد معبوداً والمعبود عابداً، فإنّه بهذا قد أثبت لهم معنى الكفر بالله تعالى!
حاول السيد حيدر الآملي، أن يبرّر كلمات البسطامي والشبلي والخرقاني والحلاج بتشبيهها ببعض كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام)! فقال:
وقوله (أعني الامام) في «الخطبة الافتخارية»: «أنا وجه الله. أنا جنب الله. أنا يد الله. أنا خليفة الله.. أنا الاوّل. أنا الآخر. أنا الظاهر. أنا الباطن» الى آخر الخطبة...
وهذا الكلام وان كان عند بعض الناس غير جائز شرعاً، لكن مع تحقيق غيره بأمثال هذه الأقوال، هو جائز وألف جائز، لانّ الكل من مشكاته أخذوا، ومن مشربه شربوا.
وأولهم أبو يزيد البسطامي-قدّس الله سره- فإنه قال: «سبحاني! سبحاني! ما أعظم شأني».
وقال: «ليس في جبتي سوى الله!».
وثانيهم الشبلي- قدّس الله سره- فإنه قال: «من مثلي؟» و«هل في الدارين غيري؟».
وثالثهم الخرقاني الذي قال: «أنا أقل من ربّي بسنتين».
ورابعهم الحلاج فإنه قال: «أنا الحق!».
وخامسهم أبو سعيد بن أبي الخير، فإنه قال: «إذا تم الفقر فهو الله!».
وسادسهم النوري فإنه قال: «الفقير لا يحتاج الى شيء، ولا يحتاج اليه شيء».
وسابعهم الخرّاز فإنه قال: «لا فرق بيني وبين ربّي الا أني تقدمت بالعبودية!». حتى قالوا:
سبحان من أظهر ناسوته سرّ سنــا لاهـوته الثاقب
ثمّ بـدا في خلقه ظاهــرا في صورة الآكل والشارب(84)
ومرجع هذا الكلام إلى تشبيه كلّ هذه الأقوال الباطلة بل إرجاعها إلى كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبغضّ النظر عن اعتبار الخطبة الافتخارية من عدمه.. فإنّ هذه العبائر مما ورد في روايات عديدة.
وما ذكره يمكن الاستدلال عليه بطائفتين من العبائر:
الطائفة الأولى: أنا وجه الله.. أنا جنب الله.. أنا يد الله.. أنا خليفة الله..
والجواب عليها من جهات:
الجهة الأولى: أنه بعد حصول القطع بحكم العقل والنقل بأن الله لا يشبهه شيء، وليس كمثله شيء، وليس له وجه ويد وباب وسواها كسائر المخلوقات، لا بدّ من حمل هذه الألفاظ إن وردت على المجاز لقيام القرينة القطعية المنفصلة على ذلك.
الجهة الثانية: أن النص نفسه يتضمن قرائن متصلة على ذلك منها قوله (أنا خليفة الله) فهي تدلّ على لابدية حمل الالفاظ الأولى على ما يقرب من الأخيرة أو ينسجم معها، فالخلافة تثبت البينونة والإثنينية وهذا كافٍ لرفع اليد عما يُتوهم دلالته على الوحدة أو الاتحاد.
الجهة الثالثة: أن لا علاقة بين هذه الألفاظ وبين قولهم: أنا الحق، أي أنا الله! فأين عبارة: أنا وجه الله الذي منه يؤتى من عبارة: أنا الحق! وأين عبارة أنا يد الله من عبارة أنا الله!
وقد تقدّم البحث حول معاني كونهم (يد الله ووجه الله) وأمثال ذلك في الفصل الثامن من الباب الأول فراجع..
الجهة الرابعة: أنها لو كانت كذلك للزم كون الإمام هو الخليفة وهو المستخلف لنفسه، وهذا باطلٌ بالضرورة، ويلزم منه العبث واللغوية.
الطائفة الثانية: أنا الاوّل.. أنا الآخر.. أنا الظاهر.. أنا الباطن.
واستدلالهم هنا عقيم جداً، ففضلاً عما تقدم من جواب في الطائفة الأولى، فسّر أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الكلام وسواه بنفسه فقال (عليه السلام):
أَمَّا قَوْلِي (أَنَا الَّذِي عَلَوْتُ فَقَهَرْتُ) فَأَنَا الَّذِي عَلَوْتُكُمْ بِهَذَا السَّيْفِ فَقَهَرْتُكُمْ حَتَّى آمَنْتُمْ بِالله وَرَسُولِهِ.
وَأَمَّا قَوْلِي (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) فَأَنَا أُحْيِي السُّنَّةَ وَأُمِيتُ الْبِدْعَةَ.
وَأَمَّا قَوْلِي (أَنَا الْأَوَّلُ) فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِالله وَأَسْلَمَ.
وَأَمَّا قَوْلِي (أَنَا الْآخِرُ) فَأَنَا آخِرُ مَنْ سَجَّى عَلَى النَّبِيِّ ثَوْبَهُ وَدَفَنَهُ.
وَ َمَّا قَوْلِي (أَنَا الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) فَأَنَا عِنْدِي عِلْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِن(85).
فهذا الوجه الذي ذكروه كسائر الوجوه المتقدمة في غاية الضعف.
وههنا يحسن ذكر مناظرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع القائلين باتحاد المسيح مع الله من النصارى، ومع القائلين بحلول الله في هياكل يعبدونها، وإبطال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهذين القولين بحجج واضحة قطعت ألسنتهم..
لكن سرعان ما عادت هذه المعتقدات بلبوس الإسلام تحت ستار التصوف بعد الانقلاب على الأعقاب!
روى الشيخ الطبرسي في احتجاجه عن إمامنا العسكري (عليه السلام) عن صادق العترة الطاهرة (عليه السلام) قوله:
وَلَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي الْبَاقِرُ عَنْ جَدِّي عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ عَنْ أَبِيهِ أَمِيرِ المؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ اجْتَمَعَ يَوْماً عِنْدَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) أَهْلُ خَمْسَةِ أَدْيَانٍ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالدَّهْرِيَّةُ وَالثَّنَوِيَّةُ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ...
وَقَالَتِ النَّصَارَى: نَحْنُ نَقُولُ إِنَّ المسِيحَ ابْنُ الله اتَّحَدَ بِهِ(86) وَقَدْ جِئْنَاكَ لِنَنْظُرَ مَا تَقُولُ...
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّصَارَى فَقَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ إِنَّ الْقَدِيمَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّحَدَ بِالمسِيحِ ابْنِهِ، فَمَا الَّذِي أَرَدْتُمُوهُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟
- أَرَدْتُمْ أَنَّ الْقَدِيمَ صَارَ مُحْدَثاً لِوُجُودِ هَذَا المحْدَثِ الَّذِي هُوَ عِيسَى؟
- أَوِ المحْدَثَ الَّذِي هُوَ عِيسَى صَارَ قَدِيماً كَوُجُودِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ الله؟
- أَوْ مَعْنَى قَوْلِكُمْ إِنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ أَنَّهُ اخْتَصَّهُ بِكَرَامَةٍ لَمْ يُكْرِمْ بِهَا أَحَداً سِوَاهُ؟
فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ الْقَدِيمَ صَارَ مُحْدَثاً فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ، لِأَنَّ الْقَدِيمَ مُحَالٌ أَنْ يَنْقَلِبَ فَيَصِيرَ مُحْدَثاً.
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ المحْدَثَ صَارَ قَدِيماً فَقَدْ أَحَلْتُمْ، لِأَنَّ المحْدَثَ أَيْضاً مُحَالٌ أَنْ يَصِيرَ قَدِيماً.
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ بِأَنَّهُ اخْتَصَّهُ وَاصْطَفَاهُ عَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ بِحُدُوثِ عِيسَى وَبِحُدُوثِ المعْنَى الَّذِي اتَّحَدَ بِهِ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عِيسَى مُحْدَثاً وَكَانَ الله اتَّحَدَ بِهِ بِأَنْ أَحْدَثَ بِهِ مَعْنًى صَارَ بِهِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَهُ فَقَدْ صَارَ عِيسَى وَذَلِكَ المعْنَى مُحْدَثَيْنِ وَهَذَا خِلَافُ مَا بَدَأْتُمْ تَقُولُونَهُ(87)...
أَمَّا أَنْتُمْ (وَهُوَ (صلى الله عليه وآله) يُخَاطِبُ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله يَحُلُّ فِي هَيَاكِلِ رِجَالٍ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي صَوَّرْنَاهَا فَصَوَّرْنَا هَذِهِ الصُّوَرَ نُعَظِّمُهَا لِتَعْظِيمِنَا لِتِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي حَلَّ فِيهَا رَبُّنَا) فَقَدْ وَصَفْتُمْ رَبَّكُمْ بِصِفَةِ المخْلُوقَاتِ.
أَوَ يَحُلُّ رَبُّكُمْ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ ذَاكَ الشَّيْءُ؟
فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ إِذاً وَبَيْنَ سَائِرِ مَا يَحُلُّ فِيهِ مِنْ لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرَائِحَتِهِ وَلِينِهِ وَخُشُونَتِهِ وَثِقْلِهِ وَخِفَّتِهِ؟
وَلِمَ صَارَ هَذَا المحْلُولُ فِيهِ مُحْدَثاً وَذَلِكَ قَدِيماً دُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُحْدَثاً وَهَذَا قَدِيماً؟
وَكَيْفَ يَحْتَاجُ إِلَى المحَالِّ مَنْ لَمْ يَزَلْ قَبْلَ المحَالِّ وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ لَمْ يَزَلْ؟
وَإِذَا وَصَفْتُمُوهُ بِصِفَةِ المحْدَثَاتِ فِي الْحُلُولِ فَقَدْ لَزِمَكُمْ أَنْ تَصِفُوهُ بِالزَّوَالِ، وَمَا وَصَفْتُمُوهُ بِالزَّوَالِ وَالْحُدُوثِ فَصِفُوهُ بِالْفَنَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْمَعَ مِنْ صِفَاتِ الحالِّ وَالمحْلُولِ فِيهِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ مُتَغَيِّرُ الذَّاتِ..
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): فَإِذَا بَطَلَ مَا ظَنَنْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ الله يَحُلُّ فِي شَيْءٍ فَقَدْ فَسَدَ مَا بَنَيْتُمْ عَلَيْهِ قَوْلَكُمْ.
قَالَ: فَسَكَتَ الْقَوْمُ(88)..
سلامُ الله عليك يا رسول الله، سَكَتَ أصحاب الأديان الخمسة لمّا أتممت الحجة عليهم، واليوم يتأولون كتاب الله وسنتك يا رسول الله باسم الإسلام ليثبتوا عقيدة النصارى في الحلول والاتحاد! أو وحدة الوجود!
لقد صار ابن خلدون رمزاً عند المخالفين، فكان لا بدّ من أن يسير بسُنَّة السلف منهم، فيكثر من الكذب والافتراء على من خالفه.
حتى أنه زعم اعتقاد الشيعة الإمامية بالحلول والاتحاد!! وليته أتى بنصٍّ من نصوصهم في ذلك، فإنّا حينما نسبنا للمتصوفة هذا القول أغرقنا البحث بكلماتهم من أمهات مصادرهم، فيما يتهم ابن خلدون الشيعة دون أي دليل، وها هم الشيعة في شرق الأرض وغربها قديماً وحديثاً ليس فيهم من يذهب إلى هذا القول، وها هم علماؤهم تبعاً لأئمتهم يبرؤون الى الله تعالى من القائل بالحلول والاتحاد، والفصل الأخير من هذا الكتاب مختصٌّ ببيان ذلك.
يقول ابن خلدون حول المتصوفة:
وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة، فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم!!(89).
وقال في مورد آخر:
وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيّروا المدارك الوجدانية علمية نظرية، إلى أن البارىء تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته... وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدّعيه النصارى في المسيح عليه السلام، وهو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به. وهو أيضاً عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة!! (90).
انّ اتهام ابن خلدون للشيعة الإمامية بالقول بالحلول والاتحاد كالذي تقوله النصارى هو اتهام عجيب جداً!
ففي أي كتاب عثر من يعدونه المؤرخ الكبير على مثل هذا الكلام في كتب الشيعة! وكلماتهم تطفح بالقول بكفر هؤلاء كما يأتي في الفصل الأخير من الكتاب..
ولا يصح الاعتذار لابن خلدون بأنه قد يقصد الاسماعيلية حصراً، فلو سلّمنا بوجود القائل من الاسماعيلية بهذا القول فإنه لا يسوغ اتهام الشيعة الإمامية قاطبة به، وهو الذي يقرّ بانقسام الإمامية إلى إثني عشرية وإسماعيلية.
ولا يخفى على ابن خلدون أن إطلاق الإمامية من الشيعة ينصرف إلى الإثني عشرية وهو القائل:
وأما الإثنا عشرية فربّما خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم(91)..
فلا يصح الاعتذار لابن خلدون بوجه من الوجوه، ولا نرى فيما أتى به إلا جزءاً من حملة التضليل التي تتغذى على بغض شيعة العترة الطاهرة (عليهم السلام)..
بعد ذكر أهمّ الوجوه (الاثني عشر) التي قد تساق في تأويل عبائر الحلول والاتحاد والجواب عليها، يلاحظ:
أولاً: أن بعضها تفسيرٌ بما لا يرضى به صاحبه، خاصة ما ينفي المقامات السامية لأرباب التصوف، فإنهم ما قالوا ذلك إلا لإثبات أعلى مراتب القرب من الله تعالى، وبعض هذه التأويلات تنفي عنهم ذلك.
ثانياً: أن بعضها الآخر هو حملٌ على خلاف الظاهر، بل حملٌ على خلاف ما قامت القرائن عليه، فيكون مردوداً على أصحابه.
ثالثاً: أنّ بعضها يثبت الكفر في حق قائليه، فهو في حقيقته للإقرار بالإتحاد أقرب، وليس الإتحاد بالله إلا الكفر الصريح.
فيدور أمر كلماتهم بين الكفر الصريح! وبين التغرير بالكفر! ولا يقدم العاقل على سلوك هذا الطريق إلا بعد تعطيل العقل وفتح باب الكشف الصوفي المخالف للمُسلَّمات.
على أنهم وإن حاولوا تأويل هذه الكلمات، فإنّ أئمتهم هم أقروا بخطورة مسلكهم وأنّ التلف فيه قريب! قال ابن عربي:
وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العلو فغوره بعيد والتلف فيه قريب(92)..
فأوقعوا أنفسهم بما فيه هلاكهم!
وأما ما يزعمونه: متصوِّفةً وعُرَفاء، من كون ما هم عليه من المعاني لا يمكن الإطلاع عليها إلا بعد الوصول إليها، فهو مردود عليهم، يقول (العارف) أحمد الموسوي النجفي:
لا بدّ أنْ توضع قدم الإنسان في مقام (لا إله إلاّ أنا) حتّى يمكنه أنْ يقول (لا إله إلاّ أنا)، وما لم يصل الإنسان إلى حقيقة (لا إله إلاّ أنا)، لا يمكنه أنْ يفهم هذا المعنى ويطّلع عليه(93)!!
فإنّه كحال الغريق الذي يقول: لن تعرف معنى الغرق إلا إن غرقت مثلي! فليس إلا الهلاك في اتباع طريقه صادقاً كان أو كاذباً، فكيف والكذب قد لاحَ وفاح منه، والكفر قد صار شعاراً لهؤلاء..
وكيف لا يكون كذلك وقد خلطوا بين الخالق والمخلوق! واعتقدوا بما فيه نسبة النقص ونفي الكمال عن الله تعالى، أو انقسامه أو تركبه أو تعدده أو تحديده أو تشبيهه..
نعوذ بالله من سوء العاقبة..