بسم الله الرحمن الرحيم
(أخرجني من الدنيا يا ربّ، لأن الدنيا مجنونةٌ، فَعَمّا قليل سَيُسَمُّوني الله !)
كلماتٌ عن لسان عيسى عليه السلام، ينقلها إنجيل برنابا الذي لم تعترف به الكنيسة (إصحاح47: 9-10 ترجمة الخوري بولس فغالي).
يدعو فيها عيسى عليه السلام ربَّهُ عزّ وجل أن لا يبقيه ليومٍ يجعله الناسُ شريكاً لله تعالى فيسمونه (الله) !
لم يتأخر هذا اليوم كثيراً، فانقَلَبت دَعوةُ عيسى عليه السلام من دَعوةٍ توحيدية خالصةٍ إلى تثليثية، فيما لا يزال ينصُّ إنجيلُهم على التوحيد حتى اليوم: الله وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ (مرقس12: 32).
وفيه يخاطب عيسى ربَّه: أَنْتَ الإِلهَ الحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ (يوحنا17: 3).
فيما أصرّ النصارى على الخروج عن حقيقة هذا التوحيد الخالص، حينما جعلوا عيسى: (ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، إله من إله) كما نصّ قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني.
ولئن صحَّ دُعاء عيسى عليه السلام كما في إنجيل برنابا، فإنّ هذا يكشف عن استجابة الله تعالى لدعائه، حيث رفعه تعالى إليه قبل أن يُنَصِّرَ بولسُ النصارى، وتنحرف عقيدتهم إلى الثالوث.
ينقل (برنابا) نصاً آخر يثير الدّهشة عن عيسى عليه السلام يقول فيه:
(إني أقشعرُّ لأن العالَم سيدعوني إلهاً.. إنّي رجلٌ فانٍ كسائر الناس) (إنجيل برنابا52: 10-12 ترجمة الدكتور خليل سعادة).
(إني أقشعرُّ)، كلمةٌ تستحقُّ الوقوف عندها، فهي تعني الانقباض أو الرّعدةُ أو التغيُّر، وقد حصل هذا لعيسى عليه السلام قبل أن يدعوهُ النّاس إلهاً بحسب برنابا، لِسَبقِ علمه بما سيؤول إليه حال أتباعه هؤلاء.
1. الإمام الصادق والألوهية !
نتجاوز مرحلة نبيّ الله عيسى عليه السلام، ونطوي مئات السنين، إلى أيام الإمام الصادق عليه السلام، حيثُ نَسَبَهُ بعضُ النّاس للألوهيّة !
ومِن ذلك أنّه (تَنَاظَرَ أربعةُ رجالٍ في الرُّبُوبِيَّةِ)، كان أحدهم المفضّل بن عمر، حيث يقول: فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَا تَصْنَعُونَ بِهَذَا ؟ نَحْنُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَلَيْسَ مِنَّا فِي تَقِيَّةٍ، قُومُوا بِنَا إِلَيْهِ: أي أنهم أرادوا الذّهاب إلى الإمام الصادق عليه السلام كونه قريباً منهم، وليس حديثه معهم من موارد التقية، فيمكنهم أن يصلوا لحقائق الأمور منه مباشرة، ويطمئنوا أنّه إلهٌ أو ليس بإله!
قَالَ: فَقُمْنَا، فَوَ اللَّهِ مَا بَلَغْنَا الْبَابَ إِلَّا وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْنَا بِلَا حِذَاءٍ وَلَا رِدَاءٍ، قَدْ قَامَ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ مِنْهُ:
الإمامُ هنا عالمٌ بما جرى بينهم، مِن نسبة بعضهم الرُّبوبية إليه، فقامَ بلا حذاءٍ ولا رداء، وقد تَغيَّر حاله لعظيم الفِرية وخَطَرها، حيث (قَامَ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ) ! أيجعله بعض هؤلاء شريكاً لله تعالى أو يجعلوه الله ؟! تعالى ربُنا عزّ وجل عن ذلك.
هناك في إنجيل برنابا يقول عيسى عليه السلام: (إني أقشعرُّ لأن العالم سيدعوني إلهاً) !
وهنا في الكافي الشريف أنّ الصادق عليه السلام: (قَامَ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ) !
يُكمِلُ المفضَل فيقول أنّه لما خرج عليهم كان يقول: لَا لَا يَا مُفَضَّلُ، وَيَا قَاسِمُ، وَيَا نَجْمُ !
لَا لَا، (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الكافي ج8 ص232).
ليس الصّادقُ إلهاً ولا ربّاً، كما لم يكن عيسى كذلك، وليس أحدٌ منهما يرضى بأن يُنسب إليه ذلك، فما أعظم الشِّركَ بالله تعالى وما أشدّه وأسوأه !
وليست هذه الواقعةُ فريدةً في أيامه عليه السلام، فقد قال لخالد بن نجيح عندما حدّثته نفسه بربوبيّته: أَنَا وَاللَّهِ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ لِي رَبٌّ أَعْبُدُهُ، إِنْ لَمْ أَعْبُدْهُ عَذَّبَنِي بِالنَّارِ !
فقال خالد: لَا أَقُولُ فِيكَ إِلَّا قَوْلَكَ فِي نَفْسِكَ (الخرائج و الجرائح ج2 ص735).
ولمّا لام خالدُ أصحابَ الإمام لحديثهم أمامَه معتقداً أنه عليه السلام (رَبّ الْعَالَمِينَ)، ناداه الإمام عليه السلام: وَيْحَكَ يَا خَالِدُ، إِنِّي وَاللَّهِ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ (بصائر الدرجات ج1 ص242).
ولما اختلفَ حالُ الشيعة وصاروا فِرَقاً، خطرت الربوبية ببال بعضهم وهم خارج المدينة، فإذا بالإمام بينهم يدفعُ الشُّبهة عنهم ويصحِّحُ عقيدتهم ويقول: اجْعَلُونَا مَخْلُوقِينَ (كشف الغمة ج2 ص197).
ومرَّةً قال لإسماعيل الذي كانت تحدِّثُه نفسه:
يَا إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لَا تَرْفَعُوا الْبِنَاءَ فَوْقَ طَاقَتِنَا فَيَنْهَدِمَ !
اجْعَلُونَا عَبِيداً مَخْلُوقِينَ، وَقُولُوا فِينَا مَا شِئْتُمْ ! (بصائر الدرجات ج1 ص241).
2. هل الإمام كسائر الخلق ؟!
هذه نماذجُ من حالات الغلوّ التي وقع فيها بعض المعاصرين للإمام، حين عَدُّوه عليه السلام إلهاً ! وهي عقيدةٌ باطلةٌ بلا شك.. يَخرُجُ قائلُها عن منظومة التوحيد.
لقد ضَلَّ في الإمام كلُّ من رفعه إلى مرتبة الله تعالى، وضلَّ في المقابل كلُّ من جعله كسائر الخلق في الخصال والمراتب والشرف والكمال !
كيف ذلك؟
إنّ نفي الألوهية عن الإمام لا يعني أن يصير كسائر الخلق، فإنّ الإمامةَ أجلُّ قدراً وأعظم شأناً مِن أن يبلغها الناس بعقولهم، لقد أعطى الله تعالى للإمامِ مِنَ الفضل ما تنوء من حمله الجبال، ويعجز الخلق عن إدراكه !
وإنّ ممّا أعطاه الله ما لا يحمله أحدٌ من الخلق أبداً، كما روي عن الصادق عليه السلام: إِنَّ مِنْ حَدِيثِنَا مَا لَا يَحْتَمِلُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ !
قُلْتُ: فَمَنْ يَحْتَمِلُهُ ؟
قَالَ: نَحْنُ نَحْتَمِلُه (بصائر الدرجات ج1 ص23).
على أنّ كلّ ما رواه المحبّون وسواهم في فضلهم مِن صفاتٍ ومناقب عند الله تعالى، من قبل الخلق وأول العوالم، إلى يوم الدين، وما بينهما من كرامات ومعاجز، كلُّ هذا ليس إلا بمقدار بابٍ أو بابَين من ألفِ ألف باب !
ولما يسأل الصادق عليه السلام عن ذلك: فَمَا يُرْوَى مِنْ فَضْلِكُمْ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ بَابٍ إِلَّا بَابٌ أَوْ بَابَانِ ؟
يقول: وَمَا عَسَيْتُمْ أَنْ تَرْوُوا مِنْ فَضْلِنَا، مَا تَرْوُونَ مِنْ فَضْلِنَا إِلَّا أَلْفاً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ ! (الكافي ج1 ص297).
فليس الصادقُ عليه السلام إلهاً كما لم يكن عيسى إلهاً، لكنّ أحداً من الخلق لا يتمكن من إدراك عظمته إلا إمامٌ مثله !
فلا يُصغى لمن ينسب الشيعة للغلوّ اليوم، بعد أن قالوا بأنّ الأئمة عبادٌ مربوبون، يطيعون الله ما أمرهم.
وقد فَهِمَ الشيعة حقاً قول الصادق عليه السلام: لَا تَرْفَعُوا الْبِنَاءَ فَوْقَ طَاقَتِنَا فَيَنْهَدِمَ !
لقد انحرف عن الحقّ مَن رفع البناء فوق طاقته، بجعل الأئمة أرباباً، فانهدم بنيانه من قواعده بعد بنائه.
وانحرف مَن أنكر مكانتهم وعظيم منزلتهم، فما بنى بنياناً قَطُّ، وأغفل دخول الباب بعد فتحه، وغاب عنه أنّ معرفة الله لا تتمُّ إلا بهم، وأنّ إنكارَ فضلهم إنكارٌ لأمر الله تعالى وعظمته.
فما أعظمكم يا آل محمد: خَابَ مَنْ جَهِلَكُم، وما أكثرَ الجُهّال في يومنا، وهم يَعيبون على المؤمنين شيئاً يسيراً من معرفتكم.
اللهم اجعلنا ممن اعتصم بهم فهديته، وممّن اتبعهم ففي الجنة أدخلته.
والحمد لله رب العالمين
الجمعة 23 شوال 1442 هـ
4 - 6 - 2021 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|