بعدما تبيّن حال المتصوفة والعرفاء مع القول بالحلول والإتحاد، وبعدما سَلِمت فئات منهم من هذه العقيدة الباطلة، كثُرت في كلماتهم عبارات (الفناء والاندكاك في الله) وأمثالها.
والفناء عند أهل اللغة: نقيض البقاء(1)، وهو: الهلاك والاضمحلال(2).
وأما الاندكاك فمن معانيه الخلط والكبس والتلبد(3) وأمثال ذلك..
أما عندهم، فللفناء والاندكاك في الله تفاسير عديدة..
وكثيراً ما عبّروا عن الفناء بأنّه يعني صيرورة الجميع واحداً! أي صيرورة الخالق والمخلوق واحداً! وقد عبروا عن ذلك في بعض الموارد بأنه لا يكون هناك راءٍ ولا مرئي ولا رؤية ويصبح الكلّ واحداً! ويستشهد أصحاب هذه المدرسة بكلام الحلاج المتقدم: أنا من أهوى ومن أهوى أنا ! وأمثاله من شطحاتهم، فهو عند بعضهم من معاني الإندكاك والفناء!
ينقل العطار النيشابوري في كتابه عن بايزيد البسطامي قائلاً:
يروى: أن الشيخ قال: أول مرة ذهبت فيها إلى البيت (الحرام)، رأيت البيت، وثاني مرة ذهبت فيها إلى البيت، رأيت رب البيت، وثالث مرة لم أر البيت ولا رب البيت، أي أنني فنيت في الحق، فلم أعرف شيئاً قط، فإن رأيت، رأيت الحق، والدليل على هذا القول: أن رجلا ذهب إلى دار أبي يزيد، ونادى (عليه) فقال الشيخ: من تريد؟ قال: أريد أبا يزيد، قال: مسكين أبو يزيد، أبحث عنه طيلة ثلاثين عاماً، ولا أجد له أثراً(4).
فهو هنا قد جعل أثر الفناء في الله تعالى أنه لا يعود يرى البيت الحرام ولا رب البيت، ولا يرى نفسه ولا يجد لنفسه أثراً.
وما ذلك إلا لأنه صار هو والله تعالى واحداً بزعمه! حيث يقول:
وقال: خرجت من بايزيديني(5) كالحية من الجلد، ثم نظرت فرأيت العاشق والمعشوق والعشق واحداً، لأنه في عالم التوحيد يمكن أن يكون الجميع واحداً.
وقال: ذهبت من الله إلى الله، فصدر نداء مني إليّ: يا من أنت أنا، أي أنني وصلت إلى مقام الفناء في الله (6).
فالفناء والاندكاك عند هؤلاء ليس أسهل حالاً من الحلول والاتحاد، لقد صار يرى نفسه وهو (العاشق) واحداً مع (المعشوق) وهو الله تعالى!
وعلى هذا أيضاً يسير السيد الآملي، الذي حاول توحيد التشيع مع التصوف بجذب التشيع للتصوف! وقد قال:
الفناء ! صيرورة المحب والمحبوب شيئاً واحداً!
والواصل هو الذي يصل الى الله تعالى بالفناء فيه والبقاء به، في مقام المحبّة التامّة، وهو صيرورة المحبّ والمحبوب شيئاً واحدا، كما قال (في الحديث القدسي): «كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله» الحديث(7). وقالوا:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا(8)
ويتبعهم سائر المتصوفة كعبد الرحمان الجامي المتوفى سنة 898 هـ بقوله:
و أن تداوم على هذه الحال حتى تختلط هذه الذات والحقيقة بروحك ويزول وجودك من نظرك؛ بحيث إذا توجهت إلى ذاتك فقد توجهت إليها، وإذا عبرت عن نفسك فقد عبرت عنها ويصبح المقيد مطلقا، ويصير (أنا الحق) (هو الحق)
إذا مرّ بقلبك الكلُّ صرت كُلاًّ
ولو كنت بلبلا غير مستقر غدوت بلبلا
أنت جزء والحق كل، وإن احترفت التفكير فى الكل أياماً عدة صرت كُلاًّ.
يا رب مدد حتى أنجو من ثنائيتي..
من له الفناء مسلك والفقر مشرب(9)..
ويقول:
إن الحق هو المحب كما هو المحبوب، وهو الطالب، فهو المطلوب والمحبوب في تمام جمع الأحديّة، وهو الطالب والمحب في مرتبة التفصيل والكثرة.
رأيت جميع الطلاب والمطلوبين
فوجدتهم جميعا أنهم همو أنت وليس غيرك(10)
وقد تبع العرفاءُ المتصوّفةَ في استخدامات الفناء مع ما فيها من لوازم فاسدة واعتقادات باطلة..
يقول السيد محمد محسن الطهراني في معرض حديثه عن علم الإمام (عليه السلام):
..الناتج عن.. الفناء التام والمطلق في الذات الأحدية، وحذف جميع التعينات الماهوية والبشرية واندكاكها في الذات الإلهية وصيرورته ذات الله، فلم يعد بشراً، وقد فَقَد أوصافه البشرية، ففعله فعل الله، وكلامه كلام الله، وسر سويدائه ليس سوى الله! (11).
وإنهم يقطعون باب الدفاع عنهم لمن يريد صرف كلامهم عن ظاهره، فيستنكرون على من يزعم أنهم أرادوا المعنى المجازي ويؤكدون أن الفناء بالله عندهم هو فناء حقيقي!
يقول الطهراني متحدثاً عن أحد العرفاء عندهم وهو (المسقطي):
وفي أحد الأيّام، بينما كان في مجلس مليء بالعلماء والفضلاء، سأله أحد الأشخاص كنايةً: هل أنّ المطالب التي تذكرها كشهود الحقّ تعالى، وجلوات التوحيد، والاندكاك في ذات الخالق، والفناء في الله تعالى، والوصول إلى حريم القدس الإلهي، وأخيراً العرفان بالله هي مطالب حقيقيّة وواقعيّة، أو أنّها مجاملة ومسامحة في التعبير؟!
فنظر السيد إلى هذا السائل وأجابه بلهجة حادّة: هل تعتبر أنّ القاذورات الموجودة في بيت الخلاء وجود حقيقيّ، بينما وجود الله تعالى ليس حقيقيّاً؟! يعني كم بلغ بك المقام أنت وأمثالك الذين هم في نهاية الجهل والمسكنة في مجال المعرفة، إلى الحدّ الذي تنسبون فيه وجوداً ظاهراً بنفسه وبوجوده ومستغن عن جميع الوجودات، بل جميع الموجودات إنّما هي متدليّة من أنوار وجوده، وتنعتوه بأنّه مجاز، وترون أدنى مراتب الظهور والوجود بأنّه حقيقي وواقعي!!
وكان نظير هذا السؤال قد طرحه شخص على المرحوم آية الله العظمى الحاج السيّد عليّ القاضي رضوان الله عليه، فأجاب:
ماذا تقول! بالله عليك، نحن منذ مدة أربعين سنة نجالس الحقّ! وبعد ذلك تسأل هل أنّ الفناء والوصول والشهود والعرفان وأمثال ذلك حقّ، أو أنّها مسامحة في التعبير(12)؟!
والإندكاك كالفناء أيضاً عندهم، يقول:
ولازم هذه المرتبة هو أن يندكّ السالك تماماً في ذات الحضرة الأحديّة، وهي التي يعبّر عنها في لسان أهل المعرفة بالفناء الذاتي والتجرّد التام، وهنا سيكون فعل العبد فعل الله، وكلامه كلام الله وإرادته إرادة الله، فلن يبقى في هذه الحالة وجود للعبد كي يأتي بالأعمال الصحيحة، بل هناك حقيقة واحدة وهي الله؛ هي الله في مرتبة الفعل، والله في مرتبة القول والكلام، والله في مرتبة عالم الطبع، والله في جميع التصرفات والأعمال التي يقوم بها العارف في هذه الحالة(13).
إنّ العارف يصل إلى أن يكون إلهاً مجسّماً مقيداً بزعمهم! يقول الطهراني:
لقد تجاوز هذا الإنسان مرتبة البشرية وصار ربّانياً، وخرج عن حيطة المدركات البشرية وصار في حريم المدركات الإلهيّة، وبعبارة واضحة إذا أردنا أن نصفه في مقام الثبوت، يجب القول: إنه عبارة عن الإله المجسّم والمقيّد والمحدود في عالم الطبع والكثرة(14).
ويقول العارف أحمد الموسوي النجفي أن الفناء يعني العينية بين الخالق والمخلوق:
(عبد الله) مرتبط بمقام الشهود أي أنّ هناك فناء وعينية بين الشاهد والمشهود، بين العبد والرب؛ أي أنّ العبد قد حصل له فناءٌ كليّ بنحوٍ لم يعد له أيّ عين أو حيثية وجودية تكشف عنه، بل كل ما يظهر فيه ونراه منه هو من شأن الربّ(15).
وكما في كلمات المتصوفة في باب الحلول والاتحاد، يصبح العابد والمعبود واحداً! ويصبح الله هو الذي يقف للصلاة!! وهو الذي يركع ويسجد!!
فيقول الطهراني عن العرفاء:
أولئك لم يعودوا يروا الله أصلًا، بل صار وجودهم مندكّاً وفانياً في وجود الحق. وهنا لا يبقى للعبد والمخلوق وجود في مقابل الله وحضرة الحق تعالى كي يقوم بعبادته، ولا تقابل بينهما حتى يقصد التقرب إليه. فالإثنينية في هذه الحالة تكون قد ارتفعت بينهما بشكل جذري، وتكون قد مُحيت جميع آثار الوجود المقيّد وحدوده وثغوره بشكل كلّي، ولم يبق أي أثر من الوجود لهذا المصلّي في مقابل وجود حضرة الحق حتى يعبده ويصلّي له. فهنا يبقى موجود واحد فقط وحقيقة واحدة وواقع واحد وذات واحدة؛ وهي وجود ذات الله تعالى فقط. وعندها هو الذي يعبد وهو الذي يقف للصلاة وهو الذي يركع وهو الذي يسجد(16)!!
هو موجود واحد فقط بزعمهم! وهو الذي يحج ويجاهد!! يقول:
العارف بعد وصوله إلى مرتبة الفناء والبقاء... لا يعود يقوم بأي عمل، بل الله هو الذي يعمل؛ لأن الإثنينيّة قد ارتفعت بينهما؛ فليس هو الذي يصلّي بل الله، وهكذا فالله هو الذي يحج وهو الذي ينفق وهو الذي يجاهد وهو الذي يبلّغ وهو الذي يحكم ويقضي(17).
فلا يكفي أن يقول أحدهم: لا أقول بالحلول والاتحاد، ثم يأتي بكل عبارة تدل على الاتحاد او الوحدة بحجة كونها فناءً في الله تعالى! أو على ما هو أسوأ منهما!
بعدما تبيّنت حقيقة عقيدة جمعٍ من المتصوفة والعرفاء في الفناء بالله، الملازم للكفر بإله المسلمين عزّ وجل، وبعدما استدلّ القائلون بالفناء بجملة مما أسموه أدلة لإثبات مُدَّعاهم، فها نحن نعرضها رغم وَهنِها مع الجواب عليها:
قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ الله قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى﴾(18).
فسَّرَ هؤلاء الآية المباركة على أنها مطابقة لأقوالهم، فكما أن الله قتل الكفار في الآية وأن الله رمى، فإنّ الله هو الذي يصلي وإن الله هو الذي يعبد وهو الداعي وهكذا.. وعليه فإنَّ الآية مؤيدٌ لما ذهبوا إليه من معنى الفناء!
يلخص هذا الاستدلال قول (العارف) أحمد الموسوي النجفي:
يقول تعالى: ﴿وما رميتَ إذْ رميتَ ولكنّ الله رمى﴾، فإنّ الحقّ تعالى قد نسب الفعل الذي فعله الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لنفسه لأنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) صار واحداً معه، فالفعل فعل الحقّ والعمل عمله(19).
ومثله (العارف محمد حسين الطهراني)، يقول:
لست أنت من رميت، بل الله هو الرامي، ليس هناك غير الله، «أنت» عدم.
فهناك ليس إلّا الله. فلماذا نقول: زيد موجود، وعينه الثابتة موجودة؟ فزيد قد زال وانتهى أمره.
فهناك لا يبقى إلّا ذات الحقّ، وإدراك ذات الحقّ لذاته(20)..
إذاً بعد فناء العارف بالله وصيرورته واحداً مع الله صار الفعلُ الذي يصدُر عن العارف صادراً عن الله تعالى، فصحّت كل دعاوى العرفاء!
لكنّ هذا الإستدلال بَيِّنُ البطلان.. والجواب عليه يكون تارةً نقضياً وأخرى حليّاً.
أما الجواب النقضي: فإن معنى هذه الدعوى هو كون الرسول (صلى الله عليه وآله) صار واحداً مع الله وحدةً حقيقية، أي أن الرسول هو الله، وهو فضلاً عن مخالفته لأصل الإيمان بالله تعالى وإرساله الرسل والثواب والعقاب والعدل الإلهي وما إلى ذلك، فإنه يعني أن من كان واحداً مع النبي قد مات عندما مات النبي (والعياذ بالله)!
قال تعالى: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُم﴾(21)، فكيف يمكن أن يكون الله والنبي واحداً وحدة حقيقية والنبي يموت أو يُقتل!
إن قيل: لا يريد هؤلاء الوحدة الحقيقية إنما يريدون الوحدة المجازية، أي أن الرسول معصومٌ فيكون فعله بمثابة فعل الله لأنه لا يعصي الله تعالى.
نقول: إن أرادوا هذا بطلت كل ادّعاءاتهم، فإنّها قائمة على نفي الإثنينية، والقول بالوحدة المجازية يعني إثبات الإثنينية الحقيقية.
وهم لا يقبلون الإلتزام بذلك بوجه من الوجوه.
فلازم كلامهم (من أن الله يصلي ويحج ويجاهد) هو أن الله يموت أو يُقتل والعياذ بالله! واللازم باطلٌ فالملزوم يتبعه في البطلان.
وأمّا الجواب الحلي:
فأنّ الآية المباركة ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ الله قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى﴾(22) أثبتت الإثنينية ولم تُثبت الوحدة كما يزعمون.
فإنها تتضمن فقرتين:
- ﴿وما رميت﴾.
- ﴿إذ رميت﴾.
وهي تنفي نسبة الرماية للنبي (صلى الله عليه وآله) وتثبتها في آنٍ واحد، ولا يُعقل نسبة التناقض للقرآن الكريم في جملة واحدة، فلا بُدّ من أن يكون المراد:
- إما نفي حيثيةٍ من حيثيات الرماية وإثبات حيثية أخرى.
- أو إثبات الرماية للنبي (صلى الله عليه وآله) لكن نفي ترتُّب الأثر عليها إلا بتأثير الله تعالى.
يؤيد هذه المعاني الفهمُ العُرفي أولاً، وهو الظاهر من مثل هذه النصوص، ولذا يكون هو المُحَكَّمَ في المقام، ما لم تقم قرينة على خلافه.
ويتعيَّنُ هذا المعنى مع قيام القرائن ومنها الروايات وغيرها.
والمسلمون يقرؤون كلّ يوم قوله تعالى ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله﴾(23) ولكن لا أحد يدَّعي أن الرسول هو الله لكون طاعة الرسول هي طاعة الله، بل يفهمون أن الرسول معصومٌ لا ينطق عن الهوى وهو المبلغ عن الله تعالى فتكون طاعته في حقيقتها طاعة لله تعالى لأن الآمر هو الله تعالى والنبي مُبلِّغُ الأمر الإلهي للناس، فهو أمرٌ طولي، يصدر من الله تعالى للنبي، ويصدر الأمر من النبي (صلى الله عليه وآله) للناس.
وهكذا قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ الله﴾(24)، وآيات أخرى كثيرة.
أما الروايات الشريفة والنصوص التاريخية فقد بيّنت المراد من قوله تعالى ﴿وما رميت إذ رميت﴾، وتدور كلها حول هذا المحور، ومن هذه النصوص:
1. ما ذكره القميُّ في تفسيره بقوله:
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ الله قَتَلَهُمْ﴾ أَيْ أَنْزَلَ الملَائِكَةَ حَتَّى قَتَلُوهُمْ، ثُمَّ قَالَ ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى﴾ يَعْنِي الحصَى الَّذِي حَمَلَهُ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) وَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ قُرَيْشٍ وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوه(25).
فالمسلمون قاتلوا لكن الملائكة نزلت وقتلت الكفار، والنبي (صلى الله عليه وآله) رمى الحصى في وجوه قريش لكن الله تعالى رتّب الأثر على رمايته، وهو ما بيّنته سائر النصوص.
- ما ذكره الكراجكي في كنزه بقوله عن معجزات النبي (صلى الله عليه وآله):
وَمِنْ ذَلِكَ رَمْيُ الحصَى فِي وُجُوهِ الْأَعْدَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَالهمْ فِي عُيُونِهِمْ مَا نَالهمْ وَكَانَتْ فِي الحالِ هَزِيمَتُهُمْ، وَأَنْزَلَ الله سُبْحَانَهُ ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى﴾.
وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَانْهَزَمَ المشْرِكُونَ بِأَسْرِهِمْ(26) .
- ما ذكره الراوندي في معجزات النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً:
وَمِنْهَا: أَنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) انْتَهَى إِلَى رَجُلٍ قَدْ فَوَّقَ سَهْماً لِيَرْمِيَ بَعْضَ المشْرِكِينَ فَوَضَعَ (صلى الله عليه وآله) يَدَهُ فَوْقَ السَّهْمِ وَقَالَ: ارْمِ.
فَرَمَى ذَلِكَ المشْرِكَ، فَهَرَبَ المشْرِكُ مِنَ السَّهْمِ وَجَعَلَ يَرُوغُ مِنَ السَّهْمِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَالسَّهْمُ يَتْبَعُهُ حَيْثُمَا رَاغَ حَتَّى سَقَطَ السَّهْمُ فِي رَأْسِهِ، فَسَقَطَ المشْرِكُ مَيِّتاً، فَأَنْزَلَ الله ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ الله قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى﴾(27).
- ما ذكره ابن شهرآشوب في مناقبه:
وَأَخَذَ النَّبِيُّ يَوْمَ بَدْرٍ كَفّاً مِنَ التُّرَابِ وَيُقَالُ حَصًى وَتُرَاباً فَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَتَفَرَّقَ الحصَى فِي وُجُوهِ المشْرِكِينَ فَلَمْ يُصِبْ مِنْ ذَلِكَ أَحَداً إِلَّا قُتِلَ أَوْ أُسِرَ، وَفِيهِ نَزَلَ ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى﴾(28).
على أنّهم رووا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي ناول النبي (صلى الله عليه وآله) الحصى الذي رماه حينها، ففي المناقب:
إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ لِعَلِيٍّ (عليه السلام): نَاوِلْنِي كَفّاً مِنْ حَصْبَاءَ فَنَاوَلَهُ فَرَمَى فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنُهُ مِنَ الحصْبَاءِ(29).
وكان لعليٍّ (عليه السلام) موقفاً آخر مع صاحبة فتنة الجمل، حينما رمت أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بالتراب، إذ قال الشيخ المفيد ما نصُّه:
لَمَّا فَعَلَتْ عَائِشَةُ مَا فَعَلَتْ مِنْ قَلْبِ الْبُرْدِ وَحَصْبِ أَصْحَابِ أَمِيرِ المؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِالتُّرَابِ، قَالَ (عليه السلام): وَمَا رَمَيْتِ إِذْ رَمَيْتِ يَا عَائِشَةُ وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ رَمَى، وَلَيَعُودَنَّ وَبَالُكِ عَلَيْكِ إِنْ شَاءَ الله(30) .
وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) قاطعٌ للنزاع، فإن عائشة وإن رمَت إلا أن رميتها كانت رمية الشيطان، أي أن ما فعلته هو فعلٌ شيطاني من حيث كونه طاعة للشيطان، لا أنها قد صارت واحداً وحدةً حقيقية مع الشيطان! كما كان فعلُ النبي (صلى الله عليه وآله) فعلَ الله تعالى من حيث كونه طاعة لله تعالى.
وأمثال هذه المعاني من إسناد الفعل إلى الله تارة وإلى المخلوق تارة أخرى مع إثبات الإثنينية كثيرٌ جداً..
نظير آيات توفي الموتى، حيث تنسب تارة لله تعالى وتارة للملائكة، قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(31).
وقال تعالى: ﴿الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾(32).
فصحّ أن يقال (يتوفاكم ملك الموت) وصح أن يقال (الله يتوفى الأنفس) حيث كان المباشر لقبض الأرواح هو ملك الموت بأمر من الله وإذن منه وبإعطاء القدرة له على ذلك.
فاستدلالهم بالآية الشريفة على هذا المعنى من الفناء عقيمٌ جداً كعقيدتهم.
مما قد يدعى دلالته على ما ذهب إليه جمعٌ من الصوفية وبعض من تبعهم من العرفاء في دعواهم الفناء في الله وصيرورة الواحد منهم ذات الباري تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً هو الحديث القدسي الوارد: عبدي أطعني اجعلك مثلي، أنا حي لا أموت، اجعلك حياً لا تموت، أنا غني لا أفتقر أجعلك غنيا لا تفتقر، أنا مهما أشأ يكن أجعلك مهما تشأ يكن(33).
وفي الحديث القدسي أيضاً: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا غَنِيٌّ لَا أَفْتَقِرُ أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ غَنِيّاً لَا تَفْتَقِرُ، يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا حَيٌّ لَا أَمُوتُ أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ حَيّاً لَا تَمُوتُ، يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا أَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ تَقُولُ لِشَيْءٍ كُنْ فَيَكُونُ(34).
وهذا الحديث وإن كان مشتهراً على الألسن وقد ذكر في جملةٍ من الكتب، إلا أنه مرسل لم يذكر له أيُّ سند بحسب ما لاحظنا، وقد روي أول ما روي في كتب تبعد عن عصر النص مئات السنين.
فكيف يستدل على أصول الاعتقاد بمثله؟!
والحال أن من أورده ما أراد ولا فهم منه المعنى الذي يذهب إليه هؤلاء، وعلى فرض تماميته والاعتماد عليه، فليس فيه دلالة على أكثر من تمكين الله تعالى عباده المطيعين في الأرض، وأعلى مراتب التمكين هي الولاية التكوينية الثابتة للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وليس في ذلك شيء مما يزعمون..
ويشير إلى هذا المعنى الحديث القدسي الآخر الذي نقله بعده ابن فهد الحلي في نفس المصدر حيث فيه: أَوْحَى الله تَعَالَى إِلَى دَاوُدَ: يَا دَاوُدُ إِنَّهُ لَيْسَ عَبْد مِنْ عِبَادِي يُطِيعُنِي فِيمَا آمُرُهُ إِلَّا أَعْطَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَنِي وَأَسْتَجِيبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَنِي(35).
ثم لو تنزلنا وسلمنا بفرض دلالته على أكثر من ذلك، فأيٌّ معنى ادّعيت دلالته عليه كان فيه إثبات الإثنينية لا رفعها، إذ مقتضى صدر الحديث إثبات الغنى الذاتي للخالق والفقر الذاتي للمخلوق، ثم تفضُّلُ الخالق بإغناء المخلوق، فيثبِتُ الحديث الإثنينية من أول فقراته إلى آخرها.
ولا يمكن فهمه بما يوافق كلمات المتصوّفة، لعدم دلالته على ذلك، ولأن فهمهم يخالف قواعد الدين الحنيف والشرع المنيف، بحيث لا يتميز الخالق من المخلوق، ولا الغني من الفقير، ولا الآمر من المأمور، ولا المُطيع من المُطاع..
واستدلوا أيضاً بما نسب لأمير المؤمنين (عليه السلام): إن لله تعالى شراباً لأوليائه، إذا شربوا سكروا وإذا سكروا طربوا وإذا طربوا طابوا وإذا طابوا ذابوا، وإذا ذابوا خلصوا وإذا خلصوا طلبوا، وإذا طلبوا وجدوا وإذا وجدوا وصلوا، وإذا وصلوا اتصلوا، وإذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم(36)..
وفيه:
أولاً: لم نعثر على مصدر لهذا الكلام في أمّهات المصادر الشيعية، كما لم يعثر غيرنا على ذلك، وقد صرح المرحوم السيد محمد كلانتر بذلك حيث قال: لم نعثر على مصدر لهذه الرواية في كتب أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم(37).
ولنعم ما أشار إليه بعضهم أن ما ورد من طرق الشيعة قوله (عليه السلام) عن الشراب: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا شَرِبَ الخمْرَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَاجْلِدُوهُ حَدَّ المفْتَرِي(38) .
ونظنه أنسب بما ذهب إليه القوم!
ثانياً: على فرض ثبوت هذا الحديث فإن نفي الفرق بين الخالق والمخلوق مخالف للمقطوع به من الفرق البيّن بين الخالق والمخلوق والعابد والمعبود، والذي لا تستقيم الأديان السماوية دون القول به.
وقد ورد عنهم (عليهم السلام): اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَانِي جَمِيعِ مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلَاةُ أَمْرِكَ المأْمُونُونَ عَلَى سِرِّكَ المسْتَبْشِرُونَ بِأَمْرِكَ الْوَاصِفُونَ لِقُدْرَتِكَ المعْلِنُونَ لِعَظَمَتِكَ، أَسْأَلُكَ بِمَا نَطَقَ فِيهِمْ مِنْ مَشِيَّتِكَ فَجَعَلْتَهُمْ مَعَادِنَ لِكَلِمَاتِكَ وَأَرْكَاناً لِتَوْحِيدِكَ وَآيَاتِكَ وَمَقَامَاتِكَ الَّتِي لَا تَعْطِيلَ لَهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ يَعْرِفُكَ بِهَا مَنْ عَرَفَكَ، لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا إِلَّا أَنَّهُمْ عِبَادُك(39).
وهذا مما لا إشكال عليه، فإن العبودية تتضمّن كل معاني التفرقة بين الخالق والمخلوق.
فإن أمكن حمل الأول على فرض اعتباره على هذا الحديث فبه، وإلا لا يمكن الالتزام به.
ومما استدلّوا به أيضاً الحديث القدسي: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُه(40).
ونكتفي ببيان ما أفاده الحر العاملي في معاني هذا الحديث بعد نقله حيث قال رحمه الله:
أقول: هذا له عدة معان صحيحة يمكن حمله على كل منها.
الأول: ان يراد ان العبد إذا فعل ذلك أدركه الله تعالى بلطفه الزائد وعنايته الشاملة بحيث لا ينظر الى غير ما يرضى الله ولا يستمع الى غير ما فيه رضاه ولا ينطق ولا يبطش على نحو ذلك، ذكر هذا بعض مشايخنا.
الثاني: أن يكون المعنى من أحببته كنت ناصره ومؤيده ومعينه ومسدده والدافع عنه كسمعه وبصره ولسانه ويده.
الثالث: ان يكون المعنى فإذا أحببته أحبني وأطاعني فكنت عنده بمنزلة سمعه وبصره ولسانه ويده في المحبة والاحترام والعزة والإكرام وهذا شائع فكثيرا ما يقال في الشيء المحبوب هو أحب الى وأعز عندي من سمعي وبصري. قال السيد الرضي وان لم يكن عندي كسمعي وناظري فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني ومثله كثير جدا.
الرابع: أن يكون المعنى إذا فعل ذلك أحببته ووفقته فصار لا يستعين إلا بي، ولا يعول في المأمول والمحذور الا عليّ، كما ان من دهمه أمر مشكل استعان بسمعه وبصره وغيرهما، وفي تمام الكلام اشعار بذلك، وهذا قريب من الثاني وبينهما فرق لا يخفى.
الخامس: أن يكون المعنى كنت بمنزلة سمعه وبصره ولسانه ويده في الحضور عنده والقرب منه وعدم التأخر عن مراده والبعد عنه من غير إرادة الحقيقة من الحضور في القرب بل بمعنى العلم والاطلاع والقدرة والإحسان.
ونحو ذلك مثله في الكتاب والسنة كثير من الألفاظ التي يتعذر حملها على حقائقها في هذا المقام.
وأما ما فهمه الصوفية من مثله وحملوه على الحلول والاتحاد فقد صرح العلامة وسائر علمائنا بأنه كفر والأحاديث المتواترة عن أئمتنا (عليهم السلام) دالة على ما قالوه والله أعلم(41).
ولا يخفى أن ذيل الحديث القدسي مشيرٌ إلى ما ذكره الحرُّ العامليّ من المعاني حيث ورد فيه (إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته)، فإن فيها إشارة واضحة إلى ذلك، فلا دلالة في هذا الحديث على ما يزعمون.
استدلوا أيضاً بما روي: أن مَوْلَانَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتْلُو القُرْآنَ في صَلَاتِهِ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا أفَاقَ سُئِلَ: مَا الذي أوْجَبَ مَا انْتَهَتْ حَالُكَ إليه؟
فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: مَا زِلْتُ اكَرِّرُ آيَاتِ القُرْآنِ حتى بَلَغْتُ إلَى حَالٍ كَأنَّنِي سَمِعْتُ مُشَافَهَةً مِمَّنْ أنْزَلَهَا، عَلَى المُكَاشَفَةِ والعِيَانِ، فَلَمْ تَقُمِ القُوَّةُ البَشَرِيَّةُ بِمُكَاشَفَةِ الجَلَالَةِ الإلَهِيَّةِ(42).
والجواب عليه:
أولاً: مَن نقل الرواية بالمعنى ليس الراوي حسب الظاهر، إنما ابن طاووس، وبالتالي فقوله (ما معناه) هو قول ابن طاووس لا قول الراوي. أي أن ابن طاووس نقل الرواية بالمضمون الذي يذكره، وبالتالي فألفاظها ليست ألفاظ الإمام (عليه السلام)، ومحاولة الاستدلال بها على أصول الاعتقاد بما يخالف المقطوع به من الغرائب، ومعلوم أن الاستدلال في الروايات التي ينقلها راويها بالمعنى يتم فيما لا يحتمل فيه اختلاف المعنى لأدنى تغيير في العبارة لا في مثل بحثنا هذا.
ثانياً: مع غض النظر عن ذلك، وقبول الإستدلال بالرواية، فإن ما يحاولون الاستدلال عليه غير ظاهر أبداً من الرواية، بل إن الرواية تدل على خلاف مدّعاهم تماماً، إذ بعد قوله (كأنني سمعت مشافهة) قال: (فلم تقم القوة البشرية بمكاشفة الجلالة الإلهية).
ومن الغريب إثبات معنى المكاشفة المزعومة بلفظي (كأني) و(لم) ؟!!
والأعجب من ذلك هو تشبيه ذلك بقوله تعالى: ﴿ولَمَّا جاءَ مُوسى لِميقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني ولكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَراني فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وخَرَّ مُوسى صَعِقا﴾(43) من حيث التجلي واندكاك الجبل كما زعم بعضهم..
والحال أن الآية الشريفة صريحة في قوله تعالى لموسى: ﴿ قالَ لَنْ تَراني﴾ أي أن الرؤية والكشف بهذا المعنى غير ممكن!
وما ذهبوا إليه هو عين تفسير القرآن بالرأي.. فمن يراجع كلام أهل البيت (عليهم السلام) يرى أن التجلي كان لنور الله عزّ وجلّ، وهو آية من آياته تعالى، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾: بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِه(44)..
وفي رواية عن الصادق (عليه السلام): إِنَّ مُوسَى لمّا سَأَلَ رَبَّهُ مَا سَأَلَ أَمَرَ وَاحِداً مِنَ الْكَرُوبِيِّينَ فَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَ جَعَلَهُ دَكًّا(45)..
فمن أراد التلاعب بكلام الله تعالى وتفسير القرآن برأيه هلك!
وهنا يتّضح أن كلام ابن طاووس مخالفٌ تماماً لما قد يفهمه هؤلاء منه، إذ أن ذكر ابن طاووس للآية الشريفة إنما هو في مقام التأكيد على ما ذكرته الرواية من نفي المكاشفة.
والأعجب من كل هذا الاستدلال على معنى الاندكاك في الله بقوله تعالى ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾، والحال أن الجبل اندك وساخ كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما تجلت آية من آيات الله!
عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ النَّخَعِيِّ الْقَاضِي قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ قَالَ: سَاخَ الْجَبَلُ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَهْوِي حَتَّى السَّاعَةِ(46).
فأين هو من معنى الاندكاك الذي يلتزم به هؤلاء؟!
كذلك استدلوا بما نسبوه للأئمة (عليهم السلام) : لنا مع الله حالات فيها هو نحن ونحن هو!.
وليس لهذا الحديث عين ولا أثر في مصادرنا الحديثية والروائية، ولا ذكر في كتبنا الشيعية.. إلا مؤخراً حيث ذكره بعضهم في كتبه دون أن يحدد له مصدراً ولا سنداً.. فلعمري إن كانت أصول الاعتقاد تؤخذ بهذه الطريقة فعلى الدين السلام !!
وهذا السيد المرعشي النجفي رحمه الله يتعرض لذلك قائلاً:
ورأيت بعض من كان يدعي الفضل منهم يجعل بضاعة ترويج مسلكه أمثال ما يعزي إليهم (عليهم السلام) (لنا مع الله حالات فيها هو نحن ونحن هو) وما درى المسكين في العلم والتتبع والتثبت والضبط أن كتاب مصباح الشريعة وما يشبهه من الكتب المودعة فيها أمثال هذه المناكير مما لفقتها أيادي المتصوفة في الأعصار السالفة وأبقتها لنا تراثا(47)..
وحتى من استشهد به من المتأخرين ظناً منه بأنه حديث عن الأئمة (عليهم السلام) وجهه بما لا يخالف اصول اعتقادات المسلمين ..
وكل ما استدل ويستدل به هؤلاء المتصوفة والعرفاء هو من هذا القبيل:
- إما أحاديث موضوعة مفتراة منسوبة للأئمة هم منها براء!
- وإما أخبار متشابهة حمالة أوجه أمروا بردها إلى المحكمات فنبذوا كلام الله وراء ظهورهم!
- وإما أحاديث صحيحة لووا عنقها ليحملوها خلاف ظاهرها ويحرفوها عن معناها إتباعاً لأهوائهم!
وأعرَضَ هؤلاء عن الحق البيّن الصريح الذي عليه أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)..
أعاد المتصوّفة والعرفاء إحياء منهج التبرير والتأويل لكلمات الفناء والاندكاك هنا، كما فعلوا سابقاً مع الحلول والاتحاد.
وقد ذكروا وجوهاً في تفسيرها وتأويلها، وقد يرجع بعضها لبعضٍ أو يتداخل بعضها مع بعض، وأهمها:
قال أبو نصر السراج الطوسي (المتوفى سنة 378) نقلاً عن الشيخ أبو يعقوب النهرجوري:
الفناء والبقاء اسمان وهما نعتان لعبد موحّد يتعرّض الارتقاء في توحيده من درجة العموم الى درجة الخصوص، ومعنى الفناء والبقاء في اوايله فناء الجهل ببقاء العلم، وفناء المعصية ببقاء الطاعة، وفناء الغفلة ببقاء الذكر، وفناء رؤيا حركات العبد لبقاء رؤيا عناية الله تعالى في سابق العلم(48)..
ويلاحظ عليه أن ما ذكره هو (أوائل) مراتب الفناء، وهو أمرٌ في منتهى البساطة بالنسبة لما ذكروه من مكانة سامية للفاني في الله، وعليه يكون هذا معنىً من المعاني المقبولة للفناء، لكنه ليس هو مراد الصوفية والعرفاء كلّما ذكروا الفناء، فإن كلماتهم المتقدمة والآتية صريحة في إرادتهم ما هو أبعد من ذلك.
لقد أنكر بعض المتصوفة الحديث عن (فناء البشرية) فيما اعتقد به آخرون منهم، ومن المنكرين أبي السراج الطوسي حينما قال:
امّا القوم الذين غلطوا في فناء البشرية سمعوا كلام المتحقّقين في الفناء فظنّوا انه فناء البشرية فوقعوا في الوسوسة فمنهم من ترك الطعام والشراب وتوهّم ان البشرية هى القالب والجثّة إذا ضعفت زالت بشريتها فيجوز ان يكون موصوفاً بصفات الالهية، ولم تحسن هذه الفرقة الجاهلة الضالّة أن تفرق بين البشرية وبين أخلاق البشرية(49)..
ثم جعل الفارق بين العوام والخواص هو ابتعاد الخواص عن الهوى معبّراً عنه بالفناء، قال:
وقد غلطت جماعة من البغداديين في قولهم انهم عند فنائهم عن اوصافهم دخلوا في اوصاف الحقّ وقد اضافوا أنفسهم بجهلهم الى معنى يؤدّيهم ذلك الى الحلول او الى مقالة النصارى في المسيح (عليه السلام).. وامّا الذين غلطوا في هذا المعنى انّما غلطوا بدقيقة خفيت عليهم حتى ظنّوا ان اوصاف الحقّ هو الحقّ وهذا كلّه كفر لأن الله تعالى لا يحلّ في القلوب ولكن يحلّ في القلوب الايمان به والتوحيد له والتعظيم لذكره بمعاني التحقيق والتصديق، ولا فرق في ذلك بين الخاصّ والعامّ غير أن للخاصّة معنى يتفرّدون به وهو مفارقتهم دواعي الهوى وإفناء حظوظهم من الدار وما فيها وخلوص أسرارهم بمن آمنوا به وساير العوامّ محجوبون عن هذه الحقايق بانقيادهم للهوى ومطاوعتهم للنفوس، فهذا هو الفرق بين الخاصّ والعامّ في هذا المعنى(50).
وفي كلماته هذه إقرار بوجود القائلين بالحلول وإن أنكر عليهم ذلك، بينما حاول الكلاباذي نفي وجودِ قائلٍ بالحلول عند الصوفية رأساً كما تقدّم(51).
لا يقال: إنه أثبت هنا القائل ولكنه لم يقر بكونه من الصوفية.
لأن الجواب: أنه لم يُعهد عن أحدٍ قوله بالحلول سوى مَن كان من المتصوفة، فالإقرار بوجود قائلٍ بالحلول إقرارٌ بكون القائل من المتصوفة.
وأنت ترى أن هذا التفسير يدفع عمّن التزم به إشكالات استعمال لفظ الفناء في معانٍ باطلة، لكن هذا متوقف على أحد أمرين:
الأول: أن يكون ظاهر لفظ المتكلّم دالاً على هذا المعنى وهو فناء الجهل والمعصية، وأنْ لا ينصب المتكلّم قرينة على إرادة خلاف الظاهر، فنحمل حينها كلامه على الظاهر ويتخلّص من كلّ إشكال.
ولكن مع عدم ظهور اللفظ في هذا المعنى أولاً، ومع استعماله في كلمات المتصوفة فيما يرشد إلى الاتحاد وارتفاع الاثنينية ثانياً، لا يبقى مجالٌ لهذا الوجه والتبرير.
الثاني: على فرض عدم ظهور اللفظ في هذا المعنى (فناء الجهل)، فإنه يمكن حمله عليه مع قيام القرينة على إرادته.
وهذا كلام صحيحٌ في نفسه، لكنه متوقف على ثبوت القرينة، والقرينة عند أبي السراج الطوسي وأمثاله قائمة مقبولة، بل كلامهم صريح في إرادة هذا المعنى، لكن كلمات المتصوفة المتقدمين والعرفاء المتأخرين خالية عن مثل هذه القرائن، بل قامت القرائن على عدم إرادتهم هذا المعنى، لتصريحهم بذلك.. وقد تقدّمت كلماتهم في بداية هذا الفصل فراجع..
وعليه يكون هذا التبرير مقبولاً، لكن مختصاً بمن يصرح بالالتزام به ولا يخالفه في سائر كلماته، ولا يدفع غائلة الانحراف عن كافة الصوفية والعرفاء.
قد يقال أن المراد من الفناء والاندكاك في ذات الله وأنه لم يعد يرى نفسه هو نفس معنى العصمة، أي ان إرادته إرادة الله: ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون﴾، ففعلهم فعل الله..
قال أبو بكر الكلاباذي (المتوفى سنة 380 هـ):
فالفناء: هو أن يفنى عنه الحظوظ، فلا يكون له في شيء من ذلك حظّ، ويسقط عنه التمييز، فناء عن الأشياء كلّها شغلاً بما فني به كما قال عامر بن عبد الله: ما أبالي: امرأة رأيت أم حائطاً. والحقّ يتولى تصريفه، فيصرّفه في وظائفه وموافقاته، فيكون محفوظاً فيما لله عليه، مأخوذاً عمّا له وعن جميع المخالفات، فلا يكون له إليها سبيل، وهو العصمة وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم «كنت له سمعا وبصرا» (52).
ومن العرفاء الشيعة أيضاً من حاول تفسير الفناء أيضاً بما يساوق العصمة..
والجواب على ذلك هو نفس الجواب المتقدّم في الوجه السابق.
بيانه بعبارة أخرى:
أنّ الاقتصار في تفسير معنى الفناء على شدة القرب من الله تعالى، أو على طاعته وتجنّب معصيته، أو على العصمة المطلقة، كلّه لا ضير فيه ولا إشكال عليه، وهذا وإن كان قولاً عند بعض المتصوفة والعرفاء، إلا أنهم ليسوا جميعاً كذلك، فكثيرٌ منهم يؤكد أن الفناء يعني (صيرورة العارف ذات الله)(53) وهو بهذا لا يترك مجالاً لمحملٍ من المحامل، ومن يرفض أن يُحمل على محملٍ حسن متهماً من يؤول كلامه بمخالفة العقل والدين والشرع ويصرّ على التمسك بالعقائد الفاسدة لا سبيل إلى حسن الظن به.
ومن المعلوم أن الكلام إذا كان نصاً في معنى معين، أي أنه لا يحتمل خلافه فلا بد من الأخذ بذلك المعنى.
وإذا ما كان للكلام ظهور في معنى معين، فينبغي حمله عليه، إلا إن قامت قرينة على خلاف ذلك.
وإن كان الكلام مجملاً حمّال أوجه ولم تقم قرينة على تحديد المعنى المطلوب يُتوقّف فيه إلى أن يتضح المقصود منه.
تطبيق ذلك:
أن صدور عبارة (الفناء في الله) وأمثالها من أي شخص لا تؤدي إلى الحكم المباشر عليه بالانحراف بمجرد ذلك، إذ أنها بنفسها قد تكون مجملة ويحتمل فيها عدة معانٍ فلا بد من العود إلى القرائن، وقد تكون ظاهرة في معنى معين فيصار إليه، ومن الواضح أن العديد من العلماء والكتاب والباحثين يستخدمون عبائر الفناء في الله دون أن يقصدوا بها أي معنى من المعاني المنحرفة.. لكن ليس كافة المتصوفة والعرفاء كذلك..
فلا يكون هذا الجواب تاماً في الدفاع عن كافة المتصوفة والعرفاء.
ذكر السهروردي جملةً من المعاني حول الفناء منها:
واعلم أن أقاويل الشيوخ في الفناء والبقاء كثيرة، فبعضها إشارة إلى فناء المخالفات وبقاء الموافقات، وهذا تقتضيه التوبة النصوح، فهو ثابت بوصف التوبة، وبعضها يشير إلى زوال الرغبة والحرص والأمل، وهذا يقتضيه الزهد، وبعضها إشارة إلى فناء الأوصاف المذمومة وبقاء الأوصاف المحمودة، وهذا يقتضيه تزكية النفس.
وبعضها إشارة إلى حقيقة الفناء المطلق، وكل هذه الإشارات فيها معنى الفناء من وجه، ولكن الفناء المطلق هو ما يستولي من أمر الحق سبحانه وتعالى على العبد، فيغلب كون الحق سبحانه وتعالى على كون العبد، وهو ينقسم إلى فناء ظاهر وفناء باطن.
فأما الفناء الظاهر فهو أن يتجلى الحق سبحانه وتعالى بطريق الأفعال، ويسلب عن العبد اختياره وإرادته، فلا يرى لنفسه ولا لغيره فعلا إلا بالحق، ثم يأخذ في المعاملة مع الله تعالى بحسبه، حتى سمعت أن بعض من أقيم في هذا المقام من الفناء كان يبقى أياما لا يتناول الطعام والشراب حتى يتجرد له فعل الحق فيه، ويقيض الله تعالى له من يطعمه، ومن يسقيه...
والفناء الباطن أن يكاشف تارة بالصفات، وتارة بمشاهدة آثار عظمة الذات، فيستولي على باطنه أمر الحق، حتى لا يبقى له هاجس ولا وسواس.
وليس من ضرورة الفناء أن يغيب إحساسه، وقد يتفق غيبة الإحساس لبعض الأشخاص وليس ذلك من ضرورة الفناء على الإطلاق(54).
يلاحظ على كلماتهم أمور:
1. أنهم جعلوا الفناء مختصاً بجهةٍ تارة، ومطلقاً تارة أخرى، أما الفناء المختص بجهة فهو كالتوبة والزهد وما شابه، وهذه كلها اصطلاحات خاصة بهم لنفس ما ورد الأمر به والحثُّ عليه في الشريعة، فلا غبار عليها.
2. أن الفناء المطلق إن كان ظاهراً، فهو يعني بعد (تجلي الله للعبد) أن (يسلب عن العبد اختياره وإرادته) وليس إلا الجبر الذي يبطل به العقاب والثواب! إذ كيف يستحق الثواب على ما أتى به مسلوب الاختيار؟! وأين العدل الإلهي من ذلك؟
3. أن الفناء المطلق إن كان باطناً فأقصى ما يصل به الإنسان إلى (مشاهدة آثار عظمة الذات) هو أن (لا يبقى له هاجس ولا وسواس)، ولا نعرف معنى لمشاهدة آثار عظمة الله إلا مفاد الآيات الكثيرة الآمرة بالتفكر في خلق الله تعالى، فمخلوقاته تعالى هي آثار عظمته ليس إلا.
فيكون هذا المعنى من معاني الفناء راجعاً إلى مراتب التقوى والطاعة لله عز وجل والتفكر في آثاره تقرُّباً إليه.
والتزام بعض الصوفية بهذا المعنى لا يعني التزام الجميع به، فإنه إلزام لجميعهم بما التزم به بعضهم، وإلزام لمن لم يلتزم بما لا يقبل به.
وعليه فلا يكون جواباً تاماً ولا يرتفع الاشكال عن كافة المتصوفة به.
لقد صرّح نجم الدين الكُبْرَى (المتوفى سنة 618) بأن تجلي الخالق واندكاك المخلوق به يصل بالمخلوق إلى أن يذوق مذاق الربوبية! قال:
إذا تجلّت الذات، تجلّت الهيبة، فيتدكدك السّيّار ويندق، ويكاد يقرب من الموت. ويسمع حينئذ: أحد أحد! وإذا فنى في ذاته، بقي به، ويحي به.
وقد يغيب السيّار، فيرفعه الحقّ إليه، فيجد ذوق الربوبية في نفسه، وهذا الذوق يكون كطرفة العين، وهذا أسنى المقامات والكرامات، أن يذيقه الله -عزّ اسمه- ذلك الذوق. فإن السّيّار لا يزال مع الحق -سبحانه- في عتاب وجدال، يقول: ما الذي أوجب أن تكون ربّا وأكون مربوباً؟ وتكون خالقاً وأكون مخلوقاً؟ وتكون قديماً وأكون محدثاً؟! فيذيقه الله هذا المذاق، فيستريح من ذلك التحيّر والعتاب..
ولا مقام ينال، إلا وبعده أسنى من ذلك، فإن الذوق للقدم، وإن كان سنيّاً، فدوام هذا الذوق أسنى منه. وهذا ميدان فسيح، لا يدرك حدّه إلا بعد الهلاك والرجوع إليه، ولا يدرك الهلاك إلا بعد ركوب هول عظيم، وهو بذل الروح، كما فعل «الحسين» في قوله: أنا الحق(55).
والحسين في كلامه هو حسين بن منصور الحلاج، فهو لمّا قال: أنا الحقّ، كان قد ذاق ذوق الربوبية وبذل الروح في سبيل ذلك!
ونجم الدين الكُبْرَى رغم محاولته التخلُّص من الإشكال على المتصوفة، إلا أن إقراره بتذوق العبد مذاق الربوبية بيّن عدم قدرته عن الخروج عن الموروث الصوفي بشكل واضح جليّ.
فتذوّق المتصوّف طعم الربوبية ولو آناً! وتحول حاله من ذوق الحدوث إلى ذوق القدم ولو آناّ! الذي يؤدي به إلى القول: أنا الحق! أي أنا الله، هو كفرٌ محض، وهو اعتراف في واقع الأمر بما عليه هؤلاء المتصوفة، والتبرير بأن ذلك لم يكن دائماً بل كان (آناً ما) لا يدفع عنهم أي إشكال بل يثبته، إذ كيف للمخلوق أن يتذوق طعم الربوبية ويقول أنّه الله سبحانه وتعالى ويبقى على إيمانه؟!
فيثبت الإشكال عليهم بهذا التبرير بدلاً من رفعه.
ومن آثار السلوك عندهم العشقُ الذي يبيح للعاشق أن يتحدث (بلسان الحال) فيجعل نفسه والمعشوق واحداً، فيصبح العابد والمعبود (واحداً) بلسان الحال! بحسب ما يقول نجم الدين الكُبْرَى:
وإنما العاشق يقول بلسان الحال: أنت هلاكي في ديني ودنياي، وأنت كفري وإيماني وغاية رغبتي، وأنت أنا.. للحسين:
عجبت منك ومنّي أفنيتني بك عنّي
أدنيتني منك حتّى ظننت أنّك أنّي
وقد يفنى العاشق في العشق، فيكون العاشق هو العشق. ثمّ يفنى العشق في المعشوق(56).
وما في الأبيات الشعرية قريب من جهة التعبير بالظن مما مر في وجوه الدفاع عن الاتحاد، والجواب عنه هو الجواب(57)..
لكن الأهم هنا هو كون كلماتهم تلك بـ (لسان الحال)، وهذا مما لا يمكن قبوله وذلك لوجهين:
الوجه الأول: أن لسان الحال في الواقع تعبيرٌ مجازيٌّ كنائيٌّ يحكي حالةً لشخصٍ ما أو كائن ما حتى لو كان جماداً.. نظير تصوير الخطاب بين السماء والأرض والإنسان والحيوان.. دون أن يكون الخطاب أو الفعل قد صدر فعلاً، وكأنه يكشف عن مكنونات النفس أو يصور حالاً لا تظهر بالنطق وذلك بتعابير مجازية أدبية..
والحال أن القائلين بالفناء يؤكدون أنهم يقصدون معانٍ حقيقية لا مجازية، فلا يستقيم هذا التبرير مع ما يلتزمون به.
الوجه الثاني: على فرض دعواهم بأنهم إنما يقصدون تعبيراً مجازياً في كلماتهم، بقولهم أنّهم صاروا والله واحداً، فإن كلامهم لا يستقيم أيضاً، لأن التعبير المجازي بلسان الحال وإن كان سائغاً في استعمال أهل اللغة بل ومنتشراً على نطاق واسع في الاستعمالات الأدبية، إلا أنّ له ضوابط عرفية وأخرى عقلية وثالثة شرعية، لا يصح استعماله مع مخالفتها وإلا لساد الهرج والمرج في اللغة التي تعد أسلوب التفهيم والتفاهم الأول بين الناس..
ومن أهمّ الضوابط أنّ لا يكون في التصوير بلسان الحال إساءة لهذه الجهات، وإلا لم يكن للحديث بلسان الحال مسوِّغٌ عرفيٌّ لأنه غير مقبول، ولا عقلي لأنه نقضٌ للغرض، ولا شرعيٌّ إن كان فيه إساءة لجهةٍ محترمة.
فكيف والحال أن في مثل هذا التمثيل إساءة لمقام الربوبية، وإهانة للذات الإلهية المقدسة، وخلطٌ بين الخالق والمخلوق خلطاً لا يبقي ولا يذر!
وعليه فإن هذا التبرير غير موفق أيضاً.
يستفاد من كلمات العطار النيشابوري أن مراتب القرب من الله تعالى بحسب الصوفية تعني الخروج عن طور العقل وعن حدود التكليف، بحيث يتملّك الجنونُ العارفَ حتى لا يعرف بعدها التمييز بين الرب والمربوب! فلا يعلم أنه الرب أو أنه العبد! قال النيشابوري:
قال لقمان السرخي: إلهي، إنني أطلبك أنت على الدوام، وليس لي بالعقل والتكليف أي اهتمام.
وأخيرا خرج عن حدود العقل والتكليف، وظل يرقص مما تملّكه من جنون، ويقول: إنني لا أعرف الآن، من أنا، فإن لم أكن عبداً، فمن أنا؟ لقد انمحت العبودية، وانعدمت الحرية، وما تبقت ذرة هم أو بارقة سعادة في القلب، وهل عدمت الصفة؟ أم أنني أتسم بأي صفة؟
وهل أنا عارف؟ أم أنني عدمت المعرفة؟ ولا أعلم أأنا أنت، أم أنت أنا؟ فقد فنيت فيك وتلاشت الأنية(58).
ثم يتحدث عن ارتفاع الثنائية وصيرورة جسدي المعشوقين واحداً، لينتقل من ذلك إلى الفناء بالله معبّراً عنه بأنه ارتفاع الاثنينية أيضاً، ويناظر بين فنائين: الفناء بين جسدين، والفناء مع الله، ليضعهما في نفس الميزان، فيقول (النيشابوري):
ما أن وقع أحد المعشوقين قضاء وقدراً في الماء، حتى أسرع عاشقه وألقى بنفسه في الماء.. قال: لقد ألقيت بنفسي في الماء، لأنني لم أعرف نفسي من نفسك، فقد مضى وقت بلا ريب حتى أصبحت أنا أنت، وأنت أنا، وأصبحنا واحدا، فهل أنت أنا، أم أنا أنت؟ وإلام كانت الثنائية؟ فإما أنني أنت، أو أنك أنا، أو أنك أنت أنت، وعندما تكون أنت أنا، وأنا أنت على الدوام، يكون جسدانا واحدا والسلام.
وإذا كانت الثنائية بيننا، فالشرك قد أصابك، وإذا انمحت عنا الثنائية، فالتوحيد قد أدركك.
أفن نفسك في الله، فهذا هو التوحيد، وأفن الفناء نفسه، فهذا هو التفريد(59).
وإذا كان في الأمر خروجاً عن طور العقل، فلن تتعجب إن قرأت ما يعتقد بأنّه (وادي الحيرة) الذي يلي (وادي التوحيد)! يقول:
وعندما يصل الرجل الحيران إلى هذه الأعتاب، يظل في حيرة ويضيع منه الطريق.. وإذا قيل له: أأنت موجود أم لا؟ ألا يليق بك أن تقول، أموجود أنت أم لا؟ أأنت بين الخلق أم خارج عنهم، أم تتخذ منهم جانبا؟ أأنت خفي أم ظاهر؟ أأنت فان أم باق، أم كلاهما معا؟ أم أنك لست الاثنين؟ أأنت أنت، أم أنك لست أنت؟
فإنه يقول: إنني-في الحقيقة- لا أعرف كنهي. كما أنني لا أعرف نفسي، إنني عاشق، ولكن لا أعرف من أعشق. ولست مسلماً ولا كافراً. فماذا أكون؟ ولكنني لست عالماً بعشقي، ولا أعرف أقلبي مليء بالعشق أم أنه خلو منه!(60).
إن النيشابوري قد أخذ حُريَّته في التعبير عما يختلج الصوفية من ضياع، فقد صاروا مصداقاً للحديث الشريف المرويّ عن الباقر (عليه السلام): إِنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى قَوْمٌ تَرَكُوا عِلْمَ مَا وُكِّلُوا بِهِ، وَطَلَبُوا عِلْمَ مَا كُفُوهُ، حَتَّى انْتَهَى كَلَامُهُمْ إِلَى الله فَتَحَيَّرُوا، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُدْعَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَيُجِيبُ مِنْ خَلْفِهِ، وَيُدْعَى مِنْ خَلْفِهِ فَيُجِيبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.
وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حَتَّى تَاهُوا فِي الْأَرْض(61).
وهل من تيهٍ كتيه هؤلاء؟!
إن النيشابوري لا ينفك يصرح بزوال العقل والحيرة والتيه التي أصابتهم مما كلفوا أنفسهم عناءه خابطين خبط عشواء، يقول:
أما أنا فلا أعلم شيئاً، وهذا يسبب لي الحسرة، بل يكاد يقضي علي ويقتلني بالحيرة.
في مثل هذا المنزل لا يظهر أثر للقلب، بل إن المنزل لا يظهر هو الآخر كذلك، وقد أصيب العقل بالزوال، ومُني التفكير بالاضمحلال، ومن يصل إلى هنا يدركه الفناء، ويفقد أطرافه الأربعة، وإذا أدرك أحدٌ طريقا هنا، فقد أدرك سر الكل في لحظة واحدة(62) .
أما وادي الفقر والفناء فله قصة أخرى، يقول:
وبعد ذلك يأتي وادي الفقر والفناء، ومتى جاز الكلام هنا؟ فعين هذا الوادي هي النسيان والبكم والصم وذهاب العقل والوجدان.. حينما يمضي السالكون المجربون، وعظام الرجال إلى ميدان الألم، يفنون في أول خطوة.. فعندما تلقى الأعواد والحطب إلى النار، تتحول كلها معاً إلى رماد، ويظهر لك الاثنان صورة الواحد.. إن ينزل إلى هذا البحر رجل طاهر، فسيفنى فناء حقيقيا، ولن يبقى له أثر، حيث تصبح حركته هي حركة البحر. وعندما يفنى، يكون غارقاً في مجال الحسن والطهر، وإن يحدث هذا، يكن فانيا وهو موجود، وهذا يخرج عن نطاق الخيال والعقل(63) .
هو إذاً أمرٌ خارجٌ عن نطاق العقل، ولا نعرفُ لله تكليفاً فوق تكليف الإنسان بالعمل بما يحكم به عقله القطعي، ولا نجد من حكم العقل القطعي هنا إلا انحرافاً عن السنة الإلهية في الهداية، ودخولاً في التيه والضلال، فيكون هذا التبرير اعترافاً بنوع من أنواع الجنون، نعوذ بالله منه ومن أصحابه.
وكما المتصوفة، فللعرفاء (حتى الشيعة منهم) نصيبهم في مثل هذه الوجوه، حيث يرى السيد محمد حسين الطهراني أن السالك يصبح متصفاً بكل الصفات الإلهية! والقائم المدبّر لهذا العالم! ولا يرى شيئاً غير نفسه!! حيث يقول:
وحالة البقاء بالله تكون على حسب الكاملين الواصلين، وذلك بعد فناء السالك في التجلّي الذاتيّ، يخلد ببقاء الحقّ وخلوده، حيث يرى نفسه مطلقاً، بلا تعيّن جسمانيّ أو روحانيّ، وقد أحاط علمه بكلّ ذرّة من الكائنات، واتّصف بكلّ الصفات الإلهيّة، وإنّه القائم المدبّر لهذا العالم، ولا يرى شيئاً غير نفسه، وهذا هو المقصود من كمال التوحيد العيانيّ(64).
لا يكتفي هؤلاء بذلك، بل يزعمون أن السالك يدرك أن النجم أو الشمس أو القمر هي الله تعالى! يقول:
وللسالك عند مشاهدته هذه الصور المثاليّة حالتان: الاولى، هي أنّه أثناء المشاهدة، يدرك أنّها الشمس والقمر والنجم، وهي تحتاج إلى تفسير، اي أن رسمها السابق يتمثّل في خياله، فيدرك المعنى الذي يتمثّل في هذه الصورة.
والحالة الثانية، هي أنّه حين المشاهدة يدرك بأنّ هذا النجم أو الشمس أو القمر هو الحقّ تعالى، وهو في هذه الحالة يكون واقعاً تحت تأثير التجلّيات الآثاريّة(65).
مثل هذا الكلام مما لا يمكن أن يقبل الإنسان له تبريراً بوجه، والتحايل على العبائر بعد التصريح بأن السالك يرى هذه الجمادات هي الله هو تحايل ممجوجٌ يأباه العلم والمنطق والعقل، إلا اللهم على مسلك من يتخطى العقل وطوره ويلتزم بالجمع بين المنتاقضين.
يقول أيضاً حول الصفات والذات:
فإذا تحقّق للسالك الحصول على مقام الوحدانيّة، صارت ذاته وصفاته الجزئيّة ضمن الذات والصفات الكليّة للحقّ، وأضحت إرادة السالك وعلمه هي عينها علم الحقّ تعالى وإرادته(66).
ولا نرى في هذا إلا شركاً واضحاً..
ومراتب من اختص بالعناية من الله تعالى تجعلهم يصلون إلى مرتبة:
رأوا أنّ ما نزل من عالم الغيب إلى مراتب الأسماء والصفات والآثار إنّما هو ذات الواحد المطلق متجلّيةً في كلّ مكان ومظهر بظهور ما، وكلّ الأشياء إنّما هي قائمة بوجود الحقّ تعالى، وأنّ الحقّ القيّوم هو كلّ تلك الأشياء(67).
أن تقول أن الله تعالى (هو كلّ تلك الأشياء) المخلوقة هو مرتبة متقدمة من الانحراف عن نهج آل محمد فيمن يزعم توليه لهم..
وأن تحاول التبرير بأنه فناء في التجلي الذاتي هو أمر غير مقبول بحكم العقل والنقل، فهذا الوجه اعترافٌ بكون القمر هو الله! وهو كفرٌ بالله تعالى!
الطهراني نفسه هذا يُعبِّرُ عن تلك المراتب بتعابير أخرى منها:
اجتز حاجز الفكر وتخطَّ حدود العقل، ثمّ اخلع عنك النَّفْسَ وترفّع عن القلب كذلك، ثمّ صِلْ إلى مرحلة لا ترى فيها وجوداً لذرّة من كيانك ولا تجد فيها ما كان منك فيما سبق، وحينئذٍ، تلاشَ!
فلا وجود هناك لفكر أو عقلٍ أو نفس أو روح أو وجود بالمرّة... ليس هناك من موجود يُذكَر. هناك، حيث يوجد الله وحسب! والله يعرف نفسه ويعلم ما فيها. في تلك اللحظة فقط يستطيع الإنسان أن يعرف الله، تلك اللحظة التي لم يعد فيها ذلك الإنسان إنساناً، لم يعد يدرك معنى لوجوده مقابل ذات الله عزّ وجلّ. فمتى برزتْ ذرّة من الوجود لم يعد لنور الله وجود في مقابل ذلك.
فهذا العالَم هو عالم المقرّبين الذي تجرّدوا من كلّ شيء، ولا مُقام لأيّ شيء آخر بينهم، اي أنّه لا وجود لهم. فهم لا يملكون وجوداً، لكنهم أحياء بحياة الله، وفي الوقت نفسه فهم موتى من حياتهم. وهم لا يملكون شيئاً يتباهون فيه أمام وجود الله. هناك يوجد الله، والله فحسب. هؤلاء قد اجتازوا مراتب الكثرات، وعبروا حدود التعيّنات، وخلعوا عن أنفسهم الحُجُب وأزالوا عنها الستار، وهم بالتالي قد جاوزوا حُجُب الظُّلمات وحُجُب النور(68).
فلو تخطينا معهم مرحلة العقل وأردنا الوصول لله تعالى بقلبنا، فوصلنا إلى مرحلة التلاشي!
لوجدنا أن عبائرهم التالية: (ليس هناك من موجود يُذكر) (تلك اللحظة التي لم يعد فيها ذلك الإنسان إنساناً) (لا وجود لهم. فهم لا يملكون وجوداً) إما أن تحمل على الحقيقة أو على المجاز، ولا ثالث لهما.
فإن حملت على الحقيقة فهو عين الحلول أو الاتحاد أو الوحدة! وهو كفر بالله العلي العظيم.
وإن حملت على المجاز، لم يكن فرقٌ بينها وبين قوله تعالى ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون﴾ إلا في كون الآية الشريفة واضحة الدلالة يفهمها كلّ الناس وتدل على المعنى بشكل جليّ يعتقد به جلّ المسلمين، وهذه العبائر حمّالة أوجه تترنّح بين الكفر تارة وبين الإيمان أخرى مع تكلُّفٍ شديد!
فإن بلغت الكفر استعذنا بالله منها، وإن مالت إلى كفّة الإيمان لم نجد فيها ما يزيد على ما يعتقد به المسلمون بتاتاً، فأي توحيد خاص وأخص من الخاص هذا الذي يتحدثون عنه؟! وما إفناء العمر في تحقيقٍ معانٍ أقل ما يقال فيها أنها نموذج للقول المعروف: (العلم نقطة كثّره الجهلاء) إلا تضييع له.
ولو كان مرادهم ما هو أسمى من ذلك وهو مقامات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) التي لا يمكن لمخلوق أن يصل إليها، فمن أين عرفوا أن هذه المقامات هي ما يصورونه من تلبيسات إبليس؟ ألم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) أولى بأن يبين هذا للناس؟ وهو الذي يكلمهم على قدر عقولهم؟
ولو كانت عقولهم سامية كما يزعمون قريبة من عقل الرسول (صلى الله عليه وآله) وكان كلامهم حقاً لما تفوهوا بحرفٍ منه لأن سائر العقول لا تبلغ حقيقة ذلك.
لكنا وجدنا قولهم وفعلهم يناقض قول النبي (عليه السلام) وفعله تماماً، ورأينا لهم شطحات تخالف أسّ رسالته وأساسها.
إن آخر محاولة من هؤلاء للتخلُّص من مداليل كلامهم الصريحة لا يدفع عنهم غائلة الانحراف بوجه، وقد حاول السيد محسن الطهراني القول بأن معنى كون عليٍّ (عليه السلام) قد (تحول إلى ذات الله) لا يعني أن (علياً صار هو الله)! قال:
لأن علياً قد تحوّل إلى ذات الله، ولا يعني هذا أن علياً صار هو الله والعياذ بالله، بل بمعنى أن الله ظهر وتجلّى في هذه الذات وجعلها متمايزة عن سائر الذوات. ومن هنا لم يعد لدى علي حيثيّة بشريّة وجهة إنسانيّة كي يقاس بالآخرين. إذاً فصلاة علي لم تعد صلاةً بشريةً، لكن الكلام في أن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تلك اللحظة كان في وضعٍ، بحيث لم يكن علي علياً ولم يكن بشراً ولم يكن إنساناً، فقد كان موجوداً في هالة من الجذبات الإلهيّة، بحيث أن فكره وإرادته وعلمه واختياره كان فانياً في عمل واختيار وإرادة الحق تعالى(69)..
ونحن لا ندري بأي كلام من كلامهم نأخذ، بقولهم أنّ علياً صار ذات الله ولكن هذا لا يعني أنه الله! أم بقولهم أن: الحقّ القيّوم هو كلّ تلك الأشياء(70).
وبقولهم: الماء هو الله، الوضوء هو الله(71)!
ليس بعيداً أن يكون هؤلاء قد التزموا بالشيء ونقيضه تبعاً لشيخهم الكبير ابن عربي حينما سوّغ الالتزام بما: يُحِيلُه العقل رأساً ويُقِرُّ به في التجلي!(72)..
وحينها ينقطع الخطاب مع هؤلاء بعد سقوط العقل عن الحجية، حامدين الله على نعمة العقل والتعقُّل.
نعم إن قصد هؤلاء بتعابير الفناء القول بوحدة الوجود، أو وحدة الوجود والموجود، بأن ينكشف للسالك أن الموجود الحقيقي هو الله تعالى وحده ولا موجود سواه، فهو قولٌ أسوأ من هذا القول، وهو ما تتم مناقشته في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
إن تعابير (الفناء في الله) و(الاندكاك في الله) وأمثالها كثيرة في كلمات المتصوفة والعرفاء كما تقدّم، وهي على طوائف:
فتارة يراد منها شدة القرب من الله تعالى بزيادة مراتب العلم والمعرفة أو بشدة التقوى والورع، وهذا سائغ لا غبار عليه، شرط أن يكون الكلام ظاهراً في هذا المعنى لا في غيره ولا مجملاً.
وتارة أخرى يراد منها خلاف ذلك مما يدل على الاتحاد أو الوحدة بين الخالق والمخلوق، أو كون الله هو المخلوقات، وهذا انحرافٌ هائل في مسيرة باب التوحيد لا يشبه شيئاً من التوحيد وإن ظهر بمظهره.
والخطر في مثل هذه الأقوال أنّ أصحابها لما تلبّسوا بلباس التقوى كان تأثيرهم كبيراً على الناس.. فيما على المؤمن أن يكون كيّساً لا ينخدع بالمظاهر.. وقد روينا عَنْ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله): لَا تَنْظُرُوا إِلَى كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَصَوْمِهِمْ وَكَثْرَةِ الْحَجِّ وَالمعْرُوفِ وَطَنْطَنَتِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ(73).
فأين صدق الحديث وهم يحرفون كلام الله ورسوله عن مواضعه؟! وأين أداء الأمانة باتباع العترة وهم يقدّسون أئمة التصوف ورموز المخالفين للعترة الطاهرة؟!
وهم يزعمون خروج النبي (صلى الله عليه وآله) عن طور البشرية والله تعالى يقول مخاطباً نبيّه: ﴿قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً﴾(74).
ونحن معذورون في حكمنا عليهم هذا، لأنّهم أفشوا ما يعتقدون أنّه سرٌّ إلهي لا ينبغي إظهاره، فنحن معذورون بحسب عقيدتهم، وهم ليسوا معذورين بحسب ما دلّ عليه الدليل.
قال السيد محمد حسين الطهراني:
لقد كان للحاجّ السيّد هاشم إصرار دائم على كتمان السرّ وعدم إظهار واقعة أو مطلب ما، لكنّه ازداد كتماناً من ذلك في الأسفار الأخيرة وكان يصرِّح: أنّ كشف المطالب الغيبيّة لمن لا خبرة له بالأمر يعدّ من أقبح القبائح عند الله، لأنّها من الأسرار الإلهيّة، والله سبحانه غيور لا يحب أن يفشي سرّه(75).
إنّهم يستحقون إذاً غضبَ الله تعالى إذ يعتقدون أنهم أفشوا ما لا يمكن لنا ولعامة المسلمين تحمُّله.