• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
              • القسم الفرعي : عرفان آل محمد (ع) .
                    • الموضوع : فصل4: وحدة الوجود والموجود! .

فصل4: وحدة الوجود والموجود!

فصل4: وحدة الوجود والموجود!

لقد تبرأ المتأخرون من الصوفية والعرفاء من قول المتقدمين بالاتحاد والحلول أو أوّلوه، حتى قال قائلهم: ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد(1).

وحملوا كلمات المتصوفة كالحلاج والبسطامي وأمثالهم وكلمات الفناء في الله على قولٍ آخر يختلف تماماً عن الاتحاد، ألا وهو (وحدة الوجود)! أو (وحدة الوجود والموجود)!

والقائل بالاتحاد في المدرسة الأولى يقرّ بوجود اثنين: خالق ومخلوق، ثم يزعم حلول الخالق بالمخلوق، أو اتحادهما معاً بزوال الاثنينة عند خروج الإنسان عن بشريته كما تقدّم.

لكن المدرسة الثانية نفت إمكان حصول ذلك، لا تنزيهاً لله عزّ وجل، بل لأنّها تعتقد أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، فليس هناك اثنينية من أولّ الأمر!

فليس في الوجود باعتقادهم إلا ربنا تعالى! وكل المخلوقات هي ظهوراته وتجلياته!

بالعبارة الأخيرة.. حمّالة الأوجه سلبوا الألباب، فانطلت الخدعة على كثيرٍ من الناس، حتى صاروا فرقةً عابرة للمذاهب كما عبَرت الأديان..

ولئن قال الصوفيّ في مدرسة الحلول بالاتحاد بين شيئين، فإن الصوفي في مدرسة الوحدة يقول أن كل شيء هو الله نفسه.. وإن تبرّأ بعضهم من مثل هذا القول تارةً.. فقالوا أن الأشياء ليست هي الله! مع قولهم أنه لا وجود إلا لله! بل هي ظهوراته وتجلياته. فإن كلماتهم تزخر بما يؤكد اعتقادهم أن كل شيء هو الله.

إن إنكار البينونة بين الخالق والمخلوق قد أوصلهم إلى القول بوحدة الوجود والموجود.

وتجدهم بذلك قد تاهوا وصاروا حيارى لا يهتدون بهديٍ وهم يحسبون أنهم في ساحة القرب منه تعالى!

لقد حمل اللاحقون من المتصوفة القائلون بوحدة الوجود كلمات السابقين على مبناهم، ومن هؤلاء البسطامي الذي دلّت كلماته على الاتحاد كما تقدّم، لكن بعضها يقبل الحمل على وحدة الوجود أيضاً كما يلتزم به المتأخرون منهم، ومن ذلك قوله بحسب ما ينقل عنه العطار النيشابوري:

وسأله شخص: ما العرش؟ قال: أنا، قال: والكرسي؟ قال: أنا، قال: واللوح والقلم؟ قال: أنا، قالوا: لله (تعالى) عباد غير إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين؟ قال: أنا كل أولئك. فصمت الرجل، فقال أبو يزيد: بلى، كل من فنى في الحق، أدرك حقيقة كل ما هو موجود. فكلُّه الحق، وإن فنى ذلك الشخص، يرى أنّه (فى حد ذاته) الحق، فلا عجب، والله أعلم وأحكم(2).

وهو واضح في إرادة وحدة الوجود، وسواء صحّت هذه النسبة إليه فكان في مرحلة قائلاً بالاتحاد وفي أخرى قائلاً بالوحدة، أم لم تصح النسبة وكانت محاولة ممن تأخر عنه لترويج الوحدة ونسبتها إلى أكابر الصوفية المتقدمين، فإن النيشابوري نفسه ينقل عنه كلاماً صريحاً تقدم بعضه في وجود الاثنينية أولا ثم زوالها، وهذا بعضٌ آخر من كلماته في (معراجه!) كما ينقل النيشابوري:

وعندما علم بضعفي، وعرف حاجتي، جعلني أقوى بقوته، وزينني بزينته ووضع تاج الكرامة على رأسي، وفتح لي باب قصر التوحيد، ولما علم أن صفاتي من صفاته خلع عليّ اسما من حضرته، وشرفني به، وتجلت الوحدة، وزالت الإثنينية(3).

وهو ظاهر في الاتحاد وارتفاع الاثنينية.

ومثله ما ينقله نجم الدين الكُبْرَى فيقول:

حكي عن الحضرمي أنه كان يقول: إن الناس يقولون إني حلوليّ، وإني أقول بسقوط التكليف عن عباد الله.. وكيف أكون حلوليّا، ولا أرى في الوجود سوى الله!(4).

لا يقال: إنه يريد وحدة الشهود أي أنه يرى في الوجود الله فقط وإن كان في الحقيقة متعدداً، لأنه يعود ويقول:

واعلم أن النفس والشيطان والملك ليست أشياء خارجة عنك، بل أنت هم. وكذلك السماء والأرض والكرسي، ليست أشياء خارجة عنك؛ ولا الجنة والنار ولا الموت ولا الحياة، إنما هى أشياء فيك، فإذا سرت وصفوت، تبيّنت ذلك إن شاء الله(5) !

فهو كلام تحقيق وليس كلاماً مجازياً.

أما العطار النيشابوري (المتوفى سنة 627) فيقول:

وعلى أي شي‏ء استقر الفضاء؟ لم يستقر على شي‏ء مطلقا، فلا شي‏ء إلا العدم. وما كل هذه الأشياء إلا عدمٌ مطلق. فأمعن التفكير في صنع الله، إذ كيف يحفظ هذه الأشياء مستندة إلى العدم. وإذا كانت كلها في عالم الوحدانية عدما. فهذه كلها عدم ولا ريب، والعرش مستقر على الماء والعالم سابح في الفضاء، فتجاوز الماء والفضاء، فالجميع هو الله والعرش والعالم لا يزيدان عن مجرد طلسم والوجود لله وحده. وليس لهذه الأشياء جميعها إلا الاسم. ولتمعن النظر، فما هذا العالم أو ذاك إلا الله وحده، ولا وجود إلا له، وإن كان هناك موجود فهو الموجود وحده..

فيا من لا وجود لسواك في طلعتك، أنت العالم أجمع ولا وجود لأحد غيرك(6).

وصرّح امامهم ابن عربي بما تقدم حين قال:

لذا نقول بأن الممكنات على         أصولها ما لها عين من الصور

ولا تقل بحلول إنها عدم        وقد يكون لها التكوين في السور(7)

فهو يصرح هنا بالنهي عن القول بالحلول، إنما السبب في ذلك أن الممكنات عدم فلا اثنينية كي يحصل الحلول!

ويكشف عن معتقده بأن الله تعالى عين العالم قائلاً:

اعلم أن وصف الحق تعالى نفسه بالغنى عن العالمين. إنما هو لمن توهم أن الله تعالى ليس عين العالم. وفرّق بين الدليل والمدلول. ولم يتحقق بالنظر إذا كان الدليل على الشي‏ء نفسه فلا يضاد نفسه. فالأمر واحد، وإن اختلفت العبارات عليه. فهو العالم والمعلوم والعلم. وهو الدليل والدال والمدلول(8).

كذلك يقول ابن عربي:

عنديّة الحقّ عين ذاته            فيها لأشيائه خزائن‏

ينزل منها الّذي نراه             فهو لما تحتويه صائن

إنزاله لم يزله عنها                 لأنه عين كلّ كائن‏(9)

و يقول:

فما في الوجود إلا الله ولا يعرف الله إلا الله، ومن هذه الحقيقة قال من قال: (أنا الله) كأبي يزيد و(سبحاني) كغيره من رجال الله المتقدمين‏ .. فما أعظم تلك التجليات‏(10)..

فيصير العارف منهم هو الله إذاً، ويسبح نفسه فليس في الوجود غيره! يقول أيضاً:

ومن هنا يعرف قولنا: إنه ما في الوجود إلا الله، والأعيان الإمكانية على أصلها من العدم، متميزة لله في أعيانها على حقائقها، وأن الحق هو الظاهر فيها من غير ظرفية معقولة فيظهر بصورة تلك العين لو صح أن توجد لكانت بهذه الصورة في الحس، فانظر ما أعجب أمر الوجود (11)..

كلّ ذلك منشؤه القول بعدم البينونة بين الخالق والمخلوق، يقول ابن عربي:

فلم يبق إلا: وجود صرف خالص لا عن عدم، وهو وجود الحق تعالى.

ووجود عن عدم عين الموجود نفسه وهو وجود العالم، ولا بينية بين الوجودين(12)..

ويقول في فتوحاته:

لست أهوى أحدا من خلقه            لا ولا غير وجودي فافهموا

مذ تألهت رجعت مظهرا             وكذا كنت فبي فاعتصموا

 ليس في الجبة شي‏ء غير ما             قاله الحلاج يوما فأنعموا(13)

ويقول أيضاً:

فكان عين وجودي عين صورته

وحي صحيح ولا يدريه إلا هو

الله أكبر لا شي‏ء يماثله

               وليس شي‏ء سواه بل هو إياه

فما ترى عين ذي عين سوى عدم

             فصح إن الوجود المدرك الله‏

فلا يرى الله إلا الله فاعتبروا

              قولي ليعلم منحاه ومعزاه‏(14)

ويزيدها رمز التصوف الشيعي (إن ساغ إطلاق هذا اللقب عليه) وضوحاً بالتصريح أن لا وجود لغير الله تعالى لا ذهناً ولا خارجاً!! يقول السيد الآملي:

فصحّ قول من قال: «كان الله ولم يكن معه شي‏ء والآن كما كان» لأنّه هو، وليس لغيره وجود أصلاً، لا ذهناً ولا خارجاً. وهذا دليل قاطع على استحقاق دعوانا بأنّه ليس في الوجود الا هو، مطلقاً ومقيّداً، خاصّاً وعامّاً(15)..

ويقول مشبهاً ذلك بالبحر وأمواجه:

البحر الذي أنتم تطلبونه وتريدون التوجّه اليه، هو معكم وأنتم معه، وهو محيط بكم وأنتم محاطون به؛ والمحيط لا ينفكّ عن المحاط به. والبحر عبارة عن الذي أنتم فيه.

فأينما توجّهتم في الجهات، فهو البحر، وليس غير البحر عندكم شي‏ء.

فالبحر معكم وأنتم مع البحر، وأنتم في البحر والبحر فيكم، وهو ليس بغائب عنكم، ولا أنتم بغائبين عنه، وهو أقرب إليكم من أنفسكم‏..

البحر والماء شي‏ء واحد في الحقيقة، وليس بينهما مغايرة أصلاً. فالماء اسم للبحر بحسب الحقيقة والوجود، والبحر اسم له بحسب الكمالات والخصوصيّات والانبساط والانتشار على المظاهر كلها..

انّ الحقّ الذي تسألون عنه وتطلبونه، هو معكم وأنتم معه..

وهو مع كلّ شي‏ء وعين كلّ شي‏ء، بل هو كلّ شي‏ء! وكلّ شي‏ء به قائم وبدونه زائل. وليس لغيره وجود أصلا، لا ذهناً ولا خارجاً! وهو الأوّل بذاته، والآخر بكمالاته(16).

هي إذاً وحدة لا يختلف فيها الصوفي السني عن الصوفي الذي تلبَّس بالتشيُّع عندما تجمعهما وحدة الوجود، ويصير كل شيء هو الله باعتقادهم! وهم في كلّ ذلك لا يرون في هذا القول نقضاً لأساس التوحيد! بل يرون أنفسهم أهل التوحيد الحق!

وهكذا يسير على هذا النهج كثيرٌ من المتصوفة، ويتبع الجامي الصوفي المتوفى سنة 898 زملاءه بقوله:

لا تحسبن الحق مستقلا عن العالم، لأن العالم فى الحق حق، والحق فى العالم ليس غير العالم..

إذن فالعالم هو ظاهر الحق والحق هو باطن العالم، كان العالم قبل ظهوره هو عين الحق والحق بعد ظهوره هو عين العالم؛ إذن فتوجد حقيقة واحدة فى الواقع‏(17)..

ليصل إلى قوله:

إذن فنسبة القدرة والفعل إلى العبد بسبب ظهور الحق بصورته.

إنه هو الذي ظهر فى صورتنا

            فانتسبت قدرته وفعله إلينا‏(18)

وهكذا يتبعهم العرفاء، فإذا راموا إبطال الحلول والإتحاد أثبتوا أن الله تعالى نفس الأشياء !! يقول السيد الطهراني:

وهناك مدرسة أخرى تقول بالحلول.. وهذه العقيدة باطلة كذلك، لأنّ ذاته المقدّسة ليست محدودة حتى يستوعبه ظرف ذلك الوجود، ولأنّ الموجودات جميعاً هي مظاهر لله؛ وهي ليست غيره حتى يصدق عليها عنوان الظرف والمظروف، أو الحالّ والمحلّ(19).

تأمل قوله: (لأنّ الموجودات جميعاً هي مظاهر لله؛ وهي ليست غيره)!!

ليعود وينفي الاتحاد مؤكداً على الوحدة يقول:

وهناك مدرسة أخرى تسمّى بمدرسة الاتّحاد. ويقول أصحاب هذه المدرسة: أن الله يتّحد مع الموجودات، بالرغم من حالة الثنائية الموجودة.. وهذا مغلوط أيضاً. لأنّ تصوير الاتّحاد يستلزم تصوير إثبات الثنائيّة والاثنينيّة في أن يكون ذلكما الشيئان واحداً مع بعضهما. وليس لدينا في عالم الوجود شيئان، فكلّ موجود هو ذات الله وأسماؤه وصفاته التي هي واحدة(20)..

وهو صريح في اعتقاده بأن (كلّ موجود هو ذات الله وأسماؤه وصفاته التي هي واحدة) !!

فهو أسوأ من مذهب الحلول ومن مذهب الاتحاد، إذ أنهما معاً يقولان بأن (بعض المخلوقات) تتحد مع الله تعالى، لكن مذهبهم هذا يقول أن (كل المخلوقات) هي (ذات الله تعالى)! ثم يضيف بعضهم أسماءه وصفاته، وكيف يعقل أن يكون كلّ مخلوق ذات الله تعالى؟!

ويسير على هذا النهج كثيرٌ من العرفاء، يقول أحمد الموسوي النجفي:

أولئك الذين وصلوا إلى العرفان وقُبلوا في هذا الباب يقولون إنّه هو الذي يدعو ويستجيب دعاء نفسه، وهذا من آثار التوحيد.

وأمّا أولئك الذين وصلوا إلى الوحدة فيقول أنّي بنفسي أدعو وبنفسي أستجيب الدعاء(21).

أيُّ ذي لبٍّ وفهم سويٍّ وفطرة سليمة يمكن أن يصدر منه مثل هذا الكلام؟! فيدعو نفسه ويستجيب الدعاء بنفسه بعد وصوله للوحدة مع الخالق عز وجل!!

ويقول أحمد النجفي:

الشهود هو أنْ يكون الشاهد والمشهود واحدًا وأنْ لا تكون أيّة بينونة بينهما(22).

ويقول:

كما أنّ شهود الله لنفسه على نحو لا يوجد أيّ اثنينية بين الله الشاهد والله المشهود، كذلك في مقام الملائكة وأولي العلم لا بدّ أن يكون الشهود على نحو الوحدة وعدم التكثر(23)..

إنهم فوق كل هذا يزعمون أن منكر عقيدتهم هذه منكر للتوحيد! يقول السيد محمد حسين الطهراني:

فمنكر وحدة الوجود منكر للتوحيد(24)...

أمّا الحقُّ في ذلك فهولا ينفك عن عقيدة آل محمد (عليهم السلام)، وهو ما يبحثه الباب التالي.

 الله مباينٌ لخلقه: بطلان وحدة الوجود

تقدّم(25) توضيح كون الله تعالى في كلّ مكان وليس في شيء من المكان.. بأنّ الله تعالى ليس في مكان لأن الأماكن تحدُّه، لكنه محيط بكل مكان، فمن وصفه بأنه في كلّ مكان عنى به إحاطته بكل مكان لا وجوده فيه وإلا لزم التجسم وكان المعبود غير الله تعالى.

وهذا المطلب مع وضوحه، يصلح لأن يكون مقدّمة لبحثٍ آخر، ندخل إليه من عبارة الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الحديث وهي قوله عن الله تعالى أنّه: بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وهي مفردة سقط فيها بعض الناس بما قد يكون عند القارئ مدعاةً للضحك والتندر لولا أنه قد اطلع على أقوال المتصوفة..

وحقيقة الشبهة قائمة على نفي بينونة الخالق عن خلقه، مع ادّعاء أن المخلوقات هي عينه تعالى! أو أنها ظهورات له عز وجل! كظهور ماء البحر بصورة الموج!

وهذا الكلام يخالف العقل والفطرة والكتاب والسنة.

إن عقيدة الشيعة الإمامية تامّة في أن الله تعالى مباينٌ لخلقه، والمباينة هي المفارقة والانفصال، فليس الخلق ذات الله، ولا هم ظهوراتٌ له! وليسوا وهماً ولا خيالاً أو سراباً!

وتُلخَّصُ هذه العقيدة بنقاط ثلاث:

1. أنّ الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه مفارقٌ لهم، خلوٌ منهم وهم خلوٌ منه، وليس هو فيهم ولا هم فيه.

2. أنه بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها والإحاطة بها، وبانت منه بالخضوع له.

3. أنّ بينونته من الخلق ليست بينونة عزلة ولا بُعدٍ، ولا بينونة غائب، ولا بتراخي مسافة، فهذه البينونة منفية والأولى مثبتة.

وفيما يلي بعض النصوص سوى ما تقدم في الفصل السادس من الباب الأول، وهي تبيّن المباينة بالمعنى المتقدم الذي ذكرناه:

1. عن أبي عبد الله (عليه السلام): كَذَلِكَ هُوَ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِه‏(26)..

2. ومن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام): ..لِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ مِنَ المصْنُوعِ، والحادِّ مِنَ المحْدُودِ، والرَّبِّ مِنَ المرْبُوب.. الْبَائِنُ لَا بِتَرَاخِي مَسَافَة‏(27)..

3. وعن أبي عبد الله (عليه السلام): لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالَّذِي هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُتَعَالِياً عَنْ كُلِّ شَيْ‏ء (28).

4. عن الإمام الرضا (عليه السلام): مُبَايَنَتُهُ إِيَّاهُمْ مُفَارَقَتُهُ لَهُم‏(29).

5. عن أبي عبد الله (عليه السلام): لَا خَلْقُهُ فِيهِ ولَا هُوَ فِي خَلْقِهِ، غَيْرُ مَحْسُوسٍ ولَا مَجْسُوسٍ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، عَلَا فَقَرُبَ ودَنَا فَبَعُدَ(30).

6. ورد في الدعاء عنهم (عليهم السلام): اللهمَّ يَا ذَا الْقُدْرَةِ الَّتِي صَدَرَ عَنْهَا الْعَالَمُ مُكَوَّناً مَبْرُوءاً عَلَيْهَا.. أَنْشَأْتَهُ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْكَ، بِأَنَّكَ بَائِنٌ مِنَ الصُّنْعِ، فَلَا يُطِيقُ المنْصِفُ بِعَقْلِهِ إِنْكَارَكَ، والموْسُومُ بِصِحَّةِ المعْرِفَةِ جُحُودَك‏(31).

7. عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ﴾ فَقَالَ: هُوَ وَاحِدٌ وَاحِدِيُّ الذَّاتِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وبِذَاكَ وَصَفَ نَفْسَهُ(32)..

8. وقال (عليه السلام) في خطبة أخرى: دَلِيلُهُ آيَاتُهُ، ووُجُودُهُ إِثْبَاتُهُ، ومَعْرِفَتُهُ تَوْحِيدُهُ، وتَوْحِيدُهُ تَمْيِيزُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وحُكْمُ التَّمْيِيزِ بَيْنُونَةُ صِفَةٍ لَا بَيْنُونَةُ عُزْلَةٍ، إِنَّهُ رَبٌّ خَالِقٌ غَيْرُ مَرْبُوبٍ مَخْلُوقٍ، كُلُّ مَا تُصُوِّرَ فَهُوَ بِخِلَافِه‏(33).

9. وفي حديث آخر عنه (عليه السلام): الحمد لله الذي لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَانَ ولَا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَوَّنَ مَا قَدْ كَانَ، مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ..  مُبَايِنٌ لِجَمِيعِ مَا أَحْدَثَ فِي الصِّفَات‏‏ (34).‏

10. عن الإمام الحسين (عليه السلام):  هُوَ فِي الْأَشْيَاءِ كَائِنٌ لَا كَيْنُونَةَ مَحْظُورٍ بِهَا عَلَيْهِ، ومِنَ الْأَشْيَاءِ بَائِنٌ لَا بَيْنُونَةَ غَائِبٍ عَنْهَا (35).

11. عن أبي جعفر (عليه السلام): إِنَّ الله خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ وخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ وكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَا خَلَا الله(36).

12. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَانَ ولَا مِنْ شَيْ‏ءٍ خَلَقَ مَا كَانَ، قُدْرَةٌ بَانَ بِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ وبَانَتِ الْأَشْيَاءُ مِنْه‏(37).

إلى أن يقول: .. وحَدَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا عِنْدَ خَلْقِهِ إِبَانَةً لَهَا مِنْ شَبَهِهِ وإِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا، لَمْ يَحْلُلْ فِيهَا فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ ولَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ، ولَمْ يَخْلُ مِنْهَا فَيُقَالَ لَهُ أَيْنَ؟ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَاطَ بِهَا عِلْمُهُ وأَتْقَنَهَا صُنْعُهُ(38).

وفيه إشارة إلى ما تقدّم من نفي البينونة التي تعني النأي والبعد وعدم القدرة، وإثباتٌ للإحاطة.

وبهذا يتّضح أيضاً الوجه في معنى كونه تعالى (باطناً)، وقد توهّم بعضهم أن كونه باطناً ينفي البينونة.

يقول إمامنا الرضا (عليه السلام): وأَمَّا الْبَاطِنُ فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِبْطَانِ لِلْأَشْيَاءِ بِأَنْ يَغُورَ فِيهَا، ولَكِنْ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى اسْتِبْطَانِهِ لِلْأَشْيَاءِ عِلْماً وحِفْظاً وتَدْبِيراً، كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَبْطَنْتُهُ يَعْنِي خَبَّرْتُهُ وعَلِمْتُ مَكْتُومَ سِرِّهِ.

والْبَاطِنُ مِنَّا الْغَائِبُ فِي الشَّيْ‏ءِ المسْتَتِرُ وقَدْ جَمَعَنَا الِاسْمُ واخْتَلَفَ المعْنَى(39)..

وبهذا يتّضح أيضاً معنى الروايات التي دلّت على أنه داخل في الأشياء لا على وجه الممازجة، فإنه دخول قدرة وإحاطة وعلم لا استبطان أو ممازجة.

من هذه الأحاديث ما ورد عن عن أمير المؤمنين (عليه السلام): دَاخِلٌ فِي الْأَشْيَاءِ لَا كَشَيْ‏ءٍ دَاخِلٍ فِي شَيْ‏ءٍ، وخَارِجٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا كَشَيْ‏ءٍ خَارِجٍ مِنْ شَيْ‏ء(40).

وما ورد عنه (عليه السلام): فَارَقَ الْأَشْيَاءَ لَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ، ويَكُونُ فِيهَا لَا عَلَى وَجْهِ الممازَجَة(41).

كذلك يتضح المقصود من الروايات التي نفت البينونة ومنها ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): هُوَ فِي الْأَشْيَاءِ عَلَى غَيْرِ مُمَازَجَةٍ، خَارِجٌ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ مُبَايَنَة(42).

وعنه (عليه السلام): في الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا غَيْرُ مُتَمَازِجٍ بِهَا ولَا بَائِنٌ مِنْهَا(43).

فإن المباينة المنفية هي مباينة العزلة والغياب والبعد لا مباينة الافتراق، فهي المثبتة بلا شك.. لئلا يكون الله عين خلقه كما توهم بعض الجهلاء!!

وهذه الروايات ترشد العاقل إن خفيَ عليه بطلان ما ذهب إليه المتصوفة وأتباعهم العرفاء من نفي البينونة بين الخالق والمخلوق صراحة، وهو إلى جوهر الكفر أقرب منه إلى جوهر الإيمان.

معاني وحدة الوجود

قال السيد السبزواري في تعليقته على الأسفار:

القائل بالتوحيد:

1. إما أن يقول بكثرة الوجود والموجود جميعاً مع التكلم بكلمة التوحيد لساناً واعتقاداً بها اجمالاً، وأكثر الناس في هذا المقام.

2. وإما أن يقول بوحدة الوجود والموجود جميعاً، وهو مذهب بعض الصوفية.

3. وإما أن يقول بوحدة الوجود وكثرة الموجود، وهو المنسوب إلى أذواق المتألهين، وعكسه باطل.

4. وإما ان يقول بوحدة الوجود والموجود جميعاً في عين كثرتهما، وهو مذهب المصنف قده(44) والعرفاء الشامخين.

 والأول توحيد عامي، والثالث توحيد خاصي، والثاني توحيد خاص الخاص، والرابع توحيد أخص الخواص(45).

وهذه المعاني مبسوطة في كتب الصوفية والعرفاء. وقد تقدّم بعضها وسيأتي بعضها الآخر.

والفارق بين هذه الأقوال أنّ الأول لا علاقة له بوحدة الوجود، فهو يعني الاعتقاد بكثرة مفهوم الوجود وكثرة الموجودات أي المخلوقات حقيقة.

والثاني الذي التزم به جمعٌ من الصوفية وحقيقته وحدة الوجود والموجود، فالموجودات كلها شيء واحد كما تقدّم.

والقول الثالث يعني أن مفهوم الوجود واحد لكن الموجودات كثيرة، فيشترك مع الأول في الاعتقاد بكثرة الموجودات، ويخرج عن محل بحثنا كما الأول.

والقول الرابع يأتي ذكره كوجه من تأويلات القول بوحدة الوجود والموجود.

إن معنى ما التزم به الصوفية (القول الثاني) هو أنه لا وجود حقيقي لشيء من الموجودات في عالم الخارج، فلا سماء ولا أرض ولا إنسان ولا جماد في الحقيقة، بل كلّ الموجودات هي وجود واحد وهو وجود الله عزّ وجل!

وإذا كان الموجود واحداً فقط في الحقيقة، فإن وجود المخلوقات هو أمرٌ اعتباري وليس حقيقياً.

وهذا القول هو الذي يعنيه معظم العلماء عند التعرض لوحدة الوجود بالإبطال.

ويمثِّلُ له هؤلاء بعدة تمثيلات لا تدع مجالاً للشك في ما يقولون، فهذا السيد الآملي يمثله بالبحر والأمواج فيقول:

وعند التحقيق ليس فرق بين ظهور البحر بصورة الأمواج و(بين) ظهور الحق تعالى بصورة الخلق، فان الكلّ على سواء.

         وفي كل شي‏ء له آية             تدلّ على انّه واحد

وهذا معناه حقيقة، لانّ تقديره أنّه يقول: لو كان المشاهد لهذا الوجود عارفا لأمكن له ان يشاهد، في كل صورةٍ صورةً من صور العالم الوجود ومظاهره المعبّر عنها بالخلق، كالبحر والأمواج، والحدوث والقدم، والوجوب والإمكان، والكثرة والوحدة، وغير ذلك من الاعتبارات لظهور هذا المعنى، كما قيل:

البحر بحر على ما كان من قدم       انّ الحوادث امواج وانهار

لا يحجبنّك اشكال تشاكلها         عمّن تشكّل فيها فهي أستار(46)

متبعاً غيره في هذا التشبيه كما سلك اللاحقون مسلكه.

ومثّل له بمثال آخر وهو الأحرف بوجودها الاعتباري والمداد بوجودها الحقيقي! يقول في كتابه الآخر:

مثال الوجود وظهوره بصور المظاهر (هو) بعينه مثال المداد وظهوره بصور الحروف...

لانّ وجود الحروف أمر اعتباريّ، لا وجود له في الخارج حقيقة، لانّ الوجود في الخارج حقيقة ليس الا في المداد. و(التوحيد) في صورة الوجود والموجودات كذلك، أعني يكون بقطع النظر عن صور جميع الموجودات وتعيّناتها وكثرتها، و(ذلك) بمشاهدة الوجود على ما هو عليه، لانّ وجود الموجودات أمر اعتباريّ، لا وجود له في الخارج، لانّ الموجود في الخارج حقيقة ليس الا الوجود المسمّى بالحقّ(47).

وكذا يشبهونها بالشجرة والنواة، وغير ذلك من التشابيه الباطلة، والتي تكشف عن اعتقادهم بأن لا موجود حقيقة إلا الله بما يستتبع ذلك من لوزام فاسدة.

 تأويلات وحدة الوجود والموجود ومعانيها

كما تقدم في الأبواب السابقة محاولات توجيه القول بالحلول والاتحاد، أو بالفناء والاندكاك، فهناك من حاول تفسير وحدة الوجود بمعانٍ مختلفة، أو تبرير قول المتصوفة والعرفاء وذلك بوجوه منها:

1. أنها وحدة الشهود لا وحدة الوجود

يفرق بعضهم(48) بين معنيين من الفناء يؤديان لمعنيين من الوحدة: أولهما هو فناء الجنيد فيقول:

مدرسة الجنيد تثبت الأثينية بين الله والإنسان، ومن ثم فإن الوحدة عنده تمثل وحدة الشهود.

وثانيهما فناء ابن عربي فيقول:

بخلاف مدرسة ابن عربي الذي يمضي في أطوار فنائه.. ليتحقق في النهاية بوحدة الوجود، فلا يرى موجودا سوى الحق تعالى، هو عين حقيقة كل موجود، ولا موجود خارج عن وجوده تعالى... ولكنها وحدة روحية لا مادية، وحدة قوامها أن الله هو الوجود الحق، وأنه عين كل موجود في حقيقة وجوده(49).

وكلامه هذا يتضمّن دعويان:

الأولى: أن الجنيد لا يرى الاتحاد حقيقة، إنما يرى الكشف الذي ظاهره رفع الإثنينية وإن كانت الاثنينية حقيقة.

الثانية: أن وحدة الوجود عند ابن عربي روحية لا مادية.

ولئن أمكن الاستدلال ببعض كلمات الجنيد على إثبات الدعوى الأولى، فإن بعضها الآخر لا يساعد على ذلك، كقوله: ليس في جبّتي سوى الله(50)، فإنّها صريحة في نفي الاثنينية بينه وبين الله تعالى.

وحتى ما كان مساعداً من كلماته على القول بالإثنينية، انتهى عنده بخروج الإنسان عن حد الآدمية! فيقول بعد التعرّض لما يسمونه مراتب السكر، وأرفعها سكرة التوحيد، ولها أحكام خاصة، يقول في ذلك:

وأما أحكام سكرة التوحيد وغمرة التجريد عند تحققهم بعلم الألوهية وتجلي الإيقان بالفردانية، فإنه يعلو بسطوة شامخة فتجتاح الصفات وتخنس الذوات، ويغير احكام الذاتية ويزيل رسوم الدراية، يخرج عن حد الآدمية ويبقى بعلاقة الإلهية المتحكم عن نسب البرية(51).

ثم يتحدث عن (هيمانهم في البراري والقفار) وعن (تقطع الأوصال وزهق الأنفس وتلف الأرواح)، حتى يصل إلى (فغطى منهم العقول وخمدت منهم الفهوم) حتى يظهر منهم (ترك الصلوات المفروضات في الأوقات المختلفات‏)(52)!!

وأما الجواب عن الدعوى الثانية فمن كلمات ابن عربي نفسه، وقد تقدم بعضها ومنها قوله:

فلم يبق إلا: وجود صرف خالص لا عن عدم، وهو وجود الحق تعالى.

ووجود عن عدم عين الموجود نفسه وهو وجود العالم، ولا بينية بين الوجودين(53)..

فكيف تكون الوحدة روحية وكلامه ينفي البينونة بين وجود الخالق ووجود المخلوق؟! والوجود ماديّ لا روحيّ.

نعم نقل هذا القول عن جماعة من المتصوفة والعرفاء، ومن ذلك ما نقله المازندراني كتوجيه قريب مما تقدم عمن أسماه (بعض أرباب القلوب) وهو قوله:

وهكذا يتبادلان الى أن يستولى المذكور وهو الله سبحانه على القلب ويتجلى فيه. فالذاكر حينئذ يحبه حبا شديدا ويغفل عن جميع ما سواه حتى عن نفسه اذ الحب المفرط يمنع من مشاهدة غير المحبوب وهذا المقام يسمونه مقام الفناء في الله، والواصل الى هذا المقام لا يرى في الوجود الا هو، وهذا معنى وحدة الوجود لا بمعنى أنه تعالى متحد مع الكل لانه محال وزندقة بل بمعنى أن الموجود في نظر الفاني هو لا غيره لانه تجاوز عن عالم الكثرة وجعله وراء ظهره وغفل عنه(54)..

و هناك من زعم أن وحدة الوجود تعني وحدة الشهود حصراً، كالشيخ الإمام محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني الحسني الفاسي المتوفى 1274 هـ حيث يقول عن وحدة الوجود:

أن مرادهم بها وحدة الشهود وذلك أن العارف لما بدت له أنوار الذات العلية من غير تشبيه ولا تكييف وأشرق عليها شعاعها وغلب على قلبه شهودها وتمكن من بصيرته وجودها غاب عنه عند شهودها شهود كل ما سواها من جميع الكائنات مع وجودها نظير النجوم فإنها ثابتة ولكنها تغيب عند بدو الشمس قال بعضهم: ومن زعم أن وحدة الوجود غير وحدة الشهود لم يشم رائحة معنى الوحدة(55).

ومما يلاحظ على هذا التوجيه:

أولاً: أنه يتضمن إقراراً بالغفلة، والغفلة نقصٌ دون شكّ، فإن الأنبياء والأوصياء والأولياء وهم أكمل الناس ما غفلوا عن مخلوقات الله تعالى بل جعلوها طريقاً إليه وهم أشد الناس حباً له، بينما يزعم هؤلاء المتصوفة أن حبّهم لله من شدته جعلهم يغفلون عن وجود ما سوى الله تعالى، ولا شك أن الغفلة نقص لا كمال، فكيف يكون اعتقادهم هذا هو حقيقة التوحيد؟ ويكون اعتقاد الأنبياء وأتباعهم ناقصاً؟!

ثانياً: أن هذا القول لا ينسجم مع كلمات المتصوفة قاطبة، ولئن تنزلنا وقبلنا قول بعض المتصوفة بأن هذا مرادهم من وحدة الوجود، فإنا نعتقد أنه نقصٌ لا كمال لكنه ليس كفراً بالله تعالى، ولا يمكن تبرئة كافة المتصوفة لقول بعضهم وهم يصرحون بنفي هذا القول ويثبتون الوحدة الشخصية بين الخالق والمخلوق، وقد تقدمت كلماتهم في ذلك.

ثالثاً: أنه لا يؤدي إلى معنى محصَّل يصح السكوت عليه مع كون الإنسان يرى فعلاً كل المخلوقات، وقد اعترف الغزالي بهذا الإشكال لكنّه حاول التخلص منه بأن هذا سرٌّ لا يدرك ولا يسطر في كتاب!! فكيف يكون عقيدة يروجون لها وهم لا يتمكنون حتى من شرحها وبيانها؟!

يقول الغزالي قبل أن يحاول تبسيط الأمر والتمثيل له:

فإن قلت: كيف يتصور أنْ لا يشاهد إلا واحدا وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يرى الكثير واحدا؟

فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب فقد قال العارفون: إفشاء سر الربوبية كفر! (56).

فهل يتصور هؤلاء أن يقرّ لهم الخلق بمثل هذه العقائد حين يدّعون أنها أسرار لم يقم عليها برهان ولا يجوز إفشاؤها؟!

وما المزية التي يتمتعون بها حتى تُقدَّم دعواهم على دعاوى الملحدين العاجزين عن نفي وجود الله إن زعموا أن ذلك سرٌّ عظيم لا يصح إفشاؤه؟!

إنه أسلوب الجهل والتجهيل.. قاتله الله وأهله.

 2. أنه أمرٌ عصيٌّ على إدراك العقل!

وقريبٌ مما تقدّم في بحث الفناء، يقول العطار النيشابوري:

وإذا قدر للعقل أن يدرك أثرا من آثار وجودك، فلن يستطيع مواصلة الطريق لإدراك كنهك، ولما كنت الخالد الأوحد في الوجود، فالفناء نصيب الجميع على الدوام.

فيا خفيا في الروح وأنت خارجها، إن كل ما أقوله ليس أنت، وهو أنت أيضاً(57).

قد يقول القارئ لما يقرأ كلام العطار: بما أنكم تقولون أنّ الله تعالى لا يدرك كنهه والنيشابوري يقرّ بذلك، فما المانع أن يكون المراد من وحدة الوجود أيضاً شيء لا يدرك؟ فيصح قول العطار عن أي شيء أنه: ليس أنت وهو أنت! فهو أمرٌ فوق طور العقل.

فإنا نقول: تقدّم أن العقل بنفسه يقرّ بعدم إمكان إدراك كنه الله تعالى وذاته وحقيقته، لكن هذا لا يعني أن العقل يقرّ بإمكان الالتزام بين المتناقضين، فإن في ذلك إسقاطاً لكل أحكام العقل القطعية وبالتالي إسقاطاً لحجية العقل بالكامل.

وفرقٌ بين أن يقرّ العقل بأنه لم يتمكن من إدراك بعض الأمور، وبين أن يقرّ بما يحكم بنفسه استحالة وقوعه.

فيمكن أن يقرّ العقل أنه لا يعرف ما خلف الجدار، لكن لا يمكن أن يقر أن الإنسان موجود خلف الجدار وفي نفس الوقت غير موجود!

إنها السفسطة بعينها! ومآلها الكفر بزعم أن الله هو كل شيء وهو ليس تلك الأشياء!

وإلى مثل كلامه ذهب ابن عربي، بل ترقى أكثر منه، فالعطار يقر بعجز العقل، فيما يزعم ابن عربي أن العيان يثبت ما يردّه البرهان وينفيه! يقول:

وهذا الأمر أدّانا إلى أن نعتقد في الموجودات على تفاصيلها أن ذلك ظهور الحق في مظاهر أعيان الممكنات بحكم ما هي الممكنات عليه من الاستعدادات فاختلفت الصفات على الظاهر، لأن الأعيان التي ظهر فيها مختلفة فتميزت الموجودات وتعددت لتعدد الأعيان وتميزها في نفسه فما في الوجود إلا الله وأحكام الأعيان، وما في العدم الشي‏ء إلا أعيان الممكنات مهياة للاتصاف بالوجود، فهي لا هي في الوجود لأن الظاهر أحكامها، فهي ولا عين لها في الوجود فلا هي كما هو ولا هو لأنه الظاهر فهو والتميز بين الموجودات معقول ومحسوس لاختلاف أحكام الأعيان فلا هو

فيا أنا ما هو أنا             ولا هو ما هو هو

مغازلة رقيقة وإشارة دقية، ردّها البرهان ونفاها، وأوجدها العيان وأثبتها، فقل بعد هذا ما شئت‏(58)..

ونحن نقرّه في أن للسامع والقارئ أن يقول ما شاء بعد هذا البيان :فقل بعد هذا ما شئت.

ونحن لا نجد أفضل من كلام النبي (صلى الله عليه وآله) بياناً بعد تعطيل العقل في باب معرفة الله بهذا الصورة، حيث روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: قَسَمَ الله الْعَقْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَمَنْ كُنَّ فِيهِ كَمَلَ عَقْلُهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنَّ فَلَا عَقَلَ لَهُ: حُسْنُ المعْرِفَةِ بِالله وَحُسْنُ الطَّاعَةِ لله وَحُسْنُ الصَّبْرِ عَلَى أَمْرِ الله(59).

فأين حسن المعرفة بالله تعالى في إثبات أحكام التوحيد بما ينفيه العقل والبرهان؟!

وإذا لم يكن هؤلاء من أهل العقل بعد تطبيق حديث النبي (صلى الله عليه وآله)، فليسوا من أهل الدين جزماً، لقوله (صلى الله عليه وآله): إِنَّمَا يُدْرَكُ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِالْعَقْلِ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ(60).

ويتبع الآملي ابن عربي في اعتقاده بأمور كشفية ذوقية يأباها العقل، فيقول:

«المسألة الغامضة هي بقاء الأعيان الثابتة على عدمها مع تجلّي الحق باسمه «النور»، أي الوجود الظاهر الذي يتعلّق بتجلي الحق في صورها، وظهوره بأحكامها، وبروزه في صورة الخلق الجديد على الآنات باضافة وجوده إليها وتعينه بها، مع بقائها على العدم الأصلي، إذ لولا دوام ترجح وجودها بالاضافة اليه والتعيّن بها، لما ظهرت قط.» وهذا أمر كشفي ذوقي، ينبو عنه الفهم ويأباه العقل، ومنه يعرف الظهور وبقاء المظاهر الغير المتناهية، دنيا كانت او آخرة(61).

إذاً هم لا يقصدون بالعدم الأصلي أنها باقية في مصاف العدم لولا إيجاد الله تعالى، فإن هذا أمر يقرّ به عقلُ كلّ مسلم، بل يلتزمون بما (ينبو عنه الفهم ويأباه العقل) لا بما يقر بالعجز عن إدراكه!!

وقد تقدّم قريباً حكم من يردّ العقل ويسقط حجيّته.. فتبين أن حقيقة هذا التوجيه دفاعاً عن وحدة الوجود غير نافع في مقام الذب عنها أو إثباتها.

وأما أن الخالق يبرز ويظهر في صورة المخلوق، فقد أجاب عليه صادق العترة (عليه السلام) بقوله: فَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ فِي صُورَةِ المخْلُوقِ، فَبِمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا خَالِقُ صَاحِبِه‏؟!(62)..

 3. أنها من مراتب السرّ!

الحكم على الأشياء بالأضداد ممكنٌ لو كان لكل حكم جهته الخاصة وحيثيته المختلفة عن الحيثية الأخرى، لكن هؤلاء يعتقدون أن الحكم على الأشياء بالضد من نفس الجهة ممكن! وأن حقيقة ذلك سرّ لا يدرك! فكون المخلوقات هي الله وهي ليست الله هو سرٌّ يدركونه وحدهم!!

يقول ابن عربي:

إن سر العلم بالله هو جمع الأضداد بالحكم في العين الواحدة من حيث ما هو منسوب إليه كذا مما له ضد من ذلك بعينه ينسب إليه ضده، وهذا سر لا يعلمه إلا من وجده في نفسه فاتصف به فحكم على عينه بحكم حكم عليه أيضا بضده من حيث حكم ضده لا من نسبة أخرى ولا من إضافة، ولهذا جعله الله سر العلم‏(63).

فتأمل قوله: (فحكم على عينه بحكم حكم عليه أيضا بضده من حيث حكم ضده لا من نسبة أخرى)، تجده صريحاً في قبول اتصاف الشيء بحكمٍ وبضدّ هذا الحكم من نفس الجهة والنسبة لا من جهة أخرى. كما يقبل أن تكون العلة معلولاً والمعلول علة! حيث يقول:

أمّا في علم التجليات فإن العلة تكون معلولة لمن هي علة له‏(64).

وأما عن سرّ الحقيقة فيقول:

فسرُّ الحقيقة يعطي أن العين والحكم مختلفٌ، وسر الحال يلبس فيقول القائل بسر الحال: أنا الله وسبحاني، و: أنا من أهوى ومن أهوى أنا!

وسر العلم يفرق بين العلم والعالم فبسر العالم تعلم أن الحق سمعك وبصرك ويدك ورجلك مع نفوذ كل واحد من ذلك وقصوره وأنك لست هو عينه‏(65)!

فجمع بين إثبات كونه الله (أنا الله) ونفي كونه عين الله (وأنك لست هو عينه)!

ولئن سألتهم كيف تجمعون بين هذه الأمور؟

فلا تجد جواباً منهم إلا ما يرددوه في كثير من المواضع من قولهم:

فهذا من خفيّ سر العلم الذي لا يعلمه إلا العلماء بالله(66).

فالتناقض لا يعلمه إلا العلماء بالله!

أما نحن المحرومون من هذه المعرفة! فليس لنا إلا أن نقول: قاتل الله الجهل وأهله.

إن كون هذه العقيدة عصيّة على الإدراك مخالفة لحكم العقل بإقرارهم يبرّر لمخالفيهم كل وقيعة فيهم، إذ يزعمون أن دين الله تعالى قائم على الجمع بين المتناقضات من نفس الجهة، وأن هذا هو السرُّ بعينه، ولا طريق للوصول إليه إلا بسلوك سبيلهم!

حاشى لله تعالى أن يتعبدّ خلقه بمثل هذا الدين.

 4. أن وحدة الوجود تعني وحدة الموجِد!

قد يقال: إن أصحاب هذا القول لا يريدون ما تفهمون من وحدة الوجود، فلعلّ لهم اصطلاحاً خاصاً في معنى كون الوجود واحداً حقيقة، إذ في كلماتهم إشارات كثيرة إلى أنه ليس للمخلوقات وجود حقيقي بمعنى أنها لا تستقل بوجودها عن الله تعالى، وأنها لم تكن لولا إيجاد الله لها ولم تبق لولا إبقاء الله لها، أو أنها لا حول لها ولا قوة أمام حول الله وقوته. بل قد يتأكد الاعتقاد بأن هذا مرادهم من جملة من كلماتهم، منها ما ذكره السيد الطهراني بقوله:

 ليس لأيّ موجود من الموجودات حتى الذرّات، وليس فقط الملائكة، استقلاليّة؛ لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال. فجميعها آيات الحقّ وعلاماته ودلائله ومرايا ذاته المقدّسة ومجالاتها. وليس لها وجود أو أثر أو فعل من نفسها ولو قدر رأس دبّوس؛ بل أنّ نور الحقّ متجلٍّ فيها ولا شي‏ء غير ذلك... وليس لأيّ من المخلوقات.. اي وجود أو كينونة من نفسها ولو قدر ذرّة؛ فالكلّ هو الحقّ وتجلّيه(67).

فيأتي الجواب: لا شبهة في أن لا استقلال لشيء من الموجودات في وجوده عن الله تعالى، فلا خالِق إلا الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن هذا لا يعني ما يقوله من كون (الكلّ هو الحقّ وتجلّيه)، فإن في الوجود خالقاً ومخلوقاً، الكل هو الخالق والمخلوق معاً، فإن أرادوا بتجليات الحق مخلوقاته قلنا لن نتوقف عند الخلاف اللفظي، فإن هذا الكلام هو اعتقاد كل المسلمين، وأنتم كسائر الناس في عقيدة الإيمان.. التي ترجع إلى الاعتقاد بكثرة الموجود حقيقة.

لكن هؤلاء لا يرتضون ذلك، ويصرحون في كلماتهم بأنهم يقصدون ما هو أبعد غوراً، كما تقدّمت الكثير من عبائرهم..

وهذه كلماتهم تصدح بأنه لا وجود فعلاً لشيء في الخارج، وكل ما في الوجود هو الله تعالى، أو مظاهره..

فإن قلت: لعلّ مرادهم بالمظاهر هو الآيات والعلامات، فيرجع ذلك إلى القول بكون كل شيء في الدنيا آية وعلامة على خالقه، فكل مخلوق يحتاج إلى خالق، ونرجع وإياهم إلى عقيدة واحدة.

قلنا: إنهم بأنفسهم ينكرون الاكتفاء بهذا التفسير أيضاً، بل يصفون القائل بحقيقة الكثرة بأنه مشرك حقيقة، وعليه يكون المسلمون كلهم سوى القائلين بوحدة الوجود والموجود كفاراً في الحقيقة بزعمهم!

ويصرحون بأن عقيدتهم هذه صعبة الفهم لا تتناسب وهذا المعنى الذي يرونه بسيطاً وتافهاً.. كما تقدّمت بعض هذه الكلمات ويأتي بعضها الآخر، وبهذا لا يرتفع الإشكال عنهم بوجه من الوجوه.

نعم منهم من صرّح بأن قوله بوحدة الوجود إنما يعني في حقيقة الأمر وحدة معنى الوجود وكثرة الموجود حقيقة، فيقبل كلامه من جهة كثرة الموجود ويرتفع الإشكال عليه بهذا المقدار، كعبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1143 هـ حيث يقول:

اعلم بأنك إذا سمعتنا نقول: إن الوجود هو الله تعالى فلا تظن أننا نريد بذلك أن الموجودات هى الله تعالى؛ سواء كانت الموجودات محسوسات أو معقولات، وإنما نريد بذلك أن الوجود الذى قامت به جميع الموجودات هو الله تعالى(68).

ليصرح بعد ذلك باعتقاده بكثرة الموجود:

اعلم بأنك أيضا إذا سمعتنا نقول بوحدة الوجود، فلا تظن أننا نقول بذلك على ما يعتقده أهل الجهل والعناد والضلال والجحود؛ وإنما نقوله فارقين بين وحدة الوجود وكثرة الموجود، إلى ذلك نشير بقولنا فى هذه الأبيات:

كن عارفا بوحدة الوجود

            وقاطعا بكثرة الموجود

وميز الحادث من قديم           

 وخلص الثابت من مفقود..

فوحدة الوجود فى اصطلاحنا            

كناية عن رؤية الودود

بالحس والذوق الصحيح الطاهر

الطهور من شك ومن جحود(69)

هو إذاً قولٌ بكثرة الموجود حقيقة، فيسلم القائل به من أسوأ ما وقع به القائل بوحدة الوجود والموجود، لكنه قولٌ لبعض المتصوفة يخالفهم فيه الأكثر منهم.

بل يزعم النابلسي أن قولهم في وحدة الوجود والموجود هو قول كلّ المسلمين! يقول:

ليس المراد ب وحدة الوجود خلاف ما عليه أئمة الإسلام، بل المراد بذلك: ما اتفق عليه جميع الخاص والعام، وما هو معلوم من الدين بالضرورة، من غير إنكار أصلا من المؤمنين.

ولا يتصور فيه إنكار عند العقلاء من الآنام أن جميع العوالم كلها على اختلاف أجناسها، أنواعها، وأشخاصها موجودة من العدم بوجود اللّه تعالى، لا بنفسها(70).

فأين أسرار التصوُّف إذاً؟! وكيف اختصَّ الله هؤلاء بعقيدة التوحيد الخالصة وهم لا يعتقدون سوى ما يعتقده المسلمون؟!

إن هذا تفسيرٌ من النابلسي بما لا يرضى به أصحابه! فإنهم يعتقدون أنها أمر عصيٌّ على الإدراك وأنها من مراتب السرّ وأنها مزال الأقدام! فكيف جعلها نفس ما يعتقد به عامة المسلمين؟!

حتى الغزالي وهو المفسّر لها بوحدة الشهود يميّز بين رؤية الكثير ورؤية الواحد فيقول في المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد (بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار) ثم يرى المرتبة الرابعة وهي التي يعدها مرتبة الصديقين (أن لا يرى في الوجود إلا واحدا) (71)!

فكيف تكون عقيدتهم هي عقيدة جميع المسلمين؟!

 5. أنها قمة التوحيد: التوحيد الوجودي!

يزعم المتصوفة أنهم بلغوا القمة في التوحيد بنفي أي وجود لشيء سوى الله تعالى، وأن هذه هي حقيقة التوحيد وجوهره وباطنه..

يقول إمامهم ابن عربي:

فالزم حقيقتك تحظ به، وإن شاركته لم تحظ به، فإنه لا يشارك فتقع في الجهل، لأن الشركة لا تصح في الوجود لأن الوجود على صورة الحق وما في الحق شريك بل هو الواحد، الشركة ما لها مصدر تصدر عنه، فتحقق هذا التنبيه في الشركة فإنه بعيد أن تسمعه من غيري‏(72)..

ويتبعه السيد حيدر الآملي متعمّقاً في تفسيرها قائلاً أنّ مخالفة التوحيد الوجودي:

هو أعظم الشرك وأكبر الكبائر، لانّه بمثل هذا العمل، لا يصل الى الله تعالى ولا يجد لقاءه أبدا.

وعند أرباب التحقيق أنّ هذا الشرك، الذي هو مشاهدة الغير، أو الرياء المسمّى ب «الشرك الخفيّ، أعظم من الشرك الذي هو اثبات اله غيره، المسمى ب «الشرك الجلي»..

و«الشرك الخفيّ» لو لم يكن موجوداً في المسلمين والمؤمنين، ما قال الله تعالى ﴿وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ وما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم «دبيب‏ الشرك في أمّتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصّماء في الليلة الظلماء!» وهذان الكلامان مبالغة في خفائه وكمونه وسريانه في المؤمنين والمسلمين من عباده. (73).

ويقول:

«الإسلام الباطن» لا يحصل الا بنفي وجودات كثيرة واثبات وجود واحد، كقولك: ليس في الوجود سوى الله، وهو كلمة «التوحيد الوجوديّ»(74).

ويقول:

فالدين الحقيقيّ والإسلام اليقينيّ والتوحيد الذاتيّ الجمعيّ هو الذي يكون خالصا من الشركين -أي الجليّ والخفيّ- عن مشاهدة الغير في الوجود مطلقا، ظاهرا كان او باطنا، ذهنا كان أو خارجا، بحيث لا يشاهد معه غيره، أي لا يشاهد مع الحقّ غير الحقّ؛ ويكون عنده الشاهد والمشهود، والعارف والمعروف، عينا واحدة وحقيقة واحدة، كما قال العارف بذلك:

أأنت أم أنا؟ هذا العين في العين

حاشاي، حاشاي! من اثبات اثنين

وقال الآخر:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا!

وقال أيضاً: «سبحاني! ما أعظم شأني»(75).

لقد جعل كل من (يشاهد الغير) ممن أشرك (أعظم الشرك) وارتكب (أكبر الكبائر)، وعلى هذه العقيدة عموم المسلمين وكافة الشيعة إلا القائلين بوحدة الوجود!

فإنهم بهذا حكموا على جميع الشيعة بالكفر دون أن يرفّ لهم جفن، ومنهم من يزعم أنه شيعي كالسيد الآملي.

مثل هذه الانحرافات تأخذ بيد صاحبها كي يرى ذاته الذات الواحدة لله تعالى! أما علامة التوحيد الذاتي عندهم فهي:

وعلامة حصول ذلك.. أن يرى صاحب هذا المقام كلّ الذوات والصفات والأفعال‏ متلاشية في أشعّة ذاته وصفاته وأفعاله، ويجد نفسه مع جميع المخلوقات والموجودات كأنّها (أي ذات الحقّ) مدبّرة لها (أي لنفسه ولجميع المخلوقات)، وهم (أي نفسه وجميع المخلوقات) أعضاؤها (أي أعضاء ذات الحقّ)، لا يلمّ بواحد فيها شي‏ء الا ويراه ملمّا به، ويرى ذاته الذات الواحدة، وصفته صفتها، وفعله فعلها، لاستهلاكه بالكلّيّة في عين التوحيد(76)..

ويزيد الأمر صراحة في كلماتهم أكثر فأكثر، فيقول السيد الآملي:

أمّا الشرك فإمّا أن يكون بحسب الظاهر، كعبادة الأصنام والأوثان وغيرها، وإمّا بحسب الباطن، كمشاهدة الغير مع الحقّ. والأول موسوم بالشرك الجليّ، لجلائه بين الخاصّ والعامّ، والثاني موسوم بالشرك الخفيّ، لخفائه بين العامّة دون الخاصّة(77)...

إن من أقرّ بالتوحيد الظاهري عُدّ عند جميع المسلمين مسلماً كما يقرّ بذلك السيد الآملي، لكنّه يبقى (مشركاً ملحداً زنديقاً نجساً) في الباطن، أو في الباطن والظاهر معاً، إن لم يؤمن بمعتقدهم، وهذا هو مذهب المحققين بزعمهم! يقول السيد الآملي:

وكلّ من توجّه الى الوجود المطلق وعدل عن الوجود المقيّد، ورجع عن مشاهدة المخلوق الى مشاهدة الخالق، ونطق بكلمة التوحيد الوجودي الباطني، وقام بعبوديته على ما ينبغي، خلص من الشرك الخفي، وصار عارفا موحّدا محقّقا باتفاق الموحّدين، وطهر من نجاسة الشرك الخفي في الباطن والظاهر.

وان لم يكن كذلك، بقي مشركاً ملحداً زنديقاً نجساً في الباطن دون الظاهر عند البعض، وعند البعض (الآخر) هو نجس في الظاهر والباطن، لانّ كلّ من شاهد غير الحقّ في الوجود هو مشرك، باتفاق المحققين، بالشرك الخفيّ كما عرفته..

ومشاهدة الغير على جميع التقادير شرك خفيّ، مانع من التوحيد والوصول الى الحق، حتى مشاهدة وجود الشخص نفسه (هي شرك خفي)..

لانّ رؤية وجوده وأنائيته تدلّ على مشاهدة الغير، و(تدلّ على) الاثنينية الموجبة للشرك المذكور. والمشرك من جميع الوجوه غير مغفور له، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ﴾ جلياً كان الشرك أو خفياً(78) .

وكعادتهم في اتّباع المتصوفة، سار جمعٌ من العرفاء الشيعة على نفس المسار، فقال السيد الطهراني:

ولقد منحوا تلك الأسماء المجرّدة الجوفاء التي تستمدّ وجودها من الله تعالى استقلاليّة حتى أضحى وجود الله سبحانه محجوباً ومخفيّاً؛ والحال أنّه لا يوجد وجود غير وجوده تعالى شأنه وحسب. أن هذه الأسماء وتلك الألقاب ما هي إلّا ستائر حَجبتْ حقيقته المقدّسة. فأزِح الستار وطالِع وجه الله، إنّه هو حقيقة الزهرة والوردة! هو حقيقة البلبل! هو واقعيّة الإنسان والملائك! هو أصل الجنّ وسائر الموجودات المخلوقة واعتبارها!

ولهذا، فما دام ذلك الحجاب الداعي إلى الاستقلال موجوداً فإنّ الشرك به ما يزال قائماً أيضاً. وبالرغم من إسلام معظم الناس في العالَم فإنّهم، دون شكّ أو تردُّد ودون مجاملة أو مبالغة، جميعاً مشركون ما دام ذلك الستار موجوداً على حاله!(79).

وعدّ ذلك أيضاً من مصاديق الشرك الخفي.

بعد هذا العرض المستفيض لكلماتهم في ذلك والذي كان لا بدّ منه لبيان خطورة المسألة وحدود اعتقادهم فيها بما يشمل تكفير عموم المسلمين باطناً أو باطناً وظاهراً، فإنهم زعموا الاستناد إلى الكتاب والسنة في ذلك! يقول السيد الآملي:

وامّا (الإشارات الإلهية بالنسبة) الى الشرك الخفي فكقوله تعالى: ﴿وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ﴾. وقول النبي (صلى الله عليه وآله): «دبيب الشرك في امّتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء» لأنّ هذين القولين لا يصلحان ان يخاطب بهما الكفار، لانّهما مقيّدان بالمؤمن والمسلم، والايمان والإسلام لا يجتمعان والشرك الجليّ، فلم يبق الا الشرك الخفيّ..(80).

ومن أدلتهم أيضاً:

ومعلوم أيضا أنّ الدين هو التوحيد الحقيقيّ، كما تقدّم ذكره. وتقدّم أنّ خالصيّته لا يكون الا بالخلاص عن الشركين الخفيّ والجليّ، اللذين هما عبارة عن مشاهدة الغير. والشرك المذكور في الآية، لو لم يكن شركا خفيّا، لما قال تعالى ﴿ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ .. لانّ المشرك بالشرك الجليّ ما له عبادة ولا عمل صالح يطلب منه صلاحهما و(ترك) فسادهما.

فالصلاح -في هذا الموضع- هو الخلاص من الشرك الخفيّ الموجود في أكثر المسلمين، كما مرّ ذكره. فالخلاص منه لا يمكن الا بمشاهدة وجود الحقّ المطلق وذاته، بلا اعتبار غير معه أصلا، لا ذهنا ولا خارجا(81).

تتلخص أدلتهم الشرعية إذاً بجملة من الآيات والروايات الشريفة، ويلاحظ عليها جميعها أمران:

الأول: أنه لا دلالة فيها على ما يذهبون إليه، لا بظاهر اللفظ ولا بما هو أقوى من الظهور ككونه نصاً فيه، بل لا إشارة لهذه الآيات إلى قولهم ولو من باب الإشارة البعيدة.

ومن المعلوم أن لهؤلاء مناهج خاصة في تفسير الآيات يصدق عليها أنها من باب تفسير القرآن الكريم بالرأي(82).

وعليه فمع عدم وجود صلة بين اللفظ والمعنى المزعوم كيف يمكن الاستدلال بهذه الآيات على ذلك؟

فالآيات لا تدل على هذا المعنى بوجه من الوجوه، فهي لم تتعرض ولو على سبيل الإشارة إلى معنى الاعتقاد بوجود المخلوقات أو نفي وجودها، إنما ذكرت أن أكثر المؤمنين بالله يؤمنون به وهم مشركون، لكنّها لم تبين أن الشرك هنا هو ما فهموه من الاعتقاد بوجودٍ مقابلَ وجود الله تعالى، ولا اصطلح في اللغة العربية ولا في الأحاديث الشريفة على مثل هذا الاعتقاد أنه شرك..

فلا دلالة للآيات على زعمهم بوجه من الوجوه.

الثاني: أن تفسيرهم مخالفٌ لتفسير العترة الطاهرة بعد مخالفته للاستدلال اللغوي.

أما الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ﴿وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ﴾.

فقد بيّن المعصومون (عليهم السلام) الذين يعتقد الآملي عصمتهم أن الشرك في الآية هو شرك طاعة وليس شرك عبادة، فيكون المراد من المشرك هنا هو العاصي لله تعالى، لا الذي يعتقد أن له كمخلوقٍ وجوداً، والآية تحتمل هذا المعنى ولا تحتمل ما ذهبوا إليه.

ففي الخبر عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى ﴿وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قَالَ:

شِرْكُ طَاعَةٍ ولَيْسَ شِرْكَ عِبَادَةٍ، والمعَاصِي الَّتِي يَرْتَكِبُونَ شِرْكُ طَاعَةٍ أَطَاعُوا فِيهَا الشَّيْطَانَ فَأَشْرَكُوا بِالله فِي الطَّاعَةِ لِغَيْرِهِ، ولَيْسَ بِإِشْرَاكِ عِبَادَةٍ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ الله‏(83) .

وفي الكافي الشريف: عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ﴿وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ﴾.

قَالَ: يُطِيعُ الشَّيْطَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ فَيُشْرِكُ(84) .

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ﴿وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قَالَ: شِرْكُ طَاعَةٍ ولَيْسَ شِرْكَ عِبَادَةٍ(85) .

وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: ﴿ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾، فقد بيّن الإمام أن المراد من ذلك الرياء، حيث روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْل الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

قَالَ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ شَيْئاً مِنَ الثَّوَابِ لَا يَطْلُبُ بِهِ وَجْهَ الله إِنَّمَا يَطْلُبُ تَزْكِيَةَ النَّاسِ، يَشْتَهِي أَنْ يُسْمِعَ بِهِ النَّاسَ فَهَذَا الَّذِي أَشْرَكَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ(86).

وأما الحديث المنسوب للنبي (صلى الله عليه وآله): دبيب الشرك في امّتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.

فعلى فرض اعتباره لا يدل إلا على ما دلّت عليه الآيتان السابقتان.

ففي خبر مروي عن الصادق (عليه السلام) يصلح مؤيداً عدّ الشرك الخفي من ثمار الرياء: لَا تُرَاءِ بِعَمَلِكَ مَنْ لَا يُحْيِي وَلَا يُمِيتُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً، وَالرِّيَاءُ شَجَرَةٌ لَا تُثْمِرُ إِلَّا الشِّرْكَ الخفِيَّ(87)..

وعنه (عليه السلام): كُلُّ رِيَاءٍ شِرْكٌ، إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى النَّاسِ، وَمَنْ عَمِلَ لله كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى الله(88).

على أن هؤلاء يقرّون بأن قولهم هذا (التوحيد الوجودي) قد ترتّب عليه مفاسد جمّة ومهالك عظيمة، يقول السيد الآملي:

اعلم أنّ في هذا التوحيد مفاسد كثيرة ومهالك عظيمة، كلّ واحدة منها سبب للهلاك الابديّ والشقاء السرمديّ. فمنها الاباحة.. والاباحة هي أن لا يلتفت صاحبها الى الحلال والحرام.. ومنها الإلحاد.. ومنها الاتّحاد.. ومنها الحلول(89)!

وهو وإن تعوّذ بالله من هذه المعتقدات الفاسدة وتبرأ منها إلا أنهم قد دخلوا مداخل السوء التي أوصلت أقوال المذاهب المنحرفة إلى التصريح بالباطل، وهو على تبرؤه منها وقع فيما لا يقلّ سوءً عنها، وهو نفي البينونة بين الخالق والمخلوق، إذ قال:

الصوفيّة الحقّة ما يقولون بالاتّحاد، وهذا ليس مذهبهم. وان قالوا (بما يوهم) ذلك، فجوابهم في هذا في غاية الوضوح، وهو أنّهم يقولون:

نحن إذا نفينا وجود الغير مطلقا، ولسنا قائلين الا بوجود واحد، فكيف نقول بالاتّحاد والحلول؟ فانّهما مبنيّان على الاثنينيّة والكثرة وغير ذلك(90) .

فضلاً عن ذلك يقرّون بأن طريق السلامة هو التوحيد الذي عليه عامة المسلمين وهو (التوحيد الألوهي)! يقول الآملي:  

التوحيد الالوهي غير محتاج الى كيفيّة وتحقيق وغير ذلك، لانّه طريق السلامة ومرتبة العوامّ، وليس فيه شي‏ء من المفاسد كالحلول والاتحاد والتشبيه والتعطيل والاباحة والزندقة وامثال ذلك(91) .

فإنّه وإن وسمه بأنّه مرتبة العوام، لكن كونها مرتبة سليمة من كلّ مفسدة خيرٌ من مرتبة أهل التحقيق (بزعمهم) والتي لا تخلو من الزندقة وسائر المفاسد المذكورة.

ومن حِكَم الله تعالى أن أظهر الحق على لسانهم، بأن بينوا سلامة طريق المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً، بعد أن حكموا عليهم بالكفرو الزندقة والنجاسة، فعادوا وناقضوا أنفسهم واعترفوا بلسانهم أن ما نحن عليه سليم، وأما ما هم عليه فاعترفوا بما نذهب إليه من كونه مليئاً بالمفاسد، فذهبنا إلى المجمع على صحته، وذهبوا إلى المجمع على بطلانه أو خطورته.

ولا يكفي قولهم:

نبيّن مفاسده ومهالكه ليعرفها ويحترز عنها(92).

لأنه شبيه بالمثل المعروف:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ** إياك إياك أن تبتلّ بالماء

فإنك قد أبعدت المؤمن عن طريق السلامة ووضعته في طريق الندامة والفساد والانحراف ثم تريد أن تبين له المفاسد ليحترز عنها، والحال أنك توقعه فيما يسقطه بالمهالك ومفاسد..

فيكون هذا التوجيه بمثابة الإقرار بمساوئ القول بوحدة الوجود، غير نافعٍ في الذبِّ عنهم بل شديداً في إلقاء اللوم عليهم وإدانتهم من كلماتهم.

 6. عين وجود الأشياء وليس عين الأشياء!

تبريرٌ آخر قد يُقتنص من كلمات ابن عربي للدفاع عن هذه العقيدة، وهو التفرقة بين أمرين: عين الأشياء أي حقيقتها، وعين وجودها! والقول أنّ الله عين وجود الأشياء وليس عين الأشياء!

يقول ابن عربي في فتوحاته:

والذي نطلبه في هذا الطريق كلام الله من بين الأشياء لا في الأشياء ولا من الأشياء، وإن كان هو عين وجود الأشياء فإنه ليس عين الأشياء‏(93)..

لكن قوله أن الله هو عين وجود الأشياء وليس عين الأشياء لا يرفع الإشكال بوجه، إذ أنه يُجمَعُ مع قوله الآخر أن (الوجود هو الموجود) فيكون (الله عين الموجود)!

وقد صرّح بأن (الوجود هو الموجود) في كتاب إنشاء الدوائر بقوله:

اعلم أنّ الوجود والعدم ليسا بشي‏ء زائد على الموجود والمعدوم لكن هو نفس الموجود والمعدوم لكنّ الوهم يتخيّل أنّ الوجود والعدم صفتان راجعتان إلى الموجود والمعدوم ويتخيّلهما كالبيت والموجود والمعدوم قد دخلا فيه.. فالوجود والعدم عبارتان عن إثبات عين الشي‏ء أو نفيه(94).

فإذا كان الوجود هو الموجود، والله هو عين الوجود، يكون الله هو عين الموجود، فيثبت التناقض في كلماته!

فهو ينفي قوله بصورة ويثبته بصورة أخرى!

وبعبارة أخرى: إن قوله في (إنشاء الدوائر): (الوجود... نفس الموجود) وقوله (الوجود.. إثبات عين الشيء) ينافي قوله في الفتوحات المكية (وإن كان هو عين وجود الأشياء فإنه ليس عين الأشياء).

فلا فرق في كتاب إنشاء الدوائر عنده بين الوجود والموجود، ولا بين الوجود وإثبات عين الشيء، فكيف يفرق بينهما في كتاب الفتوحات وهو الكتاب المعصوم الذي سطره بأمر الله تعالى بزعمه؟!

وعليه ترى أن الإشكال لا يندفع بهذا، ولو راجعت سائر كلماته لوجدت ما يثبت التناقض بشكل أكثر صراحة ووضوحاً، حيث يعتبر ابن عربي أن القائل بكون الله تعالى (ليس عين العالم) متوهّمٌ!.. فيصرّح في كتاب آخر بما لا يقبل الشك أن الله تعالى (عين العالم) وهو ما نفاه هنا، يقول في كتاب المعرفة:

اعلم أن وصف الحق تعالى نفسه بالغني عن العالمين إنما هو لمن توهم أن الله تعالى ليس عين العالم. وفرّق بين الدليل والمدلول. ولم يتحقق بالنظر إذا كان الدليل على الشي‏ء نفسه فلا يضاد نفسه.

فالأمر واحد، وإن اختلفت العبارات عليه. فهو العالم والمعلوم والعلم. وهو الدليل والدال والمدلول(95).

ويقول في فصوصه:

الله قال على لسان عبيده             الصمت في الأكوان نعت لازم‏

ما ثم إلا من يكلم نفسه               فهو السميع كلامه والعالم‏

وهو الوجود فليس إلا عينه    هذا هو الحق الصريح الحاكم‏(96

وكلماته في إثبات العينية كثيرة، منها أيضاً قوله:

إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته «حرَّم‏                         الفواحش».. أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة (97)..

وهو صريحٌ في إثبات العينية في فصوص الحكم ليتعارض مع الفتوحات كذلك.

ولكن الإنصاف يقتضي ذكر ما قد يتخلّص به من هذا القول الفاسد، وهو أن له في تفسير العينية وجهاً غير ما قد يُفهم منها، ويتضح ذلك بقوله في كتاب المعرفة:

في معنى قوله تعالى: ﴿وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.

ولا يكون مستجيباً إلا إذا كان من يدعوه غيره، وإن كان عين الدّاعي، عين المجيب. فلا خلاف في اختلاف الصور. فهما صورتان بلا شك. وتلك الصور كلها كالأعضاء لزيد مثلا. فحقيقة زيد واحدة شخصية ولكن صورة يده ليست صورة عينه، ولا رأسه، ولا رجله. فهو كثير بالصور واحد بالعين. وكالإنسان مثلا. واحد بالعين بلا شك.

لا شك أن عمروا ما هو زيد، ولا خالد، فهو وإن كان واحدا بالعين فهو كثير بالصور، والأشخاص(98).

وبما هو قريبٌ منه في فصوص الحكم(99).

فهو أثبت أولاً أن عين الداعي عين المجيب، فالله عين المخلوقات والعياذ بالله وإن اختلفت الصور.

وتمثيل ذلك بأعضاء الإنسان هو نحو من أنحاء التركيب، فإن قيل لا نريد التركيب، ويتضح هذا بالتمثيل الثاني:

فإن الشخص الأول والشخص الثاني يشتركان في (الإنسانية) فإنسانيتهما واحدة فساغ أن نقول: عين عمرٍ هي عين زيد، وان كانا اثنان في الصورة، وهذا لا يدل على التركيب إنما على وحدة الحقيقة واختلاف الاشخاص في الخارج.

قلنا: لو أمكن أن يقال هذا المعنى في (الإنسان) فإنه ممتنع تماماً بين (الخالق) و(المخلوق)، فإن كان مرادهم من (العينية) هي اشتراك الناس في (الإنسانية) فأين هو الاشتراك بين (الداعي) وهو المخلوق وبين (المجيب) وهو الخالق؟!

إن قيل: الاشتراك في معنى (الوجود)، فإن معنى الوجود واحد، ويشترك كل موجود مع الآخر ب(عينية الوجود)، وان اختلفت الصور في الخارج.

قلنا: بعد قولهم بأن (الوجود) هو حقيقة الله تعالى لا يبقى مجال لوجود آخر، فلا تكون العينية هنا اشتراكاً في الوجود بين (الخالق) و(المخلوق) بل لا يكون هناك وجودٌ إلا للخالق كما يصرحون مراراً.

وعليه لا يكون هناك وجود للمخلوق فعلاً سوى وجود الخالق.

فيعود المخلوق والخالق واحداً.

وهو نفس المعتقد الباطل المعبر عنه بـ: وحدة الوجود والموجود، بطريقة أخرى من طرق التصوير، فلا يندفع بهذه الفقرة شيء من الإشكالات عليهم.

بل قولهم هذا يدخلهم في إساءة أدبٍ مع الله تعالى ليس بعدها إساءة، لم يتجرأ عليها حتى المنافقون والكفرة الفجرة ولا الزنادقة.. نربأ أن نذكرها في هذا الكتاب، إنما نذكر ما تقدّم عليها ومن أراد فله أن يراجع بنفسه.. قال:

ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزّه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق. كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحد وهو العيون الكثيرة.

 فانظر ما ذا ترى «قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ»، والولد عين أبيه. فما رأى يذبح سوى نفسه. «وفداه بذبح عظيم»، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد: لا، بل بحكم ولد من هو عين الوالد(100)..

فبعدما شبّه الله تعالى بخلقه ذكر أنه ظهر بصورة كبش وبصورة إنسان! فكل ظهورٍ هو ظهور لله تعالى بزعمهم! ثم طبق ذلك على بعض ما يجري بين الناس، وصدرت منه إساءات عجيبة لا تصدر من عاقل مؤمن.. نتجاوز عنها ههنا، ونسأل الله أن يعامله وأمثاله بعدله.

وقولهم هذا بظهور الله تعالى في صورة مخلوقاته مما سار عليه أكثر الصوفية، بدءً من الحلاج حيث يقول:

سبحان من أظهر ناسوته              سرّ سنا لاهوته الثاقب‏

  ثمّ بدا في خلقه ظاهراً                 في صورة الآكل الشارب(101

وصولاً إلى كبار المتصوفة المقرّين بهذه العقيدة(102).

‏ويتضح بهذا أن هذا التوجيه غير تامٍ أيضاً، فابن عربي نفسه يعتقد أن الله عين العالم، كما يعتقد الحلاج وأكثر المتصوفة بأنّ الله تعالى هو الذي يظهر في صورة مخلوقاته، تبارك وتعالى ربنا عن مجانسة هذه المخلوقات، وجلّ عن أن يكون عين مخلوقاته فلا يمتاز الخالق عن المخلوق!

نعم ههنا وجه آخر قد يدفع به عن ابن عربي وسائر المتصوفة، وهو التمييز بين بين قول (الحق عين الخلق) وقول (الخلق عين الحق) بقبول الأول دون الثاني! كما يلوح من كلمات ابن عربي بقوله:

فإنه عين ما ظهر وليس ما ظهر هو عينه‏(103)..

وكما نسبه إمامهم عبد الوهاب الشعراني للبسطامي بقوله:

الحق عين ما ظهر، وليس ما ظهر عين الحق(104).

لكن لا عليك أيها القارئ، لا ينبغي عليك أن تفهم كيف يكون تعالى بزعمهم عين الأشياء ولا تكون الأشياء عينه! فإن هذا من العلوم الغريبة التي تنكرها العقول بإقرارهم لكنها إفاضات ربانية يختصهم الله تعالى بها! فإما أن تؤمن بها كما هي وإن أنكرها عقلك، وإما أن تكون منكراً لأنوار وتجليات العلوم الإلهية عليك! هذا هو المستوى الضحل الذي يفسر به ابن عربي عقيدته فيقول:

فلهذا قلنا هو مثل الأشياء وليست الأشياء مثله! إذ كان عينها وليست عينه! وهذا من العلم الغريب الذي تغرب عن وطنه وحيل بينه وبين سكنه فأنكرته العقول لأنها معقولة غير مسرحة وهذا انموذج من تجلي أنوار الأنوار!‏(105).

لكن هل يمكن تبرئتهم مثلاً بذلك؟!

أليس البسطامي هو القائل: لا إله إلا أنا فاعبدون؟! وصاحب القول الشهير: سبحاني ما أعظم شأني؟! كما في مقدّمة الكتاب.

أليس ابن عربي هو القائل في (كتابه الرباني) الآخر أن (الكلّ هو الله!)، يقول في فصوصه:

«فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ الله أَنْصاراً» فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد. فلو أخرجهم إلى السِّيف، سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله(106).

بل يقول أن فرعون هو عين الله! قال عن فرعون:

فصح قوله «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى‏»! وإن كان عين الحق فالصورة لفرعون‏(107)!

فأيّ توحيد هذا الذي يصبح العارف فيه هو الله بل يصبح الكل هو الله ثم يدفع عنه بقول: الله عين الأشياء وليست عينه؟! في الوقت الذي يكون فرعون عين الحق فيه؟!

بل إن ابن عربي يناقض نفسه حتى في هذا الوجه من التبرير القائم على نفي كون الخلق عين الحق، حيث يثبت ما نفاه في محلٍّ آخر بقوله:

الحق عين الخلق إن كنت ذا عين

والخلق عين الحق إن كنت ذا عقل

وإن كنت ذا عين وعقل فما ترى

سوى عين شي‏ء واحد فيه بالكل‏(108)

فكيف يجتمع قوله: (فإنه عين ما ظهر وليس ما ظهر هو عينه) مع قوله (الحق عين الخلق.. والخلق عين الحق)؟! فما ظهر هو الخلق وهو عينه تارة وليس عينه تارة أخرى! إلا أن يكون ذلك على مبناه من الإقرار بما تحيله العقول!

كذلك لا يُدفع عنه أيضاً بقوله:

ولقد نبهتك على أمر عظيم إن تنبهت له وعقلته، فهو عين كل شي‏ء في الظهور ما هو عين الأشياء في ذواتها سبحانه وتعالى بل هو هو والأشياء أشياء‏(109).

لتعارضه مع قوله المتقدّم أن الوجود هو نفس الموجود، ولقوله المتقدم (فكان عين وجودي عين صورته)، فظهور الخالق بصورة المخلوق ليس سوى وجود المخلوق، ووجود المخلوق ليس سوى وجود الخالق كما يقول لارتفاع البينونةو الاثنينية، فهو كثير بالصور واحد بالعين(110) بزعمه.

وعليه لا يدفع عن ابن عربي بهذا التوجيه، بل يثبت قوله بالوحدة الباطلة بكلماته المتقدّمة.

7. أنّ وجود العالم وجود ظلي لا حقيقي

توجيه آخر قائم على أن وجود العالم هو وجود ظليّ بمعنى أن الناظر يتصور أن للظل وجوداً خاصاً به، والحال أنه انعكاس ومرآة لوجود ذي الظل، وهكذا المخلوقات والموجودات فإن تخيّل الإنسان أن لها وجوداً خاصاً بها فإنها لا تخرج في واقع الأمر وحقيقيته عن كونها ظلاً لله تعالى!

يقول ابن عربي:

فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظِّلال، ويجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل.. فإن الظِّلال لا يكون لها عين بعدم النور..

فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات. فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات. فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق. فمن حيث أحديّة كونه ظلا هو الحق، لأنه تعالى الواحد الأحد. ومن حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن وتحقق ما أوضحته لك. وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال. أي خيِّل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق وليس كذلك في نفس الأمر(111).

وتبعه الآملي بقوله أنّ الوجود الحقيقي في الخارج هو لله فقط، وما سواه من الحادثات هي أمور اعتبارية غير حقيقية، فهي كالظلّ أيضاً، قال:

يجب عليك أن تعرف أنّ الوجود باتفاق المحققين واحد، وليس فيه كثرة ولا تعدد بوجه من الوجوه، وليس في الخارج غيره حقيقة، وهو الموسوم بالوجود المطلق، والحقّ الواجب القديم، وغير ذلك.

وهذا بالنظر الى ذاته وحقيقته. وأما بالنسبة الى ظهوره وتنزله من الحضرة الاحدية الى الحضرة الواحدية، فيجوز أن يقال: المقيّد، والممكن، والحادث، اعتبارا لا حقيقة، لانّه الكلّ من حيث الأفعال والأسماء والصفات، والأحد من حيث الذات والوجود(112)..

وهذه الكلمات تبين اعتقادهم بوحدة الوجود بحيث لا يكون للعالم وجود حقيقي، فلا يتخلص هؤلاء من الإشكال إلا بتأويل عبارة (الوجود الحقيقي) بأن يكون مرادهم من عبارة :( ليس في الخارج غيره حقيقة): أي ليس هناك من موجود إلا ووجوده بإيجاد الله تعالى مثلاً، وهو شبيه بما تقدم في التوجيه الرابع، وهو ما ذكره بعضهم كشيخ الإسلام مصطفى بن كمال البكري المتوفى 1162 هـ قائلاً:

لهذا قال أهل الشهود: المتمسكين بالحبل الممدود الوجود الذي يصدق عليه اسم الوجود واحد، وما قام به واستمدّ منه، وفاض عنه؛ فهبائي سبلي خيالي مجازي نسبي؛ إذ هو مسبوق بعدم ولاحق به(113)..

فجَعَلَ معنى الخيالي والمجازي هو كونه مسبوقاً بالعدم وملحوقاً به، فكلّ مخلوقٍ لم يكن موجوداً، ثم أوجده الله تعالى، فهذه مسبوقيته بالعدم، ثم بعد ذلك يفنيه الخالق عزّ وجلّ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ﴾(114)، فيكون ملحوقاً بالعدم.

ويلاحظ على ذلك:

1. أن هذا التأويل لا ينسجم مع كلماتهم المتقدمة من أن ليس للمخلوقات وجود حقيقي في الخارج، فيكون مردوداً لمعارضته صريح كلامهم.

2. أنه لو كان هذا هو اعتقادهم فنظرية وحدة الوجود تعني فعلاً كثرة الموجود لا وحدته، لكون الموجد له هو الله، فهو موجود حقيقة لكن بإيجاد الله تعالى، وهذا ما لا يقبلونه.

3. أن هذا التأويل للنظرية لا يختلف في جوهره عن اعتقاد كافة المسلمين في شيء بغض النظر عن طريقة التعبير عنها.

وهذه الأمور الثلاثة مما لا يقبل بها أصحاب هذه النظرية، فلو تكلّفنا عناء حمل نظريتهم على (كثرة الموجود) لقالوا إنكم تؤولون كلامنا بما لا نقبل.

ولقالوا ان اعتقادهم هو اعتقادٌ سامٍ لا يتأتى إلا للكُمَّل الذين فتح الله عليهم أبواب العلم بالكشف.

ثم إن قبول مثل هذا التوجيه والاعتقاد بأنه (ليس في الوجود سوى الله.. فالكل هو وبه ومنه وإليه) هو بمثابة الباب الذي يبرّر للحلاج قوله: أنا الله! أو: أنت الله! أو: كل شيء هو الله! والعياذ بالله..

وأمّا حول حقيقة المعنى المراد من الوجود الظلي، فلئن أراد الإنسان حمل كلماتهم على خلاف الظاهر لتبرئتهم لم يجد لذلك طريقاً، فإنهم يمزجون كلاماً حمّال أوجه يكاد يبيح لك توجيه كلامهم، يمزجونه مع كلامٍ صريح الدلالة على تلك المعتقدات الفاسدة، يقول الآملي نفسه:

وأمّا توحيد أهل الحقيقة (وحدة الشهود ووحدة الوجود) بعد وصولهم إلى التوحيدين المذكورين، فهو أنّهم لا يشاهدون في الوجود غير الله ولا يعرفون في الحقيقة غيره، لأنّ وجوده حقيقيّ ذاتي، ووجود غيره عارضيّ مجازيّ في معرض الفناء والهلاك آنا فآنا.. لأنّ هذا الفناء والهلاك ليس موقوفا على زمان وآن، كما ذهب إليه بعض المحجوبين، بل هو واقع دائما من الأزل إلى الأبد على وتيرة واحدة، لهلاك الأمواج في البحر، وفناء القطرات في المحيط، فإنّ الأمواج والقطرات وإن كانت لها اعتبارا عقليّا وتميزا وهميّا، لكن في الحقيقة ليس لها وجود أصلا لأن الوجود الحقيقيّ للبحر فقط، والأمواج هالكة فانية في نفس الأمر(115)..

فإنّه وإن ظهر من كلامه القول بأنها فانية في نفس الأمر أي بنفسها لولا إيجاد الله لها، إلا أن هذا لا يدفع الإشكال لأنه يقول أن (تميّزها وهميّ) وأن ليس لها وجود أصلاً!

وإن قيل بأن الاختلاف هنا في تفسير الحقيقي.. قلنا سائر كلماته شواهد على نفي وجود أي شيء سوى الله تعالى.

ثم إن السيد الطهراني حاول الدفاع عن هذه العقيدة في محلٍّ آخر ناقلاً عبارة السيد هاشم الحداد:

لم أقل قطّ: إنّ هذا الكلب هو الله؛ بل قلتُ: ليس من شي‏ء سوى الله. إنّ مقولة «هذا الكلب هو الله» تعني أنّ هذا الوجود المقيّد المتعيّن بهذا التعيّن والحدود هو الله! نعوذ بالله من هذا الكلام. أمّا قول «ليس من شي‏ء سوى الله» فمعناه أنّ الوجود بالأصالة، وحقيقة الوجود في جميع العوالم، والذات المستقلّة والقائمة بالذات هو وجوده تبارك وتعالى، وأنّ باقي الموجودات لا وجود لها وليست إلّا تمثيلًا للوجود، وأنّ وجودها ربطيّ وتعلّقيّ وظلّيّ كظلّ الشاخص نسبة إلى نور الشمس، فهو يتحرّك تبعاً للشاخص(116).

ليصف بعد ذلك مخالفيهم بأنهم:

نحن الذين نعرف الولاية، لا هؤلاء القطيع‏ من الأغنام الذين يجرونها على ألسنتهم(117).

وكلامه وإن كان صريحاً في نفي كون كل مخلوق من المخلوقات هو الله تعالى، فإنّه لا يدفع عنهم الإشكال حيث أن كلامهم صريح في انه ليس لسائر المخلوقات وجود: (لا وجود لها)، حيث أنها كالأمواج بالنسبة للبحر، فليست كل موجة هي البحر، لكن الأمواج بمجموعها مع سائر المياه هي البحر، فكل مخلوق من المخلوقات بحسب لازم كلامهم هو جزء من الخالق! تعالى ربنا عن مثل هذا الاعتقاد!

لا يقال: إن هؤلاء يقرون بأن الله تعالى لا ينقسم ولا يتجزأ.

فإن هذا لا ينفعهم بعد قولهم أن الله تعالى يظهر بصورة هذه المخلوقات أو بعد قولهم بأنه ليس في الخارج وجود إلا لله تعالى، فهو نوعُ وجود لله بصورة المخلوقات، وهو ما يخالف تنزيهه تبارك وتعالى، وخاصة قولهم عن المخلوقات، والكلام للطهراني:

فكلّهم الحقّ تعالى(118).

وقولهم عن بعضها كما سيأتي:

الماء هو الله(119).

فيكون التبرير غيرَ موفّقٍ أبداً في الدفع عنهم.

8. أن المخلوقات آيات الله

قد يقال أن قولهم بوحدة الوجود ليس سوى القول بأن كل موجود هو آية من آيات الله وعلامة ترشد إلى الله تعالى، كما يلوح من بعض كلماتهم.. قال الطهراني:

لا جَرَمَ أن جميع الموجودات، سوى الله سبحانه، هي آياته تعالى؛ سواء أكانت تلك الآيات واقعة في العالَم الخارج عن نفوس بني آدم، أم تلك الحادثة في داخلها. لذا، فليس هناك أيّ وجود مستقلّ لأيّ من المخلوقات، بل هي في مجموعها آيات ومرايا وشواهد على سطوع جمال الذات المقدّسة للحقّ تعالى. ولأنّ هذه الآيات والمرايا لا تمتلك صفة الظهور بنفسها، بل هي كلّها مظاهر لله سبحانه، لذا صار بالإمكان رؤية الله تعالى في كلّ واحدة من تلك الآيات. لأنّ الآية- بما هي آية- إنّما هي وسيلة لإظهار صاحبها (أي صاحب الآية)، ولا تُبدي أو تُظهر نفسها هي على الإطلاق(120).

من مثل هذا الكلام يتّضح أن مرادهم بأنها (مظاهر لله) هو تعبير آخر عن كونها (مخلوقات لله)، وكونها مرآة سيكون بنفس المعنى، وهو لا يختلف في نتيجته عن كونها آية من آيات الله، أي مخلوقاً يدل بوجوده على خالقه.

وتكاد تتصور أن قولهم هذا هو عين قول الموحدين لله عز وجل دون زيادة أو نقصان.. ولا تكاد تتخيّل أنك ستؤاخذهم يوماً على شيء من أقوالهم لو اقتصرت على بيانهم هذا..

لكنك عندما تمُدُّ بصرك إلى سائر كلماتهم ترى أنهم بعد هذا المعنى ينفون أن يكون لأي شيء وجود سوى الله تعالى!

نقول لهم: سلّمتم بأنّ آيات الله ستظهر في الآفاق والأنفس، أفليست الآفاق والأنفس أشياء مخلوقة لله تعالى، وهي علامات تدلّ عليه؟

يقولون: بلى، لكن هذه العلامات لا وجود حقيقي لها! إنما الوجود لله سبحانه وتعالى وحده!

نقول لهم: هل تريدون من قولكم (لا جود حقيقي لها) أنها لم توجد نفسها بنفسها؟! إن أردتم هذا المعنى فلا أحد من المسلمين يختلف معكم وليس عندكم فوق عقيدتهم شيء زائد.

لكنهم يجيبوك بما يلي (والكلام للطهراني نفسه):

كلّ ما موجود هو الله ولا وجود لشي‏ء غير الحقّ. جميع الآفاق وكلّ الأنفُس إنّما هي آيات، ولا وجود لشي‏ء أو موجود غير «نا» و«الله» و«الحقّ» في ما وراءها مطلقاً.

لا وجود لغير «الله» في عالَم الوجود. وكلّ ما سواه إنّما هو آية له لا أكثر. وهو وحده ذو الآية وصاحب العلّامة، هو كلُّ شي‏ء ولا شي‏ء سواه. وذو الآية الذي هو الحقّ في هذه العبارة، هو نفسه الآفاق والأنفس. فالآفاق والأنفس هما حقّ إذن.

إن هذه الآية تُدَلِّل على أن حقيقة الآفاق والأنفس هي وجود الحقّ تعالى، وأنّها لا تملك شيئيّة ما في حدّ ذاتها، لأنّها إنّما وُصِفتْ على أنّها آية وعلامة، لا غير. وبالتالي فإنّ الحقّ تعالى عبارة عن واقع الآفاق والأنفس وحقيقتها. أينما تُوَلِّ وجهك فثمَّ وجود الله، وإلى أيّ شي‏ء أرجعت بصرك ترى فيه الله. فما أكثر الأشياء، لكنّ الله واحد فرد صمد. فلا موجود في عالَم الوجود سوى الله. فالتعيُّنات والإنّيّات ومعها الماهيّات كلّ تلك امور عدميّة وباطلة، والوجود المقدّس للحقّ تعالى واحد، حيث يتجلى في الآفاق والأنفس ويظهر في كلّ جنبة من جنباتها(121).

تأمّل قوله: (كلّ ما موجود هو الله ولا وجود لشي‏ء غير الحقّ) وقوله (هو كلُّ شي‏ء ولا شيء سواه) وقوله (حقيقة الآفاق والأنفس هي وجود الحقّ تعالى) وقوله (إنّ الحقّ تعالى عبارة عن واقع الآفاق والأنفس وحقيقتها).

تكاد تحار: هل أن هؤلاء القوم يعجزون عن بيان مقصودهم؟! فقوله الأول (أنّها لا تملك شيئيّة ما في حدّ ذاتها) يكاد يحمل على أنها تملك شيئاً وهو حقيقة الوجود بتمليك من الله تعالى أي انه لا استقلال لها في الوجود، ويرجع ذلك لما يقول به عامّة المسلمين.

ومثله قوله (فما أكثر الأشياء، لكنّ الله واحد فرد صمد.) يكاد يدفع عنهم كلّ غائلة وإشكال، لكنّهم يعودون لينقضوا هذا التفسير بقولهم (كلّ تلك أمور عدميّة وباطلة)!

ويصرّون على أنهم يتحدثون بحديثٍ لا يمكن إدراكه إلا بعد انقضاء عمر مديد من التتلمذ على يديهم!

إن الأمر لا يخلو من أحد حالتين:

الإحتمال الأول: أن الله سبحانه وتعالى خلق الموجودات، فلو لم يخلقها لم توجد، وأنها بعد أن وجدت تبقى لأن الله أبقاها، فهو القادر والقاهر وهو الذي يخلق ويحيي ويميت. وهذا ما عليه عامة المسلمين.

الاحتمال الثاني: أنه ليس هناك وجود حقيقةً لأي موجود سوى الله تعالى، فهذه الموجودات ليست موجودة فعلاً، إنما هي ظهورات وتخيّلات!

إن هذا ينفي البينونة بين الخالق والمخلوق، ويجعل المخلوق ذات الخالق.

تسألهم هل تقبلون بذلك؟

فينقسمون إلى قسمين:

قسمٌ يقبل ذلك كمن يقول بالاتحاد والحلول، فهو يقول أنّ الله حلّ فيه واتحد معه فصار هو والله واحداً، والعياذ بالله.

وقسمٌ يقول بوحدة الوجود والموجود، فيقول أنّ الله هو كلّ خلقه.

ومن يقرّ بالبينونة يرجع قوله إلى الاحتمال الأول لا محالة، وهو الذي يعتقد به جلّ المسلمين.

لكن الطهراني وأمثاله ينكرون ذلك، ويلتزمون بأنّ جلّ المسلمين قد ابتلوا بالشرك الخفي في معتقدهم هذا! وأنه وقومه فقط من وصلوا إلى حقيقة التوحيد!

ولعل مثل هذا الخبط قد أتاهم من تلبيسات إبليس نتيجة تكلّفهم عناء ما نهوا عن التكلف فيه.

ويظهر التلبيس في كلماتهم أكثر وأكثر فيما يلي، يقول الطهراني:

ما معنى وجود الحقّ تعالى في الموجودات وما المراد من ذلك؟!

معناه أنّك لو جمعتَ الوردة والسنبلة، والبلبل والببغاء، والطير والبطّ، والشجرة والشُّجيرة، والبرعم والعُشب، والماء والشلّال، والغمام والريح والغيث، والسهل والصحراء المترامية الأطراف، والإنسان والأجيال البشريّة، والشمس والنجم في السماء، والكواكب والمجرّات ... وما شئتَ في جمعه ورغبت في ضمّه من هنا وهناك ممّا حولك إلى آخر الدنيا، فما كلّ ذلك إلّا الله وحسب، وَحْدَهُ لَا إلَهَ إلَّا هُو.

هذه كلّها آيات وعلامات ومرايا وظيفتها إظهار ذاته المقدّسة تعالى‏(122).

فقوله الأول: (فما كل ذلك إلا الله وحسب) يعني أن هذه المخلوقات كلها هي الله!

وقوله الثاني: (هذه كلها آيات وظيفتها إظهار ذاته) يعني أنها ليست الله إنما آيات من آياته وهي مخلوقاته التي خلقها وهي ليست هو إنما هي علامة عليه!

فهذا تناقض صريح حيث تكون هي نفسه وهي ليست نفسه!

ولا ينفع القول بأن القولين تامين بلحاظين مختلفين، لأنهم يقولون بأن الوحدة حقيقية والكثرة اعتبارية، وعليه فإن الوحدة الحقيقية تعني أن هذه الأشياء كلها هي الله وهو القول الأول ولازمه الكفر!

وأن القول الثاني وهي أنها آيات وعلامات هو أمر اعتباري وليس حقيقي فهي ليس لها وجود حقيقي فعلا!

وإنّ الوجود عندهم كلٌّ واحدٌ كما يصرحون، وأما وجود ما سوى الواحد عزّ وجل فهو (وهم وسراب، وخيال)!! يقول الطهراني:

اعلم أن الوجود كلٌّ واحدٌ، ولكن بسبب كثرة المظاهر تعدّد، وتصوّرك الغيريّة، واعتبارك إيّاها حقيقة أكيدة، ما هو إلّا وهم وسراب، وأن لا وجود إلّا للحقّ تعالى... وفي صبح الحشر، الذي يمثّل وصول السالك إلى مقام التوحيد، وحيث يذوب الكونان في نظره بنور الوحدانيّة، ولَا يَبْقَى إلَّا الحيّ الْقَيُّومِ، فإنّ أوهام الأحول التي تصوّر له وجوداً مع وجود الحقّ تعالى ستزول مع زوال وهم الغيريّة، فيعلم يقيناً أن كلّ الوجود هو الحقّ تعالى، وأن وجود الموجودات ما هو إلّا وجود أجوف، وخيال ووهم وظن(123)‏..

وبما أنه لا موجود غير الله، فكلّ الموجودات هي الله بزعمهم! يقول:

فلأنّ أصل الوجود هو الحقّ تعالى، ولا موجود غيره، فتفكّر وتأمّل مليّاً، فستعرف بأن لا وجود لغير الحقّ، فالناظر هو، والمنظور هو الإنسان، والنظرة هي للوجه الذي ينعكس في المرأة، فكلّهم الحقّ تعالى، وجميع الصور، إنّما هي مظاهر للحقّ، وقد تجلّى بكلّ صورة ومظهر(124)..

لقد أكّد تارة أن كل المخلوقات هي الله تعالى، وأنها مظاهر له، ثم أكّد في محلٍّ آخر أن وحدة الوجود لا تعني أن كل شيء هو الله! بل تعني أنه لا يوجد في عالم الوجود غير الله! قال:

إنّ اولئك الذين يحتجّون على وحدة الوجود ويعترضون عليه لم يعقلوا معناه مطلقاً.. هؤلاء يقولون: أنّ وحدة الوجود تعني أنّ كلّ شي‏ء هو الله؛ أي والعِيَاذُ بِاللهِ فالكلب هو الله، والكافر هو الله، والزاني هو الله! فأين معنى الوحدة هنا؟! في أي كتاب قرأتم هذا؟ أم من أي مؤمن عارف سمعتم هذا؟!..

إن أرباب الشهود وكشف التوحيد يقولون: لا يوجد في عالم الوجود غير الله؛ أي أنّ لوجوده من السيطرة والإحاطة.. ما يحول دون استطاعة اي موجود من استعراض نفسه أمامه وفي مقابل ذاته؛ بما في ذلك الأرواح الملكوتيّة والمجرّدات العلويّة(125).

ونحن لا نستبعد أن ينطبق التوصف التالي على أصحاب هذه النظرية، حينما قال الطهراني: (إنّ اولئك الذين يحتجّون على وحدة الوجود ويعترضون عليه لم يعقلوا معناه مطلقاً)، فلا يبعد أن يكون أصحاب هذه النظرية أنفسهم عاجزين عن فهمها! فإن التناقض في كلماتهم لا يمكن رفعه بوجه من الوجوه.

وأما قوله (أنّ وحدة الوجود تعني أنّ كلّ شي‏ء هو الله.. ؟! في أي كتاب قرأتم هذا؟ أم من أي مؤمن عارف سمعتم هذا؟!..) فإنّا قرأناه في كتابه نفسه، وسمعناه منه هو.. إذ يقول في كتابه الآخر (الروح المجرد):

أيّها السيّد! الماء هو الله، الوضوء هو الله؛ لا يخلو من الله مكان(126)‌!

فإذا ضممنا قوله (كلّ شي‏ء هو الله) إلى قوله (الماء هو الله) خرجنا بصحة إطلاق لفظ الله على (كل شيء) مفهوماً ومصداقاً!! كما فعل كثيرٌ من المتصوفة والعرفاء، ومنهم (السيد أحمد الموسوي النجفي)، يقول:

المنكر لحقيقة التّوحيد يقول أنّ كلّ من يتوجه إلى غير الله فهو شرك، ولكن نحن نقول أنّ هذا ليس غير الله، بلْ هو الله، فليس في الدار غيره ديار، لا إله إلاّ الله(127)‌.

فتوجهك لغير الله ليس شركاً! لأنه توجه إلى الله تعالى، فأي أحد توجهت إليه يعني أنك توجهت لله تعالى! إذ الله تعالى هو كلّ هذه الأشياء!

نعوذ بالله من الكفر والضلال!

 9. أنها وحدة في عين الكثرة وكثرة في عين الوحدة

الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة! هو قولٌ آخر في تفسير وحدة الوجود، ومحاولةٌ للتخلص من الإشكالات عليها، يقول السيد الآملي في ذلك:

فنقول على طريق أهل الله والذي هم عليه: وهو أن تعرف أنّ هذا الوجود الموصوف بهذه الأوصاف -أي بالإطلاق والوجوب والوحدة- له تنزّل من حضرة الإطلاق والوجوب والوحدة الى حضرة التقييد والإمكان والكثرة، بمقتضى قوله: «كنت كنزا مخفيا» وبهذا التنزّل ثبت وجود «الغير» و«السوى»، وسمي بالعالم والممكن والمحدث، والا ففي حضرة إطلاقه ووجوبه ووحدته، لا «غير» ولا «سوى» كما قال- (صلى الله عليه وآله): «كان الله ولم يكن معه شي‏ء». فالتوحيد الحقيقي الصرف هو رؤية هذا الامر على هذا الوجه، فانّه في نفس الامر كذلك، لانّ‏ التوحيد الجمعي التفصيلي هو رؤية الوحدة في عين الكثرة، ورؤية الكثرة في عين الوحدة، لانّ الرؤية الاولى هو رؤية الوجود الحقيقي على ما هو عليه في نفس الامر؛ والثانية: رؤية الوجود الإضافي على ما هو عليه في نفسه(128).

وكلّما حاولنا أن نجد لهم توجيهاً وتفسيراً مقبولاً لما يقولونه، عجزنا واصطدمنا بحاجزٍ كبير في كلماتهم وهو اعتقادهم برؤية (العابد عين المعبود)!!

يقول الآملي في حقيقة التوحيد:

التوحيد اثبات الوجود ونفي الموجود، ورؤية العابد عين المعبود. وقولنا: التوحيد رؤية الكثرة في عين الوحدة. وقولنا: مشاهدة الجمع في عين التفصيل، ومشاهدة التفصيل في عين الجمع... المراد من المجموع والمقصود من الكل نفي وجود الغير مطلقاً، واثبات وجود الحق مطلقاً. وهذا على أيّ وجه اتفق، وعلى أيّ صورة ظهر(129).

ثم يعود ثالثة ليفسر الكثرة في عين الوحدة بالوجود المظهري، أي أن المخلوقات هي مظاهر لله تعالى، فيقول:

والعارفون فارغون من ذلك لمشاهدتهم الوجود الواحد في عين الكثرة، والكثرة في عين الوحدة، لانّ من شاهد مرآة واحدة موضوعة في الوسط وحواليها مرايا كثيرة، وفي كل واحدة من تلك المرايا شمعة واحدة، بحيث يرى في كل مرآة واحدة شمعة اخرى خلاف تلك الشموع، لا يتحيّر في انّ الشمعة الوسطية واحدة، والباقي مظاهر لها. وفي هذا المعنى قالوا ما قالوا، نظماً:

وما الوجه الا واحد غير انّه            إذا أنت عددت المرايا تعددا(130)

كلّ هذه التفسيرات لا تخرج دعواهم عن كونها إيماناً بأن الوجود الحقيقي واحد فقط، وأن ما سواه مظاهر او مرايا ولا وجود حقيقي لها..

إذاً هي وحدة حقيقية، وكثرة حقيقية! ويعبرون عنها بالوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة.

أما كونها وحدة حقيقية فلأن الوجود الحقيقي لله وحده.

وأما كونها كثرة حقيقية فلأن الوجود المتكثر في المرايا (حقيقي على نحو المرآتية) لا على نحو الذاتية.

فهل يجتمع فعلاً القول بالوحدة الحقيقية مع القول بالكثرة الحقيقية وتفسيرها بالمرآتية؟! وهل لذلك من معنى ؟!

لقد سبق ووقع التعبير ب(الوحدة في عين الكثرة) في كلام ابن عربي ايضاً(131)، لكن لم يظهر منه ما أوضحه السيد الآملي.

ثم ان القول ب(الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة) صار معروفاً بأنه قول صدر المتالهين الشيرازي بعد ذلك حتى نسب إليه، وإن لم يرد بهذا اللفظ في كلماته، حيث قال:

هداني ربي بالبرهان النير العرشي إلى صراط مستقيم من كون الموجود والوجود منحصراً في حقيقة واحدة شخصية لا شريك له في الموجودية الحقيقية! ولا ثاني له في العين وليس في دار الوجود غيره ديار! وكلما يتراءى في عالم الوجود انه غير الواجب المعبود فإنما هو من ظهورات ذاته وتجليات صفاته التي هي في الحقيقة عين ذاته! (132).

تأمّل كلماته لترى اشتراكه معهم في كون (الموجود.. حقيقة واحدة شخصية)! وعبارته الأخيرة لترى أن المخلوقات كلها عين ذاته كما يقول! ليصل إلى قوله:

فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات فمن حيث هويه الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف المعاني والأحوال المفهومه منها المنتزعة عنها بحسب العقل الفكري والقوة الحسية فهو أعيان الممكنات الباطلة الذوات.. وإذا كان الامر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي فهذا حكاية ما ذهبت اليه العرفاء الإلهيون والأولياء المحققون(133).

ويؤكد القول بعدم الاثنينية في مقام نفي القول بالحلول:

ولا يتوهمن أحد من هذه العبارات ان نسبة الممكنات إلى ذات القيوم تعالى يكون نسبة الحلول، هيهات ان الحالية والمحلية مما يقتضيان الاثنينية في الوجود بين الحال والمحل وهاهنا أي عند طلوع شمس التحقيق من أفق العقل الانساني المتنور بنور الهداية والتوفيق ظهر ان لا ثاني للوجود الواحد الاحد الحق(134)..

ويقول:

فما وضعناه أولا ان في الوجود علة ومعلولا بحسب النظر الجليل قد آل آخر الامر بحسب السلوك العرفاني إلى كون العلة منهما امرا حقيقيا والمعلول جهة من جهاته ورجعت عليه المسمى بالعلة وتأثيره للمعلول إلى تطوره بطور وتحيثه بحيثية لا انفصال شيء مباين عنه فاتقن هذا المقام الذي زلت فيه اقدام أولى العقول والافهام(135).

لم يقل المسلمون الذين يقرؤون سورة التوحيد في صلواتهم أن المخلوقات قد تولّدت عن الله تعالى ولا أن هناك شيئاً مبايناً عنه قد انفصل منه، لكنهم قالوا بأن الله خلق الأشياء المباينة له لا من شيء، لا كما قال صدر المتألهين من أنّها نوع من تطور الخالق بطَور المخلوق:

ليس لما سوى الواحد الحق وجود لا استقلالي ولا تعلقي بل وجوداتها ليس الا تطورات الحق بأطواره وتشئوناته بشئونه الذاتية(136).

ههنا نستذكر كلام إمامنا الرضا (عليه السلام) لابن قرة النصراني، حين احتج عليه بقوله: مَا تَقُولُ فِي المسِيحِ؟

 قَالَ: يَا سَيِّدِي إِنَّهُ مِنَ الله.

فَقَالَ: مَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ (مِنْ)؟

وَمِنْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لَا خَامِسَ لَهَا، أَ تُرِيدُ بِقَوْلِكَ (مِنْ):

  1. كَالْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ فَيَكُونُ مُبَعَّضاً.
  2. أَوْ كَالْخَلِّ مِنَ الْخَمْرِ فَيَكُونُ عَلَى سَبِيلِ‏ الِاسْتِحَالَةِ.
  3. أَوْ كَالْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ فَيَكُونُ عَلَى سَبِيلِ المنَاكَحَةِ.
  4. أَوْ كَالصَّنْعَةِ مِنَ الصَّانِعِ فَيَكُونُ عَلَى سَبِيلِ المخْلُوقِ مِنَ الْخَالِقِ.

أَوْ عِنْدَكَ وَجْهٌ آخَرُ فَتُعَرِّفَنَاهُ؟ فَانْقَطَع(137).‏

ونحن نسأل عن مرادهم من كون (الموجودات تطورات الخالق)، على أي وجه من الوجوه الأربعة هي؟! فالثلاثة الأول ليست للمسلمين.

فإن كان اختيارهم الرابع، كان هو اعتقاد عامة المسلمين ولم نجد في كلّ هذه الألفاظ المنمقة شيئاً من الأسرار التي لا تنفتح إلا للأوحدي كما يقولون!

وإن كان شيئاً غير هذه الأربعة فما تلوناه منها لا يشير إلا إلى كلمات المتصوفة التي تثبت الوحدة الشخصية بين الخالق والمخلوق! وقد تقدّم الكثير منها.

على أن لصدر المتألهين دفاعاً آخر عن المتصوفة والعرفاء، حيث يقول:

ان أكثر الناظرين في كلام العرفاء الإلهيين حيث لم يصلوا إلى مقامهم ولم يحيطوا بكنه مرامهم ظنوا انه يلزم من كلامهم في اثبات التوحيد الخاصي في حقيقة الوجود والموجود بما هو موجود وحدة شخصية أن هويات الممكنات أمور اعتبارية محضه وحقائقها أوهام وخيالات لا تحصل لها الا بحسب الاعتبار.. وما يتراءى من ظواهر كلمات الصوفية ان الممكنات أمور اعتبارية أو انتزاعيه عقلية ليس معناه ما يفهم منه الجمهور ممن ليس له قدم راسخ في فقه المعارف(138)...

ليخلص إلى أن المتصوفة إنما حكموا بالعدم على نفس تعيُّن المخلوقات لا على طبيعة الوجود بقوله أنّهم لحظوا نفس تعيّن ذات الممكن وأرادوا:

ملاحظة نفس تعينها المنفكة عن طبيعة الوجود وهو جهة تعيّنها الذي هو اعتباريّ محض.

وما حكم عليه العرفاء بالعدمية هو هذه المرتبة من الممكنات وهو مما لا غبار عليه لأنّ عند التحليل لم يبق بعد افراز سنخ الوجود من الممكن امر متحقق في الواقع الا بمجرد الانتزاع الذهني فالحقائق موجودة متعددة في الخارج لكن منشأ وجودها وملاك تحققها أمر واحد هو حقيقة الوجود المنبسط بنفس ذاته لا بجعل جاعل، ومنشأ تعددها تعيّنات اعتبارية، فالمتعدد يصدق عليها انها موجودات حقيقية، لكن اعتبار موجوديتها غير اعتبار تعددها، فموجوديتها حقيقية وتعددها اعتباري، ولما كانت العبارة قاصرة عن أداء هذا المقصد لغموضه ودقه مسلكه وبعد غوره يشتبه على الأذهان ويختلط عند العقول ولذا طعنوا في كلام هؤلاء الأكابر(139).

وإذا وقفنا وهذه العبارة وهي أقوى ما قيل في الدفاع عنهم وجدنا أنها فرضيات محضة، تقوم على (فرز سنخ الوجود من الممكن) أي فرضية إلغاء وجود الممكن الموجود، فيكون وجوده حينها أمراً ذهنياً محضاً لأنه لم يعد له وجود حقيقي.

وبعبارة أخرى: أننا لو أعدمنا الموجود لصار وجوده ذهنياً غير حقيقي، لا أنه كذلك حال وجوده، فهل هذا هو قمّة الفتح التوحيدي عند هؤلاء المتصوفة والعرفاء؟ وهل هذا مرادهم فعلاً من كل كلماتهم المتقدمة؟ وهل يرضى هؤلاء بهذا التفسير؟!

لقد صرحوا مراراً بقولهم: كان الله ولم يكن معه شي‏ء والآن كما كان(140)..

فقولهم هذا ليس قولاً مختصاً بفرضيةٍ نظريةٍ تقوم على فصل الوجود عن الممكن، إنما اعتقاد واقعي يحكي حقيقة وجود الله ووجود الموجودات، بحيث لا يكون لها وجود مع الله (الآن) كما في السابق!

بل هل ينسجم هذا التفسير نفسه مع كلمات صدر المتألهين في أسفاره؟!

يقول في مواطن عدة من كتابه أن (واجب الوجود تمام الأشياء)!! وأن التوحيد يعني أن لا موجود إلا الله تعالى! قال:

ومعنى التوحيد أن لا موجود الا الله سبحانه(141).

وقال:

اعلم أن واجب الوجود بسيط الحقيقة غاية البساطة وكل بسيط الحقيقة كذلك فهو كل الأشياء فواجب الوجود كل الأشياء لا يخرج عنه شيء من الأشياء(142).

وقال:

في أن واجب الوجود تمام الأشياء وكل الموجودات واليه يرجع الأمور كلها، هذا من الغوامض الإلهية التي يستصعب ادراكه الا على من آتاه الله من لدنه علما وحكمة(143).

وقال:

فكل بسيط الحقيقة يجب ان يكون تمام كل شيء فواجب الوجود لكونه بسيط الحقيقة فهو تمام كل الأشياء على وجه أشرف والطف(144).

وهذا ليس اعتقاد عامة المسلمين بلا شك، بل يعتقد أنه من الغوامض الإلهية التي يستصعب إدراكها!

يقول في كتاب المشاعر:

شمول حقيقة الوجود للأشياء الموجودة ليس كشمول معنى الكلي للجزئيات وصدقه عليها كما نبهناك عليه.. بل شموله ضرب آخر من الشمول لا يعرفه إلا العرفاء الراسخون في العلم(145)..

فمن جهة ترى إقراره بالوجود الحقيقي للموجودات، ومن جهة أخرى تصريحه بأن وجودها وهمي خيالي!

فإن ضممته للقول بأن الخالق هو تمام كلّ الأشياء! وأن لا موجود إلا الله! خرجت بنتائج دعت بعض العلماء للتعجب من كلماته، كالسيد محسن الأمين حين عدّ كلماته متهافتة متناقضة، قال عن رأيه:

فان الذي يراه أن الوجود متعدد حقيقة، ولكنه في عين الحال الوجود واحد حقيقة، والموجود أيضاً واحد حقيقة، فإن شئت قلت بتعدد الوجود والموجود، أو بوحدة الوجود والموجود، أو بوحدة الوجود وتعدد الموجود، أو بتعدد الوجود ووحدة الموجود، فكله صحيح ولكن بشرط الجمع بين هذه الأقوال كلها. وهذا من العجيب حقاً، ويبدو أنه متهافت متناقض، غير أنه يصر عليه كل الاصرار ويقول أن فهمه يحتاج إلى فطرة ثانية(146)..

وعبّر عنه أستاذ الفقهاء والمجتهدين المعاصرين، السيد الخوئي رحمه الله بأنه:

غير مفهوم لمن تدبر(147).

وعبّر عن ذلك بشكل مخفف تارة أخرى حينما قال:

إلا انه لم يظهر لنا -الى الآن- حقيقة ما يريدونه من هذا الكلام(148).

وصدر المتألهين كما تبيّن يحاول تبرئة الصوفية عموماً من القول بالوحدة الشخصية، إلا أن كلماتهم تأبى عن ذلك، بل كلماته هو نفسه لا تخلو من الإشكال (وإن صرح بردّه لوحدتهم)، لقوله أنّ الخالق هو تمام كلّ الأشياء، وأن لا موجود إلا الله سبحانه!

10. أنها وحدة حقيقية وكثرة اعتبارية

يلتزم السيد الطهراني بعد رد كلام الملا صدرا بتفسير آخر للوحدة في عين الكثرة، وهو رأي الصوفية كما يقول:

نرى أنّه يتوجّب علينا وضع قول ذوق المتألّهين بأنّ: وحدة الوجود وكثرة الموجود أمر حقيقيّ، وقول صدر المتألّهين بأنّ: وحدة الوجود والموجود في عين كثرتيهما كلاهما حقيقيّان، جانباً، وبعد رفضنا القسم الأوّل نشهد أنفسنا مضطرّين إلى قبول ما نقله بعض الصوفيّة واتّخذوه توحيداً خاصّاً وهو: أن وحدة الوجود ووحدة الموجود الحقيقيّة تكونان بمعيّة كثرة الوجود وكثرة الموجود الاعتباريّة؛ واعتباره أعلى أقسام التوحيد والمعيار البارز في ذلك(149).

ماذا تعني هذه النتيجة عند عرفاء عصرنا هؤلاء؟!

إنها تعني أن (الموجود) في الحقيقة هو واحد فقط، فأنت أيها القارئ لست موجوداً حقيقة، إنّ وجودك أمر اعتباري وهمي تخيُّلي! إن ما تقرأه من كلمات وتشاهده من أحرف هو أمرٌ لا وجود له في الحقيقة! بل هو وهم وخيال وسراب! لأن كل ما في الوجود من (الموجودات) هو شيء واحد وهو الله تعالى!

إن هذه الكلمات هي ثمرة أبحاث التصوف والعرفان عند من سلك مسلكهم في مجتمعنا الشيعي المعاصر!

هذه هي قمّة العرفان وأعلى مراتب التوحيد عند أهل العرفان!

ولعلّ التوصل لمثل هذه النتائج عند هؤلاء أمرٌ طبيعي بعد الابتعاد عن فكر العترة الطاهرة، وبعد تشوّه أحكام العقل، فأين السبيل لإدراك الحق حينها؟!

ثم إن هذه العقيدة تُثمر ثماراً تالفة تساوق كون الله تعالى هو الخالق وهو المخلوق!

يُشَبِّهُ الطهرانيُّ الوحدة الحقيقية والكثرة الاعتبارية بنفس الإنسان وحواسه، وأن الحواس بمجموعها هي عين النفس الناطقة، وكلّ واحدة ظهرت بصورة خاصة بحسب اعتبار الظهورات!

ليخلص إلى النتيجة التالية بين الخالق والمخلوق:

 إنّها الوحدة في ثوب الكثرة؛ الوحدة الحقيقيّة في الكثرة الاعتباريّة.

فالحقّ سبحانه وتعالى، هو الخالق في المرتبة العليا، وهو المخلوق في المرتبة الدنيا. والآمر في المقام الأعلى، والمأمور في المقام الأدنى. وهو الراحم في الافق المبين والمرحوم في نشأة أسفل السافلين(150).

وههنا العجب العجاب.. الله تعالى هو الخالق في المرتبة العليا وهو المخلوق في المرتبة الدنيا! فالله تعالى ظهر خالقاً في مرتبة وظهر مخلوقاً في أخرى!

إن قيل: إن لكلامهم وجهاً صحيحاً وهو أن المخلوقات ليست (معدومة حقيقة) وإنما هي في (حكم المعدوم) كما يقول ابن عربي:

الممكن وإن كان موجوداً فهو في حكم المعدوم، وأصدق بيت قالته العرب قول لبيد:

ألا كل شي‏ء ما خلا الله باطل‏

والباطل عدم‏(151) ..

وذلك بحمل معنى كلمة (لا وجود إلا لله) على أن ما سوى الله ليس عدماً حقيقة، إنما هو في (حكم المعدوم) لأنه (باطل) وكل باطل (في حكم العدم).

قلنا: إنّ سائر كلماتهم تأبى هذا الحمل، فإنهم يعتقدون أن الأشياء غير موجودة حقيقة لا حكماً، فهذا ابن عربيّ نفسه يزعم أن الأعيان باقية على أصلها من العدم! يقول:

اعلم أن الأعيان باقية على أصلها من العدم. غير خارجة من الحضرة العلمية. فما شمت رائحة الوجود. وليس لها وجود في الخارج إلا وجود الحق متلبساً بصور أحوال الممكنات. فلا يتلذذ بتجلياته، ولا يتألم منها سواه(152).

فوحدة الوجود هذه تجعل الله تعالى متلبساً بصور المخلوقات! يتلذذ بتجلياته عندما يظهر بهذه الصورة! ويتألم عندما يظهر بتلك الصورة!

فليت المتأخرين من المتصوفة والعرفاء اكتفوا بقول المتقدمين منهم فقالوا بالحلول والاتحاد واقتصروا على اعتقاد أن الله تعالى حلّ في العارف فيهم أو اتحد معهم! بدلاً من القول الأسوء: أنّ كل شيء هو مرتبة من مراتب الخالق تعالى ظهر بها! نعوذ بالله من سوء العاقبة.

11. أن الله موجود في كلّ ذرات الوجود

هي محاولة أخرى من عبد الكريم الجيلي‏ هذه المرة (المتوفى سنة 832 هـ) جوهرها الاعتقاد بأن الله تعالى موجود في كلّ ذرات الوجود!

لكنك لو سألت الجيلي بما يقصد من وجود الله تعالى في الذرات لرأيت العجب العجاب، حيث أوصله هذا القول إلى الاعتقاد بأن الله تعالى تجلى بذاته في كل ما خلق، فصار هو حقيقة الأوثان التي يعبدها الكفار! ولكن دون حلول ولا مزج!! بل إن ذوات الكفار هي عين الله تعالى!

يقول الجيلي:

ثم إنه سبحانه وتعالى أظهر في هذه الملل حقائق أسمائه وصفاته فتجلى في جميعها بذاته فعبدته جميع الطوائف.

فأما الكفار فإنهم عبدوه بالذات، لأنه لما كان الحق سبحانه وتعالى حقيقة الوجود بأسره والكفار من جملة الوجود هو حقيقتهم فكفروا أن يكون لهم ربّ لأنه تعالى حقيقتهم ولا رب له بل هو الرب المطلق، فعبدوه من حيث ما تقتضيه ذواتهم التي هو عينها، ثم من عبد منهم الوثن فلسرّ وجوده سبحانه بكماله بلا حلول ولا مزج في كل فرد من أفراد ذرّات الوجود، فكان تعالى حقيقة تلك الأوثان التي يعبدونها، فما عبدوا إلا الله(153)!!

إذاً وحدة الوجود بهذا المعنى تعني أن يكون العبد رباً والرب عبداً!! يقول الجيلي:

قد خلقك الله سبحانه وتعالى على صورته.. وحلّاك بأوصافه وسماك بأسمائه، فهو الحي وأنت الحي.. وهو القادر وأنت القادر.. وهو الموجود وأنت الموجود، فله الربوبية ولك الربوبية.. فانضاف إليك جميع ماله وانضاف إليه جميع مالك في هذا المشهد، ثم تفرّد بالكبرياء والعزّة وانفردتَ بالذلّ والعجز، وكما صحت النسبة بينك وبينه أولا انقطعت النسبة بينك وبينه هنا(154)..

جمع الجيلي هنا بين كون المخلوق رباً كما كان الخالق رباً! وبين تفردّ الخالق بالكبرياء وتفرّد المخلوق بالذلّ والعجز! ففي مرتبة يكون كلاهما رباً! وفي مرتبة أخرى تنقطع النسبة! رغم أن حقيقة المخلوق هي بنفسها حقيقة الخالق!

هي إذاً اعتقادات خيالية تنسجها أوهام المتصوفة والعرفاء تدور بين ما لا معنى له يصح السكوت عليه في نفسه، وبين ما يناقض بعضه بعضاً، وبين ما يفتقر إلى ركن وثيق يستند إليه.

 12. أن العالم إن اضمحل فهو الحق!

حاول الشيخ عمر بن طه بن الشهاب العطار الدمشقي الشافعي المتوفى سنة 1307 الدفاع عن عقيدة ابن عربي وسائر المتصوفة في القول بوحدة الوجود وأن (العالم هو الحق) بتأويل كان نصُّه:

ما دام العالم بخصوصياته كهذا زيد أو شجر أو قمر؛ فهو غير الحق قطعا، وإن القول بأنه والحالة هذه هو الحق؛ كفر بإجماع الأمة بلا توقف، وإذا قطع النظر عن الخصوصيات، واضمحلت بتمامها، وخرجت عن كونها زيدا أو شجرا أو قمرا، ولم يبق سوى الوجود الباطن الذي هو من ورائها وحده لا غير؛ رجع العالم إلى أنه هو الحق تعالى.

فالعالم بقطع النظر عن خصوصياته وتعيناته؛ هو الحق تعالى، وباعتبارها هو غير قطعا(155)..

يحاول هذا الشيخ الدمشقي هنا التفرقة بين وجود المخلوق كما هو فيقول أنّه غير الحق تعالى، ولكن إن غضضنا النظر عن خصوصيات هذا المخلوق تكون حقيقة وجوده في الباطن هي الحق تعالى!

ماذا يعني يا ترى الشيخ الدمشقي بهذا الكلام؟

هل يمكن أن يكون للإنسان أو الشجر وجود ولكن مضمحل؟!

هل يمكن أن تخرج الشجرة عن كونها شجرة في حين أنها لا تزال موجودة؟!

هل نحن نتحدث عن عقيدة توحيدية واقعية أم عن نظريات لا تحقق لها حتى في عالم الخيال فضلاً عن عالم الواقع؟

إذ لا يتمكن الذهن حتى من تصوُّر اضمحلال المخلوق وبقاء وجودٍ باطني له كي يكون هذا الوجود هو الحق تعالى!!

لم يجد هذا الشيخ الدمشقي إلا كلاماً غير مفهوم لا يسمن ولا يغني من جوع للدفاع عن هذه النظرية لأنه اعتقد بأنها أرقى وأسمى اعتقاد لا بد من الدفاع عنه بكل أسلوب حتى لو كان غير ذي ثمرة.

كل هذا وهو يعترف بأن القول بوحدة الوجود على خطرٍ عظيم!! وأن السالم منها أندر من كل نادر!!

يقول:

فالقول بوحدة الوجود، هو السرّ المصون، والجوهر المكنون، وبه يندفع كثير من المشبه، ويتحقّق العلم الإلهي، إلا أن الغلط فيه كفر صريح، وضلال مبين، وأظن أن المتحقّق في هذه المسألة أندر من كل نادر، ولو لا عناية سبقت لهذا الحقير من ملاحظة شيخي الشيخ محمد أكرم -المولوي- في آخر أمري في هذا البحث؛ لكنت على خطر عظيم، ولقد لقيت عددا لا حصر لهم يتكلّمون بالوحدة، وهم على شفا جرف هار، نسأل اللّه العافية(156).

ونحن نضيف عليه أنّ كلّ من لقينا ممن يتكلم بهذه الوحدة كان على شفا جرف هارٍ فانهار به في نهار جهنم!! إلا أن يهده الله برحمته فيتوب مما جنت يداه.

 خلاصة القول في وحدة الوجود

بعدما تبيّنت حقيقة الشبهة في نظرية وعقيدة (وحدة الوجود والموجود) وظهر أنها ناشئة من القول بعدم المباينة بين الخالق والمخلوق يُعرف مقدار الانحراف الكبير عن عقيدة التوحيد عند المتصوفة القائلين بها، ولا يشذّ عن ذلك من قال بها من الفلاسفة أيضاً، لشبهة أو لخبث سريرة وسوء نية، فإن الباطل باطلٌ سواء كان السائر في ظلامه طالباً للحق مخطئاً فيه أو طالباً للباطل مصيباً في طلبه..

إنّ من لوازم القول بوحدة الوجود بالمعنى الصوفي المتقدم:

أولاً: أن يصبح الخالق والمخلوق واحداً، والآمر والمأمور واحداً، فينتفي التمييز بين العابد والمعبود، إذ العابد هو نفس المعبود، والخالق هو نفس المخلوق! فتنتفي حقيقة التوحيد وحدوده، ويثبت للخالق ما ثبت للمخلوق من صفات النقص والجهل والضعف والعجز ولو حين ظهوره بصورة المخلوق! جلّ الخالق عن ذلك.

ثانياً: تبطل التعاليم والشرائع كلها، فكلّها قائمة على الإقرار من المخلوق بالربوبية للخالق عزّ وجل، ومع انتفاء الاثنينية والمباينة لا يبقى معنى لكل ما جاءت به الشرائع من تكاليف وعبادات وأحكام حيث أن الله تعالى بزعمهم الباطل هو الذي يعبد نفسه ويطيع نفسه!

ثالثاً: يلزم الجبر إما في طرف الخالق وإما في طرف المخلوق أو فيهما معاً على الحقيقة، إذ لا يمكن أن يكونا معاً مختارين وهما شيء واحد حقيقة مع كون الاختلاف اعتبارياً، فيبطل الثواب والعقاب لمكان الجبر.

وغيرها من اللوازم الفاسدة الكثيرة التي لا ينقضي تعدادها، من نقض أسس التوحيد والعدل والرسالات والمعاد وغير ذلك.

وقد دفعت خطورة المسألة المرجع الديني الكبير السيد محسن الحكيم رحمه الله إلى محاولة حمل كلام بعض الجماعات على المحامل الحسنة الممكنة، ولو كان ذلك خلاف الظاهر، حيث قال رحمه الله:

أما القائلون بوحدة الوجود من الصوفية فقد ذكرهم جماعة...

ثم ذكر كلمات السبزواري المتقدمة في بحث معاني وحدة الوجود وقال:

أقول: حسن الظن بهؤلاء القائلين بالتوحيد الخاص والحمل على الصحة المأمور به شرعا، يوجبان حمل هذه الأقوال على خلاف ظاهرها، وإلا فكيف يصح على هذه الأقوال وجود الخالق والمخلوق، والآمر والمأمور والراحم والمرحوم ؟! وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب(157)..

وكلامه رحمه الله موافق للقواعد الشرعية تماماً، إذ أن أي كلام متشابه حمّال أوجه صدر من مسلم ويمكن حمله على معنى مقبولٍ، ويحتمل في حقه أنه أراد ذلك المعنى، فهو المعتمد والمعمول به، وبهذا يجاب عن ما ورد في كلمات بعض الأعلام من عبارات موهمة كان لهم فيها أغراض ليس هذا محلّ ذكرها..

لكن هذه القاعدة لا يمكن أن تنطبق على جميع المتصوفة والعرفاء لسببين:

السبب الأول: أن كلمات بعضهم ليست متشابهة ولا حمّالة أوجه ولا مجملة كي تُحمل على خلاف الظاهر أو يتوقف بها، بل إنّها نصٌّ صريح في كون بعض المخلوقات هي الله تعالى! أو في أن العارف يندكّ في ذات الله تعالى! ويصبح ذات الله! وأمثال ذلك من الكلمات.

والعبائر التي تكون من القوة بمكانٍ لا يحتمل معنى آخر لا مجال إلا للأخذ بما تدلّ عليه، وأغلب عبارات الصوفية المنقولة في هذا الكتاب هي من هذا القبيل. فيختص هذا التوجيه بمن لم يُعلم مراده واحتمل ارادته لمعنى مقبول في نفسه فيحمل كلامه على خلاف الظاهر.

السبب الثاني: أنه على فرض التسليم بأن كافة العبائر ظاهرة في معاني الإنحراف وليست نصاً فيه، وأنها قابلة للحمل على خلاف الظاهر، نجد أن المتصوفة والعرفاء انفسهم يمنعون من تأويل كلماتهم وحملها على خلاف الظاهر.. وقد تقدّمت في مقدمة الكتاب كلمات شيخهم الأكبر ابن عربي ومنها:

وإن سافر شيخك‏.. لا تتأوّل عليه كلامه.. ولا تعرّج على تأويلٍ فيه، وإن تأوّلت أمره وأصبت فهو خطأ!(158)..

وكذا قال أتباعه العرفاء، ومنهم السيد محسن الطهراني معلقاً على كلمات السيد الحكيم:

فإذا توصل شخص معين بالبرهان والدليل العقلي وانكشاف حقائق عالم التوحيد.. إلى الحكم بوحدة الوجود، فعندها كيف يمكننا أن نحمل كلامه على خلاف معتقده ونظره القطعي ونتيجته التي لا تقبل الشك ولا الترديد؟

أليس هذا توجيه بما لا يرضي صاحبه؟ وبأي حق يمكن أن نمنح أنفسنا إجازة في حمل كلام شخص واعتقاده ونظره العملي والشهودي على خلاف رأيه ونظره؟ فهذا الفعل بنفسه مخالف للشرع ومخالف للعقل ومخالف للمنطق والعرف.. فمن يريد أن يحكم علينا بالتكفير والنجاسة فليتوكل على الله(159).

بعد هذا البيان الواضح والصريح من جملة من المتصوفة والعرفاء، ينتفي موضوع الحمل على الصحة وتأويل كلماتهم وخصوصاً أن أكثرهم يرفض تأويل الكلام لأنه يحط من قدره ومستواه بزعمهم، مع أنهم أولوا كتاب الله تعالى بما لا يقبله عقل ونقل..

وغيرُ خفيٍّ أن التأويلات المذكورة متباينة متناقضة لا يمكن الجمع بينها، ولا مُرجّح لأحدها على الآخر، وكأن المتأخرين منهم لا يعرفون مراد المتقدمين وإنما يتأول كل واحد منهم ويتمحّل وجوهاً متناقضة أبعد ما تكون عن ظاهر اللفظ، كل ذلك دون أي قرينة تساعد على ذلك.

وإذا كانت في حقيقتها أسراراً كما يقول ابن عربي:

 كتب اهل طريقتنا مشحونة بهذه الأسرار، ويتسلط عليها أهل الأفكار بأفكارهم، وأهل الظاهر بأول احتمالات الكلام فيقعون فيهم، ولو سألوا عن مجرد اصطلاح القوم الذي تواطؤا عليه في عباراتهم ما عرفوه (160)..

فكيف يجتمع ذلك مع كون عدم فهمها عائداً للاصطلاحات الخاصة بزعمهم؟!

فهي:

1. إما أن تكون معانٍ مفهومة في نفسها لا تحتاج إلى اصطلاح، وهذا ما ينفونه.

2. وإما أن تكون مفهومة واضحة بعد معرفة اصطلاحاتها، فلا ينبغي عليهم الاختلاف فيها، والحال أن الخلاف وقع بينهم هائلاً كما رأيت..

3. وإما أن تكون أسراراً لا يمكن معرفتها سواء عرفت الاصطلاحات أم لا، وهذا ما يزعمه بعضهم، ويكفرون من لم يقل به.

وهم بين هذه الامور مختلفون، وفي التأويلات الباطلة غارقون.

فاتضح بما تقدم أنه لا يمكن الموافقة على هذه التأويلات والتبريرات لعدم تماميتها.

 


(1) ابن عربي في الفتوحات المكية ج4 ص372.

(2) تذكرة الأولياء (معرب) ص395.

(3) تذكرة الأولياء (معرب) ص399.

(4) فوائح الجمال وفواتح الجلال ص147.

(5) فوائح الجمال وفواتح الجلال ص171.

(6) منطق الطير (معرب) ص143.

(7) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج2 ص293.

(8) كتاب المعرفة ص11.

(9) كتاب المعرفة ص37.

(10) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج1 ص272.

(11) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج1 ص702.

(12) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج1 ص90.

(13) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج2 ص320.

(14) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج2 ص321.

(15) المقدمات من كتاب نص النصوص‏ ص423.

(16) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص212-213.

(17) لوائح الحق ولوامع العشق (معرب) ص42.

(18) لوائح الحق ولوامع العشق (معرب) ص51 و52.

(19) معرفة الله ج‏3 ص222.

(20) معرفة الله ج‏3 ص223.

(21) التوحيد الشهودي: الشهود 23.

(22) صوم الوصال ص199.

(23) صوم الوصال ص200.

(24) الروح المجرد ص374.

(25) في الفصل السادس من الباب الأول.

(26) التوحيد للصدوق ص248.

(27) الكافي ج1 ص140.

(28) توحيد المفضل ص179.

(29) أمالي المفيد ص254.

(30) الكافي ج‏1 ص91.

(31) المزار الكبير لابن المشهدي ص299.

(32) الكافي ج‏1 ص127.

(33) الإحتجاج للطبرسي ج‏1 ص201.

(34) التوحيد للصدوق ص69.

(35) تحف العقول ص244.

(36) الكافي ج1 ص82.

(37) الكافي ج1 ص134.

(38) الكافي ج1 ص135.

(39) الكافي ج1 ص122.

(40) التوحيد للصدوق ص306.

(41) الكافي ج‏8 ص18.

(42) التوحيد للصدوق ص306.

(43) الكافي ج‏1 ص138.

(44) أي صدر المتألهين الشيرازي.

(45) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج2 ص71 هامش1.

(46) المقدمات من كتاب نص النصوص ص389.

(47) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص107.

(48) محقق كتاب رسائل الجنيد: جمال رجب السيدبي عن بعض المصادر الأخرى‏، وغيره.

(49) رسايل الجنيد (كتاب الفناء) ص139 هامش 1.

(50) سر الأسرار ومظهر الأنوار فيما يحتاج إليه الأبرار لعبد القادر الجيلاني ص561.

(51) رسايل الجنيد ص182.

(52) رسايل الجنيد ص183.

(53) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج1 ص90.

(54) شرح الكافي: الأصول والروضة (للمولى صالح المازندراني) ج‏8 ص244.

(55) إرشاد ذوي العقول إلى براءة الصوفية من الاتحاد والحلول (مسألة وحدة الوجود) ص268.

(56) إحياء علوم الدين ج‏5 الجزء 13 ص160.

(57) منطق الطير(معرب) ص144.

(58) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج2 ص160.

(59) تحف العقول 54.

(60) تحف العقول 54.

(61) المقدمات من كتاب نص النصوص‏ ص444.

(62) الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي) ج‏2 ص344.

(63) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج‏2 ص479.

(64) كتاب المعرفة ص57.

(65) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج‏2 ص479.

(66) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج‏2 ص479.

(67) معرفة الله ج‏2 ص252.

(68) كتاب الوجود ص19.

(69) كتاب الوجود ص21.

(70) إرشاد ذوي العقول إلى براءة الصوفية من الاتحاد والحلول (إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود) ص395.

(71) إحياء علوم الدين ج‏5 الجزء 13 ص158.

(72) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج1 ص696.

(73) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص66-67.

(74) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص69.

(75) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص131.

(76) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص154.

(77) المقدمات من كتاب نص النصوص ص356.

(78) المقدمات من كتاب نص النصوص ص357.

(79) معرفة الله ج‏3 ص282.

(80) المقدمات من كتاب نص النصوص ص356.

(81) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص127.

(82) وقد تعرّضنا لبعضها في كتاب (تنزيه التشيُّع من خرقة التصوّف) فليراجع.

(83) تفسير القمي ج‏1ص358.

(84) الكافي ج‏2 ص397.

(85) الكافي ج‏2 ص398.

(86) الكافي ج‏2 ص294.

(87) مصباح الشريعة ص32.

(88) الكافي ج‏2 ص293.

(89) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص216.

(90) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص217.

(91) المقدمات من كتاب نص النصوص ص359.

(92) جامع الأسرار ومنبع الأنوار ص105.

(93) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج‏2 ص21.

(94) إنشاء الدوائر ص6.

(95) كتاب المعرفة ص11.

(96) كتاب المعرفة ص70.

(97) فصوص الحكم ج‏1 ص110.

(98) كتاب المعرفة ص56.

(99) فصوص الحكم ج‏1ص184.

(100) فصوص الحكم‏ ص78.

(101) ديوان الحلاج ص87.

(102) استشهد بهذه الابيات كثيرٌ منهم كروزبهان بقلي الشيرازي في تفسير عرائس البيان ج‏2 ص169، والقيصري في شرح فصوص الحكم ص118، ‏ والسيد الآملي في المقدمات من كتاب نص النصوص‏ ص3، وعبد الرحمان الجامي في نقد النصوص ص84 وصولاً إلى حسن زاده آملي من المعاصرين في ممدّ الهمم ص133.

(103) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج‏2 ص488.

(104) الميزان الذرية المبينة لعقائد الفرق العلية ص171.

(105) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج‏2 ص488.

(106) فصوص الحكم ج1‏ ص73.

(107) فصوص الحكم‏ ج1 ص211.

(108) كتاب المعرفة ص87.

(109) الفتوحات المكية (أربع مجلدات) ج‏2 ص484.

(110) كتاب المعرفة ص56.

(111) فصوص الحكم ج‏1 ص102.

(112) المقدمات من كتاب نص النصوص‏ ص91.

(113) إرشاد ذوي العقول إلى براءة الصوفية من الاتحاد والحلول (المورد العذب لذوي الورود في كشف معنى وحدة الوجود) ص422.

(114) الرحمن 26.

(115) أنوار الحقيقة وأطوار الطريقة وأسرار الشريعة ص241.

(116) الروح المجرد ص543.

(117) الروح المجرد ص543.

(118) معرفة الله ج‏1 ص273.

(119) الروح المجرد ص73.

(120) معرفة الله ج1 ص64.

(121) معرفة الله ج1 ص65.

(122) معرفة الله ج‏3 ص281.

(123) معرفة الله ج‏1 ص180-181.

(124) معرفة الله ج‏1 ص273.

(125) معرفة الله ج‏2 ص227.

(126) الروح المجرد ص73.

(127) التوحيد الشهودي: الشهود 23.

(128) المقدمات من كتاب نص النصوص ص93.

(129) المقدمات من كتاب نص النصوص ص350.

(130) المقدمات من كتاب نص النصوص ص384.

(131) تفسير ابن عربي ج1 ص396، وج2 ص434.

(132) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7 ص292.

(133) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7 ص294.

(134) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7 ص300.

(135) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7 ص301.

(136) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7 ص305.

(137) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) (لابن شهرآشوب) ج‏4 ص352.

(138) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7 ص318-319.

(139) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7 ص321.

(140) تقدّم نقلها عن السيد الآملي في المقدمات من كتاب نص النصوص‏ ص423، وقد وردت عشرات المرات في كلمات المتقدّمين عنه والمتأخرين.

(141) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7 ص326.

(142) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7 ص368.

(143) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج8 ص110.

(144) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج8 ص114.

(145) المشاعر ص59.

(146) أعيان الشيعة ج9 ص327.

(147) تنقيح مباني العروة: كتاب الطهارة ج‌2 ص211.

(148) التنقيح في شرح العروة الوثقى الطهارة ج2 ص83.

(149) معرفة الله ج‏3 ص198.

(150) معرفة الله ج‏3 ص198.

(151) الفتوحات المكية ج1ص716.

(152) كتاب المعرفة ص86.

(153) الإنسان الكامل (الجيلي) ص255.

(154) الإنسان الكامل (الجيلي) ص18.

(155) النور الأبهر في الدفاع عن الشيخ الأكبر (الفتح المبين في رد اعتراض المعترض على الشيخ محيي الدين قدس الله سره) ص158.

(156) النور الأبهر في الدفاع عن الشيخ الأكبر (الفتح المبين في رد اعتراض المعترض على الشيخ محيي الدين قدس الله سره) ص161.

(157) مستمسك العروة الوثقى ج1 ص391.

(158) التدبيرات الالهية فى اصلاح المملكة الانسانية ص 230.

(159) أسرار الملكوت ج‏2 ص 422-423.

(160) مجموعة رسائل ابن عربي (كتاب الفناء في المشاهدة) ص4.


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=13
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5