أطبق الفقهاء على كون عقيدة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود الصوفية كفراً، فإنها لا تجتمع مع الإيمان بالله تعالى الواحد الأحد المنزه عن الجسمية وعن المكان وعن مجانسة المخلوقات.
ولا ينبغي الخوف من إطلاق كلمة (الكفر) على من يخرق أسّ التوحيد، فإنّ الكفر ما عنى عند الشيعة يوماً سفك الدماء وهتك الأعراض وسلب الأموال كما عنى عند غيرهم من الفرق والمذاهب.
فالشيعة في زمن الغيبة الكبرى إن حكموا على أحد بالكفر ظلَّ ذلك عندهم في حدود الحكم الفقهي الذي لا يرتِّبُ أثراً اجتماعياً حربياً مسلحاً كما يفعل الآخرون، فيسفكون دماء المسلمين باسم التوحيد والتوحيد منهم براء، وإن كان للردة أحكامها الخاصة.
وكلمات الشيعة وإن كانت مشهورة في ذلك قد طبّقت الآفاق أخبارها، ونشرت في بطون الكتب بياناتها، إلا أن المقام يقتضي ذكر بعض هذه الكلمات على سبيل الإيجاز، فاخترنا من ذلك كلمات لاثني عشر عالماً من أكابر علماء الإمامية في مراحل زمنية مختلفة.. تيمناً بعدد الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، نوردهم بحسب تاريخ وفاتهم رحمهم الله، وشرعنا بالعلامة الحلي رغم ما بلغنا عن كتب ألفها المتقدمون عليه في الرد على الصوفية لم تصلنا نصوصها..
كلمات العلامة الحلي في إبطال الإتحاد ووحدة الوجود وعدّهما عين الكفر والإلحاد واضحة صريحة، يقول رحمه الله:
الضرورة قاضية ببطلان الاتحاد فإنه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئاً واحداً. وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور فحكموا بأنه تعالى يتحد مع أبدان العارفين، حتى أن بعضهم قال إنه تعالى نفس الوجود وكل موجود هو الله تعالى. وهذا عين الكفر والإلحاد(1).
فإنّ كونه تعالى نفس الوجود يلازم كونه وكلّ موجود واحداً، فيكون كلّ موجود هو الله تعالى بمعنىً من المعاني، ولذا كان عين الكفر والإلحاد.
ذكر في كتابه حديقة الشيعة ما ترجمته للعربية:
وهم قالوا بوحدة الوجود، واعتقادهم: أن كل إنسان بل كل شيء هو الله تعالى شأنه كما أشير إليه، وهم أشد كفراً وأعظم خزياً من نمرود وشدّاد وفرعون لاعتقادهم بإلهية جميع الأشياء الغير الطاهرة فضلاً عن غيرها.
فلو سمّيت تلك الفرقة بالكثرتيّة كان أبلغ، لمبالغتهم في كثرة الإله بحيث لا يبقى شيء مما سوى الله تعالى إلا ويقولون: إنه الله، وزعموا أن الجميع واحد(2).
ألّف رحمه الله كتاباً خاصاً في الرد على الصوفية جاء فيه:
في إبطال اعتقاد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود
اعلم: أن هذا المذهب القبيح والاعتقاد الباطل الشنيع لم ينسبه أحد من العلماء والمتكلمين إلا إلى الصوفية واتفقوا على بطلانه وأجمعوا على فساده ولا ريب أن الصوفية كلهم أو أكثرهم معتقدون له(3) .
قال في درره النجفية:
ولهذا أن جملة ممن داخله العجب بنفسه والاغترار، ولم يلتفت إلى ما ورد من المنع في هذه الأخبار، وولج بزعمه في ذلك الباب، وخاض في ذلك البحر العباب وقع في لجج المضيق، وصار فيه غريقا وأيّ غريق. وهم مشايخ الصوفية الذين يكادون بدعاويهم يزاحمون مقام الربوبية؛ فما بين من وقع في القول بالحلول أو الاتحاد، أو وحدة الوجود الموجب جميعه للزندقة والإلحاد، وأمثال ذلك من المقالات الظاهرة الفساد(4).
قال عند تعرُّضه لأقسام الكفر:
القسم الثاني: ما يحكم فيه بجواز القتل(5)، ونجاسة السؤر.. وهو كفر من دخل الإسلام وخرج منه بارتداد عن الإسلام.. أو بادّعاء قدم العالم بحسب الذات، أو وحدة الوجود، أو الموجود على الحقيقة منهما، أو الحلول أو الاتحاد، أو التشبيه، أو الجسمية(6).
وهو القائل في رسالة أرسلها إلى أهل خوي (وهي مدينة من مدن إيران) لمّا توسّعت دعوة الصوفيّة فيها فقال فيها:
فهنيئاً لكم على هذا الدين الجديد، والمذهب السديد، وظهور هؤلاء الأنبياء الذين يخاطبون بصفات جبّار السماء، بل كانوا عين الله، وكان الله عينهم، ولا فرق بينه وبينهم!!
فدقّوا الطبول، وغنّوا بالمزامير، وأظهروا العشق للّطيف الخبير، وأكثروا النظر إلى الأمرد الحسان.
فإنّه يتّحد بهم الرحيم الرحمن، ودعوا الصلاة والصيام وجميع العبادات بالتمام، فإنّكم نلتم درجة الوصول، فلمن تعبدون؟!
وأنتم مع الله متّحدون فلمن تسجدون؟
إنّما يعبد من لم يبلغ الوصول إلى تلك الرتب، كمحمّد صلّى الله عليه وآله سيّد العرب، أمّا من لم يكن في جبّته غير الله فليس عليه صيام ولا صلاة...
و فكيف يخفى على الطفل الصغير فضلًا عن الكبير السيرة النبويّة، والطريقة المحمّديّة والجادّة الإماميّة، حتّى يشتبه عليه التدليس، وما عليه إبليس وجنود إبليس(7) ؟!
قال في مصابيح أنواره:
ومنهم من قال: إن الموجودات حقيقة ليس إلا شيئا واحدا هو ذات الوجود وأما التعدد والتكثر فأمر اعتباري لا على سبيل التنزل في أصل الذات كما قال الأولون، بل الذات الواحد هو عين تلك التعددات في الواقع إلا أن العقل يغلط فيزعم أنها غيره، ويمثلون بذلك أخزاهم الله بالبحر والموج فكما أن الأمواج ليست على كثرتها إلا البحر إلا أن الحس الغالط يزعم أنها غيره، فهكذا حال الموجودات الظاهرية مع الوجود الحقيقي، كما يستفاد ذلك من بعض أشعار المولوي في المثنوي، وقد سئل عبدالرزاق الكاشاني عن الحلول والاتحاد فقال: هما باطلان ليس في الدار غيره ديار، ونقل عن الجنيد انه قال : ما في جبتي غير الله... ومنهم من يقول إن الموجود الحقيقي أمر واحد والمتعددات ليست تنزلات له ولا هو عينها في الخارج بل هي مظاهر له لا يمكن ظهوره عند البصائر والابصار الا في تلك المظاهر، كالنور بالنسبة الى الاشعة، الى غير ذلك من المزخرفات والخرافات المخالفة للعقول الصحيحة والنصوص الصريحة(8).
لم يخالف السيد اليزدي العلماء في الحكم ببطلان عقيدة القائلين بوحدة الوجود، إلا أنّه توقّف في الحكم عليهم بالنجاسة طالما أنهم يظهرون الإسلام ولا يبرز منهم الالتزام باللوازم الفاسدة لمذهبهم، يقول:
وأمّا المجسّمة والمجبّرة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلّا مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد(9).
هذا كله لو لم يكونوا قائلين بالوحدة الشخصية (أي وحدة الوجود والموجود) كما عليه كثيرٌ من الصوفية فإنّه موجب للكفر بلا شك وشبهة، لذا أضاف بعض المحشين على العروة كالميرزا السيّد عبد الهادي الشيرازي (م 1382 ه) قيداً توضيحياً جاء فيه:
إن لم يكونوا قائلين بالوحدة الشخصيّة، وإلّا فالأقوى نجاستهم.
وعليه فإن الصوفية على قسمين: قسمٌ قائل بوحدة الوجود الشخصية وهي كفرٌ محضٌ، وقسم غير قائل بها.
فغير القائل بها إن التزم باللوازم الفاسدة لها كان نجساً أيضاً، وإن لم يلتزم بذلك فلا يحكم بنجاسته وإن كانت عقيدته باطلة كالمجسمة.
يقول في تفسيره:
القول بوحدة الوجود ينثلم معه جميع أساس التوحيد بل الشرائع كافة، ولهذا ظهر منهم القول بالحلول والاتحاد وانقطاع العذاب وغيرها(10)..
ويقول:
وأمّا قول الشّبستري ففيه إيماء إلى وحدة الوجود، وتضييع الحدود، وعدم تميّز العابد عن المعبود، ولعلَّه إشارة إلى تصحيح قول من قال أنا الله، وليس في جبّتي سوى الله، وغيرها من المزخرفات الباطلة والتّرهات العاطلة(11)..
ويقول:
بل قالوا: إنّه ليس حالَّا ولا محلا، بل شيء واحد ظهر بالمحليّة تارة وبالحاليّة أخرى. ولا أظنّ الفاضل المتقدّم يوافقهم في مقالتهم الَّتي هي كفر صريح، وهي القول بوحدة الوجود المبتني على إثبات الأعيان الثابتة والصور العلميّة. وبالجملة فالقول بكلّ منها مخالف لضرورة مذهب الإماميّة(12)..
يقول في أصل الشيعة وأصولها:
على أن تلك الفرق لا تقول بمقالة النصارى، بل خلاصة مقالتهم بل ضلالتهم أن الإمام هو الله سبحانه ظهورا أو اتحادا أو حلولا، أو نحو ذلك مما يقول به كثير من متصوفة الاسلام ومشاهير مشايخ الطرق، وقد ينقل عن الحلاج بل والكيلاني والرفاعي والبدوي وأمثالهم من الكلمات وإن شئت فسمها كما يقولون شطحات ما يدل بظاهره على أن لهم منزلة فوق الربوبية، وأن لهم مقاما زائدا عن الألوهية (لو كان ثمة موضع لمزيد) وقريب من ذلك ما يقول به أرباب وحدة الوجود أو الموجود.
أما الشيعة الإمامية وأعني بهم جمهرة العراق وإيران وملايين من مسلمي الهند ومئات الألوف في سوريا والأفغان فإن جميع تلك الطائفة من حيث كونها شيعة يبرأون من تلك المقالات، ويعدونها من أشنع أشكال الكفر والضلالات، وليس دينهم إلا التوحيد المحض، وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق(13).
يذكر بعض معاني وحدة الوجود ثم يصل الى قوله:
وإما حقيقة واحدة ووجود واحد وموجود واحد لا تعدد في الوجود أصلا، ويظهر ذلك الوجود الواحد في المظاهر والمجالي المتعددة وكل واحد من هذه المظاهر والمجالي وجوده نفس ذلك الوجود الواحد وليس شئ غيره، فيصح أن يقول ذلك المظهر والمجلى باعتبار وجوده أنا هو!
وحيث إن ذلك الوجود الواحد هو الله والمظاهر والمجالي هي الممكنات والمخلوقات قاطبة، فكل واحد من الممكنات بالنظر إلى وجوده هو الله جل جلاله، العياذ بالله من هذه الأباطيل التي ينكرها العقل والنقل، وجميع الشرايع والأديان الحقة.
وأما إن كانوا يقولون بأن ذلك الوجود الواحد هو الله والممكنات لا وجود لها وليست إلا صرف خيال وأوهام وبعبارة أخرى ينفون الوجود عما سوى الله، ولا يدعون أن للممكنات وجودا ووجودها عين وجود الله جل جلاله. فهذا القول وإن لم يكن كفرا لكن انكار للبديهي وخلاف ما يدركه العقل السليم عن شوائب الأوهام وكيف يمكن أن يدعى أن هذه السماوات مع أنجمها والأرض مع جبالها وأنهارها وأشجارها وأبحرها ومعادنها ونباتاتها وحيواناتها على اختلاف مراتبها وآثارها لا وجود لها، وجميعها أوهام وخيالات، فبطلان هذا القول أوضح من أن يحتاج إلى بيان أو برهان(14).
يبيّن السيد الخوئي الحكم في المعاني المختلفة من القول بوحدة الوجود إلى أن يقول عن وحدة الوجود والموجود الشخصي الذي يقول به المتصوفة:
و إن أراد من وحدة الوجود ما يقابل الأول وهو أن يقول بوحدة الوجود والموجود حقيقة وأنه ليس هناك في الحقيقة إلّا موجود واحد ولكن له تطورات متكثرة واعتبارات مختلفة، لأنه في الخالق خالق وفي المخلوق مخلوق كما أنه في السماء سماء وفي الأرض أرض وهكذا، وهذا هو الذي يقال له توحيد خاص الخاص وهذا القول نسبه صدر المتألهين إلى بعض الجهلة من المتصوفين، وحكى عن بعضهم أنه قال: ليس في جبتي سوى الله، وأنكر نسبته إلى أكابر الصوفية ورؤسائهم(15)، وإنكاره هذا هو الذي يساعده الاعتبار فان العاقل(16) كيف يصدر منه هذا الكلام وكيف يلتزم بوحدة الخالق ومخلوقه ويدعي اختلافهما بحسب الاعتبار.و كيف كان فلا إشكال في أن الالتزام بذلك كفر صريح وزندقة ظاهرة، لأنه إنكار للواجب والنبيّ (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلم) حيث لا امتياز للخالق عن المخلوق حينئذ إلّا بالاعتبار، وكذا النبيّ (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلم) وأبو جهل مثلًا متّحدان في الحقيقة على هذا الأساس وإنما يختلفان بحسب الاعتبار(17).
ثم يقول رحمه الله:
بقي هناك احتمال آخر وهو ما إذا أراد القائل بوحدة الوجود وحدة الوجود والموجود في عين كثرتهما، فيلتزم بوحدة الوجود والموجود وأنه الواجب سبحانه إلّا أن الكثرات ظهورات نوره وشؤونات ذاته، وكل منها نعت من نعوته ولمعة من لمعات صفاته ويسمّى ذلك عند الاصطلاح بتوحيد أخصّ الخواص، وهذا هو الذي حقّقه صدر المتألهين ونسبه إلى الأولياء والعرفاء من عظماء أهل الكشف واليقين قائلًا: بأن الآن حصحص الحق واضمحلّت الكثرة الوهمية وارتفعت أغاليط الأوهام، إلّا أنّه لم يظهر لنا إلى الآن حقيقة ما يريدونه من هذا الكلام.
وكيف كان فالقائل بوحدة الوجود بهذا المعنى الأخير أيضاً غير محكوم بكفره ولا بنجاسته ما دام لم يلتزم بتوال فاسدة من إنكار الواجب أو الرسالة أو المعاد(18).
وخلاصة ما في كلامه رحمه الله تقسيمه الأقوال إلى أربعة:
فالأول هو الذي تبناه وهو (كثرة الوجود والموجود معاً).
والثاني ما يقابله وهو (وحدة الوجود والموجود حقيقة) وقال (لا إشكال في أن الالتزام بذلك كفر صريح وزندقة ظاهرة).
والثالث وحدة الوجود وتعدد الموجود مع القول بأصالة الماهيّة ولم يحكم بكفر أصحاب هذا القول مع قوله ببطلانه.
والرابع وحدة الوجود والموجود في عين كثرتهما، وقال (لم يظهر لنا -إلى الآن- حقيقة ما يريدونه من هذا الكلام) ولم يحكم عليهم بالكفر ما لم يلتزموا باللوازم الفاسدة.
قال في أنواره البهية:
وأما ان قيل: ان الموجود واحد في الخارج وله اطوار فانه في السماء سماء وفي الأرض أرض وفي الخالق خالق وفي المخلوق مخلوق وهكذا وهو المسمى عندهم بتوحيد خاص الخاص فيكون كفرا والحاداً ومكابرة مع الوجدان والبرهان.
امّا منافاته مع الوجدان فهو واضح عند من يكون له الوجدان، وامّا منافاته مع البرهان فهو أنه كيف تجتمع الوحدة مع التعدد؟! وكيف يتصور كون الواحد علة ومعلولا؟! والالتزام بهذا المسلك يهدم جميع الأديان والشرائع وقائله كافر بلا اشكال، والظاهر أنه لا شبهة في نجاسته إذ لازم هذا القول الهتك الأكثر من الشرك بالنسبة الى ذات الالوهية وغاية الجسارة الى ساحته المقدسة اعاذنا الله من القول الباطل(19)..
فضلاً عن عشرات بل مئات العلماء الذين صرحوا بكفر هذا المعتقد، وذكر العديد منهم إجماع الطائفة الحقة على ذلك، فلا ثمرة من استقصائهم وذكر أسمائهم على كثرتها، اذ ينقضي الغرض بمن ذكرنا.
وههنا شبهة مهمة لا بد من عرضها وردّها، وهي أنه قد نُسب لجملة من العلماء كلماتٌ فيها تبريرٌ أو تأويلٌ أو تأييدٌ لشيء من معتقدات الصوفية في الاتحاد أو وحدة الوجود أو الفناء الباطل..
ونحن نتعرّض لما ورد عن بعضهم في التوحيد ومنه يعرف حال الآخرين.. ونترك التفصيل لمحلٍّ آخر.
أما نصير الدين الطوسي، ففيما ورد في الكتاب المنسوب إليه (أوصاف الأشراف)(20) باللغة الفارسية والذي تُرجم عدة تراجم ونشرت إحدى نسخه العربية، ويتضمن تبريراً لكلمات الاتحاد التي صدرت عن الحلاج والبسطامي، نافياً كون المراد من الاتحاد اتحاد الخالق بالعبد!
وفي مقدّمة هذا الكتاب إشارة إلى أن المؤلف إنما كتبه على مبنى المتصوفة، يظهر ذلك من قوله:
أردتُ أنْ أُرتِّب مختصراً في سِيَر الأولياء، أهل الحقيقة وقاعدة سالكي الطريقةِ(21)..
فإن أصحاب الطرق الصوفية هم أهل الحقيقة بزعمهم، وهم السالكون إلى الله بحسب طرقهم كما يقولون، وقد ذهب الميرزا عبد الله أفندي الإصبهاني(22) في تعليقة أمل الآمل إلى كون نصير الدين الطوسي صوفياً بقوله:
ويظهر من أوصاف الاشراف وغيره أنه صوفي(23)..
ورسالة «أوصاف الأشراف» بالفارسية في كيفية السلوك إلى الله تعالى، ألفها على طريقة الصوفية للخواجة بهاء الملك صاحب الديوان الجويني(24).
ولكن نصير الدين لم يكن صوفياً، وإن نسب إلى التصوف تارة وإلى الإسماعيلية تارة أخرى، لكن الرجل شيعي إمامي إثنا عشري بحسب عقيدته التي تظهر من كتبه، إلا أن إقامته الجبرية في قلاع الإسماعيليين كما يذكر المؤرخون وعدم قدرته على التصريح بعقيدته خلال فترات متعددة قد تكون سبباً لصدور مثل هذه الكلمات منه..
على أنه يحتمل كذلك أن تكون كتابته على مذاق الصوفية وإن لم يقل بقولهم لأجل استمالتهم إلى الدين، كما فعل المجلسي الأول، يقول العلامة المجلسي متحدثاً عن والده:
واياك ان تظن بالوالد العلامة نور الله ضريحه انه كان من الصوفية أو يعتقد مسالكهم ومذاهبهم حاشاه عن ذلك، وكيف يكون كذلك وهو كان آنس اهل زمانهم باخبار اهل البيت (عليهم السلام) واعلمهم بها، بل كان مسلكه الزهد والورع، وكان فى بدو امره يتسمى باسم التصوف ليرغب اليه هذه الطائفة ولا يستوحشوا منه فيردعهم عن تلك الاقاويل الفاسدة والاعمال المبتدعة وقد هدى كثيرا منهم الى الحق بهذه المجادلة الحسنة، ولما رأى فى آخر عمره ان تلك المصلحة قد ضاعت ورفعت اعلام الضلال والطغيان وغلبت احزاب الشيطان وعلم انهم اعداء الله صريحا تبرء منهم وكان يكفرهم فى عقائدهم وانا اعرف بطريقته، وعندى خطوطه في ذلك(25) .
فليس بعيداً أن يكون نصير الدين الطوسي الذي عاش فترة زمنية صاخبة مليئة بالفتن قد كتب الرسالة (إن صحت نسبتها إليه) على مذاق الصوفية كما أشار في مقدمته ليقربهم إلى الدين كما قرّب غيرهم من الملوك والحكام، حيث كان يحتمل هدايتهم بعد احتوائهم.
كذلك يُحتمل أنّه أراد التمثُّل بقول أمير المؤمنين (عليه السلام):وَالله لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الْوِسَادَةُ لَقَضَيْتُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ وبَيْنَ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ وبَيْنِ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِقُرْآنِهِم(26)..
بمعنى أنّه يريد أن يثبت أنه أخبَرُ من الصوفية بمذاقهم ومشربهم وأدلتهم وما عندهم، وأخبر من كلّ مذهب بما لديه، وهو رغم ذلك يلتزم بمذهب الإمامية، فيكون في تأليفه على مذاقهم وتفوقه عليهم في ذلك وعدم اتباعه لهم إقامة للحجة عليهم في ذلك.
وإن أبيتَ عن قبول أيٍّ من هذه الوجوه، فمع الإصرار على هذه الكلمات يُردُّ هذا الكلام على أصحابه ويُضرب به عرض الجدار أياً كان قائله لمخالفته كتاب الله وسنة نبيه وحكم العقل القطعي وإجماع الشيعة الذين يعلم دخول المعصوم فيهم.
وإن الشيعة ما عرفت الحق يوماً بالرجال، وقد روينا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: الحقُّ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ، اعْرِفِ الحقَّ تَعْرِفْ أَهْلَه(27).
وليس علماء الشيعة كالأئمة في العصمة، فإنهم على جلالتهم وقداستهم ليسوا في منزلة المعصومين ولا يقربونها، وإنَّ لنا في عباد الله الصالحين قدوة حينما يصفهم مولى الموحدين (عليه السلام) بقوله: مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ ومَنْ أَخَذَ يَمِيناً وشِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ وحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ(28)..
أمّا الشيخ البهائي الذي اتُّهم باتباعه لهذه المدارس المنحرفة، فكان جوابه عليهم أبلغ من غيره حيث قال في منْ يدعي الاطلاع على حقيقة الذات المقدسة: أحث التراب في فيه !!
قال في أربعينه:
المراد بمعرفة الله تعالى الاطلاع على نعوته وصفاته الجلالية والجمالية، بقدر الطاقة البشرية، وأما الاطلاع على حقيقة الذات المقدسة فمما لا مطمع فيه للملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين فضلا عن غيرهم، وكفى في ذلك قول سيد البشر: ما عرفناك حق معرفتك.
وفي الحديث: إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الابصار، وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم.
فلا تلتفت إلى من يزعم أنه قد وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة، بل أحث التراب في فيه، فقد ضل وغوى، وكذب وافترى فان الامر أرفع وأظهر من أن يتلوث بخواطر البشر، وكلما تصوره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ، وأقصى ما وصل إليه الفكر العميق، فهو غاية مبلغه من التدقيق ...
بل الصفات التي نثبتها له سبحانه إنما هي على حسب أوهامنا، وقدر أفهامنا فانا نعتقد اتصافه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة، وهو تعالى أرفع وأجل من جميع ما نصفه به.
وفي كلام الامام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) إشارة إلى هذا المعنى حيث قال: كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم، ولعل النمل الصغار تتوهم أن لله تعالى زبانيتين فان ذلك كمالها ويتوهم أن عدمها نقصان لمن لا يتصف بهما، وهذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به . انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه(29) .
وللشيخ البهائي مسلكٌ خاص في حياته قد تكون الظروف فرضته عليه، وعليه يحمل كل قول يخالف مذهب الإمامية خاصة في باب التوحيد، يبيّنه في كشكوله ضمن بيتين من قصيدة يمدح فيها صاحب العصر والزمان يُبرز فيها سبب إخفائه حقيقة مذهبه فيقول:
اخالط أبناء الزمان بمقتضى عقولهم كيلا يفوهوا بانكاري
واظهر أني مثلهم تستفزني صروف الليالي باختلاء وإمرار(30)
لذا عرف عنه أنه كان يتظاهر بالمذهب الشائع في مصره.. وكان أهل كل مذهب يعدونه منهم(31)..
أما الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، فإنه أكثر من بالغ في محاولة تبرئة هؤلاء المتصوفة من الكفر، مع إقراره ب(إنما الإشكال والإعضال في وحدة الموجود والموجود) (32) وكونهم قائلين بها، فإنه عدّ الجنيد والشبلي والبسطامي وابن عربي وابن الفارض والعطار والجامي وأضرابهم ممن (أرادوا أن يبالغوا ويبلغوا أقصى مراتب التوحيد)(33)، وهو وإن عدّ برهانهم (على أصول الحكمة والمنطق) إلا أنه ليس من القائلين به بتاتاً وهو القائل: (وسواء قلنا بأنّ هذا البرهان صخرة صماء لا تمسه أظافر الخدشة، أو أنّ للمناقشة فيه مجالا..)(34).
نعم أخطأ في تخطئته (أمناء الشرع) القائلين بحسبه (إنّ سالك هذا الطريق كافر زنديق، وهذه الطريقة -أعني وحدة الوجود والموجود- عندهم زندقة وإلحاد، تضاد عامة الشرائع والأديان) (35).
فإنّ قوله: (وإني لا أرى من العدل والإنصاف، ولا من الورع والسداد، المبادرة إلى تكفير من يريد المبالغة في التوحيد.. ومع ذلك فهم يؤمنون بالشرائع، والنبوات، والحساب والعقاب والثواب) (36).
أولى بالتخطئة من (أمناء الشرع)، المطبقون على كفر القائلين بوحدة الوجود والموجود.
وقد اشتبه الأمر على من نسب الشيخ كاشف الغطاء إلى القول بوحدة الوجود والموجود، وكيف يقول بها وهو العارفُ بإجماع الطائفة على البراءة من هذا القول وعدّه من أشنع الكفر والضلال؟! حيث قال:
أما الشيعة الإمامية.. فإن جميع تلك الطائفة من حيث كونها شيعة يبرأون من تلك المقالات، ويعدونها من أشنع أشكال الكفر والضلالات(37) ..
نعم حاول (السيد محمد علي القاضي الطباطبائي) في حاشيته على الفردوس الأعلى توجيه كلام السيد بقوله أنه حاول:
تشريح هذه النظرية وبحثها بحثا علميا تحليليا على حسب معتقد القائلين بها، وإظهار حقيقة رأيهم حول هذا الاعتقاد كما يعتقدون أنفسهم(38).
وهو قريب مما تقدم في كلامنا عن نصير الدين الطوسي والشيخ البهائي، وإن كان الأمر كذلك فإنا نحتمل أن يكون سلك هذا المنحى في محاولة تبرئتهم ظاهراً تمهيداً للطريق أمام ما أسماه (الاتحاد والاتفاق) بين المسلمين في مواجهة أعداء الإسلام كما قال في بعض خطبه:
نحن قلنا حتى مللنا، وأسمعنا حتى سأمنا ... أسمعنا الدعوة إلى الوحدة والاتفاق، وقلنا للمسلمين: إن الذي يقتلكم، ويفرق جمعكم، ويخمد جذوة عزائكم، ويجعلكم -بل جعلكم- أذلاء صاغرين للأجانب، هو هذا الخلاف والشقاق الذي تغلغل وتوغل فيكم.. فيا ترى هل بقى شك أو شبهة لأحد في ضرورة الاتحاد والاتفاق؟(39).
فلعله رأى أن الدعوة إلى الاتحاد والاتفاق لا تستقيم مع الحكم بكفر فئة من المسلمين لها جمهورٌ كبير في كثيرٍ من بلاد المسلمين..
وأياً يكن فإن محاولة الشيخ لم تكن موفقة أبداً في الدفاع عن القائلين بوحدة الوجود والموجود بهذه الصورة، ومهما كانت الظروف التي دعته إلى ذلك فإن ما ذهب إليه لا يمكن إلزام الإمامية به أبداً.
وعلى هذه الوجوه تُحمَل كلمات من يُنسب لهم مثل هذا القول من علمائنا إن صحّت النسبة، وما لا يمكن توجيهه يُرد إلى أصحابه.