بسم الله الرحمن الرحيم
خَطَبَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ ع فَقَالَ: مَا لَنَا وَلِقُرَيْشٍ، شَيَّدَ الله بُنْيَانَهُمْ بِبُنْيَانِنَا.
لقد رفعَ الله قدرَ قريش بمحمدٍّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبآله الأطهار (عليهم السلام)، فكانوا سبباً في تشييد بنيانها وسيادتها الدنيا به (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
لكن قريشاً ما جازت محمداً وآله بالإحسان، بل ما شكَرَت ربَّ محمدٍ حيث شيّد بنيانها به، بل (نقمت على الله تعالى) أن قدّم آل محمد فيهم!!
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قريش: وَأَعْلَى الله فَوْقَ رُءُوسِهِمْ رُءُوسَنَا، وَاخْتَارَنَا الله عَلَيْهِمْ، فَنَقَمُوا عَلَيْهِ أَنِ اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ، وَسَخِطُوا مَا رَضِيَ الله، وَأَحَبُّوا مَا كَرِهَ الله!!
نَقَمَت قريشُ أولاً على الله تعالى! حيث اختار آل محمد ورفع قدرَهم وأعزّ شأنهم، أفلا تنقم على محمدٍ وآله ثانياً؟!
ما ظَهَرَ من آل محمدٍ لقريش إلا الفضل والرعاية، يقول (عليه السلام): فَلمَّا اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ شَرَّكْنَاهُمْ فِي حَرِيمِنَا، وَعَرَّفْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَعَلَّمْنَاهُمُ الفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ، وَحَفَّظْنَاهُمُ الصِّدْقَ وَاللِّينَ، وَدَيَّنَّاهُمُ الدِّينَ وَالإِسْلَامَ.
فنقلهم الله بمحمّدٍ وعترته (عليهم السلام) من ذُلِّ الكفر والجهل والكذب، إلى عزّ الإسلام والعلم والصدق، ولكن ما نفعهم ذلك، فما قابلوا الإحسان بالإحسان.
يقول عليه السلام: فَوَثَبُوا عَلَيْنَا، وَجَحَدُوا فَضْلَنَا، وَمَنَعُونَا حَقَّنَا.
ليس الروم هم الواثبون على آل محمد، ولا التُّرك هم الجاحدون فضلَهم، ولا الفُرس مَن منعهم حقّهم.
إنّها قريش، قامت بكلّ ذلك! مع ما لآل محمد من الفضل عليها!
وهذا عليٌّ كاظم الغيظ، الحليم الذي يعفو عمّن ظلمه، ما وَجَدَ لقريش محملاً ليعفو عنهم بعد فعلتهم هذه، فخاطب ربه عز وجل:
اللهمَّ فَإِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَخُذْ لِي بِحَقِّي مِنْهَا.
فما أعظم تلك الظُلامة!
قريشُ صارت عَدوّةً لآل محمد، ومن كان لهم عدواً كان لله عدواً، والله المطالِبُ بحقِّهِ يوم الجزاء.
ماذا فعلت قريشُ معك يا أمير المؤمنين؟ يقول عليه السلام: فَإِنَّ قُرَيْشاً صَغَّرَتْ قَدْرِي: ماذا يعني ذلك؟
لقد رفع الله قدرَ عليٍّ، لكن قريشاً صغّرت قدره! فصغّروا ما عظّم الله!
تروي فاطمة بنت أسد (عليها السلام) ما جرى بعد ولادتها لعلي (عليه السلام) في الكعبة فتقول: فَلمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ وَوَلَدِي عَلَى يَدَيَّ هَتَفَ بِي هَاتِفٌ:
يَا فَاطِمَةُ، سَمِّيهِ عَلِيّاً، فَأَنَا العَلِيُّ الأَعْلَى، وَإِنِّي خَلَقْتُهُ مِنْ قُدْرَتِي، وَعِزِّ جَلَالِي، وَقِسْطِ عَدْلِي، وَاشْتَقَقْتُ اسْمَهُ مِنْ اسْمِي، وَأَدَّبْتُهُ بِأَدَبِي(1).
هذا قدرُ عليٍّ الذي صغّرته قريش، الله تعالى يشتق له اسماً من اسمه، ويخلقه من قدرته وعز جلاله، وقريشُ تصغِّرُ قدره، فأي عدوٍّ أعدى لله من هؤلاء؟!
هذا ما فَعَلَتهُ بعليٍّ (عليه السلام)، وما اكتفت بذلك، بل استحلّت محارمه، واستخفّت بعرضه وعشيرته! يقول عليه السلام: وَاسْتَحَلَّتِ المَحَارِمَ مِنِّي، وَاسْتَخَفَّتْ بِعِرْضِي وَعَشِيرَتِي!
كم وكم قد استحلوا منك (المحارم) يا علي! ولئن صبرتَ على ذلك، فكيف صبرت على أشدّ ما استحلوه! انتهاكهم لحرمة الزهراء (عليها السلام)! وضربها وإحراق بابها وإسقاط جنينها؟!
وَاسْتَخَفَّتْ بِعِرْضِي: تارةً يراد من (عِرْض الإنسان): نَفسُه.. وتارة أخرى: حَسَبُه(2)، أي: الشرف الثابت في الآباء(3)، وثالثةً يراد به: جانبه الذي يَصُونُه من نفسه وحسَبِه، ويُحامي عليه أن يُنتقَص ويثلب عليه(4).
وقد استخفّت قريشُ من عليٍّ بكلّ هذه المعاني! فطعنوا في شخصه، وفي آبائه، وفيمن يلوذ به ويحامي هو عنه: الزهراء، حيث كان لها نصيبٌ من هذا الاستخفاف، وهي حرمةُ الله تعالى، وحرمة رسوله ووليه.
والهفي لها، مما جرى عليها، وقد روينا في الحديث: الوَيْلُ لِمَنِ اسْتَخَفَّ بِحُرْمَةِ مُحَمَّدٍ، وَطُوبَى لِمَنْ عَظَّمَ حُرْمَتَه(5).
ما عظّمت قريش حرمة محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، حتى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): قَدْ صَبَرْتُ فِي نَفْسِي وَأَهْلِي وَعِرْضِي، وَلَا صَبْرَ لِي عَلَى ذِكْرِ إِلَهِي، فأمره الله عزّ وجل بالصبر ﴿فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُون﴾.
ولا عند وفاته، وقد قال علي (عليه السلام): وَاسْتَحَلَّتِ المَحَارِمَ مِنِّي، وَاسْتَخَفَّتْ بِعِرْضِي وَعَشِيرَتِي!
ولا تَغَيَّرَ نهجُها بعد مرور السنين، إلا مزيداً من الظلم والعتو، فكانت سبباً في إضلال غيرها، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إِنَّ قُرَيْشاً قَدْ أَضَلَّتْ أَهْلَ دَهْرِهَا وَمَنْ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهَا مِنَ القُرُونِ(6).
ثم ألَّبَت الأمةَ كلَّها عليهم، وكان من آثار ذلك ما تُظهِرُهُ كلمات الحوراء زينب (عليها السلام) مخاطبةً قَتَلَة أخيها الحسين (عليه السلام):
وَيْلَكُمْ، أَيَّ كَبِدٍ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَرَثْتُمْ، وَأَيَّ عَهْدٍ نَكَثْتُمْ، وَأَيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أَبْرَزْتُمْ، وَأَيَّ حُرْمَةٍ لَهُ هَتَكْتُمْ، وَأَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ(7).
هؤلاء هم الأُوَل الذين تواليهم الأمة! أَفَهَل يُلام الشيعة على براءتهم ممن انتهك حرمة إمامهم واستخفّ بعرضه؟!
أمَا خاطبت الزهراء عامّتهم قائلة: أَ أُهْضِمَ تُرَاث أَبِي وَأَنْتُمْ بِمَرْأًى مِنِّي وَمَسْمَعٍ.. وَأَنْتُمْ ذَوُو العَدَدِ وَالعُدَّةِ وَالأَدَاةِ وَالقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلَاحُ وَالجُنَّةُ، تُوَافِيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلَا تُجِيبُونَ، وَتَأْتِيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلَا تُغِيثُونَ!
أما كانت حجة الله تامة برسول الله وأمير المؤمنين والزهراء؟!
بُؤْساً لِقَوْمٍ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ.. وبؤساً لأمّة ما تبرأت منهم.
وإنا لله وإنا إليه راجعون(8)..
(2) معجم مقائيس اللغة ج4 ص273.
(4) الفائق في غريب الحديث ج2 ص348.
(5) بحار الأنوار ج23 ص268.
(8) الجمعة 1 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 15 - 1 - 2021 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|