بسم الله الرحمن الرحيم
(تسبيحُ فاطمة).. (تسبيحُ الزهراء) (عليها السلام).. عبارةٌ تتكرر على ألسنة الشيعة صغاراً وكباراً، يقصدون بها ذكراً خاصاً لله تعالى، غالباً ما يكون تعقيباً للصلوات، أو يُقرأ قبيل النوم.
فما السرُّ في هذا التسبيح؟ ولماذا يواظب الشيعة عليه؟
هل للأمر بُعدٌ مذهبيٌّ؟ أم عباديٌّ فقط من حيثه كونه ذكراً لله تعالى؟ ومن أين استقى الشيعة هذا التسبيح الخاص؟
هذا التسبيحُ هو (نِحلَةٌ) من خير خلق الله تعالى، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لابنته وبضعته وقرّة عينه، فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ومِن عَظَمَة المُهدِي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومَن أُهدِيَ إليها (عليها السلام) تظهر إشاراتُ العَظَمَة فيه.
وفي تسبيح فاطمة: يُبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ أَرْبَعاً وَ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ التَّحْمِيدِ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ التَّسْبِيحِ ثَلَاثاً وَثَلَاثِين(1).
وفي بعض الأخبار أنه: خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا(2).
هو هديةٌ من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لبضعته، تُقرأ عَقِبَ كلِّ صلاة، وعند النوم، ففي خبرٍ آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال فيه لأمير المؤمنين وللزهراء ‘: إِذَا أَخَذْتُمَا مَنَامَكُمَا فَكَبِّرَا(3)، ثم ذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) كيفيته، وعن الباقر (عليه السلام): إِذَا تَوَسَّدَ الرَّجُلُ يَمِينَهُ .. ثُمَّ يُسَبِّحُ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ (عليها السلام)(4).
من ههنا بدأت قصّة الشيعة مع الدعاء، فَمَن لا ينطق عن الهوى يُنحِله ابنتَه الصديقة، ثم يصير ملازماً للأئمة المعصومين (عليهم السلام) وصحبهم، بل شعاراً لهم ولشيعتهم إلى يومنا هذا، وقد روي أن الصادق (عليه السلام): كَانَ يُسَبِّحُ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَيَصِلُهُ وَلَا يَقْطَعُهُ(5).
فلم يكن يفصل بين التسبيح بكلامٍ أو غيره، وقد رُوي الأمرُ بإعادة التسبيح مع الشكِّ فيه.
فبرزَ اهتمامٌ خاصٌ بهذا التسبيح منهم عليهم السلام، فلماذا كان ذلك؟
لقد ورد في الأحاديث الشريفة ما يثير التعجُّب من عظمة ثواب هذا التسبيح، ومن ذلك:
فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: مَا عُبِدَ الله بِشَيْءٍ مِنَ التَّحْمِيدِ أَفْضَلَ مِنْ تَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْهُ لَنَحَلَهُ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فَاطِمَةَ (عليها السلام)(6).
هو أعظمُ حَمدٍ يُحمَد به الله تعالى، يهديه أعظمُ مخلوقٍ، لسيِّدة النساء.
لم يجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل منه، ما يعني أن ليس في الوجود أفضل من هذا التسبيح في تحميد الله تعالى.
لهذا التسبيح البسيط ثوابٌ عظيمٌ جداً، فعن الصادق (عليه السلام): تَسْبِيحُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ صَلَاةِ الفِ رَكْعَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ(7).
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): مَنْ سَبَّحَ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ (عليها السلام) قَبْلَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الفَرِيضَةِ غَفَرَ الله لَهُ، وَلْيَبْدَأْ بِالتَّكْبِيرِ(8).
وفي حديث آخر من سبّح وأتبعها بِلَا إِلَهَ إِلَّا الله.
وفي بعض الأحاديث أن حسنات هذه التسبيحات المائة: عَشْرٌ أَمْثَالُهَا عِنْدَ الله، فَيُكْتَبُ لَهُ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ الفُ حَسَنَةٍ وَيكْتَسبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَةُ آلَافٍ(9).
فضلاً عمّا ورد من أنّها: مِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَالفٌ فِي المِيزَانِ، وَتَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَتُرْضِي الرَّحْمَنَ(10).
طردُ الشيطان ورضا الرحمان ومغفرة الذنوب، غايةُ منى العباد المؤمنين.
فضلاً عن استعماله للاستشفاء، حيث أَمَرَ المعصومون (عليهم السلام) أصحابهم بتسبيح فاطمة (عليها السلام) عند الشكاية من بعض الأمراض كالثِّقل في الأذن.
لماذا اختُصَّ هذا التسبيح بهذه العظمة؟! وكان له هذا الأثر العظيم؟
ههنا وجوه محتملة منها:
هو تسبيحٌ لله تعالى، يُعَدُّ أعظمَ تحميدٍ يُحمَدُ به الله تعالى، لا يَجِدُ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً منه ليُنحله بضعته الزهراء، فيُعرَف في الأمّة باسمها (عليها السلام)، فيُسهِم في تخليد ذكرِها، وإحياءِ أَمرِهَا، وأمرُها من أمر الله تعالى.
ولمّا كانت الأمّة قد ظلمت الزهراء (عليها السلام) بل أبغضَ جُلُّ مَن فِيها ذكرها وذكر بعلها وذريّتها، وأنكروا تقديمهم على من عداهم، حتى روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إِنَّ النَّاسَ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِمْ مِنْ ذِكْرِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ (11).
أفلا يكون في إحياء ذكرهم عظيمُ ثوابٍ عند الله تعالى وهم مَن أَمَرَ بمودّتهم؟!
ألا يُعقَل أن يكون في نِسبَةِ خيرِ تسبيحٍ لله تعالى إليها نوعاً من الحفاظ على ذكرها (عليها السلام)؟ وهي التي أمر الله بمودّتها فأنكرت الأمة فضلها وقَدَّمت من ظَلَمَها وسَلَبَها حقّها وأخذت بقوله وقدَّسته؟!
لقد صار خيرُ تسبيحٍ لا يُترك بعد كل صلاة باسم (فاطمة)، فهل مِن امرئٍ غير شقيٍّ يذكر تسبيحها كل يوم ولا يتبرأ من قاتليها وأعدائها؟!
فيجتمع فيه مع تكبير الله وحمده وتسبيحه، الإقرار بفضل فاطمة (عليها السلام) وعظمتها، والبراءة من قاتليها وظالميها، فتجتمع أركان الإيمان في فعلٍ واحد، فما أعظمه من فعلٍ.
إنّ المعصوم عالمٌ بتعليم الله تعالى، ومُدرِكٌ لتأثير كلِّ فعلٍ على مصير الإيمان، لأن مِنَ الأفعال ما يُثَبِّتُ الإيمان ومنها ما يكون سبباً لزواله.
ولتسبيح الزهراء (عليها السلام) أثَرٌ في غاية الأهمية، وهو أنّ ملازمته تَحفَظُ العبدَ من الشقاء! فكان المعصومون (عليهم السلام) يأمرون صبيانهم بهذا التسبيح ليعتادوا عليه، فيكون عوناً لهم للوقاية من الانحراف والشقاء.
فعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: يَا أَبَا هَارُونَ، إِنَّا نَأْمُرُ صِبْيَانَنَا بِتَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) كَمَا نَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَالزَمْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ عَبْدٌ فَشَقِيَ(12).
فصار تسبيحُ فاطمة مُلازماً للهداية، فمن لازَمَه لازَمَ الهدى وأَمِنَ من الشقاء.
لقد روينا عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: شِيعَتُنَا الَّذِينَ إِذَا خَلَوْا ذَكَرُوا الله كَثِيراً(13)، وهذه من علامات الشيعة، أي أنّهم الذين يذكرون الله كثيراً.
لكن ما هو الذكر الكثير الذي يذكره الشيعة؟ وفيهم من لا يُكثِرُ ذكرَ الله تعالى؟
لمّا سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً﴾(14) قَالَ: مَنْ سَبَّحَ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَدْ ذَكَرَ الله الذِّكْرَ الكَثِير(15).
وفي حديثٍ آخر: تَسْبِيحُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) مِنْ ذِكْرِ الله الكَثِيرِ الَّذِي قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾(16).
وفي الحديث: مَنْ بَاتَ عَلَى تَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) كَانَ مِنَ الذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ(17).
لقد اقترن ذكرُ الله ذِكراً كثيراً بالتشيُّع إذاً، فالشيعة هم الذين يذكرون الله ذِكراً كثيراً فيذكُرُهُم الله تعالى، وهل يذكر الله تعالى سوى من كانوا من أهل الحق؟! وهل هؤلاء إلا الذين أخذوا هذا الذكر من المعصومين (عليهم السلام) واتّبعوهم؟!
لقد ورد أنّ لكلِّ شيءٍ حداً ينتهي إليه إلا الذِّكر، فإنّه ليس له حدٌّ، وأنّ الله تعالى لم يرض منه بالقليل، فرِضاه عز وجلّ مقرونٌ بكون الذكر (ذِكْراً كَثِيراً)، وهو (تسبيحُ فاطمة): علامةُ الشيعة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): أَ لَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ لَكُمْ؟ أَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ .. ذِكْرُ الله عَزَّ وَجَلَّ كَثِيراً..
قالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّهُ الله.
وَمَنْ ذَكَرَ الله كَثِيراً كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ:
1. بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ.
2. وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ(18).
فصارَ تسبيحُ فاطمة من (علامات الشيعة)، وموجباً (لحبِّ الله)، وفيه (براءةٌ من النار)، و(براءةٌ من النفاق)، وهل تجتمع البراءة من النِّفَاق مع حُبِّ رؤوس المنافقين؟ مَن ظلموا الصديقة الزهراء وغصبوها حقها؟!
لقد قرن الله تعالى بين (خير الأعمال) و(أرفعها) و(أزكاها) وما فيه (براءةٌ من النار) و(براءةٌ من النفاق) ووقايةٌ من الشقاء.
بين كل هذا وبين اسم (فاطمة)، وتسبيحها (عليها السلام).
أَفَهَل يغيب السرُّ في تسبيح فاطمة بعد ذلك عن مُحبِّيها؟!
وهل يُستَغرَبُ اهتمام الشيعة بهذا التسبيح وتعليمه لصبيانهم اقتداءاً بالأئمة المعصومين؟!
فاطمةُ الزهراء، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، هي التي يُسَبِّحُ شيعتُها تسبيحَها كلّ يومٍ خمس مرات في تعقيب الصلاة، وقُبَيلَ النومِ سادسةً، ثم يستذكرون مودّتها باللسان والفعل، ويتبرؤون من أعدائها قولاً وعملاً، وهذا غاية القُرب من الله تعالى، ووقايةٌ من الشقاء والنفاق.
اللهم ثبِّتنا على مودَّتها والبراءة من أعدائها واحشرنا في زمرتها إنك سميعٌ مجيب. والحمد لله رب العالمين(19).
(2) دعائم الإسلام ج1 ص168.
(3) علل الشرائع ج2 ص366.
(4) تهذيب الأحكام ج2 ص116.
(9) دعائم الإسلام ج1 ص168.
(17) وسائل الشيعة ج6 ص447.
(19) الأربعاء 22 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 6 - 1 - 2021 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|