بسم الله الرحمن الرحيم
وَرَكَلَ البَابَ بِرِجْلِهِ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ وَأَنَا حَامِلٌ، فَسَقَطْتُ لِوَجْهِي، وَالنَّارُ تُسْعَرُ، وَتَسْفَعُ وَجْهِي!(1).
هي الزهراء (عليها السلام)، سيّدة النساء، تتحدّث عمّا فعله الثاني عندما اقتحم وحزبُه دارَها، وأسقطوا جنينها.
ينقل العلامة المجلسي الخبر في بحاره، فتَهيجُ لِهَوله قلوب الموالين، وتضطرب أركانهم.
النار تُسعَر، وتَسفَعُ وجه الزهراء! لا إله إلا الله..
نحاول الاستعانة بعلماء اللغة لنفهم المراد من اللفظ.
نعود للصاحب بن عباد (توفي 385هـ) فنراه يقول: سَفَعَتْه النّارُ والسَّمُوْمُ سَفْعاً: لَفَحَتْه(2).
النار تلفَحُ وجه الزهراء، أي تصيب وجهها: لَفَحَتْه النّارُ: أصابَتْ وَجْهَه(3).
ثم نعود بالزمن قليلاً إلى الوراء، لنرى ما يقول الخليل بن أحمد (توفي175هـ)، فإذا بالفراهيدي يضيف معنىً آخر:
النار تَسْفَع الشيء إذا لفحته لفحاً يسيراً فغيّرت لون بشرته.. ولا تكون السُّفْعَة في اللون إلا سواداً مشترباً حمرة(4).
ويقول: لَفَحَتْه النار: أي أصابت وجهه وأعالي جسده فأحرقت(5).
ههنا يتوقف المؤمن ملياً..
هل لفحت النار وجه الزهراء (عليها السلام) حتى غيّرته؟!
أليس وجهها هو الذي كان يشعُّ ويزهرُ نوراً لأهل المدينة؟
أما روي عن الصادق (عليه السلام) قوله: كَانَ يَزْهَرُ نُورُ وَجْهِهَا صَلَاةَ الغَدَاةِ وَالنَّاسُ فِي فُرُشِهِمْ، فَيَدْخُلُ بَيَاضُ ذَلِكَ النُّورِ إِلَى حُجُرَاتِهِمْ بِالمَدِينَةِ، فَتَبْيَضُّ حِيطَانُهُم(6).
لقد كان أهل المدينة يعجبون من ذلك، فيأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسألونه فيرسلهم إلى منزلها (عليها السلام): فَيَرَوْنَهَا قَاعِدَةً فِي مِحْرَابِهَا تُصَلِّي، وَالنُّورُ يَسْطَعُ مِنْ مِحْرَابِهَا مِنْ وَجْهِهَا.
وجهٌ كان النورُ يسطع منه لأهل المدينة، تسفعُهُ النار، وأهلُ المدينة لا حِسٌّ ولا خَبَرُ، بين محاصرٍ لدارِها، ومتخاذلٍ في داره، يسمع واعيتها ولا يجيبها.
أما أمير المؤمنين (عليه السلام)، فما كان حاله؟!
سلام الله عليك يا أمير المؤمنين، في هذه الأيام فَقَدتَ من كانت تزهر لك: فِي النَّهَارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالنُّور! فأيُّ فقدٍ هذا!
كانت تزهرُ لك بالنور، ويُزهرُ وجهها لك، فاستعرت النار في بابها وسَفَعَت وجهها!
ماذا حلّ بك يا أمير المؤمنين وأنت ترى ذلك المشهد؟!
أيُّ قلبٍ عظيم قلبك حتى تمكّن من تحمُّل هذه الفاجعة!
إنّ للنار مع عليٍّ قصصاً وروايات:
أوّلها: أنها ما خُلِقَت لولا إنكار ولايته (عليه السلام)!
ففي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لَوِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى حُبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لمَّا خَلَقَ الله النَّار(7).
فكيف لا تكون النارُ مِطواعةً له؟! مستجيبةً لأمره؟!
ثانيها: أنّ نور عليٍّ يطفئ لهبَ النار يوم القيامة!
لقد روينا عن يوم الجزاء: فَيُقْبِلُ عَلِيٌّ (عليه السلام) وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ الجَنَّةِ وَمَقَالِيدُ النَّارِ، حَتَّى يَقِفَ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، وَيَأْخُذَ زِمَامَهَا بِيَدِهِ، وَقَدْ عَلَا زَفِيرُهَا وَاشْتَدَّ حَرُّهَا وَكَثُرَ شَرَرُهَا. فَتُنَادِي جَهَنَّمُ: يَا عَلِيُّ! جُزْنِي قَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي!
فَيَقُولُ لَهَا عَلِيٌّ (عليه السلام): قِرِّي يَا جَهَنَّمُ، ذَرِي هَذَا وَلِيِّي، وَخُذِي هَذَا عَدُوِّي(8).
فواعجباً للنار كيف تقرُّ لعليٍّ (عليه السلام) يوم الجزاء، وتخضع له وتطيعه وهو قسيمها.. وواعجباً لنار الدار كيف اضطرمت واشتعلت وعَلَت حتى سفعت وجه الزهراء!
أما كان حرياً بك يا نار دار الزهراء أن تقتدي بنار جهنم؟! فينطفئ لَهَبُكِ لنور عليٍّ والزهراء.
إنّ لهذه الدنيا قانونها، وقد أبى الله أن تجري الأمور فيها إلا بأسبابها إلا لحكمةٍ، فاشتعلت النار في باب بيت الأمير والصدّيقة، فكان ما كان.
ثالثها: أنّ لوجوه الكفار والمجرمين نصيباً من النار يوم القيامة!
فتارةً وصف القرآنُ المجرمين المُقَرَّنين في الأصفاد بقوله: ﴿وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾(9)، وتارة وصف الكافرين بأنهم ﴿لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ﴾ (10)، وثالثةً وَصَفَ من خفّت موازينه وكان يكذِّبُ بآيات الله بأنّهم: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فيها كالِحُونَ﴾(11).
ههنا نستعيد عبارة الزهراء (عليها السلام): فَسَقَطْتُ لِوَجْهِي، وَالنَّارُ تُسْعَرُ، وَتَسْفَعُ وَجْهِي! أي تلفح وجهي، ونقارنها مع قوله تعالى: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾.
فهل الجزاء في هذه الآية هو عقابٌ لهذا الفعل؟ لما فعلوه بالزهراء (عليها السلام)؟ أم هو عقابٌ عامٌ لكلّ مَن في النار؟
إنّ في الروايات الشريفة إشارات على أنّ أئمة الكفر وقادة الضلال، مستحلّي الحرمة من عليّ والزهراء، هم الأخسرون الذين تلفح وجوههم النار.
ولئن اشترك معهم أهلُ النار في بعض صور هذا العذاب أو سواه، فإنّ لهم عذاباً لا نظير له..
أتُضرَمُ النار بباب الزهراء وتسفَعُ وجهَهَا ثم لا تجازيهم نارُ جهنم؟
لقد روينا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله في أهل النار:
وَمِنْهُمْ (أَئِمَّةُ الكُفْرِ وَقَادَةُ الضَّلَالَةِ)، فَأُولَئِكَ لَا يُقِيمُ لَهُمْ وَزْناً، وَلَا يُعْبَأُ بِهِمْ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُمْ ﴿فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾ وَ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ﴾(12).
وفي زيارته (عليه السلام) يوم الغدير:
فَلَعَنَ الله (مُسْتَحِلِّي الحُرْمَةِ مِنْكَ، وَذَائِدي الحَقِّ عَنْكَ)، وَأَشْهَدُ أَنَّهُمُ الأَخْسَرُونَ، الَّذِينَ ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ﴾(13).
ومن هم أئمة الكفر وقادة الضلال ومستحلو الحرمة إن لم يكونوا مَن أضرموا النار في بابها حتى سَفَعَت النار وجهها (عليها السلام)؟!
هذا شيءٌ من عذابهم، فمن أحرق باب الزهراء لا يُكتفى بأن تلفح النار وجهه وإن كانت جزاءً له، بل يكون حاله: فِي جُبٍّ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ فِي تَابُوتٍ مُقَفَّلٍ، عَلَى ذَلِكَ الجُبِّ صَخْرَةٌ، إِذَا أَرَادَ الله أَنْ يُسَعِّرَ نَارَ جَهَنَّمَ كَشَفَ تِلْكَ الصَّخْرَةَ عَنْ ذَلِكَ الجُبِّ، فَاسْتَعَاذَتْ جَهَنَّمُ مِنْ وَهَجِ ذَلِكَ الجُب(14).
هذا شيءٌ من حَكايا النار.. مع أعداء الزهراء..
لن يُحرَقَ بابها وتسفع النار وجهها دون جزاء.
إنّا لمحكمة العدل الإلهية منتظرون، وللحجة المنتظر في ذكرى شهادة أمّه الزهراء معزّون، فالخطبُ جليل، والفقدُ عظيم. فإنّا لله وإنا إليه راجعون(15).
(1) بحار الأنوار ج30 ص349.
(2) المحيط في اللغة ج1 ص370.
(3) المحيط في اللغة ج3 ص106.
(6) علل الشرائع ج1 ص180..
(7) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى ج2 ص75.
(8) تفسير القمي ج2 ص326.
(15) الثلاثاء 14 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 29 - 12 - 2020 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|