بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفينَ) (هود118)
ما اقتضت حكمة السماء أن يُجبر الله تعالى الناس على الاستقامة والوحدة، ففي ذلك سلبٌ لقدرتهم على اختيار النجدين، وسقوطٌ لقانون الاختبار الإلهي..
وقد تفاوت أبناءُ آدم ما بين مكتمل النقاء والطهارة، إلى متمحِّضٍ في القبائح والرذالة، وما بينهما من مراتب لا تكاد تحصى.
من ثمّ اختلفوا في كل عصرٍ ومِصرٍ، حتى من انتمى منهم لدينٍ واحد، وكان أن انقسمت أمّتنا الاسلامية إلى فرقٍ شتّى، فمنها:
1. فرقةٌ تتبع آل محمدٍ عليهم السلام ترى أن الخلافة الإلهية تكون باختيار الله تعالى كالنبوة تماماً.
2. وفرقةٌ ترى أن الخلافة بعد النبي (ص) كانت (بالشورى) كما حصل في (سقيفة بني ساعدة) فتم اختيار أبي بكر لإمامة الأمة.
3. وفرقةٌ ثالثةٌ ترى أن الخلافة في من (يقوم) بالدعوة، ولها شروط خاصة، فـ (طريقها بعد علي عليه السلام وولديه الحسنين عليهما السلام القيام والدعوة) (الأساس لعقائد الأكياس ص160).
وأن: ( الإمامة بعد الحسن والحسين فيمن قام ودعى من أولادهما) (الإصباح على المصباح ص174).
ومنذُ قرنٍ مضى، ساح في بلاد العرب سائحٌ من بلادي، الأديب النصراني (أمين الريحاني)، والتقى بأمراء العرب وقادتهم، محاولاً جمعهم على كلمةٍ واحدة، وخلص إلى أن اشتراط الزيدية ثالث الفرق (للقيام) هو السبب الأكبر للفتن والحروب، فقال:
ولعمري ان شروط الامامة في الزيدية لمن خير ما تتطلبه الجماعات في حكامها لولا هذا الشرط الذي ينزل السيف منزل الشورى والمبايعة، فهو ولا عجب السبب الأكبر في الفتن والحروب في تلك البلاد الجميلة... (ملوك العرب ج1 ص142).
ولئن أصاب الريحانيّ في التحذير من خطورة كون (القيام) أو (السيف) شرطاً في الإمامة، مع كثرة الطامحين لها ممن أخلد إلى الدنيا، حيث يدعوهم ذلك إلى الاحتراب في سبيلها.. فمن يطلب السلطة من أهل الدنيا ولا يقوم بالسيف عند المقدرة؟
إلا أنّه قال بعد ذلك:
ولا أمل في تلك البلاد بالسلم الدائم واليمن والنجاح الا في نزع حق الامامة من السيف، ووضعه في الشورى الحقيقية، في المبايعة بالاقتراع بموجب السنة وعلى طريقة الصحابة (ملوك العرب ج1 ص143).
فتوالت الخطايا من مفكِّرٍ وأديب وحاملٍ لِهَمِّ الأمة! وكانت مما لا يغتفر.. حينما نزع الشرعية عن الإمام ل(قيامه بالسيف)، وأثبته في (الشورى) (وعلى طريقة الصحابة)!
الخطيئة الأولى: الكيل بمكيالين
لقد عدّ الريحاني القيام بالسيف سبباً للفتن والحروب ههنا، لكنّه جعله مقياساً للشرعية في محلٍّ آخر حينما أعطى الشرعية ل(ابن سعود) أو سواه في الحكم بالغلبة وقوة السيف فقال:
(ليبدأ كل أمير في بيته، فيحكمه باسم الله حكماً قاسياً عادلاً، ليحكمه بعدلٍ لا يعرف الرحمة والحنان، ليحكمه بيد من حديد وبقلب لا يرى غير الحق، كما يفعل اليوم ابن سعود السلطان عبد العزيز، فلا يهم اذ ذاك من يستولي على الحديدة. وعندي ان من يستطيع من الامامين، امام صنعاء وامام صبيا وجيزان ان يغلب الزرانيف ويؤدبهم ويدخلهم في حكمه يستحق ان يكون صاحب الحديدة) (ملوك العرب ج1 ص278).
فلماذا صار الحكم القاسي بيد من حديدٍ مباحاً هنا؟ ولماذا صار القوي الذي يتمكن من إدخال مدينة (الحديدة) في ملكه يستحق أن يكون صاحبها؟!
أين وجه الاختلاف أيها الريحاني المنصف؟ حين أعطيت الشرعية هنا لما سلبته هناك؟!
أليس الكيل بمكيالين خطيئة لا تغتفر؟!
الخطيئة الثانية: أمرُ الأمّة ليس بالشورى!
لعل أديبنا الريحاني قد قرأ قول الله تعالى (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر) فظنّ أن الإسلام دين الاقتراع (بموجب السنة)، لكنّه قد خفي عليه أن ذيل الآية (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) يوضح أن النبي غير مأمور بالعمل وفق رأي الأمة، بل وفق عزمه، وأن للمشورة حكمتها، ولعلها تأليف قلوبهم وتأديبهم بآداب الله، وأنّى يحتاج (ص) لمشورتهم وقد (عَلَّمَهُ شَديدُ الْقُوى)..
أما قال تعالى في كتابه: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً) (الأحزاب36)
أما قال عز وجل: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ؟!
فالإمامة من اختيار الله تعالى كما النبوة، ومن عصى الله في أمر الإمامة كأنّما عصاه في أمر النبوة.
فهل سمعنا أن أمّةً من الامم اضطلعت بدور اختيار نبيّها؟
ما صح ذلك في قانون الأمم وقطعيات العقول، وما جرى على الأنبياء جرى على الأوصياء.. أيرى السيد الريحاني أن أمّة موسى قد اختارت (يشوع) وصياً له؟
أيعتقد أن بطرس هو الصخرة التي تُبنى عليها كنيسة عيسى باختيار أمة عيسى؟ وهم من أنكروا رسالته وكذّبوه؟
قاعدةٌ عقليةٌ واحدة لا تختلف..
فقبولها في دين موسى وعيسى (ع) وإنكارها في دين محمد (ص) قسمة ضيزى..
إذا تمّ ذلك، فليس في أمة المسلمين من يقول بالإمامة المنصوصة غير الشيعة، وليس فيهم من يعتقد بالأئمة الاثني عشر الذين بشر بهم النبي (ص) إلا الإمامية.. الذين يصف الريحاني دينهم وعقيدتهم بالمكروب الخرافي!!
فهذه الخطيئة الثانية.
الخطيئة الثالثة: الشورى الحقيقية ليست طريقة الصحابة!
لقد ذهب الريحاني إلى أن (الشورى الحقيقية) هي (المبايعة بالاقتراع) على (طريقة الصحابة)!!
وهذا لعمري يضحك الثكلى في خدرها!
فأين هي الشورى والمشيرون غُيَّبُ!
أما قرأ (فيلسوف الفريكة) شيئاً من نهج البلاغة؟!
أما رأى فيه خطاباً من أمير المؤمنين لأول خلفاء (الاقتراع) و(الشورى الحقيقية):
فَإِنْ كُنْتَ بِالشُّورَى مَلَكْتَ أُمُورَهُمْ * * * فَكَيْفَ بِهَذَا وَالْمُشِيرُونَ غُيَّبٌ
وَإِنْ كُنْتَ بِالْقُرْبَى حَجَجْتَ خَصِيمَهُمْ * * * فَغَيْرُكَ أَوْلَى بِالنَّبِيِّ وَأَقْرَب
لقد احتجّ عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه السلام على ابن ابي قحافة يوماً فقال:
فأنا وأهلي والعصابة التي معي من الأمة أم لا؟! (الصراط المستقيم ج3 ص78)
إنّها الحجة البالغة..
لقد غاب عن السقيفة والشورى أركان بني هاشم وعماد قريش وفحول الأمة، ورمز الإسلام الأول بعد النبي صلى الله عليه وآله..
غاب القائد المغوار الذي لا يشق له غبار.. من أوصى النبي له بالخلافة..
غاب من عجزت الفحول عن بلوغ صفةٍ من صفاته..
فكيف فات الريحاني ذلك؟
أيُحتَمَلُ في حقه الجهل هنا أيضاً؟
أم هي الصداقة مع ملك نجدٍ آل سعود؟! أم الإعجاب بصاحب الجلالة المعظم؟! أم سوى ذلك؟!
فهل في التاريخ من زعم حضور عليٍّ (ع) تلك السقيفة المشؤومة وشركته فيها واختياره ابن ابي قحافة خليفةً؟!
هل من يزعم أنه (ع) حضر تلك المسرحية الهزيلة؟!
هل غابت عن الريحاني (شقشقة علي)؟! تلك التي هدرت ثم قرّت؟!
أما علم أنّه الذي لا يرقى إليه الطير؟!
أم أنّ الريحاني قد انتسب لمدرسة (الصحابة) وتتلمذ على يديهم حتى صار (عمر بن الخطاب) عنده رمزاً للعدل؟! فإن أراد أن يصف رجلاً بالعدل شبّهه به: ولا تجلس معه المحاباة. عدله عدل عمر بن الخطاب، وقسوته قسوة البدو.. (ملوك العرب ج2 ص560)..
نعم أنّى للريحاني أن يعلم بهجوم عمر بن الخطاب (العادل) على باب عليّ والزهراء (ع).. بضعة النبي (ص)، وهو لا يرى إلا بعين (ابن سعود)!
قال عليه السلام:
فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا!
هذه هي (طريقة الصحابة) في الاقتراع والشورى.. يسلب الأولان الحقّ باسم الشورى، ثم يعقدها أولهما لصاحبه!
حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ، فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى!
مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِر؟!
سلام الله عليك يا أبا الحسن.. يا عليّ بن أبي طالب..
قلت قولتك تلك: فيا لله وللشورى! فكانت حقاً وصدقاً.. وكفى..
آهٍ آه.. من أمّة يراودها أمثال الريحاني في إصلاح أمرها!
وهو يجهل ألفها من بائها!
آهٍ من أمّةٍ تجهل قدر كبارها وعظمائها..
ويتقدّم أمرها من تقدَّم..
فهذا سبب ذلِّها وهوانها.. وضعفها وامتهانها..
والحمد لله رب العالمين
الاربعاء 8 جمادى الاولى 1442 هـ
23 - 12 - 2020 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|